الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران:102،يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباًالنساء:1، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًالأحزاب:70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
التآلف والاجتماع من مقاصد الشريعة
عباد الله: إن الشريعة قد رغَّبت في جمع القلوب، والإصلاح بين الناس، وأن يكون أمر المسلمين مجتمعاً، ولذلك جعلت الأخوة أمراً مرغوباً فيه، مثاباً عليه لمن قام بحقه، وكذلك دعت إلى رفع ضده، ومقاومة كل ما يشينه، ولذلك ترى الشريعة قد أمرت بإفشاء السلام، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكل ما من شأنه أن يقرب بين المسلمين، ونهت عن الكذب، وعن النميمة، وعن الغيبة، وعن الهمز واللمز، وعن السخرية، وعن كل ما من شأنه أن يسيء العلاقة، ويقطع المودة بين المسلمَين، ومن الإجراءات التي جاءت الشريعة بها لأجل الحفاظ على العلاقات بين المسلمين إصلاح ذات البين.
إصلاح ذات البين -يا عباد الله- من الأمور العظيمة، والعبادات الجليلة التي تركها كثيرٌ من الناس، ورغبوا عنها، ونحن في مجتمعٍ مادي تغلب عليه المادة، وتكثر فيه المعاصي، ولذلك فإن الخلافات لابد أن تكثر تبعاً لذلك، والدعاة إلى الله -بل وجميع المسلمين- عليهم واجب إصلاح ذات البين، ومحاولة إزالة ما في النفوس، وهذا من العبادات العظيمة ولا شك.
إن الشريعة قد جعلت أمر مصارمة المسلم لأخيه أمراً خطيراً، وقد قال النبي ﷺ: إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين، يقول الله: دعهما حتى يصطلحا[رواه ابن ماجه (1740)]، هذا لما سأل ﷺ عن سبب الإكثار من صيامه للاثنين والخميس، فيحرم المتصارمان من مغفرة الله تعالى بسبب الشقاق الذي قام بينهما، وبسبب الهجران الذي حل بينهما.
أما الإصلاح بين الناس فإنه واجب، قال الله تعالى: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْالأنفال:1وهذا أمرٌ لابد منه، أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، أصلحوا بين النفوس، قربوا بينها، أزيلوا أسباب العداوة، والصلح يكون بين متغاضبين كالزوجين، ويكون في الجراحات كالعفو على مال، ويكون لقطع الخصومة، كما إذا وقعت المزاحمة في الأملاك أو المشتركات، وقد كان النبي ﷺ يقوم بذلك، فدلَّ الكتاب والسنة على فضل الإصلاح بين الناس.
فضل إصلاح ذات البين
قال الله تعالى في فضل الإصلاح: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماًالنساء:114، فإذاً كثيرٌ من الناس الذين يتسارون، ويتناجون ليس في نجواهم خير إلا من قام بالتناجي في الخير وإصلاح ذات البين، فإن هذا مأجور، ونجواه مأجورٌ عليها، وقد قال الله تعالى في أجر المصلح بين الناس: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماًالنساء:114، وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر، ولكنها تحلق الدين[رواه الترمذي (2509)]، فلما كان نفع إصلاح ذات البين متعدياً، وخيره عميماً، وفائدته شاملة، صار أجره عظيماً، وقال النبي ﷺ في فضله: كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل مفصل من مفاصل الإنسان من هذه العظام عليه حقٌ واجب يجب على العبد أن يؤديه لربه؛ لأنها نعمة: كلُّ سلامى من الناس عليه صدقة كل يومٍ تطلع فيه الشمس؛ يعدل بين الناس صدقة[رواه البخاري (2707)، ومسلم (1009)]، فإذا أصلح ،بينهما وعدل بينهما، أتى بصدقة من هذه الصدقات، وأدى بعض ما عليه من الحق.
ولعظم هذه المسألة جعلت الشريعة إثم الكذب منتفياً عمن يصلح بين الناس، فقال النبي ﷺ: لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح[رواه أبو داود (4920)]،وفي رواية: ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً، أو نمى خيراً[رواه الترمذي (1938)]، ومن أوجه ذلك أن يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر، فلا ينقله ولا يبلغه، وذهبت طائفةٌ من العلماء إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، والأحوط أن يأتي بالتورية والتعريض، فإذا نقل خبراً أو سئل: هل قال فلانٌ فيّ كذا؟ فنفى ذلك لم يكن كاذباً، مع أن الكذب في الشريعة أمرٌ قبيحٌ جداً، لكن لما كانت مصلحة إصلاح ذات البين أعظم من مفسدة الكذب رخصت فيه الشريعة، ولم تجعل فيه إثماً على من فعله لأجل الإصلاح بين الناس.
النبي ﷺ يصلح بين الناس
وفي سنة النبي ﷺ الفعلية محاولاتٌ وعملٌ دائبٌ منه ﷺ في الإصلاح بين الناس، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: "أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم" [رواه البخاري (2693)] أمر أصحابه أن يذهبوا للإصلاح بينهم، وعنون عليه البخاري رحمه الله: "باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح"، بل إن النبي ﷺ كان يذهب في الإصلاح، ولو بعدت المسافة، وفاته شيءٌ من الجماعة لأجل الإصلاح بين الناس، كما روى البخاري رحمه الله: "أن بني عمرو بن عوف بـقباء كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم ﷺ في أناسٍ من أصحابه، فحبس رسول الله ﷺ وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر ، فقال: يا أبا بكر إن رسول الله ﷺ قد حبس وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر ، فكبر بالناس، وجاء رسول الله ﷺ يمشي في الصفوف يشقها شقاً حتى قام في الصف فأخذ الناس في التصفيح...." الحديث [رواه البخاري (1218)]، تأخر ﷺ عن صلاة الجماعة، وذهب بعيداً إلى قباء للإصلاح بينهم، كان ممشى خير، وأجراً عظيماً، وندب إلى ذلك أصحابه، وكان ﷺ يشير على المتخاصمين بالصلح، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سمع رسول الله ﷺ صوت خصومٍ بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء -يقول: دع لي من أصل المال، أو اجعل علي الأصل فقط دون أرباح- وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله ﷺ، فقال: أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟فقال: "أنا يا رسول الله! فله أي ذلك أحب" [رواه البخاري (2705)، ومسلم (1557)]، وعظه ﷺفقال: أين الذي يحلف بالله ألا يفعل الخير؟ فاستحيا الرجل، وقال: "أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب"، أحب أن أضع له من رأس المال، أو أضع عنه الربح وأكتفي برأس المال فأنا راض بذلك، فكان ﷺ يشير بذلك، كان ﷺ يعظ في أمر الصلح، ويرغب فيه، ويذم من رفض الصلح، كما وعظ الذي حلف بالله ألا يقبل بعرض خصمه عليه، وكذلك جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى: "أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله ﷺ في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله ﷺ وهو في بيته، فخرج رسول الله ﷺ إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب ، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر -أي: تنازل له عن النصف- فقال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ للخصم الآخر: قم فاقضه[رواه البخاري (2710)، ومسلم (1558)]قم فاعطه ما تبقى من حقه، فكان ﷺ يشير بالصلح، وقد رأى هذا لا يستطيع الوفاء، والآخر يلح في الطلب، فطلب من أحدهما أن يتنازل عن شيء، وطلب من الآخر أن يقضيه الباقي، وهكذا كان ﷺ يفعل، وهذه سياسته في أصحابه.
الصلح بين المسلمين المتقاتلين من أعظم الصلح
ومن أعظم الصلح الصلح بين المسلمين المتقاتلين؛ لأن إراقة الدماء بين المسلمين من أعظم الكبائر، ومما يفرق الصفوف أشد تفريق، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَاالحجرات:9 فهذا أمرٌ بالصلح، وكذلك فإن الإصلاح بين طالبي الدية في الجراحات مما جاء في السنة، فإن أنساً حدث "أن الربيِّع بنت النضر كسرت ثنية جارية -اعتدت عليها فكسرت ثنيتها-، فطلب أهل الجارية القصاص، "فطلبوا الأرش" أي أهل المعتدية "فطلبوا الأرش، وطلبوا العفو" قالوا: نعطيكم مالاً بدلاً مما فعلته الرُّبيِّع، أو اعفوا عنا، وتنازلوا عن طلب القصاص، "فأبوا" إلا القصاص، "فأتوا النبي ﷺ، فأمرهم بالقصاص"؛ لأنه كتاب الله، "فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الرُّبيِّع -وكان رجلاً صالحاً من أولياء الله تعالى- قال: أتكسر ثنية الربيع، يا رسول الله؟! لا، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال: يا أنس، كتاب الله القصاص، فرضي القوم، وعفوا" فجأةً تغير الموقف، رضي القوم فعفوا، فقال النبي ﷺ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره[رواه البخاري (2703)].
وكان من أعظم البركة والخير على المسلمين الحسن بن علي ؛ فإن الله أصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، كما جاء في الصحيح أنه لما تواجه معاوية والحسن رضي الله تعالى عنهما، فقال عمرو: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين-: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، فمن لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه، فقبل الصلح، ورجع عن القتال، وهذا مصداق ما أخبر به ﷺ "أنه التفت إلى الحسن مرةً وإلى الناس، فقال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[رواه البخاري (2704)].
ثمرات الصلح بين المسلمين
أيها المسلمون: إن فوائد الصلح كثيرة، فإنه يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل، والحماية من شهادة الزور، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس، بل إن الشريعة جعلت للمصلح حقاً من الزكاة، أو من بيت المال؛ لأداء ما تحمله من الديون بسبب الإصلاح، وإن كان قادراً على أدائها من ماله، فقال الله تعالى: وَالْغَارِمِينَالتوبة:60، وهم من تحملوا ديات؛ لأجل الإصلاح بين الناس، وكف بعضهم عن قتل بعض.
نسأل الله أن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه رءوفٌ رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله خالق السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وحده لا شريك له، هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الصلح بين الزوجين
أيها المسلمون، يا عباد الله: ومن أعظم أنواع الصلح الصلح بين الزوجين المتخاصمين؛ فإن الأسر تقوم على المحبة والألفة، وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة، وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة، والسعي في الإصلاح بين الأزواج، وقد قال الله عند حصول الشقاق: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَاالنساء:35، إذا كانت النية طيبة جاءت النتيجة طيبة: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَاالنساء:35، وندب الله تعالى إلى المصالحة بين المرأة وزوجها، وقال الله : فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌالنساء:128، الصلح خيرٌ من الشقاق، الصلح خيرٌ من الفراق، الصلح خيرٌ من البغضاء التي تقوم في النفوس، قالت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاًالنساء: 128قالت: "هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه؛ كبراً أو غيره، فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا"، فإذا أراد أن يطلقها، ويتفرد بزوجته الأخرى مثلاً، فقالت الأولى: أمسكني عند أولادي، وأبيحك من ليلتي، فهذا جائز، وقد فعلت ذلك سودة رضي الله عنها، أو تصطلح معه على أن تضع له شيئاً من النفقة، وتتنازل له عن شيءٍ منها من أجل أن تدوم الحياة الزوجية: فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصَّالحا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌالنساء:128.
وقال تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَاالنساء:35، فماذا يفعل الحكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالالتقاء بوكيله، أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفه الذي ينوب عنه، وإذا قلنا: إنه حاكم، فإن كلام الحكمين معتمد، ويسمع إليه، يسمع منه سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان، فيعتمدان أموراً، ويتوصلان إلى صاحب الخطأ، من هو الطرف المخطئ لأجل وعظه ونصحه، أو وعظ الطرفين إذا كان كلاهما مخطئ، والسعي في تقريب وجهات النظر، ولذلك فإن من الحكمة أن يذكِّر الحكمان الزوج بوصية رسول الله ﷺ بالنساء، وبقوله ﷺ في الوصية بالزوجة: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي[رواه الترمذي (3895)]، وأن المرجو منك -يا أيها الزوج- والمأمول أن تعامل زوجتك بالفضل لا بالعدل؛ لا بالعدل واحدة بواحدة، وإذا فعلت ترد عليها، وإنما تتعامل معها بالفضل، بالمسامحة، بالزيادة منك والتغاضي، بالفضل لا بالعدل؛ لأن أهلها استودعوها عندك، ائتمنوك عليها، ووثقوا بك من أنك ستسعدها، ولا تسبب لهم المتاعب بسببها، وأنها أم أولادك، أو أنها ستكون كذلك مستقبلاً، والولد الصالح مما ينتفع به أبوه في الحياة، وبالدعاء له بعد الممات، وأن الزوجة كالأسيرة بيد زوجها، وليس من الإسلام، ولا من المروءة، ولا من الشجاعة التي جاء بها الإسلام أن يسيء المسلم إلى أسيرته، أو أسيره، فكيف إذا كانت الأسيرة الزوجة؟ وأن الزوج الكريم هو الذي لا يستغل قوته وبطشه ولا يتعسف باستعمال سلطته على زوجته على نحوٍ يلحق بها الضرر، فهذه المعاني إذا قدمها الحكمان إلى الزوج بأسلوبٍ لطيف، وقولٍ لين، فالغالب أنها ستؤثر في نفس الزوج، وسيقلع عما أدى إلى الشقاق، وكذلك ينبغي للحكم من أهل الزوجة أن يكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكِّرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تُسمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته، وفيما يأمرها بها زوجها من المباحات، وألا تثقل عليه بطلباتها الكثيرة، وأن تتحمل عبوسه وصدوده وإساءته، وأن تقابل ذلك بابتسامتها وإحسانها وخدمتها، فإن الزوج إذا رأى ذلك منها، فسرعان ما يزول عنه العبوس والصدود، ويكف عن الإساءة، وعليها ألا تستقصي في طلب الحقوق، وإذا أحست بكراهتها له، فلتطرد هذا الإحساس، ولتذكِّر نفسها بأنه قد يجعل الله لها فيما تكرهه الخير الكثير، فيرزقها الله منه ولداً تقر به عينها، ويزول عن قلبها ما تحسه من كراهة لزوجها، فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما هيناً سهلاً، والصلح بينهما وشيكاً.
آداب لمن أراد الإصلاح بين الناس
لكن إذا كان المتدخل في الخصومة غير عاقل، لا يحسن التصرف، فإن إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا أمرٌ مشاهد، فإن عدداً من الناس يتدخل في القضية لأجل الإصلاح بزعمه، فإذا به يبعد النجعة، ويباعد الشُّقة، ويتسبب في مزيدٍ من الفرقة، ويحصل الكثير من الخلاف بعد أن كان شيئاً محدوداً، فإذا به يستشري وينتشر، فنذكر المصلحين الذين يريدون التدخل للإصلاح:
أولاً: أن يبتغوا وجه الله تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاًالنساء:35إذا كانت النية صافية ومُخْلَصَةً لله كانت النتيجة طيبة: يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَاالنساء:35، فأولاً: قصد وجه الله في الصلح.
ثانياً: الحكمة في التعامل في الأمور، فإن في كثيرٍ من الأشياء بين المتخاصمين حساسيات.
ثالثاً: التكتم: "واستعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان" لكي تنجح القضية، لابد من التكتم، وعدم نشر التفاصيل بين الناس.
رابعاً: أنه يذكر كل واحد من المتخاصمين بالله ، وبحق الآخر عليه، إن كان أخاً في الله يذكر بحقوق الأخوة، وإن كان زوجاً يذكر بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة تذكر بحقوق الزوج، وكذلك فإنه لا بأس أن تنقل إليه كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتكتم عنه أموراً من الشر جاءت على لسان الطرف الآخر، هذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين.
أيها المسلمون: إن إصلاح ذات البين والإصلاح بين المتخاصمين هذه عبادة عظيمة جداً فرط فيها الكثير، ولذلك عمت الفرقة والشتات في كثيرٍ من طبقات المجتمع ونواحيه، وتفككت كثيرٌ من الأسر، لو أن المسلمين تدخلوا كما أمر الله: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْالأنفال:1-أمرٌ واجب- لتفادينا كثيراً من الشر، ولكن هذا يخالف الشرع، وهذا يهمل ولا يهمه الأمر، ولذلك انتشرت الخلافات، وعم الشقاق بين المسلمين، فلنبادر إلى الإصلاح على جميع المستويات؛ الإصلاح بين الدعاة إلى الله أنفسهم، والإصلاح بين كل متخاصمين من المسلمين.
أيها المسلمون: هذه عبادة أوصى بها الله، وأوصى بها رسول الله ﷺ، فانتدبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في القيام بها أجراً عظيماً لا يعلمه إلا الله .
اللهم إنا نسألك أن تجعل قلوبنا عامرةً بذكرك، وأن تطهر قلوبنا من الشرك والنفاق، وأن تطهر ألسنتنا من الكذب.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين لدينك.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع راية الدين، واقمع أهل النفاق والشرك يا رب العالمين.