الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران:102، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً النساء:1، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً الأحزاب:70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أدلة قاعدة الضرورات تبيح المحظورات
أيها المسلمون: حديثنا في هذه الخطبة عن موضوعٍ صعب، ولكننا نستعين الله في فهمه، وإدراك بعض المسائل المتعلقة به، وهو موضوع حصل فيه خلط كثير، وحصل فيه استغلالات سيئة كثيرة من كثير من أصحاب النوايا السيئة، ولذلك كان لا بد للمسلم من فهمه، وفهم ما يتعلق به، ألا وهو القاعدة الشرعية العظيمة: الضرورات تبيح المحظورات، هذه القاعدة التي ظُلمت ظلماً عظيماً من كثير من أبناء المسلمين، هذه القاعدة التي أصبح الاستدلال بها على ما هب ودب من الأمور ديدن عامة الذين يعصون الله .
كلما أراد أحدهم أن يفعل معصية أو فعلها فناقشته في ذلك كان من حججه: الضرورات تبيح المحظورات! فما هي حقيقة هذه القاعدة؟ وما هي أدلتها وصورها؟ وما هي ضوابطها؟ وما هي الاستخدامات الصحيحة، أو المجالات التي استخدمت فيها من قبل علماء الشرع الثقات؟ وذكر أمثلة على بعض الاستخدامات السيئة التي استخدمت فيها هذه القاعدة. قال الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌالأنعام:145 وقال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ البقرة:173 وقال : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام:145..إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الأنعام:119 لماذا شرع ربنا جواز أكل الميتة للضرورة، وجواز تناول الأمر المحرم للضرورة؟ لأنه قال : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَالبقرة:185 وقال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْالمائدة:6 وقال: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْالنساء:28، ولأن الله رحيم شرع لنا هذا، وقد أجمع الفقهاء على أن للجائع المضطر الذي لا يجد شيئاً حلالاً يدفع به الهلاك عن نفسه أن يتناول المحرم إذا لم يجد غيره، فيتناول منه بقدر ما يزيل ضرورته؛ لأن الله قال: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة:3، وقال الله مبيناً حالة أخرى من حالات الاضطرار: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ النحل:106 فإذا كان المسلم قد تعرض لتهديد حقيقي، وتعذيب وحشي يُراد منه أن ينطق بكلمة الكفر نطق بها لسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان. كان جبابرة مكة يعذبون المسلمين المستضعفين حتى ربما قالوا لأحدهم: هذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. تحت وطأة التعذيب، فإذاً هذه القاعدة في الشريعة محفوظة بأدلتها، قائمة من علامات وميزات هذا الدين، ومن رحمة الله بالأمة وبالناس.
ولكن أيها المسلمون، متى يصبح الشيء ضرورة؟ ما معنى كلمة الضرورة؟ إن كثيراً من الناس يفسرون الضرورة بأي مشقة تعرض، بأي درجة تكون، أو يفسرون الضرورة بحاجتهم إلى التوسع في الأمور الدنيوية، ولأجل ذلك ينتهكون حرمة الشريعة، فأما الضرورة فقد ذكر العلماء تعريفها، وقالوا: إذا ترتب على عدم فعل شيء المحرم هلاك، أو إلحاق الضرر الشديد بأحد الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، فإنه عند ذلك يجوز له أن يتناول المحرم للضرورة، فتأمل كلامهم رحمهم الله في قولهم: هلاك أو إلحاق ضرر شديد كتلف عضو من الأعضاء مثلاً، عند ذلك يجوز له أن يرتكب هذا المحرم للضرورة، وهذا الكلام أيضاً فيه تفصيل، ولذلك فإننا لا يجوز لنا أن نترك الجهاد في سبيل الله من أجل المحافظة على النفوس، ونقول: إن ترك الجهاد ضرورة لأن الجهاد يسبب قتل النفس، كلا؛ لأن حفظ الدين أعلى، والجهاد لا بد منه لحفظ الدين، وهناك أمور تقدم وتؤخر في أبواب الضرورة، فلو أنه غص بلقمة لم يجد إلا خمراً ليبتلعها أمامه وإلا لمات وهلك واختنق، جاز له أن يتناول ما يسلك به تلك الغصة وينجو به من الهلاك، فتنجو نفسه، ولو أدى لإلحاق ضرر بعقله.
ضوابط قاعدة الضرورات تبيح المحظورات
ولكن لا بد لنا أن نعلم ونعرف ما هي القواعد، أو بعض القواعد التي ذكرها العلماء لنكون على بينة عند استخدام هذا الأمر الخطير الذي إن لم يُحسن استخدامه تعرض المستخدم للهلاك في العاجل والآجل:
أولاً: يجب ألا يتسبب الإنسان لإيقاع نفسه في الضرورة، فلو أنه أتلف ماله وطعامه الطيب، وهو يعلم أنه سيضطر لأكل طعام محرم كان آثماً عند الله بفعله هذا.
ثانياً: فإن الضرورة لا بد أن تقدر بقدرها، إن باب الضرورة ليس مفتوحاً على مصراعيه يدخل منه كل من هب ودب بأي طريقة شاء، وإنما هو مضبوط بضوابط وقواعد يعلمها أهل العلم الثقات، ذكروها في كتبهم، ويذكرها المفتون المخلصون للناس إذا سئلوا، فالضرورة لا بد أن تقدر بقدرها، فمن اضطر إلى الكذب مثلاً فإن أمكنه التورية لا يجوز له أن يكذب، والتورية أن يأتي بلفظ له معنى بعيد في نفسه، ومعنى قريب في نفس الوقت يقصده الشخص السامع، أو يفهمه السامع، فعند ذلك لا يجوز أن يكذب، ويستخدم التورية، وإذا اضطر إلى الكذب كأن يكون عنده مال إنسان معصوم مخبأ، فجاء ظالم يقول له: هل عندك المال؟ ولم يجد طريقة للتورية، فيجوز له أن يكذب في هذا الأمر فقط، بجملةٍ محددة لا ينتشر الكذب إلى غيرها، ومن أكره على النطق بكلمة الكفر، لا يجوز له أن يكفر بقلبه مثلاً؛ لأن الكفر على اللسان فقط إذا اضطر إلى ذلك، ومن جاز له التيمم للضرورة، فإذا قدر على استعمال الماء لا يجوز له أن يواصل في التيمم، ومن اضطُر للإفطار في شهر رمضان من أجل المرض مثلاً، فإذا اشتد وقوي وأطاق الصيام ما جاز له أن يكمل في إفطاره، وكذلك المسافر لو أقام لا يجوز له الإكمال في الإفطار في رمضان، وخذ مثلاً من الأمثلة التي يتعرض لها كثير من الناس في هذه الأيام بسبب عدم الاحتياط في الشريعة، وعدم وجود الجهود الصحيحة التي تزيل الحرج عن كثير من نساء المسلمين، كشف الطبيب على المرأة المسلمة أو على المرأة عموماً، كشف الطبيب على المرأة المريضة، وبسبب تقصيرنا وإهمالنا، وعدم تخطيطنا وانتباهنا للمحرمات؛ حصل تقصير شديد في تنظيم الأمور، فصارت المرأة تضطر في كثير من الأحيان للكشف عند الطبيب الأجنبي، وهنا لا بد أن نفهم معنى تقدير الضرورة بقدرها في مثل هذا الموضع؛ فمثلاً: لا بد أن تبحث عن طبيبة مسلمة لزوجتك أو بنتك، فإن لم يوجد طبيبة مسلمة مؤهلة، في أي مكان تستطيع الوصول إليه، وتستطيع دفع أجره، جاز اللجوء إلى طبيبة كافرة، فإن لم توجد طبيبة كافرة مؤهلة أيضاً جاز اللجوء إلى الطبيب المسلم المؤهل، فإن لم يوجد جاز اللجوء إلى الطبيب الكافر، فهل يتبع الناس هذا التنفيذ؟ ثم إذا جاز للطبيب الكشف عن المرأة الأجنبية، فيجب أن يكون بدون خلوة، وأن يحضر محرمها مثلاً، وأن يكشف على موضع العلة فقط، ولا يتعداه، وإذا كان النظر إلى موضع العلة يكفي فلا يجوز له أن يلمس، وإذا كان يكفيه لمس من وراء حائل لا يجوز له أن يلمس بغير حائل، وإذا كان يتوجب أن يلمسه بغير حائل فلا يلمس ما حوله من المنطقة التي لا علاقة لها بالعلة، ولا علاقة لها بالعلاج أيضاً، وإذا كان يكفيه أن يفحص لمدة دقيقة مثلاً، فلا يجوز له أن يتعدى هذه الفترة، وكل إنسان مؤتمن على حريمه، وما أكثر التفريط في هذا الأمر في هذه الأيام!.
ثالثاً: إن الضرر لا يزال بمثله، أو شيء أكبر منه، فمثلاً لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا سلبنا مالك، فلا يجوز له أن يقتله، بل لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، وفلان هذا مسلم معصوم، لا يجوز له أن يقتله؛ لأن النفوس في الشريعة سواسية، فكيف يجوز له أن يقتل غيره من المسلمين لكي يدفع القتل عن نفسه؟ ولذلك قال العلماء: لا يجوز للجنود المسلمين قتال الجنود من المسلمين بغير وجه حق، ولو كانوا مكرهين، ولو كان الإكراه بالقتل، وكذلك لو أكره جندي مسلم بالقتل على أن يدل العدو على ثغرة ينفذون منها إلى البلد المسلم، لكي يحتلونه، ويوقعون القتل والتشريد في أهله، ما جاز له أن يدلهم ولو قتلوه، ويرى أكثر أهل العلم أنه لو أكره على الزنا بامرأة مسلمة عفيفة، لا يجوز له أن يزني بها، ولو أكره بالقتل لما يترتب على ذلك من المفسدة العظيمة المنتشرة، من انتهاك عرضها، وتحطيم شرفها وشرف أسرتها، أو زوجها، واختلال النسب، وإنما يصبر على القتل صابراً محتسباً لوجه الله تعالى.
ضوابط الإكراه وشروطه
ثم إن كثيراً من الناس يقولون لك: نحن مكرهون، أو أكرهنا، فما هو الإكراه الذي يباح به الأمر المحرم؟ هل هو ضرب سوط أو سوطين مثلاً لأن ينتهك حرمة الله بالزنا على سبيل المثال؟ قال الفقهاء: الضرب الذي يعتبر إكراهاً هو ما كان فيه خشية تلف النفس، أو أحد الأعضاء، أو ألم شديد لا يطيق تحمله، فعند ذلك قد يجوز أن يفعل أمراً، وينبغي أن يُدرك الأمر أيضاً قبل الإقدام عليه، فما هو الإكراه؟ ليست المسألة سهلة أيضاً، بل إنهم ذكروا شروطاً للإكراه، كأن يكون المكره متمكناً من التنفيذ، و يكون المكرَه عالماً أو غالباً على ظنه أن المكرِه سينفذ وعيده، فلو قال الظالم لزوجته: إن لم تكشفي وجهك على إخواني، فأنت طالق، أو إني سأطلقك، فإن هذا الإكراه إذا كانت تعلم أنه سيوقعه جاز لها الكشف عن وجهها في هذه الحالة للضرورة مع كرهها لذلك؛ لأن الإكراه بالطلاق في بعض المواضع يعتبر إكراهاً سائغاً، وكذلك أن يكون المكره عاجزاً عن دفع الإكراه عن نفسه، إما بالمقاومة أو الفرار، وكذلك أن يكون الإكراه بشيء فيه هلاك للمكره، أو ضرر عظيم كالقتل أو إتلاف عضو من الأعضاء، أو التعذيب المبرح، أو السجن الطويل الذي لا يخرج منه، وكذلك أن يكون الإكراه فورياً؛ كأن يهدده بالقتل فوراً إذا لم ينفذ، أما إذا قال له: إذا لم تفعل كذا ضربتك غداً، أو بعد غدٍ فلا يعتبر إكراهاً صحيحاً، فتأمل الشروط التي وضعها الفقهاء لهذا؛ لتعلم -أيها المسلم- أن المسألة ليست ألعوبة، وأن القضية ليست سهلة.
أسباب التساهل في الفتوى بحجة الضرورة
ثم قارن بين هذا وبين ما يقوم به كثير من مفتي السوء بإفتاء الناس ببعض الأمور بحجة الضرورة في غير محلها، فما هي أسباب ذلك؟ لماذا يتساهل بعضهم في إفتاء الناس في أمور بحجة الضرورة وليس فيها ضرورة؟
أولاً: عدم خوفهم من الله، وعدم تمكنهم من العلم أيضاً، وكذلك سيطرة روح التيسير ورفع الحرج في غير محله على نفوسهم، والتيسير أمر معتبر في الشريعة، وهو مما تقوم عليه الشريعة، لكن التيسير إذا تعارض مع أحد مقاصد الشريعة فلا يعتبر تيسيراً شرعياً، قال الله : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً النساء:97 فلماذا لم يعتبروا مكرهين؟ لأنهم كانوا يستطيعون الهجرة من بلاد الكفر، أقاموا تحت راية الكفر يفتنون في دينهم، ويتنازلون عن أمور الدين، وقالوا: مستضعفين، لماذا لم تهاجروا؟ وكذلك لو قال إنسان: إن من التيسير ألا نخرج إلى الجهاد في وقت الحر، فاسمع ماذا يقول الله: وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً التوبة:81.
ومن الأمور التي تجعل بعض المفتين بالباطل يفتون الناس بالضرورة الحرص على موافقة رغبة المستفتي؛ لإغراءاته مثلاً، أو ضغوطه على المفتي، من جهة ترغب مثلاً استصدار فتوى لتوافق ميولها وأهواءها، فالمفتي إذا لم يكن عنده خوف من الله أفتى بما يوافق رغبة القوم مستنداً إلى رفع الحرج، أو التيسير على الأمة، أو أن الضرورة تبيح المحظورات، أو أن اختلاف الأمة رحمة، أو أن هذا الزمان والعصر يختلف، وأن له حكماً خاصاً، وأن الأحوال قد تغيرت، ونحو ذلك من أبواب الكلام الخطير الذي يقول به بعضهم، كلام يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم.
وقد يكون الشخص الذي يقول للناس: افعلوا ولا حرج؛ هذه ضرورة، قد يكون متورطاً في أمر محرم في حياته الشخصية، فلكي لا يلومه الناس يفتيهم بالجواز.
وكذلك عدم العلم الدقيق والقدرة على تصور الواقع، وهناك أناس عندهم حسن نية، يقولون للناس: افعلوا ضرورة، ما هو السبب؟ قالوا: نحن نريد أن نحبب الناس في الدين، ولذلك نحن نيسر عليهم، ونفتح المجالات لهم، ونقول: اعملوا ولا حرج، وهذه ضرورة، لماذا؟ لتحبيب الناس في الدين! هؤلاء -أيها الإخوة- يدخلون الناس إلى الدين من باب، ثم يخرجونهم من الدين من باب آخر، مسيئون وليسوا بمحسنين، وأضرب لكم مثلاً: شيخ في حلقة جاءه شخص فقال -ومع الأسف أيها الإخوة أهل العلم المتمكنون من العلم قلة جداً، ولذلك الناس لا بد لهم أن يذهبوا إلى المأمون،وليس لهم أن يسألوا أي شخص! كلا.
أحدهم في مجلس من الناس جاءه شخص فقال: يا شيخ، أريد أن أنقل عفش بيتي في نهار رمضان، وهذا أمر متعب في رمضان، هل يجوز أن أفطر؟ قال: لا بأس؛ للضرورة أفطر، حتى قال أحد الحاضرين من النبهاء من عامة الناس، قال: يا شيخ، لماذا لا تقول له أن ينقل عفش بيته في الليل؟!
أمور لابد أن تُعلم عند وقوع الضرورة
لابد للشيخ والمفتي أن يبين للناس إذا وقعوا في ضرورة حقيقة أموراً، ومن هذه الأمور أن يقول: إن الضرورة حالة استثنائية، وليست هي الأصل، لكي يشعر المستفتي أنه يعيش في دائرة ضيقة وهو يفعل هذا الأمر المحرم، وأن عليه أن يخرج منها بأي وسيلة.
ثانياً: أن المباح للضرورة ليس من الطيبات؛ الميتة إذا أبيحت للضرورة لا تصبح طيبة لا زالت خبيثة نتنه، لكن الفرق أن الذي يتناولها للضرورة يسقط عنه الإثم، فلا بد أن يشعر الذي يأكل الميتة للضرورة أنه يأكل شيئاً منتناً حراماً في الأصل، لا يجوز في الأصل، لا بد أن يستشعر هذا.
ثالثاً: أن يحمل المفتي المستفتي المسئولية عن كامل التفاصيل التي يقدمها له، وأن فتواه له بالضرورة مبنية على صحة المعلومات، فإذا كان المستفتي مزوراً، ويقدم معلومات خاطئة، ويقول: ما دام الشيخ سيفتي فأنا أخرجت نفسي من العهدة، ما دام أخذتها من فمه، وهو يقدم معلومات خاطئة، يقدم معلومات ليشعر الشيخ أنه في حرج، وأن المسألة لا مخرج منها، حتى يقول له الشيخ: افعل للضرورة.
رابعاً: لا يجوز الإفتاء بالضرورة إلا بعد انسداد جميع الأبواب، واستنفاذ جميع الحلول والبدائل، وكذلك لا بد أن يشعر المضطر عند الاضطرار بالحرج وهو يقدم على هذا الفعل، وأضرب لكم مثلاً: أفتى العلماء الثقات بجواز وضع النقود في البنوك الربوية للضرورة إذا لم يوجد غيرها، هل يشعر الشخص اليوم وهو يدخل بنكاً ربوياً ليضع فيه مالاً، أو يأخذ منه ماله، هل يشعر بالحرج الشديد؟ هل يشعر وكأنه يأكل ميتة؟ هل يدخل وهو يستغفر الله ويخاف أن يقع عليه عذاب في هذه القلعة من قلاع الربا؟ أم أن الناس يتباهون بشعارات البنوك، ودفاتر البنوك، وبطاقات السحب الآلي للبنوك، ودعايات البنوك، ويتفاخر أنه قد أودع في البنك الفلاني، وأن أمواله في البنك الفلاني، ويتفاخر بتسهيل الخدمات المصرفية في البنك الفلاني! ماذا الذي يحدث أيها الناس؟! هل الذي يحدث شعور بالحرج، وأنت تضع أموالك في البنوك الربوية للضرورة وبدون فوائد أو ربا؟ أم أن الذي يحدث أحياناً نوع من التفاخر بالبنك، وشد النفس به؟ مثلاً: وأنت تعلم أن تناول كوباً من الشاي من مال هذا البنك كضيافة من البنك أنه حرام لا يجوز.
أين الحرج وأنت ترتكب الضرورة؟
ثم إن من القواعد المهمة: أنه لا بد من السعي لإزالة الضرورة، على المضطر أن يسعى بكل قوته أن يتخلص من الضرورة، لا أن يستسلم لها، لا بد أن يتخلص، كم من الناس اليوم إذا وقعوا في ضرورة يحاولون التخلص فعلاً من هذا المجال الضيق، من هذا المكان الحرج الذي وقعوا فيه، وأن المضطر إذا لم يسعَ للخروج من الضرورة فإنه يأثم، فإذا قُدِّر -مثلاً- كما ضرب العلماء مثلاً حياً في كتبهم، ولو اطلعوا على حالنا اليوم ماذا سيقولون أيها الإخوة؟ قالوا في كتبهم: إذا جاز للمسلمين في عصر من العصور مصالحة العدو لضرورة مع توفر الشروط الشرعية فلا بد أن يسعى المسلمون للخروج من هذه الضرورة التي ألجأتهم إلى مصالحة العدو، ومعنى الشروط الشرعية أن يتولى عقد الصلح مثلاً خليفة المسلمين الذي وكله المسلمون عليهم، أو نائبه الذي وكله الخليفة، أما أن يتولى عقد الصلح مع العدو رجل ظالم تسلَّط على المسلمين، أو كافر أو قومي علماني، أو نصراني أو ملحد أو لاديني يتكلم باسم المسلمين، ويفاوض عنهم من الذي وكله؟! ومن هي الأمة الإسلامية التي وكلته في شئونها؟! وأن يكون هذا الصلح هو أفضل حل للمسلمين فعلاً، وألا يؤدي إلى مفاسد أكثر بترك الصلح، وأن يكون موقتاً بوقت معين كما اشترط الفقهاء لذلك، وأكثر مدة اشترطها الفقهاء للصلح عشر سنين بناء على صلح الحديبية إذا توفرت الشروط في الصلح فعلاً، توفرت الشروط فإنه يجب على المسلمين أن يسعوا لإزالة الضعف والتقوي والشعور بأنهم في ذل، وأنه لا بد أن يُعدوا العدة للجهاد حتى ينهوا هذا الضيم والهوان المفروض عليهم، وبذلك تعلم أن كثيراً مما يحدث في هذه الأيام لا علاقة له بالإسلام أصلاً، ولم يسأل عنه الإسلام ابتداء.
ومن قواعد الشريعة أن الضرورة التي تقدر بقدرها لا بد أن تكون ضرورةً فعلاً، فيها حرج عظيم على الشخص، لا يطيق تحمله فعلاً، وليست مسألة توسع في مكاسب وزيادة أرباح مثلاً، أو مشقة بسيطة يمكن تحملها، فهذه ليست ضرورة، ولا داعي لأن نخادع أنفسنا، ونكذب على الله ، وهو يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ غافر:19، فهل فقهنا شيئاً مما يتعلق بهذه القاعدة العظيمة التي ذكرها أهل العلم؟ وهل عرفنا الآن سبيل المتلاعبين، وأنه يجب أن نصدق مع الله ؟.
اللهم فقهنا في ديننا، وقنا شر أنفسنا، اللهم كن لنا عوناً على طاعتك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، لا إله إلا هو خلق الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وأقام الحجة، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله فعال لما يريد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، السراج المنير، والبشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
صور للضرورة المعتبرة
أيَّها المسلمون: لا بأس أن نذكر الآن بعض الحالات التي فيها ضرورة صحيحة، وبعض الحالات التي ليس فيها ضرورة، وإنما يستخدم الناس كلمة الضرورة زوراً وبهتاناً على الشريعة، فمثلاً: الكذب في الحرب ضرورة مع الكفار، كما قال ﷺ: الحرب خدعة[رواه البخاري (3030)، ومسلم (1740)]، والكذب لأجل الإصلاح بين المتخاصمين ضرورة؛ من أجل التوفيق بين المتخاصمين من المسلمين، إذا لم يجد حلاً إلا ذلك، وكذلك غيبة رجل لا يصلح في الزواج تَقدَّم إلى أناس، وأنت تعلم حاله يجوز أن تغتابه للضرورة لا حرج في ذلك، وسفر المرأة بغير محرم يكون ضرورة في حالات: كمن مات محرمها في الطريق، أو أُجبرت -بالقوة- على الخروج من بلد، وليس عندها محرم، أو مضطرة للهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وليس عندها محرم، وعائشة في غزوة بني المصطلق لما تركها الجيش وذهبوا؛ ظنوا أنها في الهودج -وهي كانت تبحث عن عقدها بعيداً عن الجيش- تركوها وذهبوا، فلما مر بها صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنهما اقتاد بعيرها وذهب بها للضرورة؛ لأنها مقطوعة، لو شاهدت حادث سيارة في الطريق -طريق سفر-، وامرأة تحتاج إلى إسعاف تأخذها للضرورة لا حرج في ذلك، ترك الجماعة في المسجد لوجود مجنون أو مريض في البيت يخشى عليه، يحتاج إلى من يقف بجانبه ويرعاه؛ لأن حالته خطرة، هذه ضرورة تترك لأجلها صلاة الجماعة، لكن ترك الصلاة في المسجد لأجل المباريات والكلام الفارغ، ما هو حال أكثر المسلمين؟!.
وضع النقود في البنوك الربوية لحفظها إذا لم يوجد إلا هي ضرورة؛ لأن المال بالتجربة يضيع أو يترك، وهناك مؤسسات عندها أموال كثيرة، وأناس أغنياء من المسلمين أين يضعون نقودهم؟ فيضعونها إذاً في البنوك الربوية إذا لم يوجد إلا هي، مع وجوب السعي لإقامة البنوك الإسلامية -كما ذكرنا قبل قليل- من القادرين على السعي لا بد منه، السفر إلى بلاد الكفار لعلاج لا يوجد إلا في بلاد الكفار جائز للضرورة، وذكر بعض أهل العلم في حالة عصرية الاضطرار إلى عقد التأمين المحرم على السيارات في بلد لا تستطيع قيادة سيارتك فيه إلا بعقد التأمين، لا تستطيع، يمنعونك، ويخالفونك، ويسحبون رخصتك، ويمنعونك من قيادة السيارة إلا بالتأمين، أنت مكره في هذه الحالة؛ لأنك لا بد أن تستعمل سيارتك، لا تستطيع أن تمشي المسافات الطويلة، ولكن ما رأيكم بمن يؤمنون على سيارتهم لغير ضرورة؟ ما أحد دفعه إليها، ولا ضرب يده عليها، ومع ذلك يقوم بعقد التأمين المحرم، يقول: أخشى أن يحدث حادث، ولا أستطيع كذا، أتوقع..، يمكن..، وبناءً على هذه اليمكنات يرتكبون عقد التأمين المحرم قطعاً، وهو نوع من أنواع الميسر والقمار لا يجوز فعله.
صور للضرورة الغير معتبرة
العمل في البنوك الربوية حرام ليس بضرورة أبداً، ولا يجوز، الأعمال الأخرى موجودة، وأرض الله واسعة، إذا لم تجد في البلد فأرض الله واسعة، وإذا لم تجد يجوز لك أن تمد يدك إلى الناس، لو قال شخص: ما وجدت، نقول: الشحاذة جائزة للضرورة، فالعلماء أباحوا التسول للضرورة، فيجوز، لكن العمل في البنوك لا يجوز.
الاستلاف من البنوك الربوية للمشاريع التجارية، أو الزواج ونحوه، حرام لا يجوز، وكذاب الذي يدعي أنها ضرورة، لا يجوز.
الاستلاف من البنوك الربوية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ الطلاق:2-3.
السماح ببيع الخمور في بلاد المسلمين، وفتح الملاهي، ودخول الكفار إلى المساجد للفرجة بحجة أن البلد مضطر إلى العملة الصعبة التي يأتي بها هؤلاء السياح، سبحانك هذا بهتان عظيم!.
سفر المرأة بغير محرم لغير ضرورة لا يجوز وحرام، والعلاج بالمحرمات والله لم يجعل شفاء أمة محمد ﷺ فيما حرم عليها، أو العلاج بالموسيقى كما يقولون، أو الإفطار في رمضان لأجل نقل عفش، أو وظيفة، أو عمل غير ضرورة، فلو كان جهاداً في الجيش لقلنا: أفطر تَقوَّ على جيش الكفار.
رجال المطافئ يطفئون حريقاً صعباً طويلاً جداً يتقوون لإطفاء الحريق، لكن هذا يقول: وقت طويل، وعمل طويل.
حلق اللحية لمجرد الخوف من توقيف بسيط، أو مساءلة كما يفعل في بعض البلدان الذين لا يخافون الله ، فيوقفون أصحاب اللحى ويفتشونهم، وقد ذهب شخص إلى بلد وهو ملتحي فأوقفه موظف التفتيش: إلى أين يا أخ؟ فقال الرجل: ماذا؟ فقال الموظف: ما هذا الذي عليك؟ قال: لحية، فقال الموظف: ألا تعلم أن اللحية ممنوع؟ سبحان الله! ومن الذي منعها؟ فحلق اللحية لمجرد خوف توقيف بسيط، أو مساءلة لا يجوز، وليس بضرورة، لكن لو خاف أنه يسجن سجناً مؤبداً، أو يقتل، ويلحق به ضرر عظيم يجوز له حلقها للضرورة، أما لمجرد كلمة أو كلمتين يسمعها من الأذى يجب عليه أن يتحمل ذلك في سبيل الله.
وضع البنات في مدارس مختلطة بدون حجاب للدراسة، والمرأة هذه تُفتَن، وربما تفعل الفاحشة، وتجعل لها خليلاً من أجل الشهادة، لا، لا نريد الشهادة؛ وليست بضرورة، قالوا: حتى يرغب المتقدمون لها بالزواج؛ لأنها صاحبة شهادة، لا يا أخي؛ يرزقها الله.
وزعموا أن الربا ضرورة عصرية، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وجلب عمال الكفار إلى جزيرة العرب لفتح أعمال تجارية لا يجوز، لا يجوز جلب الكفار للتوسع.
إجهاض الجنين من المرأة التي تريد أن تحافظ على رشاقتها، قال: هذا الجنين الآن يشوه الشكل، ويسبب انتفاخ البطن، وتجعد الجلد؛ أي نجهض، حرام، أو إجهاض الزانية لكي تتوسع في الزنا بزيادة حرام.
كشف الطبيب على المرأة الأجنبية بغير حاجة، بغير داعٍ، بغير ضرورة، وترك المرأة للحجاب عند السفر للخارج ليس بضرورة، وأطرفكم بهذه المسألة سمعتها في الليلة الماضية من فتاوى إذاعة لندن! أستغفر الله، برنامج: "بين السائل والمجيب"، السؤال عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية، فبدأ المفتي يفتي -في إذاعة لندن- ويقول: وإن هناك كثيراً من الأمور التي تساهل الناس فيها، وأحوال كثيرة في الواقع مخالفة للشرع، -فاستبشرنا خيراً وبعد ذلك- قال: وقد وردت الأدلة المانعة لتحريم المصافحة، وقالت عائشة : "ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة قط"، ولا كذا..، وكان يبايعهن فيكتفي من بُعد، و.. و.. إلخ، قال: ولكن في النهاية كل هذه الأدلة ليس فيها دليل على التحريم؛ لأنها خاصة بالرسول ﷺ!.
الله أكبر! لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب:21، وهو ﷺ الذي قال: لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له[رواه الطبراني في الكبير (486)]، وإنما قال: جاءت امرأة في المركز الفلاني، ومدت يدها للمصافحة، هذا إحراج، قال: هذا إحراج، ماذا نفعل إحراج؟ هذا إحراج! صارت ضرورة! يصافح المرأة الأجنبية، قال: وجاءت امرأة اسكتلندية مهرولة تريد أن تعانقني، إحراج!.
أيها الإخوة: إن هذا الموضوع مؤلم وخطير، وقد آثرت أن أطرقه بنوع من التفصيل، لكنني أرجو من الله أن يفقهنا وإياكم في دينه؛ لأن الفقه في الدين أمر مهم جداً لكي لا نقع في هذه المحظورات بحجج واهية لا يقبلها الله، هذا دين، وهذه أمانة، وهناك حساب.
نسأل الله أن يخفف عنا أهوال يوم القيامة، اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عنا يا رب العالمين، وأن تغفر لنا ذنوبنا، وتكفر عنا سيئاتنا، وأن تدخلنا الجنة مع الأبرار.
اللهم سامحنا في تقصيرنا في حقك، اللهم تجاوز عنا ما فعلنا من المآثم والمعاصي والسيئات، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.