الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
بادروا قبل أن تبادروا
فقد قال الله في كتابه العزيز: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ سورة الحديد:21 أي: سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَسورة آل عمران:133، وهذه المسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته تكون بالسعي بأسبابهاً من التوبة والاستغفار، والبعد عن الذنوب، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على مرضاته على الدوام، من الإحسان في عبادته، والإحسان إلى خلقه بجميع وجوه النفع، وامتدح الله تعالى فئة فقال: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِسورة آل عمران:114، صفة جامعة لأنواع المحاسن المتعلقة بالنفس، المسارعة في الخير رغبة فيما عند الله، أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَسورة المؤمنون:61، سبقت لهم من الله السعادة، ولهذا سارعوا في الخيرات، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم ما ينجي من عذاب الله، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، نظر أولياء الله أمامهم، ويمنياً وشمالاً في أنواع البر وطرق الخير فنافسوا فيها، وسلكوها، جدوا وشمروا في سلوكها، وتحصيل أجرها، وَهُمْ لَهَا أي: للخيرات سَابِقُونَ، قد بلغوا ذروتها.
والنبي ﷺ قال: بادروا بالأعمال؛ فتناً قطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا [رواه مسلم (118)]، بادروا بالأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل، المشغلة للإنسان الملهية، بما فيها من الأهوال عن هذه الأعمال الصالحة، لله در أقوام بادروا الأوقات واستدركوا الهفوات، فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات، واللسان محبوس في سجن الصمت عن الهلكات، والكف قد كفت عن الشهوات، والقدم قد قيدت بقيد المحاسبات، والليل لديهم يجأرون به بالأصوات، فإذا جاء النهار قطعوه بمقاطعة اللذات، فكم من شهوة ما بلغوها حتى الممات، إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة بعد مرحلة بعد مرحلة لينتهي إلى آخر سفرهم، انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك.
يا أخي، يخيل لك أنك مقيم بل أنت دائب السير تساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك وما مضى من عمرك فليس براد عليك، سبيلك في الدنيا سبيل مسافر؛ ولا بد من حمل عدة.
قال الفضيل لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيره، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي؛ يغفر لك ما قد مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وبما بقي.
وما هذه الأيام إلا مراحل | يحث بها داعٍ إلى الموت قاصد |
وأعجب شيء لو تأملت أنها | منازل تطوى والمسافر قاعد |
لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، يسار بنا إلى الموت في كل يوم وليلة، فلنحذر المقام بين يدي الله، كان ابن عمر يقول: خذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك، قال النبي ﷺ لرجل، وهو يعظه: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك[رواه الحاكم (6846)]، فالمبادرة المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن يحال بيننا وبينها بفتن كقطع الليل المظلم، أو مرض، أو موت، بادروا بالأعمال قبل أن يأتي ما يقطعكم عنها، فإذا حيل بين الإنسان والعمل لم يبق إلا الحسرة، ولا تنفع الأماني والتحسف حينئذ.
اغتنم في الفراغ فضل ركوع | فعسى أن يكون موتك بغتة |
كم صحيح رأيت من غير سقم | ذهبت نفسه الصحيحة فلته |
أزكى الأعمال في أفضل الأيام
عباد الله: نحن قادمون على العشر الأوائل من ذي الحجة -إن شاء الله-، هذه الأيام العظيمة فضلها كبير، أيام هي أفضل أيام السنة على الإطلاق، جعل الله لهذه الأمة أياماً مضاعفة تضاعف فيها الأجور رحمة بها، وتعويضاً لها عن النقص في آجالها بالنسبة إلى من سبقها من الأمم.
هذه العشر أقسم الله بها، والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظم نفعه، قال تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ سورة الفجر:1-2، إنها عشر ذي الحجة كما قال كثير من السلف والخلف، شهد النبي ﷺ بأنها أفضل أيام الدنيا، فقال ﷺ: " ما العمل في أيام أفضل منها في هذه ، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء" [رواه البخاري (969)] رواه البخاري، وقال ﷺ: ما من عمل أزكى عند الله ، ولا أعظم أجراً من خير تعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء [رواه الدارمي (1774)]إسناده حسن.
حثنا فيها على العمل الصالح بعدما شهد ﷺ بأنها أفضل أيام الدنيا، وشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، بالإضافة إلى شرف المكان بالنسبة لحجاج بيت الله الحرام، فاجتمع الشرفان في هذه الأيام العشر.
وأمرنا فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير، كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺقال: ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد [رواه أحمد (5423)] رواه أحمد، وإسناده صحيح.
إن فيها -يا عباد الله- يوم عرفة، وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدين، وصيامه يكفر آثام سنتين، وفيه يوم الحج الأكبر الذي يجتمع فيه من الطاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره، وفيها الأضحية والهدي، وهي نعمة عظيمة من الله ، وفي هذه الأيام يستحب الصيام، وهو من سائر الأعمال الصالحة، أليس عملاً صالحاً، وقد حث النبي ﷺعلى العمل الصالح فيها؟ فإن قال قائل: هل نصومها كلها؟ فالجواب: عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزاوج النبي ﷺ قالت: "كان النبي ﷺ يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، وخميسين" [رواه النسائي (2372)، وأبو داود (2437)] رواه النسائي، وأبو داود، وهو حديث صحيح.
فيها التكبير والتحميد، والتهليل والتسبيح، وجهر بهذا في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله ، يجهر به الرجال، وتخفيه النساء، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ سورة الحـج:28 الأيام المعلومات أيام العشر، فيها تكبير: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد"، الجهر بالتكبير في العشر سنة مهجورة، ينبغي إحياؤها، وتذكير الغافلين بها، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران؛ ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد ليس التكبير الجماعي، والاجتماع على التكبير بصوت واحد كالفرقة والجوقة، وإنما المراد أن الناس يتذكرون التبكير؛ فيكبر كل واحد بمفرده.
عباد الله: إن إحياء ما اندثر من السنن، أو كاد فيه ثواب عظيم، وفي العشر أداء الحج والعمرة لمن وفقه الله إلى ذلك: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة [رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349)]، وفيها كل عمل خير، فلنجتهد ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط [رواه مسلم (251)]رواه مسلم.
صلاة الرجل في الجماعة تضَعَّف على صلاته في بيته، وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد -لا يخرجه إلا الصلاة- لم يخطو خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة [رواه البخاري (647)]رواه البخاري.
من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[رواه الترمذي (2910)].
أن تجلس في المسجد حتى تطلع الشمس وترتفع، ثم تصلي ركعتين غنيمة عظيمة: "كان ﷺ إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً" أي مرتفعة [رواه مسلم (670)]رواه مسلم.
يذكر الله ثم يصلي ركعتين تكون له كأجر حجة وعمرة تامة، الذكر والاستغفار بأنواعه، قال النبي ﷺ: أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ قالوا: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة؛ فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة [رواه مسلم (2698)]رواه مسلم.
من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر[رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691)]متفق عليه.
الصدقة تطفئ غضب الرب[رواه ابن حبان (3309)]، الصدقة برهان [رواه مسلم (223)]على الإيمان، الصدقة ظل الإنسان من الشمس يوم القيامة، الصدقة يعتق الله من صاحبها بحسبها، يعتقه من النار.
اتباع الجنائز: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين[رواه البخاري (1325)، ومسلم (945)].
ولنبشر النساء بالجهاد، قال ﷺ لعائشة لما قالت له: "يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج حجٌ مبرور، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله ﷺ" [رواه البخاري (1861)]رواه البخاري.
هذه العشر مجال للأعمال الصالحة مع التوبة إلى الله، والإقلاع عن المعاصي، وترك السيئات، الإقبال على الطاعات، الرغبة في الخير، المسارعة في الخيرات، المسابقة في هذه الأعمال المقربة إلى الرب، الثواب قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ سورة الزلزلة:7-8.
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض، ولا تقدر بقيمة، المبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرجعة فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء محبوساً في حفرته بما قدم من عمل.
يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستنير أو يستلين؟ تعرض لنفحات مولاك في هذه العشر؛ فإن لله فيه نفحات يصيب بها من يشاء، فمن أصابته سعد بها يوم الدين.
حج بيت الله الحرام
عباد الله: يجب الحج على المسلم؛ لأن العبادة لا تصح من كافر: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِسورة التوبة:54، ويجب الحج على العاقل، وعلى البالغ الحر المستطيع، وإذا دخل الكافر في الإسلام أمرناه بالحج، وسائر شرائع الإسلام، والصبي لا يجب عليه، لكن لو حج به وليه صح حجه، وللصبي أجر الحج، وللولي أجر الدلالة على الخير، والتمكين منه، والدال على الخير كفاعله، رفعت امرأة صبياً إلى النبي ﷺ، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر[رواه مسلم (1336)]رواه مسلم.
والعبد مشغول بحق سيده؛ فلا يجب عليه، فإذا صار حراً أتى بفريضة الإسلام، والمستطيع من يستطيع من جميع النواحي: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاًسورة آل عمران:97، أما إذا لم يستطع إليه سبيلاً سد الطريق، ذهبت النفقة، لم يقدر ببدنه، فأما إذا استطاع، فكان صحيح البدن، وملك من النفقة ما يوصله إلى بيت الله الحرام بحسب حاله، وعنده زاد يكفيه ذهاباً وإياباً زائداً على نفقات من تلزمه نفقته منه أهله الباقين، حتى يرجع من حجه، مَن عنده زاد وراحلة، ونفقة زائدة على ما يحتاجه أهله في غيابه، والطريق آمنة، ولم يكن عائق وجب عليه الحج، ومع المرأة محرم يشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً، ذكراً مسلماً، فالكافر ليس بمحرم للمسلمة، والصغير والمجنون ليسا بمحرم، وأن يكوم محرَّماً عليها على التأبيد، فزوج الأخت ليس بمحرم، وأن يكون ذكراً؛ فإن المرأة لا تكون محرماً للمرأة، وإذا لم يكن لها محرم -سواء كانت شغالة أو غيرها- فليس عليها فرض الحج، قد عذرها ربها، وأصحاب الديون إذا كانت أموالهم تتسع للحج وقضاء الدين بدؤوا بقضاء الدين، ثم حجوا، والذمة مشغولة بالدين، ولذلك لو أذن الدائن للمدين بالحج تبقى ذمة المدين مشغولة بالدين، ولذلك لو قال: سمح لي غريمي بالذهاب للحج، أقضيه أو أحج؟ نقول: اقضه؛ لأنه سماحه لك بالذهاب يجيز لك الذهاب، لكن لا يبرئ ذمتك، لا زالت الذمة مشغولة، فأد الدين، لكن لو قال: سمح لي، وأريد الذهاب، نقول: يجوز لك الذهاب، والذمة مشغولة، فاكتب وصية بدينك، ولعل الله يفرج عنك بحجك، لكن قضاء الدين مقدم على الحج، فلو طالبه لزمه أن يؤدي إليه الدين، ولو جزءاً منه، فلو قال: ديوني بمئات الألوف، والحج بعض ألوف، قدِّم سداد الدين ولو ببعض الألف؛ لأنه مقدم في الشرع، وكذلك فإن على الإنسان أن يبقيَ لأهله نفقة من غير تقتير، ولا إسراف وقت غيابه، وأيضاً أن يكون له بعد عودته ما يقوم بكفايته، وكفاية من ينفق عليهم، ولذلك لا يقال له: صف تجارتك، واذهب، بغض النظر عما سيحدث لك بعد رجوعك، وإنما يقال: عندك ما يفيض عن حاجتك؛ حج، فإن أناساً لا يحجون، هم عمر أن يضرب عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين:وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَسورة آل عمران:97، فمن ملك ما يزيد عن حاجاته الأصلية، وما يستطيع الاستغناء عنه، والزيادة تكفي لنفقة الحج وجب الحج عليه، ولا يقال لصاحب السيارة المتعلقة حاجته بالسيارة: بعها، ولا يقال لصاحب كتب العلم المحتاج إلى كتبه: بعها، ولا يقال للصانع المحتاج إلى آلات الصنعة والعدة: بعها، ولكن إذا زاد عن حاجته وجب عليه الحج، ومن تعارض عنده الحج والنكاح، فإن كان يحتاج إلى الزواج، ويشق عليه تأخيره، ويخشى الوقوع في الحرام قدم الزواج على الحج.
قال ابن قدامة رحمه الله: وإن احتاج إلى النكاح، وخاف على نفسه العنت –أي المشقة- قدم التزويج؛ لأنه واجب عليه، ولا غنى به عنه، فهو كنفقته، وإن لم يخف قدم الحج؛ لأن النكاح تطوع، فلا يقدم على الحج الواجب، عندما يكون صابراً يصبح النكاح مستحباً في حقه فيقدم الحج، وعندما يخشى على نفسه الحرام يصبح الزواج واجباً، فيقدمه على الحج حينئذ.
والإنسان المريض مرضاً يرجى شفاؤه لا يوكل بالحج عنه، ينتظر الشفاء ليحج، أما إذا كان مريضاً مرضاً مزمناً لا يُرجى عند الأطباء شفاؤه -أما علم الغيب عند الله- فإنه يوكل بالحج عنه، ويدفع النفقة.
جاءت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم" [رواه البخاري (1513)، ومسلم (1334)].
عباد الله: إنها مسؤولية وأمانة، وعلى المرء أن يسلك السبيل الشرعي، وأن يبتعد عن الرشوة والمحرمات، وأن يحج بمال حلال، فإن الذي يحج بالمال الحرام يُخشى أن لا يقبل حجه، ما حج، ولكن حجت العير.
نسأل الله أن يرزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
من أحكام الأضحية
عباد الله: في هذه الأيام العشر القادمة عبادة عظيمة وهي الأضحية، إنها شعيرة عظيمة، فقد فدى الله إسماعيل بكبش عظيم، لما صبر هو وأبوه على الذبح والابتلاء: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍسورة الصافات:107.
عبادة عظيمة فيها إنهار الدم لرب العالمين، والتقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي أفضل بكثير من التصدق بثمنها، ولو زاد؛ لأن إنهار الدم لله عبادة دالة على التوحيد: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْسورة الكوثر:2، إهراق الدم توحيداً لرب العالمين، فإن الكفار يذبحون لأصنامهم، هذه الأضحية سنة مؤكدة في قول أكثر أهل العلم، الواجبة في قول البعض الآخر، هذا النسك الإسلامي إظهاره عبادة، وأما تحويله إلى صدقات مالية، أو إخراجه من البلد فليس من السنة، بل السنة أن يبقى في البلد، ويُظهر فيها، عبادة تظهر، وسنة تُحيا، ودليل على التوحيد يقام، وشاهد على الامتثال لأمر الله يحقق، والإنسان إذا كان له أضحية أشهرها في بلده، وعنده أضاحٍ أخرى لأموات، أو لغيرهم فأرسلها إلى أماكن أخرى من بلاد المسلمين المحتاجين لتُذبح عندهم فلا بأس بذلك، لكن لا يُخرجها، ويصرفها عن مكانه؛ فربما تخلو الأضحية من البلد لو أنهم اتفقوا على ذلك، ولكن قد يُخرج الإنسان الأضحية للحاجة خارج البلد، كأن يكون غير قادر على شراء أضحية هنا، ولكن ما معه من المبلغ يكفي لأضحية هناك، فهذا أحسن من أن يبقى بلا أضحية هنا.
هذه الشاة الواحدة التي تجزئ عن الإنسان وأهل بيته وعياله، ولو كان فيهم من يعمل، ويكسب المال، ما دام اجتماعهم في معيشتهم واحداً، طعامهم وشرابهم، ونفقتهم واحدة، معيشتهم واحدة، زادهم واحد، أضحية واحدة، فإن انفصلوا في النفقات والطعام، إن انفصلوا في المعيشة، فلكل أضحيته، ومن أحكام الأضحية -التي سنأتي على تفصيلها بمشية الله في الخطبة القادمة- أنه ينبغي لمن أراد أن يضحي أن يمسك عن الأخذ من شعره وأظفاره وبشرته من دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته، لقوله ﷺ: إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره [رواه مسلم (1977)] أي: حتى يضحي، وفي رواية: فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً[رواه مسلم (4364)] رواه مسلم من أربعة طرق، وهذا أمر للوجوب، ونهي للتحريم على أرجح الأقوال؛ لأنه أمر مطلق، ونهي مجرد لا صارف لهما: فليمسك عن شعره وأظفاره، فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً، ولعل الله لما علم ضعف المقيمين عن الذهاب إلى الحج عوضهم بشيء فيه مشابهة الحجاج، وسلواناً، وتسلية لأنفسهم، إذا رأوا عباد الله، وفد الله ذاهبون، وهم قاعدون في البلاد، فجعل لهم شيئاً من النسك يشابهون فيه الحجاج، ومن تعمد الأخذ من شعره وأظفاره فعليه أن يستغفر إلى الله، ويتوب، ولا فدية، وأضحيته صحيحة، لكنه أنقص أجره ووقع في الحرج نتيجة معصيته لأمر رسول الله ونهيه ﷺ، ومن احتاج إلى أخذ شيء من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفر، أو جرح عليه شعر يتعين أخذه، أو حجامة احتاج إليها لمرض فلا بأس؛ لأنه ليس أعظم من المحرم الذي أبيح له الحلق للأذى، ولا يحرم على المضحي أن يطأ زوجته، ولا حرج عليه في غسل رأسه وترجيله، وتمشيط شعره، لكن لا يتعمد تقطيع الشعر، ولعله إذا وفَّر شعره وأظفاره إلى حين ذبح أضحيته رجا أن يعتقه الله كله من النار بشعره وأظفاره، ومن لم يكن عنده نية أضحية من أول العشر فأخذ من شعره وأظفاره، ثم أراد أن يضحي؛ لأن الله رزقه مالاً فلا حرج عليه، يمسك من حين نوى، ولا تنفع الحيلة بأن يوكل زوجته بالأضحية، ومن النساء من توكل أخاها في أضحيتها لتأخذ من شعرها، وهذا لا ينفع؛ لأن الحكم متعلق بالمضحي الذي دفع المال، هو صاحب الأضحية؛ فهو الذي يمسك، سواء كان له وكيل، أو غيره، فالوكيل لا يتعلق به نهي، فإن النهي خاص بمن أراد أن يضحي عن نفسه، وأما من يضحي عن غيره بوصيه، أو وكالة، فهذا لا يشمله النهي، وظاهر الحديث أنه خاص بصاحب الأضحية لا يعم زوجته، ولا أولاده، إلا إذا كانت لهم أضاحٍ خاصة بهم، ولأن الرسول ﷺ كان يضحي عن آل محمد، ولم يُنقل أنه نهاهم عن الأخذ.
وإذا لم نعرف هل ذي القعدة ثلاثين أو تسع وعشرين، فالأصل إكمال الشهر ثلاثين، فإذا غربت شمس آخر يوم من ذي القعدة أمسك المضحي عن شعره وأظفاره، ومن كانت عنده أضحية تركها في البلد وذهب إلى الحج فماذا يفعل؟ يمسك عن شعره وأظفاره من أول الشهر -ما دام له أضحية في البلد-، لكن سيحتاج إلى الأخذ من شعره بعد عمرة التمتع؛ لأنه كيف سيتحلل منها بقص الشعر، فتعارض واجب -وهو قص الشعر في التحلل من العمرة- مع منهي عنه -وهو عدم الأخذ من الشعر والأظفار للمضحي-، فيقدم الواجب حينئذ؛ لأنه أعلى مرتبة، فيراعى، وحينها يأخذ الحاج من شعره بعد العمرة –عمرة التمتع-، وأما المفرد والقارن فيمسك إلى حين ذبح أضحيته، والأصل أن الأضحية لأهل البلاد، والهدي للحاج، فلا يحتاج الحاج إلى أضحية في البلد، يكفيه هديه، ولو كان مفرداً فإن الهدي في حقه مستحب، ولكن من أراد أن يترك لأهله أضحية، ويذهب هو للحج، فيفعل كما تقدم، وكذلك لا يحرم على المضحي مس الطيب، ولا لباس المخيط، ولا جماع الزوجة، ذلك خاص بالمحرم، أي النهي عن هذه الأشياء.
عباد الله: ينبغي مراعاة شريعة الله، والقيام بأمره، والتفقه في دينه، نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته.
اليهود يمنعون المحارم من الحج
ولا يزال إخواننا المسلمين في فلسطين يعانون ما يعانون من الهجمات الوحشية، والقتل والتخريب، والإرهاب والتخويف، والتضييق والحصار والتجويع حتى منعوا الحجاج من الذهاب إلى فريضة الحج، وقالت النساء: منع محارمنا عند الحدود، منعهم اليهود، فماذا نفعل؟!
اللهم أنزل باليهود نقمتك يا رب العالمين، اللهم عليك بهم دمرهم تدميراً، قوض دولتهم، ودمر اقتصادهم، واشدد وطأتك عليهم، اللهم عاجلهم بعذاب من عندك، وائتهم من حيث لا يحتسبون.
وأما إخوانهم الآخرين من الصليبيين الذين يقولون: سننتصر بجبروتنا! فإن الجبروت لله الواحد القهار، ومن أسمائه الجبار، نسأل الله أن يخسف بهم، اللهم عليك بهم، أنزل نقمتك عليهم، هؤلاء الذين يقولون اليوم: إن بلادهم منة الله على العالم! أي منة في بلاد الجريمة والعهر، والفجور والتحرش الجنسي، وقتل الأولاد وإيذائهم، وأفلام الفجور التي يصدرونها؟! أين المنة في التخريب والتقتيل، والتدمير والإرهاب للآمنين؟! أين المنة في هؤلاء الذين لا عقل، ولا دين، ولا ضمير؟! بالجبروت يتحركون، والله على كل شيء قدير، فلأهل التجبر جولة، ولله حِكَم، وهو على كل شيء قدير: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُسورة البقرة:253، ولله الحكمة البالغة مهما قضى وقدر .
اللهم إنا نسألك أن تنصر دينك، وأن تعلي كلمتك، اللهم ارفع لواء الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وسائر بلاد المسلمين، يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
-
sara
جزاك الله خيرا يا شيخ و ان يكثر من امثالك
-
أمير
جزاكم الله خيرا
-
ام مريم
بارك الله في علمكم ونفع بكم خطبة قيمة