الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
سليمان وريث النبوة والرسالة
فإن أصدق الحديث كتاب الله، قص الله علينا في كتابه من القصص، وذكر لنا من السير ما فيه موعظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وعلى رأس تلك القصص؛ قصص أنبياء الله تعالى ورسله الذين أرسلهم للناس، ومن هؤلاء النفر الكريم سليمان -وريث النبوة والرسالة- كما قال الله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَالنمل:15
فصاحب العلم صاحب فضل، صاحب العلم صاحب شرف، فعلينا أن نطلب العلم؛ لندخل في أهل الفضل والشرف، فاحفظ يا عبد الله، واقرأ، وافهم، واسمع، تعلم معاني القرآن والسنة، هذا هو العلم.
صاحب العلم صاحب فضل، صاحب العلم صاحب شرف، فعلينا أن نطلب العلم؛ لندخل في أهل الفضل والشرف، فاحفظ يا عبد الله، واقرأ، وافهم، واسمع، تعلم معاني القرآن والسنة، هذا هو العلم.
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَسورة النمل: 16 إنه إرث عظيم، إنه إرث النبوة لا إرث المال، وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ، إن تعلم اللغات عجب، فما بالك بتعلم لغة الطير ومنطق الطير؟! هذا لا يكون إلا من الله خص به داود وسليمان، وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍكان تمكيناً عجيباً، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُإن الاعتراف من صاحب الإمكانات والقوة بالفضل لله دليل على تواضعه لربه، وعدم اغتراره بما عنده، فإن كثيراً من الناس ينسى فضل الله إذا صار عنده نِعَم.
النملة مع سليمان والاعتراف بفضل المنعم
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَسورة النمل:17 ، لقد كان لهم وزعة ينظمون أمرهم، كان لهم وزعة يحملونهم على الطاعة وعلى النظام.
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ النمل: 18 ويا لله كم في كلامها من العجاب!، فماذا قالت:يَا أَيُّهَا النَّمْلُفنادت بني جنسها، ثم قالت: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْتحذرهم، ولزوم المساكن في هذه الحال هو الاحتياط المهم؛ لتلافي الهلاك، وقد جعل الله البيوت مأوى، وجعلها أكناناً تقي في الحر والبرد، وهذه مساكن النمل تحت الأرض، لماذا لزوم المساكن؟ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُتحذير من الخطر.
لكنها التمست العذر لسليمان ؛ لأنها تعلم أنه لا يؤذي تعمداً للأذى فقالت: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَاالنمل:18- 19، فسبحان من أفهمه ذلك القول، وسبحان الذي علمه ماذا قالت تلك النملة!، وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ،
شكر النعمة بالقلب واللسان والجوارح، ومن جملة الشكر الاعتراف للمنعم بالفضل وعدم نسبته إلى غيره، واستعمال النعمة في طاعة الله، فهذا من شكر النعمة، شكر النعمة بالقلب واللسان والجوارح، ومن جملة الشكر الاعتراف للمنعم بالفضل وعدم نسبته إلى غيره، واستعمال النعمة في طاعة الله،
فهذا من شكر النعمة، وكلما آتى الله عبداً نعمة إضافية فإنه لا يزال يدعوه ويثني عليه كما دعا سليمان بقوله مخاطباً ربه:أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّدعاء نبوي، ومعناه: ألهمني شكر نعمتك، واجعلني ممن يقوم بحقها،وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وإذا رضي الله عن عمل العبد أدخله الجنة، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَفما ادعى أن عنده من الأعمال والمميزات والخصال ما ليس عند أحد، بل إنه يرجو أن يدخل في جملتهم فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وتأمل أيضاً فهو لم يقل: بذكائي وعبقريتي وإمكاناتي، وإنما قال:بِرَحْمَتِكَفهو لا يزال محتاجاً إلى رحمة الله، فإذا لم ينس الذكي ولا الغني ولا صاحب الأتباع، ومن تحته الموظفين والعمال، إذا لم ينس صاحب الحسب والنسب، إذا لم ينس صاحب التفوق والمهارات، إذا لم ينس ربه فإنه سيلزم شكره ويدعوه كما دعاه سليمان وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، ويتواضع له، ويرجو أن يكون من جملة الأخيار؛ لأن الصلاح هو معيار الفوز، وهو ميزان النجاة.
النبأ العجيب من هدد سليمان
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ النمل:20 عندما يولي الله عبداً على مخلوقات له، فإن هذه التولية تقتضي القيام بالتفقد، إنها من الأمانة وتحمل المسؤولية، وإذا كان سليمان قد تفقد من ليس بمكلف وهم الطيور، فكيف بنا وقد كلفنا بأهلنا وأولادنا، فهل يا ترى نتفقد أهلنا وأولادنا في صلاة الفجر، ونحن مسؤولون عنهم وهم مكلفون؟ سليمان يتفقد الطير، فما بالك بالجن والإنس؟!، وإذا تفقد غير المكلف فمعنى ذلك أن تفقده للمكلف من الثقلين اللذين عنده من بابٍ أولى وأحرى.
نعود إلى خبر سليمان مع الهدد يقول الله مخبراً عنه: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَعجباً طائر صغير، يرى سليمان فقده، لم يغب عنه رغم صغر حجمه، الطيور فيها الكبير والصغير، والهدهد طائر صغير. نعم.. وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُالنمل:20-21 النبي سليمان كان مجاهداً في سبيل الله، يحشر له من معه؛ ليذهب بهم لنشر الإسلام والتوحيد في الأرض-هذا الإسلام العام الذي هو دين جميع الأنبياء-.
ولذلك فإن الخروج عن طاعة القائد في وقت الحاجة والمسير ووقت الأمر له جزاء لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ، وهذا النكال لمن يخالف أمر القائد ويعصي، لمن يغيب بغير عذر عما أعد القائد له من أمر الجهاد في سبيل الله، ولكن سليمان لم يكن عجولاً، ولذلك ترك مجالاً وفرصة للعذر، فقال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍيدل على عذره.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍالنمل:22، لم يتغيب ذلك الطائر كثيراً، وإنما جاء بسرعة، فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِعجباً لهذه المقدمة التي يقولها طائر لسليمان النبي الملك القائد، أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِوهذا درس عظيم، فقد يخفى على الكبير ما علمه صغير، والله تعالى يُعلم ما يشاء من يشاء، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إنها مقدمة تنسي الغضب، وتبعث على الدهشةأَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، وسليمان كان في فلسطين من بلاد الشام، وسبأ من بلاد اليمن، ومع ذلك لم يكن عند سليمان علم بحال سبأ.
ثم بدأ الهدد يقص ما أحاط به وكان محل دهشته عن سبأ وقومها فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ النمل:23 هكذا يذهب جنود القائد في تفقد الأماكن في الأرض، لأي شيء؟ لدعوة أهلها، لنشر الإسلام فيهم، لمعرفة هل هم مسلمون أم مشركون، فسبر الهدهد حالهم من جهة العقيدة، ومن جهة الحكم فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍمن الجنود والأموال والحصون والقصور، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌوهو سرير الملك الذي تجلس عليه. ما دينهم؟ وهذا هو المهم الآن، بعد توصيف الحال من الحكم والقوة لهؤلاء القوم، وتقديم تقرير يشمل ما عندهم من جهة الحكم والقوة.
يأتي الآن بيان الحال في الدين: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِالنمل:24، فهم عباد كواكب كفره، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْوإذا زين الشيطان للعبد عملاً لم ير العبد قبح عمله، فلماذا يغير؟، ولذلك صاحب البدعة أخطر من العاصي ولو كان مرتكباً للكبيرة؛ لأن مرتكب الكبيرة يعلم أنه عاصي، يعلم أنه يرتكب المحرم الكبير والصريح، لكن المبتدع يظن نفسه على هدى وعلى خير وعلى حسنات وعلى أجر، زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناًفاطر: من الآية8 . وكثيرون في الأرض اليوم زين لهم الشيطان أعمالهم، يظنون أنفسهم مسلمين وهم مشركون، يظنون أنفسهم أهل حق وهم أهل باطل، يظنون أنفسهم على سنة وهم على بدعة، يظنون أنفسهم على علم وهم جهال،زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، لماذا يهتدي، ولماذا يغير إذا كان يرى أمره صالحاً وحسناً، ويرى أن ما هو عليه حق؟ وهذه المصيبة المركبة في أهل البدعة، لا يغيرون؛ لأنهم يرون أنفسهم على صواب.
إن عقيدة الهدهد كانت واضحة، ودين الهدهد كان أمراً جلياً في هذه القصة، وقد علق على حال القوم الذين رآهم فقال: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَالنمل:25 ومعنى الخبء: المخفي،أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِهلَّا سجدوا لرب العالمين الذي خلقهم، الذي يخرج المخبوء في السماوات والأرض، وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِالنمل:25- 26 .
واعجباً للذين يعلمون طلابهم ممن يتسمون بأهل البحث العلمي ألا يدخلوا بدينهم في الأبحاث، ويقول: افصل بين بحثك ودينك، ولا تكتب في التقرير العلمي أي انطباعات دينية، فإذا كان التقرير اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو نفسياً، فيقول له: لا تكتب أي شيء يتعلق بالدين في التقرير، قدم بحثك مجرداً عن أي تعليقات تتصل بالدين، والتقارير العلمية التي لا صلة لها بدين الكاتب وعقيدة الكاتب، هكذا يعلمونهم. سبحان الله!!، إذا قدم الإنسان تقريراً وبحثاً أفلا يكون فيه بيان الحق ومنطق الدين؟، ولذلك انظر إلى وجازة ألفاظ الهدهد، وحسن عرضه، وبماذا عقب؟: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لقد عرض الجندي تقريره على قائده إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللِّهِالنمل:23-24، وذكر سبب الضلالة، ولماذا هم مستمرون عليها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هكذا إذاً يكون العرض والبيان، هكذا يكون التعليق على الخبر، لا بد أن تظهر آثار التوحيد على التقارير وعلى الأبحاث، ويبين الحكم الشرعي في الربا والأمراض، ونحو ذلك من الآفات التي يتم بحثها علمياً.
تعامل سليمان مع رسالة الهدد
سليمان صاحب تحري قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْالنمل:27 وكتب سليمان رسالة في الدعوة إلى الله، وهكذا شأن الأنبياء والعلماء والدعاة يكتبون الرسائل في الدعوة، فالرسائل لها شأن كبير، الرسالة لها وقع عظيم، الرسالة لها تأثير، الرسالة وسيلة عظيمة في الدعوة،اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ النمل:28فأمره بثلاثة أشياء:
أولاً: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ.
ثانياً: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، أعرض وانتظر غير بعيد؛ لترى.
ثالثاً: مَاذَا يَرْجِعُونَ، فانظر ردة الفعل، وانظر الجواب، وفعلاً أطاع الهدهد الأمر، فأخذ كتاب سليمان ورسالته الدعوية فألقاها من كوة وطاق على مجلس المرأة الخاص -ملكة القوم-، ففتحت الكتاب، وتعجبت من طريقة وصول الكتاب إليها، إنه لم يصل عن طريق رسول كالعادة، لم يأت سفير به، وإنما جاء طائر فألقاه إليها عبر هذه النافذة، المهم أن طريقة وصول الخطاب عجيبة.
ماذا في الخطاب؟ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَالنمل:30 وهكذا تبدأ الخطابات، والسنة: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان السلام عليك ورحمة الله كذا وكذا، يعنى البدء بالبسملة، ثم اسم الكاتب مرسل الرسالة في الأول، ثم المرسل إليه، ثم السلام إذا كان مؤمناً، وإذا كان غير مؤمن السلام على من اتبع الهدى. ماذا في الخطاب؟ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِمضمون الخطاب، جملة الخطاب، محتوى الخطاب، المقصود منه في عبارة قصيرة موجزة -والعبارات الموجزة فيها تأثير كبير في النفوس- أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَالنمل:31 كلمتان في الأولى نهاهم عن الكبر أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ، والثانية أمرهم بالإسلام وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، وسليمان كان أمره منتشراً، وشأنه بين الناس وأهل الأرض معروف.
لا حجة لجواز تولى المرأة الولايات العامة بقصة ملكة سبأ
فلما بلغها الخطاب وقرأته قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِيالنمل:32 فرجعت إلى العقلاء والكبراء والملأ من قومها ومجلس الشورى، يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ، وهذا يدل على كمال عقلها، ولكن وجود نوادر من النساء في عالم القيادة لا يدل بأي حال من الأحوال على جواز أن تتولى الإمارة العامة، والقضاء، وإمارة الجيش، والقيادة، والخلافة، والإمامة امرأة أبداً، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، وليس النساء قوامات على الرجال، ولذلك لا يجوز في الشريعة أن تتولى المرأة الإمامة العامة والوظائف العامة كالوزارة والقضاء وقيادة الجيش، فإن هذه الولايات العامة تقتصر على الرجال في هذه الشريعة، ومع هذا فلو فرضاً وجد من النساء من عندها عقل راجح تستطيع أن تسيس الأمور فإنها وبلا شك تحتاج مع راجحة عقلها إلى خبرة الرجال ورائها، ولذلك كان من رجاحة عقل هذه المرأة أنها رجعت إلى الرجال، وقالت للملأ الرجال من حولها: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِيفالمرجع إلى عقل الرجال في النهاية. والمحتجون بنجاح بعض النساء في قيادة بعض البلدان، يعلمون أن هنالك جيشاً من المستشارين من الرجال حول تلك المرأة، ولا يمكن أن تتفرد امرأة بولاية عامة كالإمارة فتنجح في ذلك.أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍالنمل:32-33 وعندنا العدد والعُدد، وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍوشجاعة ودربة وخبرة وثبات في القتال، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَولا يمكن أن يحتج أيها الأخوة بفعل قوم كفار على جواز تولية المرأة الإمامة العظمى، ولا يجوز أن يقال: هؤلاء قوم سبأ ولوا امرأة فنجحت في سياستهم..؛ لأنه لا حجة بفعل قوم كفرة، ومعلوم من قواعد الدين:"أن النادر لا حكم له"، ولا يمكن الاحتجاج بنادر على جواز تولى المرأة الولاية العامة، كلا، فالنادر لا حكم له.
فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ أي بطبعهم، إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، هكذا رأت في عقلها، وهذا المعلوم في تاريخها ومن حولها، ترى أن هؤلاء يغيرون ويفسدون ويحتلون ويظلمون ويبغون، وكل منهم يطلب الظهور على من بجواره من البلدان، وهكذا يفعلون، ولذلك فإنها احتجت بما هو معروف في واقعها واستدلت به، وقد جعل الله الإمام العادل تحت ظل عرشه لماذا؟ لأنه بالرغم من سلطانه لا يبغي ولا يظلم؛ بل يعدل ويتق الله في الرعية، فهو في ظل العرش يوم القيامة،وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَفي عادتهم. فما هو الحل؟وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍالنمل:35 ما هي الطريقة في المواجهة، وبماذا أجاب سليمان ؟.
عباد الله:إن في القرآن لعبراً، وإن في هذا الكتاب ذخراً، وإن فيه العجب العجاب من الفوائد العظيمة، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا كتابه، وأن يفهمنا أحكام دينه وشرعه، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله، سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه، وأمينه على وحيه. بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فصلى الله وسلم عليه، وبارك على آله وذريته وأزواجه وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
هدية ملكة سبأ ورد سليمان
إن الهدية تزيل وحر الصدر، إن الهدية تزيل الوحشة، إن الهدية طريق لكسب المحبة، وهي من الدفع بالتي هي أحسن ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌفصلت:34ولذلك أرسلت ملكة سبأ هديتها إلى سليمان وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَالنمل:35-36 أي: رسول الملكة بالهدية، جاء سليمان في قصره ومكان ملكه؛ ليقدم له الهدية، ماذا تعني الهدية عند سليمان ؟ أن يكف عن المطالبة بما أرسل به إليهم أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَالنمل:31الهدية معناها هنا رشوة، الهدية معناها هنا أن يكف ويمتنع عن جهاد القوم إذا لم يأتوه مسلمين، فالهدية هنا منهم مصانعة، ولكن إذا قبلها هو فإن هذا منكر عظيم، ولا يمكن لسليمان أن يقبل بهذه الهدية، مقابل أن يكف عن القوم؛ لأن الله أمره أن يجاهد في سبيله، وأن ينشر التوحيد في الأرض، وهؤلاء القوم مشركون ولا بد من دعوتهم وجهادهم إذا لم يستجيبوا، ولذلك ما قبل سليمان الهدية.
وهنا مسألة فقهية لا بأس من التطرق إليها وهي: هل يجوز قبول هدية المشرك؟ الجواب: نعم، إذا لم يكن فيها مهانة لأهل الإسلام، ولم تكن الهدية في ذاتها محرمة كحمر وخنزير، ولم يترتب على ذلك ذل المسلم المهدى إليه، ولم تكن رشوة، فإذا خلت من المحظورات جاز قبولها.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ، أنتم تريدون إغرائي بالهدية وإسكاتي بالهدية، وأن أغمض عنكم لأجل الهدية، يريد أن يقول لهم: أنتم أهل دنيا وأهل مال، وهذا المال له شأن عظيم عندكم، وهذا ما جعلكم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَالنمل:36 ولذلك كان الرد منه ارْجِعْ إِلَيْهِمْارجع بالهدية، لا حاجة لنا بالهدية، وما داموا لم يقبلوا بما جاء في الرسالة، ولم يذعنوا لما أمرتهم به من دين الله وطاعته، فلينتظروا إذاً الغزو فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ، لا حيدة عن المقصود الأصلي، لا نسيان للمطلب الأساسي وهو: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
وهذا ما ينبغي للداعية أن يعيشه: أن لا ينشغل عن مقصده بهدايا وأشياء وأعطيات ونحو ذلك، ولا يرضخ ولا يكون من عبيد الدنيا الذين يجرون وراء هذه الأعطيات والأموال والهدايا، وإنما له قصد ورسالة بإحقاق الحق وإنكار المنكر وإبطال الباطل، وبيان الصواب الذي دل عليه السنة والكتاب.
وهنا التفت سليمان بجنوده قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَالنمل:38وكأن الله قد أوحى إليه أنهم سيذعنون ويخافون ويرضخون بعد أن أعاد رسولهم بالهدية، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌالنمل:39هذا العفريت الذي هو في الأصل صاحب شر، ومتوسع فيه، سخره الله لخدمة سليمان ، بل جعل الله له السلطان على الجن يلتزمون أمره، فلم يكونوا يخالفوه حتى الشياطين منهم، فقد كانوا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُسـبأ: من الآية13، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِص:37-38 .
سلط الله سليمان عليهم، والله تعالى يسلط من يشاء على الجن، وليس دائماً الجن مسلطون على الإنس،.. كلا، وربما كان الإنسي ذاكراً لله، متحصناً بالأذكار، فإذا أراد الشيطان أن يؤذيه، واقترب منه؛ ليمسه بسوء صرع الجني، فألقي مدحوراً مغلوباً مصعوقاً، فتجتمع الشياطين عنده يقولون: مال صاحبنا؟ فيقول بعضهم لبعض: صرعه الإنسي، وهكذا الذاكرون الله كثيراً والذاكرات يحميهم ربهم ويقيهم شر الشياطين بذكره، ويسلطهم على من يشاء من خلقه.
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِالنمل:40 الذي له معرفة باسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، وفعلا جاء به كما وعد، فَلَمَّا رَآهُأي سليمان: العرش مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُوتحقق المطلوبقَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُلم تصل البشرية في قمة تقدمها المادي في هذا الزمان إلى درجة إخراج عرش عظيم من قصر عبر الأبواب والجدران، وتمرير ذلك، وقطع ألفي كيلو متر من اليمن إلى فلسطين في لمح البصر، لم يحصل، فلماذا يغترون؟ لماذا يغترون بما عندهم؟.
يا سبحان الله قبل آلاف السنين، وتوجد هذه الإمكانيات التي لم توجد الآن، ولن توجد، تنقل المادة عبر الجدران بكمية ضخمة، ويتم نقلها إلى حيث يراد لها أن تكون في لمح البصر.
إن كرامات أولياء الله معلومة، والذي عنده علم من الكتاب دل علمه على فضله، ولقد كانت معرفته بأسماء الله سبباً في كرامته، وهكذا كان لتأثير العلم ما كان، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِعلم عبادة وولاية، والولاية هذه فيها كرامة مبهرة، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيلم يغتر، أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.
أحداث قدوم ملكة سبأ وإعلانها الإسلام
وقال سليمان لمن عنده: قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَالنمل:41ويختبر عقلها، ويأتيها بما يبهرها،فَلَمَّا جَاءَتْالنمل:42 طائعة مذعنة لسليمان ومن معها قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ، فهي من كمال عقلها ما قالت: هو، ولم تقل: ليس هو، إنما قالت:كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ.
فما الذي صدها في البداية، ومن الذي كان سبباً وعائقاً في طريق الهداية؟، وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِالنمل:43هذا الذي صدها في الأول: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ، واجتماع أهل المعصية على بعضهم البعض يولد مناعة ضد الحق: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ في جملتهم تمردوا ومردوا على الكفر.
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَالنمل:44 أي: القصر الذي بلاطه من زجاج نقي صاف شفاف ينفذ إلى ما ورائه النظر، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةًمن الماء،وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا؛ لئلا تبتل ثيابها، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، وهذا لا تطيقه ولم تعرفه لا هي ولا من معها ولا خبراؤها ولا علماؤها من أهل الدنيا، فاستسلمت وعرفت بأن هذا الملك نبي مرسل من عند الله، ولا يمكن أن تكون كل هذه الإمكانات -من الطير والجن والصرح الممرد من قوارير، وهذه الأبهة التي رأته فيها، وهؤلاء المحشورين عنده-، أن يكون هذا من فعل بشر وحده دون قدرة إلهية ورائه!!، من الذي آتاه هذه الإمكانات؟ إنه الله .
ولذلك قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيبالشرك، والشرك ظلم عظيم وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وهذا هو المطلوب أن يذعن الكافر للحق، ويقبل الانقياد للإسلام.
إنها دعوة ناجحة، ومثال عظيم لمن يستعمل ما آتاه الله من الإمكانات في خدمة الدعوة، ونشر الدعوة، وإقناع المدعوين؛ ليأتوا مذعنين.
نسأل الله تعالى أن ينصر بنا دينه، وأن يعلي بنا كلمته، وأن يجعلنا من جنود هذا الدين، والدعاة إلى سبيل رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تحيينا مسلمين، وأن تتوفانا مؤمنين، وأن تلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واقض ديوننا. اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا. اللهم آمنا في أوطانا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وانصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، واقمع أهل الشرك والكفر والبدعة إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.