الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
نعمة الماء
الحمد لله باسط اليدين بالعطايا، كثير البركات والهدايا، يرسل الرياح مبشرات بالخير والرزق والأمطار، الحمد لله الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُالشورى:28.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى الأعلى:4-5.
وأنزل من السماء ماءً فأنبت به الأرض بعد موتها، نحمده على نعمه، ونشكره على جوده وفضله، فهو يجيب من دعاه، ويسقي من استسقاه، سبحانه ما أحلمه على عباده، وما أكرمه وشرهم إليه صاعد، وخيره إليهم نازل، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له رحيم غفور حليم شكور، هذا الماء الذي خلق الله منه الحياة، فهو أصلها وأساسها، وضرورة من ضروراتها، فإذا امتنع نزل الضرر بالناس والبهائم، فكم من هذه النعمة من فائدة وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّالانبياء: من الآية30.
وهو فرحة للناس بعد جدبهم، فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَالروم: من الآية48.
فهو سبب رزقهم، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْالبقرة: من الآية22.
وهو سبب لإحياء الأرض، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاالبقرة: من الآية164.
وهو سقيا للناس، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌالنحل:10.
وهو صحة الأجواء، وطرد الأدواء.
وهو الغيث، يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُالشورى:28.
وهو ماء طهور، وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراًالفرقان: من الآية48.
وهو مطهر وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِالأنفال: من الآية11.
وهو بركة، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاًقّ: من الآية9.
وهو عذب، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًاالمرسلات: 27.
يصب صباً من رحمة الله على عباده دون مقابلٍ منهم، وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاًالنبأ:14.
حتى إذا أخذت الأرض منه حاجتها، وأقلع عنها ظهرت خيراتها، واكتنزت للناس سقياهم، فيحفرونها لحاجتهم، وتخرج منه الحبوب والثمار والخضار، ولو دام الصحو لغيض الماء وانقطعت العيون والآبار، وعظم الضرر وجفت الأبدان، وكثرت الأمراض، وهذا الماء يكون منه أيضاً تارةً أخرى عقاب وعذاب، عذّب الله به أقواماًَ، فأغرق به قوم نوح، فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَالقمر 8-12.
الْمَاء : ماء السماء وماء الأرض .
وعذب به أيضاً قوم عادٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍالاحقاف:24-25. فظنوه مطراً فإذا هو ريحٌ عاتية.
وأما قوم لوط فقد أمطر عليهم مطراً حجارةً من سجيل، وأما قوم فرعون فقد أغرقهم في البحر فانطبق ماؤه عليهم، وأما سبأ فلما اعرضوا أرسل الله عليهم سيل العرم، ففاض عليهم، فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَاالعنكبوت: من الآية40.
فهذه الأمطار قد يهلك به أقوام، ويكون منها أمواج البحار العاتية المغرقة، وكذلك الفيضانات والسيول التي تأتي على ما تأتي عليه فتبتلع ما يكون في طريقها.
آداب وأذكار عند نزول المطر
وقد كان في الشرع آداب لنزول المطر، فإذا اشتدت الريح ينبغي أن يتذكر العبد عقاب الله، فيسأله الرحمة، قالت عَائِشَة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَامسلم (899).
كان النَّبِيّ ﷺ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقِ السَّمَاءِ [سَحَابًا لَمْ يَتَكَامَل اِجْتِمَاعه] تَرَكَ الْعَمَلَ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا فَإِنْ مُطِرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًاأحمد وأبو داود (5099) وصححه ابن حجر والألباني.
ومن السنة التعرض للمطر بالبدن، قَالَ أَنَسٌ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِﷺ مَطَرٌ، فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ ثَوْبَهُ [كَشَفَ بَعْض بَدَنه] حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا ؟قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَىمسلم (898).
ومن الأذكار الواردة عند نزوله أن يقول: اللهم صيبًا نافعًاالبخاري (985).
صيباً : هنيئاً نافعاً - يعني غير ضار، وكان ﷺ يقول أيضاً إذا نزل المطر : (رحمة) مسلم (899).، وكان يقول: مطرنا برحمة الله، وبرزق الله، وبفضل اللهالبخاري (3916).
وهو – أي نزول المطر – من مواطن الإجابة في الدعاء، قال ﷺ: ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطررواه الحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 3078).
قال المناوي : أي لا يرد أو قلما يرد فإنه وقت نزول الرحمة.
وإذا كثر المطر وخشي التضرر به: فإنه فيقول: اللَّهُمَّ حَوْالَينَا وَلا عَلَيْنَا، وهذا يسمى عند العلماء بدعاء الاستصحاء، يعني إيقاف المطر وانكشاف السحاب، فتوقف المطر وانكشاف السحاب وإقلاعه هو الاستصحاء ودعاؤه: اللَّهُمَّ حَوْالَينَا وَلا عَلَيْنَا.
ويقول أيضاً: اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ [الهضاب]وَالظِّرَابِ [الجبال] والآجام [منابت الشجر] وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِمتفق عليه .، اللَّهُمَّ حَوْالَينَا وَلا عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ والآجام وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِمتفق عليه .
ولذلك لم يدع برفع المطر مطلقاً، وإنما دعا بتحويله إلى غير أماكن الناس، لأنها إذا نزلت عليهم فكثرت تؤذيهم، فدعا أن يتحول إلى أماكن النبات، ومستودعات المياه الجوفية، وهذا المطر في نزوله توحيد، فإنه نازل من عند الله تعالى، والله تعالى فوق السماوات، وهذا المطر ينزل من جهة العلو، لا منةَّ فيه للعباد.
الاستمطار وتنبؤات الطقس
وما يقولونه من الاستمطار مبالغات، وبعضه لا يحدث إلا بظروفٍ معينة وبعضه يحدث ضرراً، وتدخل الإنسان في الطبيعة كثيراًَ ما يكون ضاراً عليه، ويتحدث بعض البشر من غرورهم العلمي، على قضية إنشائهم للسحاب الممطر أو تفريق السحب حتى لا تمطر، وكلاهما لا يقدرون عليه، وما يتحدثون عنه من الاستمطار إن صح فهو في ظروفٍ مقيدةٍ جداً، وإلا فإنهم لا يستطيعون إذا كانت السماء صحواً، أن يجمعوا السحاب ويجعلوه يمطر، لا يمكن للبشر مهما كان عندهم من القوة أن يأتوا إلى سماءٍ صحوٍ ليس فيها سحاب، فيسوقون إليها السحاب الثقال المحملة بالماء، ويجعلونها تمطر كما يريدون، فهذه من أفعال الله تعالى، فهو الذي يسوق السحاب الثقال، وهو الذي يجعل الريح تهب فتأتي بهذا السحاب إلى المكان الذي يريده ، فيمطر بالقدر الذي يريده ، فيمطر بالقدر الذي يريده ، ونسبة المطرإلى الأنواء ومنازل القمر كثيرة في كلام الناس، وحكمه بحسب قصد القائل ونيته، فإن قال: مطرنا بالنوء الفلاني يقصد به نسبة الإيجاد، يعني أن النجم هو الذي أوجد المطر وأنزله فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة، لأن هذا من أفعال الله فقط من توحيد الربوبية، فكيف ينسبه إلى نجم، وإن كان نسبة سبب فهو لا يقول: أن النجم ينزل الغيث، ولكن سبب لنزول الغيث، فهذا شرك أصغر لأنه جعل ما ليس بسببٍ سبباً، وهذا معنى حديث: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ متفق عليه.، وأما إذا قال: لا أقصد نسبة الإيجاد والخلق ولا أقصد نسبة السبب، ولكن أقصد نسبة الوقت، يعني توقيت المطر بالموسم الفلاني، فهذا لا حرج فيه لأن معناه: جاءنا المطر في وقت كذا، ووسم كذا، فهذا جائز ولا حرج، وأما تنبؤات الطقس والتوقعات المبنية على دراسات لصور الغيوم وسمكها ومعرفة حركة الرياح وسرعتها واتجاهاتها، فهذا لا حرج فيه، لأنها توقعات، والله جعل في الكون سنن، وهي تعمل بأمره سبحانه، وهي تطّرد في كثير من الأحيان لكنها تفاجئ الناس في أحيانٍ أخرى، ولذلك يقولون : الفرصة مهيأة لنزول الأمطار، فهذا لا حرج فيه، يتوقع نزول مطرٍ بإذن الله، فهذا لا بأس به، مبني على علوم العباد باتجاهات الرياح، وصور الغيوم، وأنواع الغيوم، وهكذا.
ولذلك يقولون في كثيرٍ من الأحيان : اليوم الفلاني ممطر ولا يمطر، ويقولون يوم مشمس وتمطر، وفي كثيرٍ من الأحيان دراساتهم تؤدي إلى توقعات صحيحة، توافق قدر الله ومثل هذه التوقعات لا حرج في الأخذ بها؛ لأن الغالب مما يمكن أن يُبنى عليه ويؤخذ به ولا عيب في هذا ولا حرمة، وأما التعيين والتأكيد فغيب لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِلقمان: من الآية34.، وقال ﷺ: وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ..البخاري (7379).
قال ابن حجر -رحمه الله-: وَفِيهِ رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِنُزُولِ الْمَطَر وَقْتًا مُعَيَّنًا لَا يَتَخَلَّف عَنْهُ . فتح الباري.
إذاً من قال: لا بد أن ينزل، وفي الوقت الفلاني لا بد أن ينزل، فهذا تخرص، وقد يكون كلامه موافقاً لقدر الله بنزول المطر، وقد يكون مخالفاً لقدر الله بعدم نزول المطر، فالجزم لا يعلم به إلا الله، الجزم عند الله، وأما التوقعات فتصيب وتخطئ، وقد يتوقعون أمطاراًَ رعدية ولا تكون رعدية، وقد يتوقعون أمطاراً عادية وتكون رعدية، وقد يتوقعون أمطاراً كثيفة وتكون شحيحة، وقد يتوقعون أمطاراً قليلة وتكون غزيرة، وقد يتوقعون المطر فلا ينزل، ولا يتوقعونه فينزل، وهذا مشاهد، يقولون: هنا نحذر من من نزول الأمطار في الوقت الفلاني فلا يكون شيء، فإذاً الجزم عند الله، والتوقعات لا بأس بها للبشر، وبناء الاحتياطات عليها لا حرج فيه، لأن العمل بالظن الغالب مما جاءت به الشريعة، وطلب المطر من الله، وهذا معنى الاستسقاء، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيئًا مَرِيعًا [مُخْصِباً، يَنْبُت به نَبَات الربيع ]،نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ ، عَاجِلا غَيْرَ آجِلٍأبو داود (1169) وصححه الألباني.
فانظر إلى قوله ﷺ: نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ؛ لتعلم من الواقع الحكمة الإلهية فيما أوحى إلى نبيه من هذه الكلمات التي فيها رفع الضرر عن الناس، فإن المطر في المدن كثيراً ما يؤذي، وكذلك أحياناً في البادية يقطع السبل (الطرق) ويتلف الأموال، ولذلك جاء الأعرابي من الأسبوع الثاني يقول : ادعوا الله أن يحبسه، والله ينزل المطر أحياناً ولا تنبت الأرض، وهذا هو الجدب الذي أخبر عنه النبي ﷺ، فقال: ليست السَّنةُ [ أي: القحط] بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تُمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً مسلم (2904).
أحكام الصلاة وغيرها في المطر
ولا يجوز سب المطر، فهو من خلق الله تعالى، وللمطر أحكام في العبادات، فماءه وثلجه وبرده طهور يرفع الحدث ويزيل الخبث، وهو طاهر مطهر، والوضوء به صحيح، وتطهير الأرض المتنجسة بماء المطر حاصل صحيح، وكذلك فإن طين الشوارع والمياه المستنقعة بعد الأمطار الأصل فيها الطهارة، ولو أصابه وهو ذاهب إلى المسجد شيء من وحلٍ وطينٍ فلا يجب غسله، لأن الأصل الطهارة، فإذا اختلطت به نجاسة، فإن عرفت النجاسة بلونٍ أو ريحٍ ونحو ذلك حكمنا بها، وإلا فما زال الأصل الطهارة، وترك الجماعة بعذر المطر إذا اشتد فصار مؤذياً، ولا يتمكن معه من الذهاب إلى المسجد هو عذر شرعي، وهو الذي ينادى عنده الصلاة في رحالكم، ولهذا كيفيات، فوردت روايات بجواز قولها بعد الحيعلتين وبعد الانتهاء من الأذان كله وبدل من الحيعلتين كما جاء عن ابن عباس ، فلو كان شديداً جداً بحيث لا يتمكنون من الذهاب، يمكن أن يقول المؤذن بعد الأذان صلوا في رحالكم، أو أن يقولها بعد الحيعلتين أو بدلاً منها، صلوا في رحالكم.
وقد أجاز أهل العلم الصلاة داخل السيارة إذا لم يتمكن من الخروج منها، كما وقع ذلك في هذه السيول التي حاصرت السيارات، فربما لا يتمكن الناس من الخروج منها، وقد يتمكن من الصلاة على سطح السيارة، وقد لا يتمكن، ومن عجز عن الركوع والسجود على الأرض يقوم عليها ويجعل ركوعه أقل إيماءً من سجوده، ويجعل السجود أخفض من الركوع، فقد يتمكن من الصلاة في الأرض وما حوله طين ووحل، لا يستطيع السجود عليه، وقد يستطيع الركوع دون السجود، وهذه الأحوال نادرة ولكنها تحصل، وقد رأى الناس من السيول أمراً عجيباً، والصلاة في مثل تلك الأحوال جمعاً وجيه، فماذا تقول في حال ذلك الرجل الذي جرفه السيل فيسر الله له شجرة تعلق بها، عشر ساعاتٍ لا يستطيع مفارقتها، وهو يرى أمامه الجثث تتابع في السيل والسيارات وهي تتقاذف بها الأمواج، وهم يستنجدون فلا ينجدون، فيرفعون أياديهم وأصابعهم بالشهادة قبل الموت وهم ذاهبون، فمثل هذا كيف يصلي، على حسب حاله، قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن: من الآية16.
ولا حرج في هذا الدين والحمد لله رب العالمين، وإذا صار المطر يبل الأرض والثياب، جاز الجمع في المساجد، فيجمعون وكذلك إذا صار الوحل محيطاً بالمسجد لا يستطيع إتيان المسجد إلا بالخوض في الوحل، فهو جمع ولو توقف المطر، وكل أهل حيٍ وجماعة مسجد بحسب حال مسجدهم، فربما يوجد تصريف في حي ولا يوجد في آخر، والأصل في جواز الجمع بين الصلاتين في المطر أن يستمر المطر بعد الأولى إلى الشروع في الثانية، ويكون مطراً يبل الأرض والثياب، وهذا المطر له تأثير في أحكام الزكاة، فقد قال ﷺ: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا [يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْي]الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ [أي السقي بالإبل أو البقر التي تجر بالدلاء]نِصْفُ الْعُشْرِ البخاري (1483).
وإذا كان في بعض السنة هكذا وبعضها هكذا فثلاثة أرباع العشر، وكذلك فإن المتضررين من الأمطار والسيول الذين ذهبت ممتلكاتهم كما حصل في سيول جده مثلاً فقد ذهب لبعض الناس البيت والسيارة والأثاث والثياب وبطاقة الصراف وإثبات الشخصية فلم يعد يملك شيئاً، حتى ما يثبت أنه فلان، وقد أخبر النبيﷺ أن الرجل إذا أصابته جائحة في ماله فيجوز له أخذ الزكاة حتى يصيب قواماً من عيشٍ أو سداد من عيش، وقال مُجَاهِدٍ قَالَ: ثَلاَثَةٌ مِنَ الْغَارِمِينَ: رَجُلٌ ذَهَبَ السَّيْلُ بِمَالِهِ .مصنف ابن أبي شيبة (3/207).
ويجوز الاستظلال من ماء المطر بملك الغير دون أذنه، يعني كمثل شرفته وهو في الشارع تحت الشرفة مثلاً، أو تحت سقف الباب وأحكام المطر كثيرة ومنها أن من عجز عن المبيت بمنى بسبب مطرٍ شديدٍ سقط عنه، وإذا عجز عن الرمي في يومٍ لشدة المطر إذا استمر فإنه يجمع مع اليوم التالي، وهكذا له أثر أيضاً في البيع وله أثر أيضاً في أحكامٍ متعددة، وإذا انزلقت السيارة بسبب المطر فقتلت، فلا اثم على صاحبها، لكن عليه الضمان حال التلف، وهذا قتل خطأٍ لا أثم فيه وعند نزول المطر ينبغي قيادة السيارات بهدوءٍ وروية، لأن التعجل في ذلك قد يؤدي إلى قتلٍ يشبه العمد، لأنه نوع من التهور.
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك، وأن تغيثنا بغوثك، وأن تنزل علينا بركاتك، علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا هاديين مهديين، اللهم اغفر لنا اجمعين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الكبير المتعال، الحمد لله، مكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، وهو الواحد القهار، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم لا يموت والجن والأنس يموتون، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
بيان الأدلة المحكمة في منع الاختلاط
لما كان أهل الشر والفساد وأهل النفاق أهل شهوات، يريدون أن يجتاح المجتمع هذه الشهوات، ويريدون تخريب المجتمع الإسلامي، فرسم لهم سادتهم في الغرب السبل التي يسيرون عليها في إفساد المجتمعات المسلمة، وعندهم خطة عليها يسيرون، وبها يتقيدون، وإليها يسعون، وعلى أحسن أحوالهم فهم مفتونون بقومٍ ظنوا أن التقدم مثلهم في الدنيا لا يحصل إلا بتحرير المرأة من الشريعة، وإخراجها من الحجاب، وإخراجها من البيوت، وإخراجها عن الأحكام كالولي والمحرم، وهكذا فهم يسعون إليه دائبين، بالليل والنهار، سراً وجهراً، وما فتئوا في مقالاتهم وكلامهم يريدون تحقيق هذا الغرض، ويستعينون على ذلك بكل شيطانٍ مريد، وبكل مخدوعٍ ومغمّاً عليه، ويعلمون بأن المسلمين لا يمكن حملهم على هذا إلا باستعمال شيءٍ من النصوص الشرعية، فيأتون ببعض النصوص يحتجون بها على جواز ما يريدونه، وهذه النصوص أما أن تكون منسوخة، فنحن نعلم بأن الحجاب لم يكن مفروضاً في العهد المكي كله، ولم يكن مفروضاً في سنوات من أول العهد المدني، وبالتالي كان الرجال يدخلون ويجتمعون بالنساء فنزلت أوامر في سورة الأحزاب وفي سورة النور وفي غيرها من السور تنظم حياة المرأة والعلاقة بين الجنسين في الإسلام، فيأتي هؤلاء إلى نصوصٍ كانت في عهدٍ ما قبل نزول الحجاب مثلاً فيحتجون بها، وليست موضع احتجاج لأنها منسوخة، أو يأتون إلى نصوصٍ خاصةٍ بالنبي ﷺ ليست لغيره، فيطردونها على الجميع ويحجتون بها، أو يأتون إلى نصوصٍ موهمة، يعني من المشتبهات، وقال الله تعالى: أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌآل عمران: من الآية7.
يعلمها أهل العلم فيردون المتشابه إلى المحكم فيتبين المتشابه، مثلاً أن النبي ﷺ كان يختلف إلى فلانة فينام عندها فتفلي رأسه وشعره وتنقيه له، تنقي له شعره، فيمكن أن يحتج بها هذا الشيطان الإنسي على جواز أن يذهب الرجل للمرأة الأجنبية وأنه يضطجع عندها لتفلي له شعره، فإذا دقق الباحث وجد أن بين هذه المرأة وبين النبي ﷺ محرمية، أو وجد أن ذلك من الخصوصيات النبوية أو مما كان في وقت مضى قبل نزول حكم شرعي، ومن هذا كثير يلبسون به اليوم فيما ينشرونه على الناس في أحكام الاختلاط وغيره، مع أن مريد الحق لو تأمل في النصوص الشرعية لعرف مراد الله، وماذا استقرت عليه الشريعة بل سيعرف منه سير بعض الصالحين وأمم ماضية ماذا كان عليه الأمر، وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌالقصص : 23.، تذدوان : تذدوان الغنم ولا تختلطان بالرعاة ولا تختلطان بالرجال.
فلماذا لم تختلطا بالرجال في العمل، لماذا لم تختلط المرأتين بالرجال أثناء القيام بالعمل، وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ بعيدتين عن الرجال تذدوان الغنم لأنها تختلط بأغنام الرعاة، منفصلتين عن الرجال، قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ويبتعدوا.
وإذا جئت إلى كتاب الله تعالى عن هذه الأمة قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍالأحزاب: من الآية53.
وهذا يشمل حجاب الجدار وحجاب القماش واللباس، فلو كان الاختلاط صائغاً ما اشترط هذا الحجاب، لماذا قال الله تعالى في كتابه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّالأحزاب: من الآية33.
وأمر المرأة بلزوم البيت إلا للحاجة، فلو كان الشرع يريدها خراجة ولاّجة تخرج دائماً من البيت لكي لا يبقى نصف المجتمع معطل، ولكي تنتج دائماً مع الرجل يداً بيد، لماذا قال لهن: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، لماذا فضّل الشارع للمرأة أن تصلي في بيتها، قال: وأفضل صلاة المرأة في بيتهاأبو داود.
ولماذا جعل صفوف النساء خلف صفوف الرجال، لو كان الاختلاط جائزاً لسمح به في هذه الأماكن الفاضلة فيصلي الرجل بجانب المرأة والمرأة بجانب الرجل، وتجلس المرأة في المجلس بجانب الرجل والرجل بجانب المرأة، ويقال: لا تمسه ولكن تجلس بجانبه تجلس أمامه تجلس عن يمينه وعن شماله، لأن الاختلاط جائز، فلماذا فصل الشرع الرجال عن النساء في المساجد، ولماذا كان النبي ﷺ لا ينفتل من صلاته حتى يذهب النساء، يمكث حتى ينصرف النساء ثم ينفتل، لماذا جُعل شر صفوف الرجال آخرها، وشر صفوف النساء أولها، مع الانفصال! لماذا خصص النبي ﷺ باباً خاصاً في المسجد بالنساء، إذا كان الاختلاط جائزاً فليدخل الرجال والنساء من نفس الباب، لماذا قال ﷺ للنساء لما رأى الاختلاط خارج المسجد، اختلط النساء بالرجال عند الخروج، قال: استأخرن فليس لكن أن تتحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق. السلسلة الصحيحة.
لماذا قال ﷺ لأم سلمة: طوفي من وراء الناس وأنت راكبةالبخاري.، قال النووي سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف، قال عطاء: كانتْ عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال (مُعتزلة ، لا تخالطهم).
ولما بلَغ عائشة أنَّ مولاتها استَلَمَتِ الركنين مرتين أو ثلاثًا، قالتْ: لا آجرك الله، لا آجرك الله تُدافعين الرجال، ألا كبَّرْتِ ومَرَرْتِ.
لماذا نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، وجعل النساء يطفن من وراء الرجال.
لماذا لما قالت النساء للنبي ﷺ: غلبن عليك الرجال، جعل لهن موعداً في بيت فلانة يأتيهن فيه، لماذا لم يخلطهن مع الرجال، والنصوص كثيرة في هذا، فيترك أهل الشر والنفاق والفساد والشهوات وأذنابهم وأعوانهم، والمستأجرون من قبلهم، كل هذه النصوص، ويعمدون إلى نصوص أخرى مما نُسخ أو هو من خصوصية النبي ﷺ أو مما هو من المتشابه الذي يعرف أهل العلم كيف يوجه، يتركون المحكمات ويذهبون إلى المنسوخات والمخصوصات فيريدون اتباعها، ثم يعمدون إلى أشياء لا يمكن تلافيها، والشريعة ليس فيها حرج لا تحرج الناس، فالذي لا يمكن تلافيه يقال للمرأة فيه: احتجبي حجاباً كاملاً و لا تختلي بالرجل، ومعها محرمها في السفر، فيقيسون ما يمكن فصله كما فعل ﷺ على ما لا يمكن كالسوق والحج الشديد الزحام، هذه طرق أهل الفتنة، يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، ويقيسون للناس قياسات وتعليلات.
عباد الله: نحن نحتاج اليوم إلى فقهٍ كثير وصبرٍ عظيم على التمسك بالدين، ونحتاج إلى الأخذ بما عرفناه من الكتاب والسنة وكلام أهل العلم الثقات، وهذه الشريعة إلى قيام الساعة، ولا يمكن أن يقال: تغيرت اليوم الأحوال فتغيرت الأحكام وكل هذه الأشياء كانت فيما مضى والآن دين جديد، كلا والله.
اللهم إنا نسألك أن تثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أحينا مسلمين وتوفنا مؤمنين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم إنا نسألك النصر لجنود التوحيد على أهل البدعة والمشركين، اللهم إن إخواننا الذين يقاتلون على الحدود يقفون في وجوه أهل البدعة فانصرهم عليهم أنك على كل شيءٍ قدير، وأحفظهم بحفظك، اللهم اكلأهم برحمتك، اللهم أنزل عليهم نصرك وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم عاجل المنافقين بنقمتك، واقطع دابرهم وكفّ شرهم يا أرحم الراحمين، اللهم انصر أهل التوحيد والفضيلة، واقمع أهل الشرك والبدعة والرذيلة، واقطع دابرهم واخزهم واكبتهم واجعلهم عليهم نكالاً وعاراً في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، اللهم احفظ مجتمعنا هذا بحفظك، اللهم اجعلنا بهذا الدين مستمسكين، واجعلنا على الفضيلة والحق قائمين يا أرحم الراحمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.