الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمداً ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
العبادات الحولية مرتبطة بالأشهر القمرية
عباد الله: يقول ربنا تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْالتوبة: من الآية 36.، وقال : يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِالبقرة: من الآية 189.، قال ابن عباس : "يعلمون بها حل دَينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجِّهم"[تفسير ابن كثير (1/226).]، فالتقويم المعتمد عند رب العالمين إذاً هو هذا التقويم القمري، هو هذه الأشهر التي يُعرف ابتداؤها بهذا الهلال، وتعرف نهايتها بغيابه، وبداية الذي بعدها بالشهر الجديد بالهلال الجديد.
عباد الله: إن الله تعالى جعل الليل والنهار، والشمس والقمر من آياته، فقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاًالإسراء: 12.، لتعلموا عدد السنين والحساب بهاتين الآيتين، وجعل الشرع ارتباط بعض العبادات بالشمس كأوقات الصلوات، فإذا توسطت في كبد السماء، ثم زالت عنه دخل وقت الظهر، وإذا صار ظل كل شيء مثلَيه دخل وقت العصر، وإذا غربت دخل وقت المغرب، وإذا غاب الشفق الأحمر -وهو بقية ضوء الشمس بعد غيابها وغروبها- دخل وقت العشاء، وإذا انبلج الفجر -وهو أوائل ضوء الشمس قبل أن تظهر- دخل وقت الفجر، وهكذا.
أما العبادات الحولية فإنها تعتمد على القمر بخلاف هذه العبادات اليومية، فعبادات يومية مرتبطة بالشمس في جريانها، وعبادات حولية مرتبطة بالقمر كالصيام الذي قال الله فيه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُالبقرة: من الآية 185.، ثم قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُالبقرة: من الآية 185.، فكيف نعرف هذا الشهر؟ قال ﷺ: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته[رواه البخاري برقم (1909)، ومسلم برقم (1081).]يعني لرؤية هلاله.
إذاً تعرف البداية بهذا الهلال الذي جعله الله للناس ميقاتاً للعبادات، جعل الله الأهلة مواقيت للناس في العبادات، وكذلك الحج كما قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌالبقرة: من الآية 197.، فكيف تُعرف أشهر الحج؟ شوال، وذو القعدة، وعشر ذو الحجة، كيف تُعرف البدايات والنهايات؟ بهذا الهلال.
وهذه الأشهر الحرم التي أمرنا بتعظيمها: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم الذي سنقدُم عليه، ورجب، كيف تعرف هذه الأشهر التي لها منزلة عند الله؟ التي أمر بتعظيمها بطاعته فيها، وترك معصيته: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْالتوبة: من الآية 36.، كيف تُعرف هذه الأشهر الحُرم؟ هل هي يناير، وفبراير؟! هل هي من هذه الأشهر التي يتخذها غير المسلمين؟ أم هي أشهر قمرية؟ والجواب واضح يا عباد الله، وقد قال ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان[رواه البخاري برقم (3197)، ومسلم برقم (1679).]الحديث متفق عليه.
إذاً: هذه الأربعة الحرم هي أشهر قمرية، وهكذا نعرفها بما جعل الله لنا في السماء من الآية الدالة عليها، ولادة الهلال.
العبادات التي لها زمن محدد لا تنضبط إلا بالأشهر القمرية
عباد الله: أحكام فقهية كثيرة مرتبطة بالأشهر القمرية، فعدة النساء اللاتي لم يحِضن، واليائسات من المحيض ثلاثة أشهر، أشهر ماذا؟ شهر واحد وثلاثين؟! وشهر ثلاثين؟! شهر ثمانية وعشرين؟! لا، إنما هي أشهر قمرية، قال تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍالطلاق: من الآية 4.أشهر قمرية، الله جعل هذه الأشهر القمرية هي المواقيت التي نعرف بها الابتداء، والانتهاء، والانقضاء، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ الطلاق: من الآية 4.، وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، هي بالأشهر القمرية أيضاً قال: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراًالبقرة: من الآية 234..
وكذلك الزكاة إذا حال الحول على المال فإنها تجب، ما هو الحول؟ اثنا عشر شهراً قمرياً بهذه السنة الهجرية المعروفة، وليس بالأشهر الميلادية الشمسية، والذين يحسبون الزكاة بناء على السنة الميلادية يأكلون من نصيب الفقراء أحد عشر يوماً؛ لأن الأشهر الشمسية أطول، وأما السنة المعتمدة عند رب العالمين في الزكاة –الحَول-، فهو اثنا عشر شهراً قمرياً.
عباد الله: هذه الكفارات كصيام شهرين متتابعين، تحسب بماذا؟ وبناء على ماذا؟ الأشهر القمرية.
حتى الدورة الشهرية للنساء المسلمات والكافرات تأتي موافقة للأشهر القمرية، سبحان الله! هذه عِدَد نسائهم -رغماً عن أنوفهم- على الأشهر القمرية، تنضبط بالشهر بالقمري، وليس الشمسي المزعوم.
اعتماد الأشهر القمرية يعني إثبات الهوية الإسلامية
أيها المسلمون: إن من شخصية الأمة وهويتها هذا التاريخ القمري الذي جعله الله تعالى مواقيت، هذا الذي جعله الله معتمداً فمن من هوية الأمة، من شخصية الأمة هذا التاريخ، ولما أراد عمر أن يجعل له بداية لهذه السنوات القمرية، يجعل بداية لتاريخ المسلمين، جعل الهجرة - وهي الفيصل الذي انتقل به المسلمون نقلة عظيمة جداً، وكانت فتحاً من الله، ولها الأثر الكبير في قيام الإسلام- جعل الهجرة هي العام الأول للمسلمين، فبأي شهر يبدؤون؟ لم يجعل شهر الهجرة هو البداية، وإنما نظر عمر ، فإذا انصراف الناس من الحج، وذهابهم إلى البلدان مناسَبة مناسِبة جداً لتبدأ المشاريع، لتبدأ البعوث، لتبدأ الأنشطة الكثيرة للناس، بعد انصراف المسلمين من الحج، والعودة إلى البلدان، هذا مناسب جداً؛ فلذلك جعل الشهر المحرم هو البداية لهذه السنة القمرية التي حُدِّدت أشهرها من رب العالمين، فصارت السنة الأولى في التقويم الهجري تبتدئ من محرم، وتنتهي بنهاية ذي الحجة.[البداية والنهاية لابن كثير (7/ 72-73).]
هذا الذي سار عليه المسلمون، هذا الذي بقي في الأمة الزمن الطويل، ثم يريد أعداؤها اليوم أن يطمسوا هذا التاريخ القمري، والسنة الهجرية، وأن يجعلوا المسلمين يسيرون على ما يريدونه هم، وأن نتشبه بهم، فإذا صارت الأمة تتحدث بلغة غير لغتها كما يريدون نشر اللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية -التي إذا صار الإهمال هو نصيبها، وصار أبناؤها لا يحسنون الحديث بها، وصارت قواعد الإملاء والخط مضيعة فيها، وصار الرسم العثماني للمصحف غير معلوم- فماذا ترجو من وراء هذه الأجيال التي تؤرخ بتاريخ غير تاريخها الشرعي؟ وهكذا تسلب الأمة مقومات الشخصية واحداً تلو الآخر، فلا يكادون يعرفون التاريخ القمري الهجري إلا في رمضان، وبعضهم في الحج، ثم بعد ذلك لا يدرون عنه شيئاً.
عباد الله: إن أوقات العبادات الفاضلة كعشر ذي الحجة، وصيام عاشوراء، وصيام عرفة، وصيام الأيام البيض، -الأيام البيض- مرتبطة بهذا التاريخ القمري.
من مميزات التاريخ القمري
إن هذا التاريخ القمري رباني غير متكلَّف، وتقسيم الأشهر فيه غير مصطنع، وأنت عندك دليل -يا عبد الله- لو سُئِلت: ما هو الدليل على بداية شهركم؟ فتقول: هذا الهلال، ما هو الدليل على نهاية شهركم؟ فتقول: اختفاء هذا الهلال.
فأما أشهرهم إذا سألتهم: ما هو الدليل على أن يناير كذا يوم؟ هذا ثلاثين! وهذا واحد وثلاثين! ثم يليه أحياناً واحد آخر واحد وثلاثين! ثم فبراير ثمانية وعشرين أشهراً! ثم تسعة وعشرين في السنة الكبيسة، ما هو الدليل؟ نتحداهم أن يأتوا بدليل واحد على أن هذا الشهر ثلاثين، وهذا واحد وثلاثين، وهذا ثمانية وعشرين.
أما تاريخنا الهجري، وأشهرنا القمرية فإنها لا تخضع لأهواء الكهنة والقياصيرة الذين تلاعبوا بتقويمهم، وجعلوا أشهر متتالية واحد وثلاثين، وشهر فبراير ثمانية وعشرين في سنوات، وتسعة وعشرين في سنة، وقصير إذا أراد أن يجعل شهره كبيراً مثل يوليوس قيصر، فجعل شهر يوليو واحداً وثلاثين يوماً، وهكذا! كلا، ليس عندنا هذا التلاعب؛ طول الشهر في التقويم القمري تحدده دورة القمر حول الأرض، وهي ظاهرة كونية، وحقيقية، وواقع لا دخل للإنسان فيه، ليس موكولاً إلى حسابات بشرية، وأهواء، وتلاعبات، بل إن الهلال الذي خلقه الله يولد في السماء، هذا دليل وآية بينة.
التقويم القمري -يا عباد الله- تقويم محسوس يُرى بالعين المجردة، كما أن وجه القمر ثابت بالنسبة للأرض أما وجه الشمس فمتغير من لحظة إلى أخرى، ولذلك أنت تستطيع أن تفرق بين هلال أول الشهر، وهلال آخر الشهر؛ فهلال أول الشهر فتحته إلى المشرق، وهلال آخر الشهر فتحته إلى المغرب، وإذا كنت دقيقاً حصيفاً عليماً ربما استطعت أن تعين اليوم من خلال منظر القمر: هذا يوم سبعة، أو ثمانية، أو عشرة، أو ثلاثة عشر، أو خمسة عشر، لكن الشمس لا تصلح دليلاً على هذا التعيين؛ لأنها شكلها واحد في كل أيام الشهر، أما القمر هو الذي يزيد، وينقص، ويتغير.
ولله حكمة عندما جعل هذه الأشهر القمرية هي المواقيت للناس، لكن كثيراً من الناس عن هذا غافلون، وكثير من المسلمين لا يعلمون حتى ميزات السنة التي جعلها الله معتمدة عنده اثنا عشر شهراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌالتوبة: من الآية 36.، هذه القمرية.
ومن مميزات الشهور القمرية أنه يمكن متابعتها في جميع بقاع الأرض، حتى في المناطق القطبية تغيب الشمس فيها ستة أشهر، أو تكون ستة أشهر متوالية كلها نهار، لكن القمر يُرى فيها، ولا يكون محجوباً كالشمس التي تحتجب في تلك المناطق القطبية.
التقويم القمري يعكس حقائق كونية من حركة القمر حول الأرض خلال هذا الشهر، ويعكس أيضاً حركة الأرض حول الشمس، والتقويم القمري غير فصلي؛ ولذلك نصوم تارة في الشتاء، ونصوم تارة في الصيف، وتارة في الربيع، وتارة في الخريف، ولو كان رمضان مرتبطاً بشهر من هذه السنة الميلادية الشمسية لرأيتنا نصوم دائماً في وقت واحد ولكننا في عبادتنا تدور علينا الفصول الأربعة.
لابد من الاهتمام بالتاريخ القمري
هذه قضية هوية -يا عباد الله- ينبغي فقهها في وقت لا يعرف فيه الكثير من ميزات سنتهم وشهرهم، كثير من أبنائنا، وكثير من هذه المدارس الأجنبية، وهذه السفارات، وهذه الأنظمة العالمية، وغيرها صار التقويم الميلاد مفروضاً فيها؛ ولذلك فإن متابعة التقويم الميلادي جائز للحاجة، إنما اختفاء التقويم القمري الهجري لا يجوز، لا يجوز أن يختفي من حياتنا، هذا من شخصيتنا وهويتنا، هذا من معالم ديننا، هذه قضية تُبنى عليها أحكام، هذه قضية ترتبط بها عبادات ومواسم عظيمة وفاضلة، فلا يجوز أن يجهل أبناؤنا هذا التقويم، وكثير من المسلمين في الجاليات الأجنبية في الخارج لا يعرفون عن هذا التقويم إلا نزراً يسيراً، ولا يستعملونه فيما بينهم.
فاحرصوا -يا عباد الله- على إحياء العمل بهذا التقويم، واستعماله، والبناء عليه، وإذا احتاج المسلم إلى معرفة التقاويم الأخرى فلا بأس للحاجة؛ فهو يتعامل مع العالم شرقاً وغرباً، ونحن في وقت استضعاف، ولو كنا في وقت قوة لفرضنا تقويمنا على العالم، ولكن في هذا الزمن الذي تغلب فيه أعداؤنا فرضوا تقويمهم علينا، ونحن ينبغي أن نقاوم ما اسطعنا، وأن نحرص على استعمال ما أوجب الله علينا، وما جعله لنا شعاراً، وتاريخاً، وعلامة.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أشهد أن لا إله إلا الله العليم الحكيم، أشهد أن لا إله إلا الله خالق السموات والأرضين، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، ومصطفاه من خلقه، والشافع المشفع يوم الدين، إمامنا وحببينا وقدوتنا.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وذريته الطيبين، وزوجاته، وخلفائه الميامين، وأصحابه، ومن سار على هديهم واتبعهم إلى يوم الدين.
حكم الاحتفال أو التهنئة برأس السنة الميلادية
عباد الله: لم يقتصر الأمر في هذه الأمة على تخلفها في العمل بالتقويم الذي أرداه الله، وإنما صار أيضاً تشبهاً بالكفرة في احتفالاتهم بأعيادهم، فما مضى من رأس سنتهم قد شارك في الاحتفال به كثير من المسلمين مع الأسف، وهكذا رأيت أنواعاً من التشبه بالكفرة قد حصل في هذه الأمة من تبادل التهاني، وإرسال البطاقات، وإقامة الحفلات، وإدخال الألعاب على الأطفال في تلك المناسبات، وتعطيل الأعمال، والسهر الصاخب ليلة عيد الميلاد المزعومة، والتي لم يتفق عليها كل النصارى، فبينهم اختلاف في ليلة الميلاد ما هي؟ طوائف النصارى مختلفة حتى في بداية العام الميلادي، فالمشرقيون يختلفون عن غيرهم، ويحتفل بعضهم بعد بعض في هذا.
وإذا كانت أعيادنا نهارية -في النهار: عيد الفطر، وعيد الأضحى- نبتدئها بالصلاة، صلاة العيد، والذكر، ففي الفطر بعد انقضاء رمضان العبادة العظيمة، والتكبير ليلة العيد، وفي الذهاب إلى الصلاة، وإخراج زكاة الفطر للفقراء والمساكين، والصلاة العظيمة المشهد الذي فيه البركة والخير، يخرج إليه حتى الحُيَّض اللاتي لا يصلين، يشهدن الخير والبركة، ودعوة المسلمين.
وعيد الأضحى الذي يأتي في يوم النحر العظيم الذي تجتمع فيه عبادات التي لا تجتمع في غيره، من رمي، وحلق، ونحر، وطواف، وسعي، وفي بقية البلدان أضاحي تُذبح لله رب العالمين، وصلاة عيد الأضحى المشهودة، فأعيادنا ذكر لله، وفيها فرح وسرور، وتوسعة على العيال بالمآكل والمشارب، والألعاب المباحة، فماذا يوجد في أعيادهم؟ سكر وعربدة -آخر رشفة خمر في نهاية عامهم تعني عندهم شيئاً، فيمسكون كؤوس الخمر عند اقتراب نصف الليل، ويسكرون، وبعضهم يرمي نفسه في النوافير العامة في الميادين التي يحتفلون فيها-، وفسق، ويقبل العشاق بعضهم بعضاً! حرام يجري في عيديهم إذا احتفلوا به، وإسراف وركوب المخاطر حتى في ألعابهم النارية التي منعها بعض عقلائهم، فماذا يفيدنا اشتراكنا في هذا الفسق والمجون؟ وما معنى إقبال كثير من شبابنا وفتياتنا على هذا التشبه المذموم؟ وقد قال نبينا ﷺ: من تشبه بقوم فهو منهم[رواه أبو داود برقم (4031)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6149).]، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع"، فاليهود لهم أعياد، والنصارى لهم أعياد، والبوذيون لهم أعياد، والهندوس لهم أعياد، أعياد خاصة، هذه من خصائص الأمم المرتبطة بالأديان.
"ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة"[اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/208).]، وقال ابن القيم رحمه الله: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس" هل يجوز إذا رأيت أحداً زنى تقول: مبارك عليك الزنا؟! مبارك عليك السكر؟! مبارك عليك الخمر؟! قال: "وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام، ونحوه، وكثير ممن لا قدر لدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية، أو بدعة، أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه"[أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/441).]، وقد نقل الاتفاق بين علماء الإسلام على ذلك.
ويأتي بعد ذلك من المتساهلين، وأهل التمييع، والذين يريدون أن تذوب الشخصية الإسلام، وألا يكون لنا هوية مستقلة، وأن ندخل غيرنا في ركابهم، ثم يقول: لا حرج في تهنئتهم، ولا حرج في الاحتفال معهم، ونحو ذلك.
عباد الله: المجاملة لها حدود، أنت يمكن أن تهنئ كافراً بولادة ولد، ترقية وظيفة، تخرُّج؛ لأنها مناسبات دنيوية، ولادة ولد، تخرج من جامعة، ترقية في وظيفة، مناسبات دنيوية، تهنئه بها، وإذا لم يكن محارباً فإن من البر الذي لم ينهنا الله عن هذه التهاني المباحة لغير المسلمين، لكن قضية الأعياد قضية دينية عقدية، وليست قضية دنيوية.
ماذا نفعل في نهاية السنة الهجرية؟
بعض المسلمين المتحمسين يريد أن نواجه قضية الاحتفالات بأعياد الميلاد باحتفالات مقابلة لرأس السنة الهجرية، فيريد أن يكافح البدعة بالبدعة، ويواجه المحرم بمحرم آخر، فإن نبينا ﷺ لم يحتفل برأس السنة الهجرية، ولا خلفاؤه من بعده، ولا جعلوها عيداً، ما جعلوا واحد محرم عيداً يحتفل به، ويُظهر به الفرحة والسرور، ويجتمع الناس، ويوسع فيه على العيال في المآكل والمشارب في رأس السنة الهجرية، ولذلك فإن جعل رأس السنة الهجرية عيداً هو محرم آخر، ولذلك فإن المسألة يجب أن تنضبط بالشرع، وبعض الناس أيضاً يتجاوزون في رسائل الجوال، فيقول: اختم عامك بصيام، فإذا كان نهاية هذا العام الهجري -مثلاً- يوم اثنين؛ قالوا في بعض الرسائل: اختم عامك بصيام الاثنين، ونحو ذلك، وهذه بدعة أخرى، وممنوع آخر من الممنوعات؛ فإننا نصوم الاثنين لفضل الاثنين لا لأنه نهاية العام، ونصوم الخميس كذلك، ونستغفر الله في كل يوم لا تخصيص لنهاية العام بالاستغفار؛ لأن المسلم يستغفر الله باستمرار ليس في نهاية العام، وبداية العام الهجري، واحفظوا هذه القاعدة: "بداية العام الهجري لا ترتبط به عبادة معنية"، "نهاية العام الهجري، وبداية العام الهجري لا ترتبط به عبادة معنية" لا استغفار، ولا صيام، ولا غيره، يوم كأي يوم من الأيام، فإذا كانت الاثنين صمناه؛ لأنه اثنين -كما نصوم في غيره-، فيجب على المسلم أن يفقه دينه.
والإشكال الذي حصل عند بعض الناس، وبناء عليه أرسلوا رسائل الجوال أنهم ظنوا بأن نهاية العام تعرض فيه الأعمال على الله، ولذلك لابد من معرفة مسائل العرض على الله، متى تكون؟ لقد دلت الأدلة على أن أعمال العباد ترفع للعرض على الله أولاً بأول، في ثلاثة أنواع من العرض: العرض اليومي، ويقع مرتين كل يوم، قال ﷺ: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل[رواه مسلم برقم (179).]، قال النووي رحمه الله: "الملائكة الحفظة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل"[شرح النووي على صحيح مسلم (3/13).]، وهذا معنى حديث: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر[رواه البخاري برقم (555)، ومسلم برقم (632).]الحديث، قال ابن حجر رحمه الله: "فيه أن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه، وفي عمله"[فتح الباري لابن حجر (2/37).].
العرض الثاني هو العرض الأسبوعي، ويقع مرتين في الأسبوع أيضاً، قال ﷺ: تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد مؤمن إلا عبد بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا[رواه مسلم برقم (2565).]أي يرجعا إلى الصلح، رواه مسلم.
العرض الثالث العرض السنوي، ويقع مرة واحدة في شعبان، كما جاء في أسامة بن زيد: "قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان! قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"[رواه النسائي برقم (2357)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/247) رقم (1022).]رواه النسائي، وغيره، وهو حديث حسن.
فهذا يدل على أن الرفع السنوي في شعبان، ولم يرِد في الكتاب، ولا في السنة أن هنالك رفعاً للأعمال في نهاية العام الهجري، أو بداية العام الهجري الجديد، ولذلك فإنه يمر كغيره من الأيام، وبناء عليه فإن تخصيص آخر يوم من السنة الهجرية بعبادة هو بدعة من البدع، فينبغي الانتباه والحرص حتى لا يشيع المسلم -بحماس- شيئاً بغير دليل.
اللهم فقهنا في ديننا، وارزقنا العمل بسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك الثبات على الدين، اللهم ثبت أقدامنا على دينك يا رب العالمين، واغفر لنا، ولآبائنا، وأمهاتنا يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم إنا نسألك مغفرة من عندك، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تلم بها شعثنا، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتشفي مرضانا، وترحم موتانا، يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً يا أرحم الراحمين، اللهم اسق عبادك وبلادك، وأحي بلدك الميت، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق، اللهم إنا نسألك الفرج والرحمة للمسلمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم ارحم هذه البلاد والعباد بسُقيا رحمة من عندك، اللهم إن نسألك الفرج العاجل لهذه الأمة، وللمسلمين عامة يا أرحم الراحمين، ارفع عنا الغلاء والوباء والبلاء يا سميع الدعاء، اللهم ثبت علينا الأمن والإيمان، اللهم من أراد بلدنا هذا بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، ومن أرد أن يخل بإيمان الأمة وأمنها؛ فابطش به، اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم تب علينا يا رب العالمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.