الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
رمضان مدرسة التقوى
فإن الله وهو الرحيم بعباده الكريم المتفضل عليهم قد شرع لهم من العبادات ما يكون فيه حياة قلوبهم، ونور أبصارهم، وهذه الحياة في القلب هي التقوى التي يعيش بها ذلك الملك الذي يأمر الأعضاء، فقال تعالى في حكمة فرض الصيام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة183هذا الجوع والعطش يا عباد الله ليس لله فيه حاجة: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْسورة الحـج37 فإن تعبت في نهار رمضان، أو عطشت فيه، وأصابك الجهد، فتفكر يا عبد الله في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك من كسر حدة النفس، وسورتها، وتربيتها على الجوع، وتحمل العطش، ومقاومة انفعالات النفس، عندما تسيطر عليها بعدما سيطرت عليك مراراً، تفكر في نفسك عندما تغلبها وقد غلبتك تكراراً، وهذه التربية في الصيام في تحكم المسلم بنفسه تربية عظيمة تسمو بها، وترتقي، وكذلك تقف عند حدها، فهذه الشهوة المضطرمة وهذه الغريزة المستعرة والتي تتأجج بفعل كثير من هذه المرئيات، إنها اليوم تحت السيطرة، فيمن رزقه الله تعالى الصيام حقيقة، فهو يتحكم في شهوته ويتحكم في نفسه، وهو يقاوم إبليس وأعاونه الذين يريدون إفساد هذا الصيام، إنه طريق -أي الصيام- عريق في البشرية.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْسورة البقرة183إنك عندما تصوم تتفكر في ذلك المعشر الكريم من البشرية في سيرها إلى الله عبر القرون والأجيال، وهي لا تخلو من وجود أمة قائمة لله صائمة قانتة عابدة فيتصل معك الحبل بالحبل، والعبادة بالعبادة، عبادة الأولين بالآخرين، أولئك الكرام الذين سبقوا فصاموا: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ.
إنها مدرسة التقوى التي يتخرج منها المسلم وهو أقرب إلى الله، يتلو كتابه في هذا النهار، ويقوم به في هذه الليالي، عبادة في إثر عبادة، تنوع بين فعل وترك، تترك المطعومات والمشروبات والنكاح، وفعل في صلاة، وذكر، ودعاء، وتلاوة، إنه القرب من الله بأنواع العبادة.
فوائد الزكاة وشيء من أحكامها
ثم إن كثيراً من الناس قد تعودوا إخراج زكاتهم في رمضان فيأتي البذل والإحسان في هذه الزكاة التي نجود بها لله تعالى؛ ولذلك من أراد بها وجه الله فأولئك هم المضعفون، يضاعف لهم الأجر، ربنا كريم منان، واسع العطاء لا ينفد ما عنده: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍسورة النحل96، هذه الزكاة التي هي طهارة، ونماء، وزيادة، وبركة، فلو نقص المال عددياً لكنه يزيد بالبركة، فيكفيك الأقل منه ما لم يكن يكفيك قبل إخراج الزكاة، ولذلك عندما يقول العلماء: الزكاة زيادة بركة، فيقول هذا: صارت الألف بعد إخراج الزكاة تسعمائة وخمسة وسبعين فأين الزيادة؟ الزيادة أن يبارك لك في المال لا تذهبه أشياء من أبواب الصرف التي كانت تذهبه قبل إخراجها، يكفيك منه ما لم يكن يكفيك قبل إخراج الزكاة، تقنع نفسك بما بقي من المال بعد إخراج الزكاة ما لم تكن تقنع من قبل، والغنى غنى القلب، أما الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، ويضعونها في الأرصدة في الداخل والخارج فبشرهم بعذاب أليم، حدثوا عن زكاة أرصدة العرب في سويسرا وأمريكا فقط أنها تبلغ خمسين ملياراً من الدولارات، وفي الخليج سبعاً وخمسين ملياراً، هذه الزكاة فما بالك ببقية الزكوات في أنحاء العالم الإسلامي الأخرى لو أخرجت، هناك ملايين عندهم الملايين لو أخرجوها حقاً، كم وكيف سيكون الحال؟ كم سيغتني بها من المسلمين؟ وبعض المصادر تقدر ما يخرج من الزكوات حقيقة في أموال المسلمين في العالم بأنه لا يتجاوز عشرة في المائة، فلو أخرجت التسعون الباقية كيف سيكون الحال؟ ولو وجهت لكي تكون في مصارفها التي أرادها الله ليست إنفاقاً عشوائياً، ولا محاباة، ولا وضعاً في غير مواضعها الشرعية كيف سيكون الحال؟
عباد الله: نجد هذه الزكاة على المال سواء كان صاحبه بالغاً، أو صغيراً، عاقلاً، أو غير عاقل، إنها مرتبطة بالمال، الزكاة حق المال، والتكاليف الشرعية تطلب عادة من المسلم البالغ العاقل، لكن هنالك تكاليف مرتبطة بأمور معينة كهذه الزكاة، ولذلك جمهور الفقهاء على أن الزكاة تجب في أموال اليتامى، والصغار، والمجانين ذكوراً، وإناثاً، ويتولى الولي الإخراج، فما أعظم الأمانة المناطة بعنق هذا الولي.
هذه الزكاة من رحمة الله إنها ليست في جميع أنواع الأموال وكل الممتلكات، بل إنها في ما ينمو حقيقة أو تقديراً، فيما ينمو حقيقة مثل الزرع، وبهيمة الأنعام تنمو بالتناسل، والتجارة يتولد بعضها من بعض وتنمو، وأما ما ينمو تقديراً فهي الأموال الموجودة ولو كانت أي النقد الذهب والفضة والأوراق المالية ولو لم يكن يشغلها لكنها تنمو بتقليبها، يعني: لو قدر أنه نماها لنمت، يعني: أنها أصل تنمو به من تلقاء نفسه بالتقليب والتحريك، متى شاء اتجر بها، وفي هذا حكمة ألا تبقى الأموال راكدة؛ ولذلك تجد بعض الناس عندما يضعون أموالهم في المصارف يقولون للمصارف: ما عندكم صناديق استثمارية تجيب حتى ولو الزكاة اثنين ونص في المائة؛ لأن هاجس تقليب المال وتحريك المال لزيادته تحركه وتدفع عليه هذه الزكاة، فهذه الزكاة حقيقة فيها نهضة اقتصادية تدفع إلى تحريك الأموال، هذه الزكاة فريضة من الله، ومع ذلك نجدها لا تكون في حوائج الإنسان الأساسية مثل دور السكنى، وأدوات الحرفة، وآلات الصناعة، ووسائل الانتقال، فمهما كان عندك من السيارات المعدة لتنقلك، والبيوت المعدة لسكناك، وسكنى أولادك، وأهلك، وأضيافك، وأدوات الحرفة، ونحو ذلك من الأشياء التي ليست معدة للبيع فلا زكاة فيها، فلا زكاة فيما أعده الإنسان لحاجته من طعام، أو شراب، أو مسكن، أو ملبس، إلا زكاة الحلي التي وقع فيها الكلام من أهل العلم لأنها ذهب أو فضة، ولذلك الحلي الآخر كالبلاتين، والألماس، ونحو ذلك لا زكاة فيه إلا إذا أعد للبيع.
ونجد أن هذا المال الذي تجب فيه الزكاة لا بد أن يكون له مالك معين، فلو كان لا مالك معين له؛ كأموال الأوقاف، وصناديق البر، وأموال الجمعيات الخيرية، وثلث الميت الذي أوصى به ومات، فبقي ثلثه من بعده ينمى، أو يصرف منه، فلا زكاة فيه إذا حال الحول، وهكذا نجد أن من رحمة الله أن المال المفقود لا زكاة فيه؛ كالضائع، والمحبوس غير المقدور على التصرف به، المصادر، الموضوعة عليه اليد، الأموال المجمدة في مساهمات لا يمكن بيع أسهمها مهما عرضت بأي سعر، غير مقدور على بيعها، هنالك شربكات مالية بين العباد فيها من النتائج حبس المال، وعدم القدرة على التصرف فيه، أموال متنازع عليها، أموال تحت الحراسة القضائية، هذه الأموال غير المقدور على التصرف فيها، ولا سحبها، ولا بيع الأسهم فيها، ونحو ذلك بأي ثمن لا زكاة فيها.
ثم نجد أنه لا بد في زكاة المال من حولان الحول، وأما غير ذلك مثل الزرع: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِسورة الأنعام141، وهذا الحول بالسنة القمرية، فينبغي على المحاسبين، والمدراء الماليين، ومن تولى على مال أن يعرف جيداً بأن هذا التقويم القمري هو الأساس، فالله جعل الأهلة مواقيت للناس في الحج، والعبادة، وإخراج الزكاة، وعدد النساء، ونحو ذلك، فالشرع أراد منا أن ننضبط بهذا التقويم، جعل الله الأهلة مواقيت للناس: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌسورة التوبة36فليس منها فبراير، ولا سبتمبر، ولا أكتوبر، ولا ديسمبر، وإنما منها محرم، وصفر، وربيع، وربيع، منها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم الأشهر الأربعة الحرم.
عباد الله: ولذلك فلا بد من إخراج الزكاة بناء عليها على حولان الحول بالتقويم القمري؛ ولذلك قال بعضهم: إنه إذا عسر على المحاسب أن يضبط الزكاة على الأشهر القمرية فعلى الأقل يحسب حساب الأيام الزائدة التي لم يخرج عليها بزيادة في النسبة فإذا كانت هي في العادة اثنين ونصف في المائة فإنها تقدر مقارنة بين الميلادية وهذه الأشهر القمرية أو الشمسية والقمرية باثنين فاصلة خمسة، أو سبعة، يعني: الزيادة هذه الطفيفة لمراعاة الأحد عشر يوماً الفارق بين السنة الشمسية والقمرية.
نجد أن هذه الزكاة في أموال تتعلق بها قلوب العباد الذهب والفضة، ولها أنصبة معينة، وهذه الأموال النقدية الورقية التي تقوم مقامها، ثم تحولت القضية الآن إلى الأموال الإلكترونية، فكثيراً من الأحيان لا يكون هنالك ورق أصلاً، وإنما هي أرصدة تتحرك إلكترونياً، وهذا مع ما فيه من الأخطار المحدقة بالبشرية من عدم وجود شيء حقيقي في النهاية لكن العبرة الآن بهذا الحادث، وهذه الأموال الإلكترونية التي تتحرك بالبطاقات، وتنتقل في الأرصدة، وترسل عبر الشبكات يخصم منها ويودع فيها تزيد وتنقص، ويباع ويشترى بهذه الأموال الإلكترونية، فهي الآن البديل عن الذهب والفضة في تعاملات الناس؛ ولذلك فالزكاة واجبة فيها.
عباد الله: هكذا نجد في عروض التجارة أنه لا يكون الحول على كل سلعة، وكل مفردة من السلع بعينها؛ لأن بعضها يتولد من بعض، فهو يبيع يومياً، ويأتي بأخرى، ويبيع ويأتي بالنقد الذي يحصل بأخرى من السلع، وهكذا يتولد بعضها من بعض، فليس لكل سلعة معدل بيع حول خاص بها، ولكنه يجرد ما عنده، وفي السنة إذا مرت بعدها يخرج على قيمة ما عنده.
عباد الله: إن هذه الزكاة الفرض العظيم يكون فيما أعد للبيع حتى من غير المنقولات كالعقارات، هذه العقارات المعدة للبيع، ولذلك نفهم أن العقار المعد للسكنى والعقار المعد للإيجار والعقار المعد للاستثمار بزراعة أو إنشاء سوق تجاري ونحو ذلك من المحطات محطات الوقود، أو غير ذلك لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للبيع، وإنما الزكاة في الإيجارات، أو العائد المستغل منها إذا حال عليه الحول.
ومن البركة أن يزكي حين قبض المستغلات، حين قبض ثمرة المستغلات هذه من إيجار، وإلا فالقاعدة أنه لا زكاة في الإيجار المقبوض إلا إذا حال عليه الحول، وهذه أسهم الناس التي بين أيديهم وهي أنصبة في الشركات إذا كانت للبيع فإن الزكاة في أصلها وربحها، وإذا كانت معدة لأخذ الربح فقط دون أن يبيع الأصل، فالزكاة في الأرباح إذا حال عليها الحول، اللهم إلا الأسهم المالية النقدية، يعني: التي مقابلها نقد كأسهم المصارف، والمقصود المصارف المباحة؛ لأن الأموال المحرمة لا زكاة فيها، وقد يتعجب بعض الناس ويقول: كيف لا زكاة في الأموال المحرمة؟
فنقول: الزكاة تطهر المال، الزكاة سبب للبركة في المال، فكيف يبارك المال الحرام؟ وكيف يطهر وهو نجس في أصله؟ ولو أتيت بعذرة نجاسة، وقيل لك طهرها فما الذي يطهر العذرة هذه؟ لا شيء؛ لأنها نجاسة في ذاتها، وكذلك المال المسروق، والمغصوب، والمأخوذ بالرشوة، ومقابل السحر، والكهانة، والربا الربا قل أو كثر، كيف تزكي الربا؟ هل الربا يزكى؟ لا يزكى أبداً، فهو غير قابل للتزكية، هو أصلاً نجس، والنجاسة منها ما هو حسي، ومنها ما هو معنوي: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌسورة التوبة28 هذه النجاسة لا يمكن تطهيرها بالزكاة، ولذلك الواجب إخراج المال الحرام، فلو قال: عندي مال اشتريت به أسهماً في مصرف ربوي فزادت، فنقول: الأصل هذا المال المباح الذي اشتريت به فيه زكاة، والنماء المحرم لا بد من التخلص منه، وليس فيه زكاة.
عباد الله: إن بين الناس ديون وحقوق، وهذه الديون منها ما هو مقدور على تحصيله ففيه الزكاة، ومنها ما هو عند فقير، أو مماطل متلاعب، مخادع، ماكر، خبيث، ظالم لا يعطيك حقك، يراوغ، يعد ويخلف فلا زكاة في هذا المال، هذا شبه المفقود، هذا إذا عاد إليك يوماً تزكيه مرة واحدة عن كل ما مضى.
مصارف الزكاة
أيها المسلمون عباد الله: فلنتأمل في الحكمة الربانية في مصارف الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءسورة التوبة60 تسلم إليهم فلا يقال: نبني بها مدرسة للفقراء، وجامعة للفقراء، ونحفر بها بئراً للفقراء، ونتصرف بها نيابة عن الفقراء، وبعضهم يقول: نبني مستشفى، ثم يعالج في هذا المستشفى الغني، والفقير، والمتوسط الحال، كلا، وإنما تسلم لهم، هم الذين يتصرفون بها، يشتري بها طعاماً، لباساً، علاجاً، يدفع بها إيجار مسكن هو حر، ولسنا نحن الذين نتحكم بالفقراء، وهناك دعوات عجيبة في قضية إنشاء مصارف للزكاة لتتولى بناء واستثمارات مالية، ثم قد تخسر مثل ما خسرت أموال في هذه الأسهم، وبعض الناس وضعوا أموالاً خيرية في الأسهم، فخسرت الأموال، وهي ليست ملكاً لهم، وحرم من حرم، وصارت خيانات، وتلاعبات، وإهمالات، ومجازفات، ومغامرات، فلا يجوز المغامرة بمال الزكاة، فيدخل في استثمارات لا يدرى كيف يكون مصيرها؟ وهي أمانة أعطيت لهذا الوسيط كي يوصلها إلى الفقير وليس أن يغامر بها في عالم الاستثمارات الذي لا يعرف اليوم له رأس من ذنب.
ولذلك إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءسورة التوبة60تسلم إليهم، وَالْمَسَاكِينِتعطى إليهم يداً بيد، وإذا كان سفيهاً لا يحسن التصرف فتعطى لوليه فهو الذي يتصرف بها نيابة عنه، هذه قيمة الولي في الإسلام، فالأولياء عن الأيتام والسفهاء، هؤلاء الذين يتصرفون بها لمصلحتهم يعطونها للفقراء والمساكين، وما أكثر الفقراء والمساكين، وذكرت الدراسات أن نحواً من نصف الناس في العالم العربي يعيشون عند خط الفقر وتحته.
عباد الله: كم من الناس اليوم من لا يجد حاجته في علاج، أو تدريس أولاد، أو سكن، وليس توسعاً أن يبني بيتاً وقصراً كلا، بل شيئاً يؤويه، هنالك كثير من الشكاوى والمطالبات عند أصحاب المكاتب العقارية، والمؤجرين، والحقوق المدنية بسبب عدم القدرة على دفع الإيجار، نعم بعض هؤلاء مماطلون، ومخادعون، وكذابون، وينفقونها إسرافاً وكماليات ثم يقول: ما عندي ما أدفع به الإيجار، ليس هذا هو المقصود بالفقير والمسكين، الفقير والمسكين هو الذي ينفق قصداً، ثم لا يكفيه، قد يكون له راتب لكن لا يكفيه، قد يكون عنده شهادة لكن لم يجد عملاً حتى الآن بطالة، وقد يكون قد طرأت عليه ظروف، وداهمته مفاجآت في علاج مكلف، وهكذا من الناس أنواع فلا بد من إعانتهم، كم كان حكم الشريعة واضحاً في قضية نشر الإسلام، في سبيل الله، وإعانة ابن السبيل المسافر المنقطع، وكذلك إغناء العاملين عليها وهم الذين يعملون في بيت المال، وليس أي واحد يجمع الزكاة، وأي إمام مسجد، وأي شخص يتكلف بإيصالها يكون من العاملين عليها كلا، العاملون عليها هم الذين عينهم الإمام في بيت المال لضبط وأخذ زكوات الناس، هؤلاء الذين يجمعون الأموال حتى يغنى بها فلا تمتد يده إلى شيء منها، هنالك حكمة في إعطائهم، وكف ما بأنفسهم عن أموال الناس.
وهكذا نجد أن المسلم مطالب بإنفاقها وإخراجها إلى أهلها مؤتجراً، يعني: يرجو الأجر والثواب، طيبة بها نفسه، لا يحابي بها قريباً؛ ولذلك لا يجوز إخراج الزكاة لمن تلزمك نفقتهم، ما دمت مكلفاً بهم فلا يجوز لك أن تعطيهم منها شيئاً، كالزوجة، والأصول، والفروع، الأب، الأم، الجد، الجدة، الحفيد، الحفيدة إذا احتاجوا وأنت مقتدر فلا بد أن تنفق عليهم من غير الزكاة، لا أن تفتدي النفقة نفقتك بالزكاة، وأما بقية الأقارب الذين احتاجوا، فيهم فقر فيعطون زكاة وصلة، بل تعطي المرأة زوجها الفقير؛ لأنها ليست مكلفة شرعاً بالإنفاق عليه ولو كانت غنية.
عباد الله: بعضهم يقصر ولا يتحرى ويعطي بدون تقصي فينبغي أن يتحرى قدر المستطاع، ثم لو تبين له الخطأ بعد الاجتهاد، وأنه أعطى شخصاً على أنه فقير ثم تبين أنه غير فقير، فالإثم على الذي طلب، وعلى الآخذ، وأما المعطي فهو مجتهد اجتهد وتحرى والمتحري يخطئ، والمجتهد يخطئ، فهذا خطأ مغفور، وليس عليه إعادة إخراجها.
ثم إن المزكي عليه أن يصلح النية، ويتخير الحلال لينفق منه، والأجود أفضل: أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْسورة البقرة267 ويتحرى أهل الدين من الفقراء لئلا يضعها فيمن يستعين بها على منكر، وكذلك يتلطف مع الفقير؛ ولهذا قال العلماء: لا يشترط عند إخراج الزكاة أن يعلم الفقير أنها زكاة، فما دام فقيراً فإنه يجوز أن يعطى حتى بدون إخبار أنها من الزكاة.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما آتانا، وأن يفقهنا في أمور ديننا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين والمرسلين، وإمام الحنفاء، وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى زوجاته وخلفائه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم زده صلاة وسلاماً وتشريفاً ورفعة، اللهم آته الدرجة العالية الرفيعة التي وعدته إنك لا تخلف الميعاد يا رب العباد.
أهمية اغتنام رمضان والحذر من لصوصه
عباد الله: شهرنا هذا للتقوى وهو بالليل والنهار، رمضان في الليل والنهار، الليل يطلق عليه رمضان ولا يمكن إخراج الليالي من رمضان، ولا يمكن أن يقال عن النهار رمضان، والليل ليس من رمضان بل هو كل لا يتجزأ الأيام والليالي، النهار والليل من رمضان؛ ولذلك لما قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة183يعني: بالليل والنهار، ولذلك لا معنى صحيحاً لأن يتقي بالنهار فيصوم، ويتلو كتاب الله، ويذهب للمساجد، ويذكر ربه، ويعبد، ويدعو، ويتصدق، ثم بالليل فسق، وطرب، وغناء، ومسلسلات فاجرة، وجلسات فيها أنواع من المعاصي، وكأن نفوسنا غير مستعدة أن تتواصل بالطاعات، وكأن الراحة هي في المعصية، وأنه إذا شق على نفسه وبذل في النهار لا بد من إراحة لها في منكر، كأن المسألة الآن أن كثيراً من النفوس لا تطيق عبادة إلا وبعدها معصية، وهذا لا يمكن أن يكون في حس المسلم الجاد: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الأنعام162المحيا كله، ليلاً ونهاراً، شباباً في الشباب، وفي الهرم، كله لله رب العالمين لا شريك له؛ ولذلك فإن إفساد ما بناه المسلم من قصور الحسنات في النهار بمعاصي في الليل ليس من الحكمة في شيء: أرغم الله أنف عبد دخل رمضان فلم يغفر له[رواه ابن خزيمة1888]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَسورة الأنبياء1.
وأنت ترى هذه الملاهي اليوم وخصوصاً في هذه القنوات، سبحان الله العظيم استعد القوم لإفساد الشهر، أهل الخير استعدوا، وأهل الشر استعدوا، حشد أهل الخير ما عندهم لتفطير الصائمين، والدعوة إلى الله، ودروس المساجد، وأنواع من الجهود في هذا الشهر، واستعد أهل الصدقات، والإحسان، والبر بأنواع من الأعمال، واستعد الناس بالمصاحف، لكن أهل الشر استعدوا أيضاً أعلنوا قبل دخول الشهر إعلانات متوالية مذهلة كثيرة عن ماذا؟ رمضان كريم، ما هو الكرم عندكم؟ ما هو كرم رمضان؟ رمضان كريم مسلسلات، سهرات، برامج، ماذا فيها؟ إحياء القلوب، يعني برامج عن التفسير، والعقيدة، والتوحيد، والفقه، والسيرة النبوية، هل فيها حياة النبي ﷺ، هل تعرض هذه البرامج والمسلسلات العلم الشرعي مثلاً؟ هل فيها مواعظ لإحياء القلوب؟ كلا، إنها إماتة للقلوب، وإفساد للنفوس، ويقولون: الذروة، اجتماع الناس الآن على الشاشات، والآن الإعلان بكذا وكذا، وقت الذروة اجتمع الناس على ماذا؟ تريدون أن تجمعوهم على أي شيء؟ وتتنافس القنوات، ثم كوميديا، ودراما، وفكاهية، قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِسورة الجمعة11فكيف إذا كان لهواً محرماً؟ تبرج النساء وأشياء سيئة.
قال لي أحدهم: أنا فتحت الجهاز من محطة إلى محطة، من حرام إلى حرام، وفي النهاية قلت: أذهب إلى أفلام الكرتون محطة كرتون، فإذا فيها تقبيل، إذاً هذا هو الموجود، هذا حال غالب المحطات، يعني وفروا عرياً، ولا امتنعوا عن الأغاني، ولا عن المفسدات، ولا عن تشويه التاريخ الإسلامي، شوهوا حال الشخصيات الإسلامية، أرادوا أن يشوهوا عمر بن عبد العزيز، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأحمد بن حنبل، والدور على الشافعي، وهكذا المسلسل جار في الإفساد، يعني: عمر بن عبد العزيز، والشافعي، وصلاح الدين، هكذا كانوا مع النساء المتبرجات، هكذا بهذه المكياجات، وهكذا الموسيقى تصدح، هذا حال أئمة السلف وقادة الأمة، هل هذا حالهم؟! وإعلانات ساقطة، وجذب الناس بالمرأة، وصوت المرأة، وجسد المرأة، وأشياء قائمة على القمار والميسر، واتصل على سبعمائة واتصل على كذا، والدقيقة بكذا، وشارك في المسابقة، وأنت تدفع قمار قمار، الله قال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة المائدة90عطف على الأنصاب والأزلام، والأنصاب التماثيل هذه الأصنام التي عكف عليها أهل الجاهلية، والأزلام التي كانوا يستقسمون بها رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ لماذا؟ قال: تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهذه المسلسلات تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وبعضهم يسحب سحباً إلى صلاة العشاء والتراويح، وبعضهم يفوت ركعات من أجل متابعة مسلسل، ومتابعة برنامج، فتنة عظيمة وقعت فيها الأمة الآن، فتنة عظيمة في قضية القنوات هذه والمفسدات.
ثم كوميديا فيها استهزاء بأهل الدين من القضاة، والعلماء، والأئمة، والخطباء، وهؤلاء بشر نعم ولهم أخطاء نعم، لكن هذه الحثالة هي التي تبين أخطاء القضاة والأئمة. هؤلاء أهل العفن، أهل الفجور، والفسق، والفساد هم الذين يتكلمون في رؤية الهلال، يعني: حكم رؤية الهلال; هل هو بالتلسكوب أو بغير التلسكوب يقدمه هؤلاء الحثالة أم يبينه العلماء؟ أنت في مسألة طبية تسأل من؟ تذهب إلى إنسان صايع لتسأله عن مسألة فقهية أم تسأل به خبيراً من عالم؟ والطب كذلك تسأل جاهلاً، أم إنساناً ماجناً، أم تذهب إلى طبيب استشاري لتسأله؟ من الذي يبين أحكام الأشياء؟!
وهكذا قام هؤلاء بالخيانات اليوم، والتشويه المتعمد، فهذا المسلسل قد يشترك فيه من الفسقة أمة، ومن الفجرة الذين يعكفون على إعداد السيناريو، والأفكار، واللقطات، والقضية كلها تدور على تشويه سمعة أهل الدين، إسقاط مكانة الدين في قلوب الناس، وهكذا يصبح كل شيء من مظاهر التدين عرضة للنقد مستباحاً من قبل هذه الحثالة باسم الضحك، والترفيه، والنقد البناء، أي بناء هذا؟ من الذي ينتقد النقد البناء هؤلاء الحثالة، أم النقد البناء يأتي من علماء الأمة، وعقلاء الأمة، وخبراء الأمة، أهل الحل والعقد في الأمة؟ هؤلاء الذين عندهم النقد البناء.
ثم النصيحة لها شروط وآداب، وليس المقصود بها التشهير، ولا المقصود بها الشتم والسب، ولكن تطاول هؤلاء فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى، على هذا ينشأ الأبناء الصغار والكبار، ويتداولون اللقطات، وحديث الناس في المجالس، وبعضهم يستنكر يقول: هؤلاء السفهاء ووصلوا إلى هذا الحد، وفعلوا، ثم هو يتفرج، وأهله يتفرجون، وأولاده يتفرجون، والكلام ينقل في المجالس، لماذا؟
عباد الله: أليس الليل تبع النهار؟ أليس هذه الليالي لله في كل ليلة عتقاء من النار؟ لماذا نجعل صومنا مستباحاً؟ وإذا كان بعض المسلمين قاطعوا بضائع بعض الكفرة الذين سبوا محمداً ﷺ، فوالله الذي لا إله إلا هو إن هذه القنوات أحق بالمقاطعة، ويجب أن يكون فينا عزة، يجب أن يكون فينا عزة الإسلام التي تأبى هذه السفاهات، والتفاهات، عزة الإسلام والله أحياناً يتعلمها الإنسان من أعجمي.
جاء أعجمي مسلم إلى الحرم في رمضان خبير مالي يقول: أنه استفتى أحد العلماء الراحلين رحمه الله في حكم فتح فرع إسلامي لمصرف ربوي، فقال: إذا كان الفرع منفصلاً، وإذا كان هذا الفرع مستقلاً افعل، نفذ الحكم الشرعي، يقول: فأقمت مع اثنين آخرين عكفنا على إنشائه حتى بلغت موجوداته أكثر من ستمائة مليون دولار، حتى خشيت إدارة البنك أن يبتلع هذا الفرع الإسلامي الأصل فأرادوا فصله، وعزله، واستقلاله، ونحو ذلك، وتقليص الأشياء خافوا خافوا، وهو في بلد كفر، فوقف موقف عزة منهم ومفاصلة تامة، يقول: عندي بنت جاءت معه إلى الحرم عمرها خمسة عشر عاماً بالحجاب، يقول: هذه الخامسة على بريطانيا، لما أتوا بالعشر الأوائل لتكرمهم ملكة بريطانيا يقول: دخلت بنتي على ملكة بريطانيا بالحجاب الشرعي، تحس سبحان الله العظيم أن بعض الناس عندهم عزة، وقوة، وخبرة، وأمانة، وعندهم دين حتى لو كان بين الكفار، وبعض الناس منهزمين نفسياً حتى هم بين المسلمين، وعندهم ذل، ومهانة، وخضوع، واستكانة وهم بين المسلمين، فسبحان من أعطى وقسم، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْسورة الزخرف32 وكذلك قسم بينهم الدين والرزق .
اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم إنا نسألك الأمن في البلد، والعافية في الجسد، والصلاح في الذرية والولد، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي متقبل مشكور، اشملنا برحمتك أنزل علينا بركتك، اللهم بارك لنا في ما آتيتنا، واقض عنا ديوننا، اللهم إنا نسألك رحمة تلم بها شعثنا، وتستر بها عيوبنا، وتغفر بها لموتانا، وترحم بها هؤلاء الذين ذهبوا إليك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك لهم الأمن والطمأنينة في قبورهم يا أرحم الراحمين، أنزل عليهم رحمتك، اللهم إنا نسألك في هذه الساعة في مقامنا هذا أن تغفر لنا مغفرة تمحو بها جميع ذنوبنا وخطايانا، أخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم أعتق رقابنا من جهنم، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، ارفع درجاتنا، اللهم زد في حسناتنا، اللهم كفر عنا سيئاتنا، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، لا تفرق جمعنا هذا ولا تجعلنا نقوم من مقامنا إلا وقد غفرت لنا يا أرحم الراحمين، اللهم استرنا بسترك الجميل، واصفح عنا الصفح الجزيل، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في خير وعافية يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، وأن تحصن فروجنا، وأن تسدد ألسنتنا، أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وعافنا واعف عنا، زدنا ولا تنقصنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تغفر لنا، ولوالدينا، وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.