الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

وصايا من الله للدعاة


عناصر المادة
الخطبة الأولى
القيام بواجب الدعوة
أساليب الدعوة
مراتب الدعوة
الخطبة الثانية
توجيهات قرآنية للدعاة

الخطبة الأولى

00:00:04

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يا أيّها الّذين آمنواْ اتّقواْ اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مّسْلمون سورة آل عمران 102. يا أيّها النّاس اتّقواْ ربّكم الّذي خلقكم مّن نّفْس واحدة وخلق منْها زوْجها وبثّ منْهما رجالاً كثيرًا ونساء واتّقواْ اللّه الّذي تساءلون به والأرْحام إنّ اللّه كان عليْكمْ رقيبًا سورة النساء 1. يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قوْلًا سديدًا ۝ يصْلحْ لكمْ أعْمالكمْ ويغْفرْ لكمْ ذنوبكمْ ومن يطعْ اللّه ورسوله فقدْ فاز فوْزًا عظيمًا سورة الأحزاب 7071.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

القيام بواجب الدعوة

00:01:02

عباد الله: لقد أنزل علينا القرآن الكريم؛ لنتدبر ما فيه، ونعمل بمقتضاه، وقد جاءت فيه توجيهات كثيرة في شتى فروع الحياة وأوديتها، وجاءت فيه مواعظ من ربنا؛ لجلاء صدأ قلوبنا، وحمل نفوسنا على السير في الصراط المستقيم، وعدم الاعوجاج، ومن هذه التوجيهات، التوجيهات للدعاة إلى الله –تعالى-، والتوجيه للناس للقيام بواجب الدعوة إلى الله، وكلنا يجب أن نكون دعاة إلى الله.

عباد الله: لقد فرطنا في هذا الواجب الشرعي، واجب الدعوة إلى الله -تعالى-، وركنت نفوسنا إلى الدنيا، واشتغلنا بالملذات، واتباع الشهوات، وكان الإعراض من الكثيرين عن العمل بالإسلام فضلاً عن الدعوة إليه، والكل واجبات سنسأل عنها يوم القيامة: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَالزخرف: 44.

فتعالوا بنا نستعرض شيئاً مما ذكره ربنا عن الدعوة إلى الله، والأمر بها، وأساليبها، وكيفية القيام وتحمل المسؤولية، واستشعار الواجب في هذا الموضوع الجليل، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَالأعراف: 164.

الاستقامة نصابها العلم والبصيرة، وزكاتها الدعوة والموعظة، والله أوجب علينا بقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِآل عمران: 104. يعني: لتكونوا أنتم أمة هذه صفتها، أنهم يدعون إلى الخير، وعلى فرض أن هذا أمر لبعض الأمة بالدعوة؛ فإنه واجب وفرض على الكفاية لا يسقط إلا في حال تحقق الكفاية، فهل تحققت الكفاية في عصرنا؟ وهل وجد من الدعاة من يغطي الحال والناس؟ كلا -أيها المسلمون-، فإذاً صار واجباً علينا جميعاً أن نكون دعاة إلى الله –تعالى-.

وينبغي أن يكون المسلم يتحمل ما يلاقي في سبيل تبليغ دعوة ربه، وأن يكون الدعاة إلى الله عدتهم الصبر، وعتادهم اليقين بنصر الله، وبلوغ أمره، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار.

والداعي إلى الله –تعالى- يحزن ويتحسر لمرأى جموع البشر تتخبط في دياجير الظُلم، فيبادر ليجعل نفسه فتيلاً مشتعلاً في هذا الليل البهيم، والظلمة المدلهمة، راجياً الأجر من الله تعالى أولا، وتنبيهاً للسادرين، وإيقاظاً للنائمين ثانيا، ولذلك لما قال بعض بني إسرائيل للدعاة إلى الله منهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًاالأعراف: 164. لا فائدة من دعوتهم، مصرون على الباطل والإثم، فلمَ تشتغلون بدعوتهم؟

فكان جواب الدعاة إلى الله: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْالأعراف: 164. إقامة الحجة، والقيام بالأمر، وتنفيذ التكليف، ثم: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَالأعراف: 164. لعلهم يهتدون، لا يفقد الداعية بصيص الأمل، لا يفقد احتمال الهداية، ولا يفقد أن يوجد من المدعوين من يقبل الدعوة ولو بعد حين، وكلمة على كلمة وبعد كلمة يحصل الأثر بإذن الله، والداعية في عمله لا يتفضل على الناس بل يقوم بواجبه مشفقاً عليهم، مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَالأعراف: 164.

إن الدعوة إلى الله -أيها المسلمون-: تحتاج إلى رجال يتسللون إلى قلوب الناس، ويأسرونهم بحسن سمتهم وخلقهم، ويعرفونهم بالله، ويذكرونهم بأيام الله، ويعينونهم على أنفسهم وعلى الشيطان.

إن تسهيل طريق الخير أمام الناس، وإزالة العوائق الموهومة، وتأليف قلوبهم، وإشعارهم بمحبة الخير لهم، وأن الداعي بعيد في دعوته لهم عن المصالح الشخصية أمر مهم جداً، قال الله : وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَالشعراء: 109. ويفعل الأسباب المفضية والمؤدية إلى هداية الناس، إلى هدايتهم ودلالتهم، ويقوم بالواجب بغير يأس ولا قنوط.

لقد قام نوح بواجب الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاما، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌهود: 40. لكن ذلك لم يثنيه عن الدعوة إلى الله –تعالى-.

أيها المسلمون: إننا شهداء الله في الأرض، يجب أن نقوم بالحق، وقد قال الله –تعالى- أيضا مبيناً المسؤولية التي ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بها، ولا يجعل لها فضول الأوقات، وإنما تكون لها الأوقات كلها، قال الله تعالى: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍمريم: 12. أخذ الكتاب يحتاج إلى مسؤولية، يحتاج إلى شدة عزيمة، وقوة شكيمة، ولا يطيق ذلك إلا من اختاره الله –تعالى- لأداء هذه المهمة.

أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس لا يأخذون الكتاب أصلا، وأعداد يأخذون بعض ما في الكتاب ويكفرون ببعض، وبعضهم يأخذه على ضعف وتراخي، والله يقول: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍالبقرة: 63. فالمسألة تحتاج إلى تصميم وعزيمة، المسألة تحتاج إلى حسن توجه، وإلى نية خالصة حتى تحصل النتيجة.

أساليب الدعوة

00:08:37

عباد الله: إن ربنا –تعالى- ذكر لنا بعض الأساليب في الدعوة، أساليب متنوعة في دعوة الأقرباء والبعداء، ودعوة الأقوام عموماً، ولنأخذ مثالاً على دعوة الأقرباء في قول الله –تعالى-: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ۝ يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ۝ يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ۝ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّاسورة مريم: 41 - 45.

تأمل -يا عبد الله- كيف ترقى وتوخى إبراهيم مسالك الدعوة، والحكمة فيها، والرفق واللين، والبعد عن التفضل والمنة، والازدراء والتحقير، والشدة والغلظة، وإنما عمد إلى التملق والتزلف؛ لكي يحاول التسلل إلى قلب خاوٍ، إنه قلب أبيه المشرك، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- معلقاً على هذه الآيات العظيمة : "ابتدأ إبراهيم خطابه بذكر أبوته أبوة أبيه، بذكر أبوته الدالة على توقيره، بدون كلمة توقير تستهل بها الخطاب، بدون كلمة احترام تنشئ بها الكلام وتستهله قد لا يفتح لك مطلقا، ذكر أبوته الدالة على توقيره ولم يسمه باسمه، ولم يقل: يا آزر. وإنما قال: يا أبت. ثم أخرج الكلام معه مخرج السؤال، فقال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًامريم: 42.

ولم يعمد إلى أسلوب الأمر المباشر والنهي المباشر، ويقول مثلاً: لا تعبد الشيطان، أو لا تعبد مالا يسمع. وإنما قال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًامريم: 42؟ ثم قال: يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَمريم: 43. فلم يقل له: إنك جاهل لا علم عندك، بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على المعنى، فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَمريم: 43. ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّامريم: 43 مثلما قال موسى لفرعون: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَالنازعات: 19.

ثم قال إبراهيم : يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّامريم: 45. فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه، مثلما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: يَمَسَّكَ، والمس الذي هو ألطف من غيره، ولم يقل: ينزل بك، ولم يقل: يخسف بك، وإنما قال: يَمَسَّكَ، ثم قال: - نكر العذاب- عَذَابٌ، ولم يقل: العذاب. ثم ذكر الرَّحْمَنِ، ولم يقل: الجبار، ولا القهار، تأليفاً له، واستجلاباً للإيمان بهذا الرحمن، واستشعاراً لرحمته.

فأي خطاب ألين وألطف من هذا؟ ومع ذلك كله كان الرد قاسياً شديدا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّامريم: 46.

ومع ذلك يجيء جواب إبراهيم تلين له الحجارة؛ لأنه لم يكن يدعو لحظ نفسه حتى يثور، ولم يكن يدعو لأجل أن يقابل بالإيجاب؛ ولذلك لم يثأر، ولم ينتقم، بل قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّامريم: 47.

وآية أخرى من كتاب الله –تعالى- في موضوع الدعوة إلى الله، يقول الله –تعالى-: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَالقصص: 56.

هذه الآية التي درج بعض الناس على الاستشهاد بها، إذا رآك تنصح إنساناً وتدعوه إلى الهدى سرعان ما يقول لك: دعه، فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن هذه الآية ليس المقصود بها إيقاف الدعاة عن العمل، وليس المقصود بها أن يتحسر الدعاة، ويقولوا: لا فائدة، وإنما المقصود أن الله –تعالى- بين فيها أن أحداً لا يملك أن يدخل الإسلام والإيمان في قلب شخص أبداً، ولكن الله هو الذي يهدي من يشاء فيدخله في الإسلام بعنايته، فكأنه يقول لك: يا أيها الداعية لا تغتر بعملك ولو أثمرت بعض مجهوداتك، لا تظنن أنك أنت الذي أدخلت الهداية إلى قلبه، ولا تغتر إن الله هو الذي أدخل الهداية.

ثم فيها فائدة أخرى بخلاف تجنيب الداعية من الغرور، وهي تجنيب الداعية من اليأس، وتجنيب الداعية من التوقف عن الدعوة، بأن يقال: أديت ما عليك، وأجرك ثبت، والرجل مصر على الباطل، ولا تستطيع أنت أن تهديه، فانظر غيره، ولا تذهب نفسك عليه حسرة، ولا تأسفن عليه، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَالكهف: 6. ومهلك نفسك أنهم لا يؤمنون.

هذه الآية نزلت تسلية وتسرية للنبي ﷺ لما ذهب إلى عمه أبي طالب يدعوه إلى الله –تعالى-، ولكن سبق القدر فيه، واختطفه من يده، واستمر على الكفر، وهو مستمر على الكفر -والعياذ بالله-، والنبي ﷺ يقول: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فأبى أن يقول، فأنزل الله –تعالى-: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَالقصص: 56[البخاري:3884، ومسلم:24]، ومات أبو طالب الذي كان نصير الدعوة، والمدافع عن النبي ﷺ، والمادح لأفكاره وآرائه ومعتقداته، وهو الذي كان ينصره ويحميه من أذي قريش، مات هذا الرجل في نهاية غير مرجوة أبدا.

كان النبي ﷺ يرجوا له لقاء هذه المجهودات، وهو عمه أقرب الناس إليه أن يهتدي، ولكن الله أراد أن يعلم رسوله والمؤمنين درساً عظيماً في أن الإنسان مهما بذل الأسباب، فإن الله إذا لم يشأ فلا يحدث المأمول أبداً.

ويبين الله –تعالى- أن ميزان العقيدة هو الميزان الأول، وأن النسب لا ينفع القريب قريبه فيه أبداً، فيجعل الله يوم القيامة أبا طالب في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه.

فليعلم الناس إذاً أن عليهم بذل الأسباب، والله يتكفل بالنتائج، والله معهم، والله مقدر كل شيء، وأن الله إذا أراد هداية شخص فربما يهتدي بحلم من الأحلام أو مرض أو حادث، ولا يكون لأي داعية سبب في ذلك، وإذا أراد الله أن يضل شخصاً فلو اجتمع الناس كلهم على هدايته ما استطاعوا هدايته أبداً.

مراتب الدعوة

00:17:50

ثم إن الله ذكر في كتابه -يا عباد الله- مراتب الدعوة، فقال : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ وهذا أمر يقتضي الوجوب بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُالنحل: 125.

إذاً من الناس من هو جاهل يحتاج إلى تعليم، والحكمة هي القرآن والسنة، فنعلمه ما يجهله ونبين له حكم الله –تعالى-، ونبين له ما في القرآن والسنة، ومن الناس من ربما يكون عنده علم لكن فيه غفلة وفيه قسوة قلب، يحتاج إلى تليين والتليين يكون بالوعظ؛ ولذلك ينتقل الداعية إلى المرحلة الثانية، وهي الموعظة الحسنه فإن بعض الناس يحتاجون إلى موعظة للهداية، وبعضهم يحتاجون إلى تعليم للهداية.

فهذه سبيل أخرى ذكرها الله –تعالى- آمراً نبيه ﷺ أن يعلم من يحتاج إلى تعليم، وأن يذكر من يحتاج إلى تذكير، وأن يجدل من عنده شبهة ومن عنده هوى يجادله بالتي هي أحسن.

هذه المراتب العظيمة من تأملها، وطبقها على الناس، عرف أن الله ذكر الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المدعوين.

النوع الذي يجهل ويقبل التعليم ولو علم لاتبع، والنوع الذي عنده غفلة وتأخر فيدعى بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والترغيب والترهيب من أعظم أنواع الوعظ، ثم هناك معاند جاحد يجادَل بالتي هي أحسن بالبرهان، بالحجة باللسان القويم، وربما يكون عند بعض الناس خلفيات ثقافية أو معلومات مسبقة خاطئة، يحتاجون إلى محاورة ومجادلة لكشف زيف ما يعتقدونه، والرد على الشبهات التي يأتون بها.

وقد حاور النبي ﷺ وفد نصاري نجران لما جاءوه، ونزلت سورة آل عمران محاورة ومجادلة لأهل الكتاب، ولوفدهم الذين جاءوا من نجران، وحاور النبي ﷺ عدي بن حاتم وكان من رؤساء النصارى، حاوره بما موجود عنده في الكتاب، وبما يعلمه من دينه، حاوره بأشياء وأوقفه على أمور عجيبة وسأل عمران فقال له كم إلها تعبد؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، فسأله عن الإله الذي يعده للرغبة والرهبة"[مسند الروياني:85]، وعند نزول الملمات وفي الأحوال الخطيرة، أي واحد من هذه الآلهة السبعة؟ فلما اعترف نتيجة المحاورة أنه الذي في السماء إذاً هو أولى بالعبادة.

وحاور ﷺ أشخاصاً كثيرين، وهو ﷺ لم يتوانى في بذل أساليب الدعوة، لم يتوانى في بذل الأساليب سواء كان بالكلام، أو بالقدوة والفعال، وربط الأسير في المسجد ليسمع كلام الله، وينظر أفعال المسلمين، وكيف يعيش المجتمع الإسلامي، وأرسل الرسائل إلى عظماء الأرض يدعوهم إلى الله.

فحري بنا -أيها المسلمون- أن نتبع الأساليب الناجعة في الدعوة إلى الله، وأن لا نيأس من هداية الخلق، وأن نقوم بهذا الواجب الذي فرطنا فيه، فكم يوجد بيننا ممن لا يعلم شيئاً عن الإسلام؟

فتاة تقدم لها أحد الخطاب وهي ممن ينتسب إلى جمهور المسلمين، فقال لها عن الصلاة والحجاب، فقالت: الصلاة لا أصلي، لم؟ قالت: لا أعرف كيفية الصلاة، قال: ما رأيت أناساً يصلون؟ قالت: نادراً، قال: ما تعلمت الصلاة في المدرسة؟ قالت: أدخلتني أمي مدرسة إنجليزية، ما علمونا الصلاة، وهي تعيش بين المسلمين، المسألة بسيطة طهارة وصلاة، فقالت: الدنيا برد.

إذاً ربما يوجد بين المسلمين من أبناء المسلمين من يجهل الدين بالكلية، ويوجد من ذهب إلى الكفار ورجع مغسول الدماغ، استقبل صاحبه المبتعث في المطار وقد كان يعرفه قبل الابتعاث إنساناً مستقيماً أو مصلياً على الأقل، ولما رجع به من المطار بعد عناق واستقبال حار كان وقت الصلاة قد حان، فأوقف السيارة بجانب أحد المساجد، وقال لصاحبه: ننزل، قال: ولم؟ قال: لنصلي، قال: تغير علمك أصبحت نصرانياً، وأخرج الصليب من صدره فأراه إياه.

إذاً يوجد -أيها الإخوة- مرتد يحتاج إلى دعوة، ويوجد من المسلمين جهلة بالإسلام وخصوصاً العمالة الموجودة من البلاد الإسلامية موجودين بيننا ما علمناهم شيء أبداً، وانتهت عقودهم، ومدة خدمتهم ورجعوا إلى بلادهم ولم يستفيدوا شيئاً البتة، ويوجد كفار أصليون يحتاجون إلى دعوة، يوجد غافلين من المسلمون، يوجد غافلون يحتاجون إلى دعوة، وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى نوع خاص من الأساليب والوسائل، فهلا تحركت الغيرة في قلوبنا، والقيام بالمسؤولية، والخوف من السؤال يوم القيامة، والرغبة في الأجر، فإنك لا تدعوا لخير إلا وتؤجر عليه، وإذا عمل العامل بما نصحته فلك مثل أجره، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما عليها.

نسأل الله أن يجعلنا بدينه مستمسكين، ولسبيله من السالكين، ولهذا الإسلام من الحاملين والدعاة المناصرين، ونسأله –تعالى- أن يحيينا على الإسلام، وان يميتنا على الإيمان، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:25:30

الحمد لله رب العلمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أنه الملك الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، خلق فسوى، وقدر فهدى ، وأشهد أن محمداً رسول الله، الداعي إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وذهب إلى الله وذمته بريئة من كل مسؤولية، فقد أدى ما عليه، وبقي ما علينا نحن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الدعاة من بعده وفي حياته، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: إن هذا القرآن الذي ذكرنا منه أمثلة في الدعوة إلى الله –تعالى-، وآيات في الحث عليها، والترغيب وبيان الوسائل والأساليب، إن في هذا القرآن عبر، وأنا ذاكر لكم أمثلة قليلة مما يوجد في القرآن، وهو مجال التدبر والتفكر الذي طلبه الله منا.

توجيهات قرآنية للدعاة

00:27:12

إن هذا القرآن يشتمل على توجيهات كثيرة جداً للدعاة وغير الدعاة، وفيه لطائف وحكم وأحكام، فتأمل مثلاً قول الله –تعالى-: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَالتوبة: 34- 35.

إذاً يحمى عليها بالمنافيخ وغيرها مما يضاعف حرها، فإذا اشتد العذاب جاءت مرحلة الكي، يكوى بها في جبهته وجنبه وظهره، لماذا؟ لماذا هذه المواضع؟

قال العلماء: لأنه إذا جاءه الفقير السائل صعر بوجهه، أولاً: صعر بوجهه فلذلك يكوى فيه أولاً، فإذا أعاد السائل عليه ولاه جنبه زيادة إعراض، فإذا ألح عليه ولاه ظهره وأعرض.

فلذلك جعل الكي في هذه المواضع الثلاثة، والكي فيها أشد على الإنسان من غيرها، الكي في الوجه، وفي الجنب والظهر، أشد على الإنسان من غيرها، والكي في الجنب والوجه والظهر، والكي في الجهات الأربع، الأمام في الجبهة، والخلف في الظهر، واليمين واليسار، واليمين والشمال في الجنبين، فجاءه الكي في المواضع التي هي فيها شدة، ثم التي حصل بها الإعراض، فجوزي على عمله، والجزاء من جنس العمل.

وتأمل قول الله –تعالى-: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّامريم: 59. قال الله: اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِبمعنى أرادوها، وصارت هي همهم، ولم يقل إنهم تناولوا منها؛ لأن الشهوات منها ما يكون حلالاً، فتناول الشهوة الحلال مباح، لكن تأمل السر في قوله: اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ صارت متبوعاً، صارت قائداً وهم منقادون، صارت مطاعة وهم مطيعون، اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وكم الذين يتبعون الشهوات في زماننا أناس كثر جداً، جعلوا الشهوات هي مقصودة.

والغربيون عندهم مبدأ اللذة هي الهدف الكلي اللذة؛ ولذلك فسعيهم للذة المال، ولذة المتعة، ولذة الجنس، وغير ذلك من أنواع اللذات، إلا لذة الإيمان واليقين، وكثير من المسلمين يتبعون الشهوات؛ فلذلك يأخذ المال من حرام وحلال؛ لأجل شهوة المال، ويرتكب أسباب العلاقة المحرمة بالجنس الآخر إتباعاً للشهوات؛ ولذلك كثير من الأوقات يذهب في المعاكسات الهاتفية، والمواعدات المحرمة، وارتكاب الفواحش، أوقات الكثيرين تذهب في هذا إتباعاً للشهوات، إتباع مطلق للشهوات.

أيها المسلمون: هاتان آيتان تعرض شيئاً من الأمراض الاجتماعية الموجودة: البخل والشح، وإتباع الشهوات وهاذان المرضان جديران بأن يدقق الدعاة إلى الله تعالى فيهما؛ لأنه أعظم ما أصيب به المجتمع، الشح والبخل وإتباع الشهوات، مرضان فعلاً بحاجة إلى دراسة وتقويم، ثم بحاجة إلى علاج.

ويحتاج الذين وقعوا فينا في الشح والبخل وإتباع الشهوات أن يرجعوا إلى الله –تعالى-، فهذان مرضان في المدعوين يحتاج الدعاة إلى التأمل ومعرفة السبيل الناجع للمداواة، ويبقى السبيل هو التعليم والوعظ والجدال بالتي هي أحسن، ولكن الاهتداء إلى موضع الخلل يحتاج إلى تدبر وتأمل؛ ولذلك بعض الناس ربما يدعو، ولكن لا يعرف أي شيء يقصد في دعوته؟ وما هو الهدف الذي يوجه إليه وسائل دعوته؟

نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الحكمة والخطاب الحسن، ونسأله أن يهدي ضال المسلمين، اللهم اهدي ضال المسلمين، اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم افتح قلوبهم بنور من عندك، واسلك بهم سبيل النور، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين.

اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، وارحمنا يوم المعاد، وارزقنا الثبات يوم التناد، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة لموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا عند اللقاء، وأن تثبتنا على السراط يا رب العالمين، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد وأصلح الأئمة ولاة العباد.

1 - البخاري:3884، ومسلم:24
2 - مسند الروياني:85