الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب:70-71.
أما بعد:
فضل الإيمان باليوم الآخر
فإن الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان العظيمة، وإن له في النفس آثاراً عظيمة، فإنه يجعلها مستقيمة على شرع الله تتذكر ما في ذلك اليوم من عذاب الله فتبتعد عما يغضب الله.
عباد الله: إن ما بعد الموت، وما بعد قيام الساعة فيه من العظات، والآثار في النفوس -مما جاءت به الأخبار- شيء عظيم، والإقرار بتلك الحياة، وما فيها، وما يكون من المكث الطويل في القبر حتى تقوم الساعة، ثم ذلك اليوم العظيم الذي طوله خمسون ألف سنة، وبعده حياة أبدية لا نهاية لها، إن هذا يربي النفس على الاستقامة، ويحميها من الفساد، ويجعلها تنشط في الطاعة؛ ولذلك كان الإيمان باليوم الآخر، والتأمل في تلك النصوص من أعظم الأسباب التي يربي بها المسلم نفسه على طاعة الله، ويتحمل لأجلها كثيراً من الضغوط التي تكون عليه من المغريات والشهوات.
إن هذه النصوص التي جاءت في القرآن والسنة عن القبر، وعن اليوم الآخر كفيلة حقاً بأن تمنع الإنسان من الارتكاس، والخلود إلى الأرض، وتنشطه لطاعة الله، وتحمله على التضحية لأجل الله ، إنها تجعل نفسه صابرة مصابرة قائمة على الدين، هذه النصوص التي تحتاج إلى تأمل، وأن يتوقف العبد عندها، وأن يزن نفسه بالميزان الشرعي، وأن يصل نفسه بذلك اليوم، وأن يحاسبها، ويقيمها كأنها هناك ولو كان هنا.
إنه إيمان بكل ما يكون بعد الموت من فتنة القبر والسؤال، والعذاب والنعيم، والبعث والحشر، والجزاء والحساب، والأهوال والشدائد، والصراط والميزان، والحوض المورود، والجنة والنار، ورؤية الرب ، وغير ذلك مما جاءت به النصوص، والمسلم يوقن، ويؤمن بهذا كله، وهذا فضل عظيم له؛ فإن الكافر لا يعرف ذلك، ولو عرفه ما آمن به، وهؤلاء المنافقون يعرفونه، ثم يستهزئون به.
عباد الله: إن القلوب إذا قست والعيون إذا تحجرت، والنفوس إذا صدأت لا يزيل الصدأ والجمود والقسوة إلا أن يذاب ذلك بهذه النصوص الواردة في اليوم الآخر، إن المسلم إذا تأمل ما في القرآن والسنة في هذا سيكون له شأن آخر، إن نفسه ستختلف، إن قلبه سيتغير، إن عقله سيتغذى بأمور تجعله فعلاً مخالفاً لما عليه أكثر الناس، وأكثر الناس ولو حرصت ليسوا بمؤمنين.
بداية الرحلة
عباد الله: إنها رحلة من بعد سحب الروح من البدن، والانقطاع عن الدنيا، وتنزل ملائكة، إذا كان من أهل الإيمان ملائكة رحمة معها لباس من الجنة، وطيب من الجنة، يأخذون تلك الروح في رحلتها العلوية، وتتناقلها أيدي الملائكة، وكل أناس يسلمونها لمن بعدهم، ويصعدون بها، يشيعونها ويصعدون بها، وهكذا، تكريماً له، أما صاحب الكفر والفجور، فإنهم يأخذون روحه في ذلك المسوح من النار، وذلك الكفن من النار، وتلك الريح المنتنة كرائحة الجيفة، ثم تقبيح بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، لا تكريم بل إهانة: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءسورة الأعراف:40، وتطرح روحه طرحاً إلى الأرض: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍسورة الحـج:31، إن هذا المنافق، وما أكثر المنافقين في هذا الزمان، وبعضهم يصومون ويصلون فيهم شعبة إيمان، وفي ذات الوقت فيهم شعبة النفاق، يرون أن الشريعة فيها تخلف، وأن الدين لا بد أن يغير، وجههم إلى الكفار، وظهورهم إلى إخوانهم المسلمين، هؤلاء حالهم في النهاية لما غلب على قلوبهم، وليس النفاق هنا نفاقاً عملياً، وإنما هو نفاق اعتقادي، هناك من عنده شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق اعتقادي، فهو يرى أن الدين هو الصيام والصلاة فقط، أو يصلي أحياناً، وبعضهم لا يصلي أبداً، وبعضهم يصلي مجاملة، فهل سمعتم عن صلاة المجاملة؟ هذه التي يصلي يصليها إذا كان معه ضيوف يصلون، أو كان مع بعض كبار السن في العائلة، فهي صلاة خجل، فهو يقوم يصلي لا لأجل الصلاة، ودرجتها وفضلها وأجرها، لكن لا يريد أن يقال عنه: فلان كذا من تراك الصلاة.
أول منازل الآخرة
عباد الله: أولئك المنافقون إذا جاءتهم الملائكة في قبورهم، فقال له الملك: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ سيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ ولذلك يقال: لا دريت ولا تلوت، وينادي مناد من السماء: أن كذب؛ فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وليس هذا فقط، ويمثل له رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، يقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث! ثم يقيض له أعمى أصم أبكم، إنه ملك لا يراه ولا يسمعه ولا يكلمه؛ لئلا يرحمه، لا يراه حين يضرب كيف يكون شكله، ولا يسمع صياحه حين يستغيث، في يده مرزبة لو ضرب بها جبل لصار تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى؛ فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يُفتح له باب من النار، ويمهد من فراش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة، إنه يدعو ربه في القبر، وبأي شيء يدعو؟ ألا يقيم الساعة، لماذا؟ لأنه يعلم أن ما وراء ذلك أشد، كيف؟ لأنه يرى نافذة في قبره إلى مقعده من النار، ويراها تضطرم، وتصطلم، ويأكل بعضها بعضاً، ويعرف مقعده، وما سيؤول إليه؛ ولذلك فإن أرواح الظالمين تستعصي عن الخروج عندما يأتيهم ملك الموت: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُسورة الأنعام:93 بالقوة؛ إنها لا تريد الخروج الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَسورة الأنعام:93، وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُسورة الأنفال:50 إنه يصور لنا المشهد، وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، فالملائكة تضربهم من الأمام والخلف، وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِسورة الأنفال:50 إن طبيعة الملائكة، وأشكال الملائكة التي تأتيهم مرعبة مخيفة، ملكان أسودان أزرقان غير ملائكة العذاب، غير شكل ملك الموت حين يأتيه ساخطاً عليه، غاضباً منه؛ لأجل غضب الله، لكن ملائكة الرحمة عندما تأتي المؤمن، وملك الموت حين يأتي المؤمن الوضع مختلف، حتى تلك الملائكة التي تسأله في قبره، يقولون له بعد الفتنة: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، فهل رأيتم -أيها الإخوة- أهمية اليقين؟ وألا يكون الإنسان متشككاً في الدين، ولا في اليوم الآخر، ولا في القبر، ولا في هذه المسلمات التي تحاول بعض الصحف والقنوات تشكيك المسلم بها؟ إنهم يشككون في الأحكام الشعرية المستقرة ليتوصلوا إلى التشكيك في العقائد، ومنهم من يصرح جهاراً نهاراً بالكفر الصراح.
عباد الله: إن ما في القبر من الأهوال كفيل وحده بأن يجعل المسلم يستقيم، فكيف إذا تأمل ماذا يكون في اليوم الآخر، وهذا الشرك الذي حذر منه العلماء، وكتبوا الكتب فيه بالتحذير من أكبره وأصغره، وجليه وخفيه، فإن هنالك كفراً أكبر جلي، وكفر أكبر خفي، وكثير من الناس في العالم الإسلامي -وليس في غيره- لا يعرفون أنه كفر أكبر، أو شرك أكبر، فهم في غيهم يعمهون، ويزين لهم شياطين الإنس أن يبقوا على ذلك، وهنالك شرك أصغر منه ما هو واضح، ومنه ما هو خفي أيضاً، شرك أصغر جلي، وشرك أصغر خفي، وهذا الخفاء فقد يكون عند بعض الناس واضحاً؛ لأنهم درسوا التوحيد ودُرِّسوا التوحيد، ونشأوا عليه، وعند بعض الناس هو خفي؛ فهو يحلف بغير الله، و"حياتي"، والأمانة، ويحلف بالذمة، و"روحي، وروح الأولاد"، وحياة الأب، ونحو ذلك! ولا يدري أن في ذلك شيئاً؛ لأنه لم يدرسه أصلاً، ولم يعرف حكمه أصلاً.
لقد مر النبي ﷺ، وهو على بغلة له، قال زيد: ونحن معه، إذ حادت به -يعني: بغلته- حتى كادت أن تلقيه، فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه [رواه مسلم (2867)]رواه مسلم، فهذا جواب السؤال الذي قد يسأله سائل فيقول: لماذا لم يسمعنا الله -ونحن في الدنيا- شيئاً من عذاب القبر حتى نتعظ؟ حتى يكف هؤلاء أرباب الفواحش عن الفاحشة؟ حتى يكف أرباب العقوق عن قطع الأرحام، وظلم الآباء والأمهات؟ حتى يكف أهل الربا عن الربا؟ لماذا لم يسمعنا الله من عذاب القبر ونحن في الدنيا؟ لماذا لم يسمعنا بعض صياحهم، وعويلهم؟ لعل هؤلاء العصاة يتعظون، وهؤلاء الكفار يسلمون، لماذا لم يحدث ذلك؟ هذا هو الجواب: فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمعه أخشى إذا سمعتموه أن تتركوا الدفن من الهول والفزع، أن تتركوا دفن موتاكم، وتبقوهم هكذا على الأرض بغير دفن من شدة الخوف والفزع: فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ما أعظم إيمان محمد ﷺ، ما أعظم خشيته لله، بالتأكيد وهو يسمع من عذاب القبر، نبي مؤيد بالوحي يسمع من عذاب القبر، والناس لا يسمعون، فكيف ستكون عبادته لربه، وهو الشفيق على أمته؛ من جهة يريدهم أن يسمعوا شيئاً منه للاتعاظ لتتغير الأحوال، ليستقيموا ليتوبوا، لكيفوا عن المنكرات، ومن جهة أخرى تبقى جثث الناس هكذا في الشوارع والبيوت، والطرقات وعلى الأراضي غير مدفونة، وماذا سيحل بالناس لو لم يكن دفن، وبقي الأموات هكذا من الرعب والخوف والفزع مما يسمع من القبر؟ حكمة الله.
وكذلك أن يتبين إيمان المؤمنين، فإن المؤمن إذا كان يسمع كل شيء غيبي ويراه لما كان في الامتحان بالغيب معنى، ماذا سيكون معنى الامتحان بالغيب إذا كان ليس بغيب، إذا صار كل شيء منظوراً، محسوساً، مسموعاً، فأي حكمة؟ وأي فائدة حينئذ من وصف المؤمنين أول وصف: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِسورة البقرة:1-3؟ ولذلك حجبت عنا الأشياء العظيمة في القبر من جهة الرؤية والسماع، وما في اليوم الآخر، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في النار أشياء، رأى النار، ورأى الجنة، ورأى بعض المنعمين، وبعض المعذبين، والله على كل شيء قدير، أن يريه المستقبل حاضراً أمامه، والله خالق الزمان، قادر سبحانه أن يجعل المستقبل حاضراً، أليس هو خالق الزمن ؟!
حال العصاة في قبورهم
عباد الله: ولو رأيت إذ رأيت كيف سيكون حال العصاة في قبورهم، ومن ذلك هؤلاء الذين يعملون بالربا الذي انتشر، وبارز كثير من الناس ربهم به، وتفننوا في تشقيقه وتنويعه، وتسويقه والتدليس على الناس به ليقبلوا عليه، ولو ترى ما في القبر من العذاب لهؤلاء لعلمت أن هذا الدجل، وهذا الوهم، وهذا التدليس ما هو حكمه؟.
قال النبي ﷺ: فانطلقنا، فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجراً، فسأل بعد ذلك: من هذا؟ قال: وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويلقم الحجر، فإنه آكل الربا [رواه البخاري (7047)]، قال ابن هبيرة: "إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر، وإلقامه الحجارة؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر، وأما إلقام الملك له الحجر؛ فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً، وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، والله من ورائه قد محقه"، وهكذا يطعِمون ويطعَمون، يأكُلون ويأكَّلون، المؤكِل والآكل قال: هما في الوزر سواء، وكذا الشاهد والكاتب، والمعين والواسطة فيه.
وقد وصلت القضية لدرجة أنه يقول: أريد الربا، ولكن لا تنطبق علي الشروط، أنت يا صديقي العزيز أريد منك خدمة أن تتوسط لي عندهم؛ ليعطوني هذا القرض، أو أريد منك خدمة أن تشتريها باسمك، أو أن تأخذ القرض باسمك، وأنا أسدد، وآخذ المبلغ، لو كان يشتري منهم شيئاً حقيقياً ملكوه وحازوه لكانت تجارة، وباعه على غيرهم لنجا من بيع العينة، والحيلة على الربا: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(سورة البقرة:275)، لكن هذه القروض الصريحة سواء جرت بالبطاقات، أو بغيرها، ما هي العاقبة فيها؟ وعندما تعلم ما في القبر من العذاب لأهله لرأيت بأن ما يسمونه فوائد هي مضار، وعوائد استثمارية هي عوائد عذابية، وكلفة القرض، وجدولة الديون، وإعادة جدولة الديون، وشهادات الاستثمار، والقيمة الزمنية للقرض، وشهادات الخزينة، وضريبة التأخير، ... إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الأسماء التي لا تغير من الحكم شيء، هو هو عند الله بلا لف، ولا دوران.
عباد الله: فأما إذا نظرت إلى عقوبة هؤلاء أرباب الفواحش في قبورهم، الذين يقولون أولاً صداقات، علاقات عاطفية بعد ذلك، أولاً يسمونها صداقات بريئة، ثم يقولون: مجرد علاقات عاطفية، نتبادل فيها مشاعر عبر الشبكة، وعبر هذه البرامج للتخاطب، وأنا إذا ذهبت إلى السوق فأركبت فتاة، وذهبت معها؛ فإنما هي للتسلية لا نريد ما هو أبعد من ذلك، مجرد تكميل للشخصية، مجرد لهو، ألسنا بشراً، وعندنا عواطف ومشاعر نريد إبداءها وإظهارها، سبحان الله! سبحان الله! يسمونه صداقات بريئة، ثم علاقات عاطفية، ثم قد يقع في العشق، وقد يزني قبل أن يعشق، ويسمونه تجربة قبل الزواج، ويسمونه ما يسمونه، وتتم المواعدات، لم تخلو المجمعات والمطاعم، والمنتجعات والشقق تشكو إلى الله ظلم هؤلاء الظالمين والظالمات.
قال: فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فرن، قال: فأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، من أين يأتيهم؟ من أسفل، ماذا يحرق أولاً؟ الأعضاء التناسلية، لماذا؟ لأنها باشرت الفاحشة، فيأتي العذاب على المواضع التي ارتكبت بها المعصية، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم ليس من الأمام، ولا من فوق، لا من يمين، ولا من شمال، لا من الأمام، ولا من الخلف، من أسفل من تحت، تأمل -يا عبد الله-، ربك حكيم حتى في العذاب، حتى في تعذيبه لهؤلاء الكفار والعصاة، حكيم .
وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوايعني: صاحوا تألموا، من هؤلاء؟ قال: وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني [رواه البخاري (7047)] لماذا عراة؟ قال العلماء: فضيحة؛ لأنه لما كانت عادتهم أن يستتروا به عوقبوا بالهتك، ولما كانت الجناية من أسفل في الأصل هكذا كان العذاب من أسفل، فإذا جاهروا كانت العقوبة أشد وأشد؛ لأن المجاهر لا يعافى.
عباد الله: إن صلاة بغير طهارة، وترك نصرة المظلوم عذابها عظيم كذلك، وإن ما يحدث اليوم من نشر الفواحش في الأرض، وتزيين الفاحشة، وتجميل الفاحشة في القنوات، ومواقع الإنترنت، حتى لينسى هذا الذي ينظر، ويذهب إليها ينسى في جمال الصور المعروضة شناعة العذاب يوم القيامة، وما قبل يوم القيامة، إنه يزين بطريقة، ويقدم بوسيلة تنسي هؤلاء شناعة العذاب في القبر، ويوم القيامة؛ ولذلك فإن هذا الوضع الخطير يستلزم وقفة صادقة مع النفس في محاربته، والحذر منه، والتحذير منه، والتربية على اجتنابه، ونقل الحذر إلى الأولاد والأحفاد.
عباد الله: إن تذكر ما بعد الموت مهم جداً.
نسأل الله أن يقينا عذابه، وأن يتوب علينا، وأن يشملنا برحمته.
اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم كم عصيناك وأنت الرحمن الرحيم، اللهم لا تهلكنا بعذابك، اللهم نجنا من عذابك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الخلق، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، ويشركون معه، أشهد أن لا إله إلا هو، وأبرأ إليه من شركهم، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الموحدين، علمنا التوحيد، ونهانا عن الشرك، وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وخلفائه، وأزواجه وذريته وآله الطيبين الطاهرين، صلوات الله عليهم وسلامه إلى يوم الدين.
عذاب في القبور
عباد الله: هذا الذي جاء في عذاب القبر، أُمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله، ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: على ما جلدتموني، قالوا: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره، لا بد من نصر المظلوم إذا جاءك يشكو إليك ظلماً قم معه، امش معه، ترفع الظلم عنه، اشفع في الحسنة، اشفع في الخير، وهؤلاء الطلاب الذين ربما صلوا خشية الوالدين، أو المدرسين بغير طُهور، وهؤلاء الذين لا يتوضؤون كما أمر الله، ولا يتطهرون؛ فويل لهم.
إن هذه القضية وحديث: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ليس معناه الوسوسة، لكنه تحذير لهؤلاء الذين لا يبالون بالنجاسات، لا يغسلونها، ولا يتطهرون منها، لكن لا للذين يعذبون أنفسهم بالوسوسة؛ فهو عذاب في الدنيا، ويخشى عليهم في الآخرة، فليتوبوا إلى الله من وسوستهم، أما الآخر، من صاحبي القبرين اللذين يعذبان، وما يعذبان في كبير -في نظر الناس-، بلى إنه كبير، الثاني قال عنه ﷺ: كان يمشي بالنميمة [رواه البخاري (218)، ومسلم (292)] إذن هم هؤلاء الذين يبتغون التفريق بين الأحبة، يفرقون بين الرجل وزوجته، بين الأب وأولاده، بين الصديق وصديقه، ويمشي بالنميمة بين المدير والموظف، فيشكي ذلك المسكين الذي لا لسان له، ولا فصاحة، ولا وجاهة لديه يقول: هذا المقرب من المدير يعمل على إبعادي، يحفر لي، إنهم يتآمرون علي لطردي من الشركة، إنهم يفعلون ويفعلون، ويمشون بالنميمة، وينقلون الكلام للإفساد، ما هو عذابهم؟ هذا في القبر: إنهما ليعذبان، قال: وأما الآخرهذا الذي يمشي بين الناس بالنميمة، المشاءون بالنميمة: مَّشَّاء بِنَمِيمٍسورة القلم:11هؤلاء ويل لهم من عذاب يوم عظيم، والعذاب من القبر إلى النار.
وهذا الكذب المنتشر عقابه موجود في حديث عذاب القبر: واحد يُشق بكلوب من حديد من طرف الفم إلى الخلف، ومن الأنف إلى الخلف، والعين اليمنى إلى الخلف، ثم الجهة اليسرى، ثم يرجع الشق الأيمن كما كان، وهكذا لا يزال يشقق، ويمزق تمزيقاً في القبر بكلاليب، في ملك مخصص قائم عليه بكلوب من حديد يشرشره شرشرة، من هذا؟ إنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق [رواه البخاري (7047)]، وما أشد عقوبة الكذابين في هذه القنوات؛ لأن الواحد يكذب الكذبة في موقع في الإنترنت، وعلى قناة فضائية؛ فتبلغ الآفاق، قال ﷺ: فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وإذا كانت في الماضي لا تبلغ الآفاق إلا بعد مدة طويلة، فإنها اليوم تبلغ الآفاق في ثواني.
والذين يهجرون القرآن، وينامون عن الصلاة المكتوبة، ولا يريد أن يقوم للصلاة عقوبته في القبر بصخرة تلقى على رأسه؛ فتشدخه، فيعود رأسه كما كان، وهكذا يفعل به إلى قيام الساعة، لماذا؟ إنه يرفض القرآن، وينام عن الصلاة المكتوبة، ليس النوم الذي لا يُؤاخذ عليه صاحبه، إنه يريد القيام لكن غلبته عينه فنام، لقد أوصى زوجته، ووضع المنبه، لكنه لم يستيقظ، لكن المقصود هو الشخص الذي لا يريد ذلك، بل ربما ينهى ويغضب إذا أوقظ للصلاة، ويريد أن ينام حتى يخرج وقتها.
إن في الآخرة لعبراً
عباد الله: إن في الآخرة لعبراً، وإنني أرى أن من الذين يكذبون الكذبة لتبلغ الآفاق هؤلاء الذين يكذبون في الدعايات التجارية، وما أكثر الكذب في الدعايات التجارية، كله تصوير لمنتجه الأحسن والأفضل، والأرخص والأجود!
وهو يعلم أن في السوق ما هو أجود منه، وما هو أرخص منه، وهكذا يستعملون هذه العبارات، وهم يعلمون كذبه، دعايات كثيرة تبلغ الآفاق، وبعض هذه الدعايات -ولو كانت صادقة- يكون لها وفيها أنواع من المنكر من استعمال صور النساء والموسيقى في الدعايات، وغير ذلك، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل آخر، لكن -أيها الإخوة- عندما نسمع أن شركة مفروشات تعمل دعايات، ونرى ماذا يفعل الناس، فإنك في المقابل تريد أن تلوم هؤلاء على فعلهم، الناس الذين يأتون في عجب وغرابة متأثرين بهذه الدعايات؛ ليحدث نتيجة تزاحمهم وتكالبهم أمور عجيبة، موتى وإصابات، وإغماءات واعتداءات على النساء، وفوضى نتيجة دعاية تجارية لافتتاح محل، سبحان الله! ما أسفههم، وأطيشهم، وأخف أحلامهم، عشرون ألفاً يتوافدون منذ ساعات الصباح المبكر أمام بوابات المتجر للفوز بقسائم شراء مجانية بقيمة خمسمائة ريال، لمن؟ لعدد محدود من الناس يعطون هذه القسائم، قسيمة شراء مجانية بخمسمائة ريال! عدد محدود، ولو أعطي مائة، لو كانوا مائة، فماذا؟ فيتجمع عشرون ألفاً كل منهم يقول: لعلي أنا الذي أظفر بهذه القسيمة، وقسائم أخرى بمائة، قسائم بخمسمائة، وقسائم بمائة، يتكالب عليها عشرون ألفاً لتنتهي القضية بوفيات وإصابات! أين عقولهم؟! سؤال: أين عقولهم؟! أين دينهم؟! لماذا هذا الجشع والطمع؟! لماذا هذه الفوضى؟! لماذا هذا التكالب على الدنيا؟! هل تساوي القضية قسيمة خمسمائة، أو قسيمة مائة، أو أكثر من ذلك أن تزهق أرواح، وأن تحدث إصابات؟ إنه موقف يستحق التفكير والتدبر والتوقف: لماذا حصل ذلك؟ معناها: أن هناك افتتان عظيم في الدنيا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْسورة الحديد:20، ويمكن أن يكون أيضاً أي شيء مجاني يقتتلون عليه! إلى هذه الدرجة؟! ولو قيل: بوفيه مجاني، ومطعم يفتتح أول يوم مجاني لرأيت الكراسي المكسورة، بل حوض المغسلة المكسور، إلى هذه الدرجة؟ لو كانوا جياع لقلت: إنهم بين الموت جوعاً، وبين الموت في الزحام.
عباد الله: هل هم جياع فعلاً، ثم الإنسان حتى لو كان يعاني من ضغوط؛ لا يجد وظيفة، ولا يجد مالاً، أو راتباً يكفيه، فهل طبيعة المسلم هي الجشع والتكالب، والازدحام والوقوف في الشمس الساعات الطويلة، والليموزنات تقذف بالنساء؟! سبحان الله! وانتظار طويل، وطوابير، وعلى أي شيء؟ على ماذا؟
إذا وقع الذباب على طعام | رفعت يدي ونفسي تشتهيه |
وتجتنب الأسود ورود ماء | إذا كن الكلاب ولغ فيه |
لماذا عبر ذلك الشاعر عن قرفه وتركه؟ قال: لخسة الشركاء فيه، فأين الترك والبعد عن هذا التكالب؟ وإذا كان على قيمة، على خمسمائة ريال، إذن أنت الآن تتصور معي جيداً هذا الحديث: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو، قال: فمن حضره، فلا يأخذ منه شيئاً إن رأيته فلا تقربنه [رواه مسلم (2894)]رواه مسلم، جبل من ذهب، وليس قسيمة بخمسمائة، وقسيمة بمائة، قال: إن رأيته فلا تقربنه التكالب على الدنيا، هذا الطمع والجشع، هذا الشيء العجيب الذي يكون عند الناس، وعندما يكون الإنسان في شدة أو ضائقة، فإنه لا يتعامل مع الدنيا بهذه الطريقة، إنه يسعى في اتخاذ الأسباب الشرعية، إنه يصبر، إنه يستعين بمن حوله، إنه يدعو ربه أن يزيح عنه ظلماً، وأن يقيض له خيراً، وأن يغنيه من فضله، وأن يقيه شر نفسه، ويفكر في المعصية التي حجبت رزقه، أما هذا التكالب فليس من صفات المؤمنين والله.
اللهم إنا نسألك الأمن في أوطاننا، اللهم اغفر لنا يا رحمن، اللهم تب علينا يا تواب، نسألك الأمن في الأوطان والدور، والرشد للأئمة وولاة الأمور، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، اللهم إنا نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، اللهم إنا نسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.