الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
الاستعانة بالله
فإن الاستعانة بالله ركن التوحيد كما قال الله تعالى، وكما نقولها في الصلاة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ سورة الفاتحة5، وكان ﷺ يستعين بربه على قومه فروى البخاري رحمه الله عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف[رواه البخاري4774] فأصابتهم سنة -أي قحط- حصَّت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة، وقال يعقوب لما ذكر له أولاده الكذب في فقد يوسف، ثم قالوا له ما حصل في فقد أخيه الأصغر قال: وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَسورة يوسف18، وكذا قالها عثمان رضي الله تعالى عنه عندما أخبره أبو موسى بكلام النبي ﷺ: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، قال: فقمت ففتحت له وبشرته بالجنة، فأخبرته بالذي قال ﷺ فقال عثمان: الله المستعان.[رواه البخاري3693]رواه البخاري.
التعاون على البر والتقوى
وذكر لنا ربنا في محكم تنزيله قاعدة عظيمة جداً تحوي أموراً لا يمكن حصرها، فقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ سورة المائدة2، قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم.
ففعل الخيرات هو البر نتعاون فيه، وترك المنكرات هو التقوى نتعاون عليه كذلك، ولا نتعاون على إثم كباطل ولا على محرم؛ لأن المعاون فيه شريك في الإثم.
عباد الله: إن النبي ﷺ قد طبق في السيرة العملية هذا الأمر، فقام يعاون ويتعاون في بناء المسجد مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِسورة التوبة17-18، فقام النبي ﷺ وأصحابه بالتعاون على بناء المسجد، كما قاموا بالتعاون على إقامة الجهاد وحفر الخندق إنفاذاً لقوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى سورة المائدة2 وأوصى النبي ﷺ بالمعاونة على المستوى الفردي، كما قام هو وأصحابه بالتعاون على المستوى الجماعي، فقال ﷺ: كل سلامى عليه صدقة كل يوم يعين الرجل في دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقه[رواه مسلم1009 والبخاري2891]، وقال البراء: "أمرنا رسول الله ﷺ بسبع ومنها: وعون المظلوم"[رواه البخاري6235] رواهما البخاري رحمه الله.
وكذلك قال ﷺ: على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف[رواه البخاري1445]، فهذه الإعانة صدقة عظيمة لمن لم يستطع أن يستقل بعمل بنفسه فليعن غيره فيكون شريكاً في الأجر، وأمرنا ﷺ بإعانة العبيد فيما كلفناهم به، فقال: إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم[رواه البخاري30]. رواه البخاري.
والإعانة إذا كانت في أمر نفيس وشيء عظيم ذي مرتبة في الدين فإن المعاون فيها له أجر عظيم، وقال البخاري رحمه الله: قال مجاهد: قلت لابن عمر: الغزو، قال: إني أحب أن أعينك بطائفة من مالي، قلت: أوسع الله عليَّ، قال: إن غناك لك وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه، أي لا تحرمني من المعاونة والأجر.
وعلى المستوى الاجتماعي بين الرجل والمرأة كل منهما يعين الآخر في البيت، قال البخاري في صحيحه: باب عون المرأة زوجها في ولده، وأخذ ذلك من حديث جابر أنه تزوج ثيباً لتعينه على القيام بأخواته، وهذا من شيمة المرأة الصالحة أنها تعين زوجها حتى فيما لا يجب عليها كخدمة أهله وأخواته، هي مكلفة ببيتها، ولكن إذا تعدت الإعانة إلى أهل زوجها وأخواته، فإن ذلك من جميل العشرة، ولها فيه أجر عظيم.
هذه نماذج من الإعانات على سائر المستويات، وهكذا يفهم قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىسورة المائدة2.
حرمة التعاون على الإثم والعدوان
وأما التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام لا يجوز، فنهانا الله عنه، فلا نعين على محظور، وقد فهم الصحابة ذلك حتى في الأمور الدقيقة، فعن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي ﷺ عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأنبئنا بعدو فتوجهنا نحوهم، فبصر أصحابي بحمار وحش فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبته فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني فأكلنا منه ثم لحقنا النبي ﷺ، فقلت: يا رسول الله إن أصحابك أرسلوا يقرؤون عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإنهم قد خشوا أن يقتطعهم العدو دونك فانظرهم، ففعل، فقلت: يا رسول الله إنا اصطدنا حمار وحش وإن عندنا فاضلة، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: كلواوهم محرمون. وفي رواية: أن هذا الرجل استعان أصحابه فقالوا: لا نعينك عليه بشيء فإنا محرمون، وفي رواية أيضاً عنه رضي الله تعالى عنه، قال: كنا في منزل في طريق مكة والقوم محرمون وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا -في أنفسهم- لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله، لا نعينك عليه بشيء، وفي القصة أنه خبأ عضداً، ولما أدرك النبي ﷺ سأله عن الحكم، قال: معكم منه شيء؟ فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها حتى نفدها وهو محرم .[رواه البخاري2570] كل الروايات في صحيح الإمام البخاري رحمه الله.
فلم يعينوه على المحظور، وأما الأكل مما صاده الحلال غير المحرم فهو جائز للمحرم.
وقال ﷺ لما أقيم حد على إنسان مسلم، وأقامه الصحابة "فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله"، لهذا المحدود، فماذا قال ﷺ؟ قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان[رواه البخاري6777]، وفي رواية: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم[رواه البخاري6781]رواهما البخاري.
فإذا كان المحدود قد جلد والحد كفارة له فلأي شيء يدعى عليه؟ ولأي شيء يشعر أن إخوانه أعداءه؟ فيكونون من عون الشيطان عليه، بل الواجب تسهيل المشوار عليه بعد التوبة، واستقباله بعد تطهيره بالحد استقبالاً حسناً.
وعن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: ((خرج رسول الله ﷺ قِبَل بدرٍ فلما كان بحرة الوبرة -وهو مكان بعد المدينة- أدركه رجل يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله ﷺ حين رأوه -أي رأوا هذا المشرك الشجاع المحارب جاء يلتحق بهم- فلما أدركه قال لرسول الله ﷺ: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال رسول الله ﷺ له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي ﷺ كما قال أول مرة: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله ﷺ: فانطلق[رواه مسلم1817]وادخل في الجيش نستعين بك الآن. الحديث في صحيح مسلم.
فإذن قد يكون الحرام في الاستعانة في الشخص المستعان به، وقد يكون الحرام في موضوع الاستعانة، ولذلك لا بد أن يكون التعاون على البر والتقوى بالشروط الشرعية، وأن لا نتعاون على الإثم والعدوان.
الخطبة الثانية
أنواع الاستعانة
عباد الله: إن من الاستعانة والتعاون ما يكون واجباً، ومنه ما يكون مستحباً، ومنه ما يكون مباحاً، ومنه ما يكون مكروهاً، ومنه ما يكون محرماً، فمثل الواجب إعانة المضطر على الطعام والشراب بإعطائه ما يحفظ عليه حياته، وإنقاذ كل معصوم، وكذلك إنقاذ كل معصوم من غرق أو حرق أو نحو ذلك، فإذا كان الإنسان قادراً عليه وجبت الإعانة عليه وجوباً عينياً، وكذلك إعانة الصغير لإنقاذه من مهلكة واجبة، وتجب الإعانة لتخليص المال المحترم، أي له حرمة في الشريعة قليلاً كان أم كثيراً، حتى أن الصلاة تقطع لأجل ذلك، والإعانة في دفع الضرر العام عن المسلمين أو الخاص عن مسلم واجبة أيضاً، المسلم أخو المسلم[رواه البخاري2442]، بل إن إعانة البهائم واجبة إذا كانت عند الإنسان، ولذلك دخلت امرأة النار في هرة منعتها ولم تطعمها، بينما دخل الجنة رجل في كلب أعانه على شرب في مهلكة وعطش فسقاه فشكر الله له فغفر له، وقال عليه الصلاة والسلام: في كل ذات كبد رطبة أجر [رواه البخاري2363]، فهذا إذا كان مستحباً فإن الإعانة فيه مستحبة، والمباحة تعاون الناس في التجارات وغيرها في الحلال، والإعانة على المكروه مكروهة؛ كالإعانة على إسراف لا يصل إلى درجة التحريم، وينبغي الانتباه لعدم الوقوع في الإعانة المحرمة وهي كثيرة جداً في هذا الزمان، فإن عدداً من الناس يعينون على الحرام؛ كتوفير الخمور والإتيان بها، أو الإعانة على الزنا، وتسهيل طريقه، أو الدلالة عليه، أو على مكانه، أو على البغي، وكذلك الإعانة على الخصومات المحرمة، وإعانة الظالم مصيبة عظيمة، والنبي ﷺ لما أخبر عن الظلمة ذكر أن من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه.
ينبغي الانتباه لعدم الوقوع في الإعانة المحرمة وهي كثيرة جداً في هذا الزمان، فإن عدداً من الناس يعينون على الحرام؛ كتوفير الخمور والإتيان بها، أو الإعانة على الزنا، وتسهيل طريقه، أو الدلالة عليه، أو على مكانه، أو على البغي، وكذلك الإعانة على الخصومات المحرمة، وإعانة الظالم مصيبة عظيمة، والنبي ﷺ لما أخبر عن الظلمة ذكر أن من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه.
وكذلك فإن الإعانة على غير الحق عموماً أمر مذموم ومحرم ضرب له النبي ﷺمثلاً، كما جاء في حديث ابن حبان مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير تردى في بئر فهو ينزع منها بذنبه[رواه ابن حبان5942] فكيف يخرج إذن من هذه الورطة التي ورط نفسه فيها، بإعانته على الإثم والعدوان وعلى غير الحق، يعين قومه تعصباً لهم، وعدد من الناس يعينون في استيلاء من ليس له حق على أرض، ويعينون في شهادة زور، ويعينون في اعتداء شخص على وظيفة لا يستحقها، ويسهلون دفع الرشاوي، وكل ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، ويدلون على ذلك، وصور التعاون على المحرم مع الأسف في هذا العصر قد كثرت أيها الإخوة ولذلك كان لا بد من التنبه لهذه المصيبة العظيمة، حتى صار الناس يدل بعضهم بعضاً على الشر والعياذ بالله في رؤية أماكن معينة، أو قنوات معينة، أو الذهاب إلى أمكنة معينة محرمة، إنه حرام أن توصله بسيارتك إلى ذلك المكان، أو تدله على العنوان، أو غير ذلك من وسائل الإعانة، إن المتبصر في الواقع أيها الإخوة ليرى أن عدداً من المسلمين قد ضربوا بقوله تعالى: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِسورة المائدة2 عرض الحائط، فلا يستجيبون إلى ذلك، فيشاركون في الإثم والعدوان، يشاركون في الحرام والاعتداء، وبعضهم يقول: أنا لم أفعله، ولم أرتكبه، نقول: ولكنك ساعدت غيرك عليه، دللته عليه، سهلت طريقه إليه، إذن أنت شريك في الإثم، ولو أن إنساناً أمسك شخصاً لآخر كي يقتله قتلا جميعاً، فإذن المشارك في الإثم له نصيب منه، وكل بحسبه، والله لا يظلم أحداً.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا ممن يتعاونون على البر والتقوى، ولا تجعلنا ممن يتعاونون على الإثم والعدوان، اللهم اجعلنا دعاة إلى سبيلك مستمسكين بسنة نبيك ﷺ.
مجالات التعاون
أيها المسلمون: ما أعظم النعمة عندما يتعاون عباد الله تعالى الدعوة إلى الله، عندما يتعاونون على هداية شخص، فيكلمه هذا بأسلوب، ويأتيه هذا بأسلوب آخر، ويزورانه جميعاً أو يجعلون له بيئة خير تجذبه إلى الخير وأهله، إنهم شركاء في الأجر العظيم، ما أعظم النعمة على قوم تعاونوا على طلب العلم، فهذا يوصل بسيارته، وهذا يدل على مكان الدرس وموعده، وهذا يعطي آخر ما فاته من الدرس، إنه تعاون على البر والتقوى، هذه أشكال المعاونة التي نريدها على صعيد التربية والدعوة وطلب العلم، وفعل الخيرات عموماً، إن التعاون بالشفاعة الحسنة وليست الواسطة المحرمة، بالشفاعة الحسنة والتدخل الحميد لإيصال حق إلى صاحبه، أو إعانته على زواج مثلاً يعف به نفسه، فيدله على امرأة صاحبة دين أو بيت صلاح يخطب منه، ويعين المسلمون أخاهم في تجميع المهر، أو يأتي ذا بشاة أو غيرها يعينونه على الوليمة، طوبى لهم وأجر عظيم لهم إن شاء الله بهذا التعاون المبارك.
لا بد من إحياء شعيرة التعاون على البر والتقوى فيما بيننا أيها الإخوة.
نسأل الله أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا.