الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد سبق في الصفة الكاملة للغسل أن أول عمل يقوم به المغتسل من الجنابة هو غسل اليدين، وأن الغسل يكون لكلا اليدين ثلاث مرات، ثم يستحب له بعد ذلك غسل العورة، غسل الفرج وما أصابه من الأذى سواء كان أذى نجسًا كالمذي أو طاهرًا كالمني، والمقصود من هذا الغسل إزالة الأذى، وكذلك إذا أخر غسل الفرج فإن مسه انتقض وضوؤه، وإن لم يمسه أخل بسنة الدلك، وربما لا يتيقن زواله كله أو وصول الماء إليه كله أو إلى مغابنه إلا بالدلك، ولذلك قدم غسل العورة؛ لأن فيه مس العورة، فإذا فرغ من غسل فرجه بيده الشمال يقوم بتنظيفها كما في حديث ميمونة: ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكًا شديدًا، وقلنا : يقوم الصابون والأشنان مقام التراب الذي كان النبي ﷺ يدلك به يده عندما يغسل الفرج، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءًا كاملًا، وهل يغسل رجليه في هذا الوضوء؟ قلنا: إن ظاهر حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه يغسل رجليه لقولها: ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ولكن في حديث ميمونة: ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، وذكرنا أقوال العلماء في الجمع بين الحديثين أو في هذه المسألة وأن بعضهم قال بالتقديم وبعضهم قال بالتأخير وبعضهم قال بالتخيير، فله أن يغسل قدميه مع الوضوء أو يؤخرهما حتى يفرغ من غسله فقد ثبت كلا الأمرين عن الرسول ﷺ، وقال بعضهم: إن كان سيلحق بها ما ينبغي إزالته أخر الغسل، وإن كان في مكان نظيف، يعني لا يصيبها الطين ونحو ذلك قدم الغسل، وهذه مسألة واسعة، وذكرنا أن ظاهر هذه الأحاديث أنه يغسل الأعضاء ثلاثًا كما هو الحال في الوضوء وهو قول جمهور العلماء، يعني الوضوء قبل الغسل هل يستحب فيه التثليث أم لا؟ وقيل: لا يشرع التثليث في وضوء الغسل، وهو قول المالكية، وقالوا : هذا جزء من غسل وإنما بدأ النبي ﷺ في غسله هذا بغسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها، فإن هذا غسل تخفيف مرة، ولكن أكثر العلماء يقولون بالتثليث، فإذن، يتوضأ قبل الغسل وضوءًا يثلث فيه، يعني غسل الوجه ثلاثًا وغسل اليدين ثلاثًا وهكذا، وذكرنا الخلاف فيمن نسي الوضوء في أول الغسل، واحد يريد أن يطبق السنة فلما بدأ بالغسل نسي الوضوء، فماذا يفعل هل يتوضأ بعد الغسل؟ قيل: نعم؛ لأن المقصود الجمع بينهما، يعني السنة وردت بالجمع بينهما، ومن العلماء من قال : سنة فات موضعها، موضعها في أول الغسل، فإن فات موضعها لا يأتي بها، وهكذا قال ابن بطال، أما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له؛ ولأنها سنة فات محلها، ثم بعد فراغه من الوضوء يخلل رأسه ويغسله كما في حديث عائشة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، وغسل الرأس يكون بثلاث غرفات، الغرفة بكلا الكفين لقول النبي ﷺ: أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف وأشار بيديه كلتيهما، وهل هي ثلاث غسلات للرأس أم كل حفنة لكل جهة كما قال بعضهم؟ اختار أبو العباس القرطبي وهو ما يفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا أنه كان يأخذ حفنة لجانب رأسه الأيمن وحفنة للأيسر وحفنة على وسط رأسه، كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها –" كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب"، وقلنا: الحلاب إناء تحلب فيه الناقة يكفي لحلب ناقة، "كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه".
واختار ابن رجب - رحمه الله - أنه كان يعم رأسه في كل مرة، يعني في كل غسلة من غسلات الشعر الثلاث كان يغسل الرأس كله.
وهاهنا مسألة وهي: هل تنقض المرأة ضفائرها في هذا الغسل أم لا؟
رخّص الشرع للمرأة إذا ضفرت شعر رأسها وأرادت الغسل أن تحثو الماء على رأسها بحيث يصل إلى أصول شعرها، ولا يلزمها نقض ضفائرها؛ لأن مسألة الضفائر عند المرأة فيها نوع من المشقة، إذا أوجبنا عليها حل الضفائر، أو لا يجب تحل الضفائر، وقد يقول قائل : ما حال الرجل أيضًا في هذه المسألة لو كان له ضفائر وقد كان للنبي ﷺ ضفائر، كان له شعر، وكان يكرمه، وكان أحيانًا يضفره، فهل يلزم الرجل كذلك نقض الضفيرة أو الضفائر إذا أراد الاغتسال أم أن المرأة يختلف حكمها؟
الجواب: الرجل والمرأة في هذا سواء، وإنما اختصت المرأة بالذكر؛ لأن العادة اختصاصها بكثرة الشعر وتوفيره وتطويله، هذا في المغني والمجموع أيضًا، قال ابن قدامة: "ولا يختلف المذهب في أنه لا يجب نقضه من الجنابة ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء إلا ما روي عن عبد الله بن عمرو"، [المغني لابن قدامة: 1/166].
وهذه فيها قصة رواها مسلم - رحمه الله - في صحيحه: عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقض رءوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن!، يعني تقصد إذا صارت المسألة لترتاح المرأة من المشقة كان أمرها أن تحلقه وترتاح، فتريد بكلامها هذا أنه لو وجب النقض كل مرة لكان الحلق أريح لدفع الحرج، قالت عائشة - رضي الله عنها - معقبة على ما بلغها عن عبد الله بن عمرو : "لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات" [رواه مسلم: 331].
وعن أم سلمة قالت: "قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، يعني أحكم فتل رأسي فتل الشعر، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين [رواه مسلم: 330]. هل هناك فرق بين غسل الجنابة وغسل الحيض في هذا الحكم في وجوب نقض الضفائر؟
عند جمهور العلماء لا فرق بين غسل الجنابة وغسل الحيض في مسألة نقض الضفائر وأنه كما لا يجب هاهنا لا يجب هاهنا، لكن المشهور من مذهب الحنابلة التفريق، وأن نقض الضفائر واجب في غسل الحيض خلافًا لغسل الجنابة، لماذا قالوا بذلك؟
لما في صحيح مسلم عن عائشة-رضي الله عنها- أن أسماء بنت شكل-رضي الله عنها- سألت النبي ﷺ عن غسل المحيض فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر وتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء .. الحديث، وفيه: وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء [رواه مسلم: 332].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأما نقضه في غسل الحيض فالمنصوص عن أحمد أنها تنقضه فيه، قال مهنا: سألت أحمد عن المرأة تنقض شعرها من الحيض؟ قال: "نعم"، قلت له: كيف تنقضه في الحيض ولا تنقضه في الجنابة؟
فقال: "حدّثت أسماء عن النبي ﷺ أنه قال تنقضه" [شرح عمدة الفقه لابن تيمية : 1/373].
قال ابن القيم - رحمه الله - معقّبًا على هذه الرواية عن أحمد: "فاختلف أصحابه - أصحاب أحمد - في نصِّه هذا، اختلفوا في نصه هذا، فحملته طائفة منهم على الاستحباب، أن رأي أحمد في هذا النقض أنه مستحب وليس بواجب، قال ابن القيم: "وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة -الجمهور-، قال: وأجرته طائفة على ظاهره"، ومعنى: "على ظاهره" يعني: الوجوب، وهو قول الحسن وطاووس، قال ابن القيم: "وهو الصحيح لما احتج به أحمد من حديث عائشة أن أسماء سألت النبي ﷺ عن غسل المحيض فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا، حتى تبلغ شئون رأسها وهذا فيه دليل على أنه لا يكتفى في غسل الحيض بمجرد حثي الماء بمجرد صب الماء، لا يكتفى بمجرد صب الماء مثل غسل الجنابة، لكن الآن بحثنا هل يجب نقض الشعر أم لا؟ وليس هل يجب الدلك أو التخليل؟ هذا تذكير برأس المسألة، فالحديث هذا نعم فيه أنه لا يكتفى بمجرد صب الماء في غسل الحيض، ولا سيما فإن الحديث نفسه، وسألته عن غسل الجنابة حصل السؤال عن الأمرين، فجوابه ﷺ في غسل الجنابة قال: تأخذ ماء فتطهر به فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء ، ففرّق بين غسل الحيض وغسل الجنابة في هذا الحديث وجعل غسل الحيض آكد؛ لأنه أمر فيه بالسدر المتضمن لنقضه، يعني فهموا النقض ليس بالمنطوق، لكن قالوا : لأنه أمر بأخذ السدر، والأصل نقض الشعر لتيقن وصول الماء إلى ما تحته إلا أنه عفي عنه في غسل الجنابة لتكرره ووقوع المشقة في نقضه؛ لأنه قد يتكرر غسل الجنابة أحيانًا في اليوم الواحد، قد يكون يوميًا، قد يكون بخلاف غسل الحيض فإنه يكون في الشهر أو الأشهر، يكون في الشهر مرة، وأحيانًا أكثر من شهر بحسب ما يمر بالنساء من الأحوال، كما أن الحامل ربما لا يجب عليها غسل الحيض مدة الحمل، ولهذا أمر فيه غسل الحيض بثلاثة أشياء لم يأمر بها في غسل الجنابة: أخذ السدر، والفرصة الممسكة لتطهير المكان أو تطييب المكان وقطع الرائحة، ونقض الشعر ،هذا كلام صاحب تهذيب السنن يقول: ولا يلزم من كون السدر والمسك مستحبًا أن يكون النقض كذلك؛ لأنه ممكن الواحد يقول إذا أمر بالسدر وأمر بالمسك الفرصة الممسكة، وهذه مستحبة فهذا مثلها الثالث، قال الشيخ: لا يلزم، لكن قد يقال : حديث أسماء ليس صريحًا في وجوب نقض الضفائر، فقصارى ما فيه أنه أمرها بدلكه دلكًا شديدًا وهذا لا يلزم منه النقض، وقد أمرها حتى في الجنابة بدلكه إلا أنه لم يقل : شديدًا، الرواية فيه في الجنابة بدلكه وفيه في الحيض بدلكه، لكن لاحظنا من الرواية أنه في غسل الحيض قال: تدلكه دلكًا شديدًا مما يدل على أنهما يشتركان في الدلك إلا أن دلك الحائض أشد، ولذلك استشكل الحافظ ابن رجب - رحمه الله - الاستدلال بالحديث المتقدم على النقض، فقال: "وليس فيه أنه أمرها بالنقض بل أمرها بدلكه دلكًا شديدًا، حتى يبلغ شئون رأسها ولم يأمرها بنقضه، وفي الحديث يقول ابن رجب في فتح الباري : أنها سألته عن غسل الجنابة فأمرها بمثل ذلك غير أنه لم يقل دلكًا شديدًا، ثم قال: وأكثر العلماء على التسوية بين غسل الجنابة والحيض، وأنه لا ينقض الشعر في واحد منهما" يعني لا يجب نقضه. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله. [فتح الباري لابن رجب: 2/110].
بل إن ابن قدامه - رحمه الله - نفسه: "استدل بهذا الحديث على عدم وجوب النقض فقال: ولو كان النقض واجبًا لذكره؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة" [المغني] وفي حديث عائشة السابق أنها أنكرت على عبد الله بن عمرو أمره للنساء بنقض رءوسهن، ولو كان ثمة فرق بين الحيض والجنابة لبينت ذلك وذكرته، وقد روى عبد الرزاق-رحمه الله تعالى- في المصنف بسند صحيح عن نافع عن ابن عمر أن نساءه وأمهات أولاده-البيئة الأولى فيها الاجتماع على الكبير، وأن الجد رأس العائلة له مرجعية علمية تربوية، فصل النزاعات، وليس مثل الآن الناس متفرقون كل واحد في جهة، وإذا صار فيه مشكلة لا يوجد كبير يفصل فيها، كانت العوائل من زمان فيها مركزية مهمة تربوية- روى عبد الرزاق - رحمه الله - في المصنّف بسند صحيح عن نافع عن ابن عمر أن نساءه وأمهات أولاده كن يغتسلن من الحيضة والجنابة، ولا ينقضن شعورهن، ولكن يبالغن في بلها، هذا تأييد لمذهب الجمهور، واختار هذا القول من الحنابلة ابن قدامة - رحمه الله - نفسه فقال: "وقال بعض أصحابنا : هذا مستحب غير واجب - نقض الضفائر في غسل الحيض -، وكذلك الجنابة من باب أولى، وقال بعض أصحابنا: هذا مستحب غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح"، [المغني لابن قدامة: 1/166]. واختار هذا القول من المعاصرين أيضًا علماء اللجنة الدائمة.
وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "ولا يجب نقض شعر الرأس إلا أن يكون مشدودًا بقوة بحيث يخشى أن لا يصل الماء إلى أصوله"، إذن، الشيخ معهم لكن استثنى حالة أن يكون مشدودًا بقوة يخشى من عدم وصول الماء إلى أصوله؛ لأنه يكفي وصول الماء إلى أصوله"، هذا في شرحه على بلوغ المرام.
وما سبق من عدم وجوب النقض مشروط بوصول الماء إلى جميع الشعر، قال النووي - رحمه الله تعالى - في شرح مسلم: "فمذهبنا ومذهب الجمهور أن ضفائر المغتسلة إذا وصل الماء إلى جميع شعرها ظاهره وباطنه من غير نقض لم يجب نقضها وإن لم يصل إلا بنقضها وجب نقضها، وحديث أم سلمة محمول على أنه كان يصل الماء إلى جميع شعرها من غير نقض؛ لأن إيصال الماء واجب"، انتهى كلام النووي رحمه الله. [شرح النووي على مسلم: 4/12].
وقال ابن رجب: "هذا كله إذا وصل الماء إلى غضون الشعر المضفور فإن لم يصل بدونه وجب نقضه عند الأكثرين وهو قول مالك والشافعي والمشهور عند أصحابنا والمروي عن أبي حنيفة" [فتح الباري لابن رجب: 2/111].
وهو الذي أشار إليه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في كلامه الآنف الذكر.
وقالت طائفة : لا يجب ذلك، وحكي عن مالك، وهو قول طائفة من أصحابنا منهم صاحب المغني، انتهى من فتح الباري لابن رجب.
المسألة السادسة من مسائل الغسل: تعميم الجسد وغسل سائره، ففي حديث ميمونة: "ثم غسل سائر جسده، ثم يفيض الماء على جلده كله" في رواية، قال ابن حجر: "قولها : "على جلده كله" هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعدما تقدم"، [فتح الباري لابن حجر: 1/361].
وذهب جمهور العلماء إلى استحباب غسل سائر البدن ثلاثًا؛ لأنه لو غسل مرة أجزأ.
وقال المالكية: "لا يستحب التثليث فليس في شيء من الأحاديث أنه يغسل جسده ثلاثًا"، ماذا لو رأى أولئك المالكية - رحمهم الله - هذه المراوش وتدفق المياه التي تجري، قال المرداوي: "واختاره الشيخ تقي الدين"، قال الزركشي: "وهو ظاهر الأحاديث"، [الإنصاف: 1/253] . قال شيخ الإسلام: "وكذلك الاغتسال من الجنابة فمذهب مالك هو أحد القولين من مذهب أحمد، بل هو المأثور عنه اتباع السنة فيه فإن من نقل غسل النبي ﷺ كعائشة وميمونة لم ينقل أنه غسل بدنه كله ثلاثًا، بل ذكر أنه بعد الوضوء وتخليل أصول الشعر حثا حثية على شق رأسه، وأنه أفاض الماء بعد ذلك على سائر بدنه، والذين استحبوا الثلاث، ومقصود المتكلم النقل عن ابن تيمية، قال: "والذين استحبوا الثلاث إنما ذكروه قياسًا على الوضوء، والسنة قد فرقت بينهما" [مجموع الفتاوى: 20/370].
إذن، الجمهور قالوا بالاستحباب غسل البدن ثلاثًا، وغيرهم قال : ظاهر الحديث أنه مرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام وقال الجمهور ما قالوه قياسًا على الوضوء لا بنص، بل إن النص لا يدل على ذلك.
ماذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - صاحب المتن الذي نحن بصدده ؟
قال: والصحيح أن التثليث لا يشرع في الغسل إلا في غسل الرأس؛ لأنه ورد النص به؛ لأنه أفاض على رأسه ثلاثًا، قال: لأن ذلك هو الوارد في صفة غسله ﷺ فلم يثبت عنه سوى هذا، وقياس الغسل على الوضوء غير مسلّم لوجود الفارق من وجوه كثيرة [الاختيارات الجلية].
الآن نحن في مسألة تعميم الجسد بالماء هل يبدأ بشقه الأيمن أو ماذا؟ والآن المروش الموجود ممكن واحد يميل، يعني يصيب الماء شقه الأيمن أولًا ثم شقه الأيسر، لكن هل هذا من السنة؟ هل يبدأ بالشق الأيمن من الجسد مثل الوضوء أو يصب على الأعلى ينزل على كل الجسم أو ماذا؟
قال ابن رجب - رحمه الله -: "البدء بجانب البدن الأيمن ليس فيه حديث صريح، وإنما يؤخذ من عموم قول عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي ﷺ يعجبه التيمُّن في طهوره"، كان النبي ﷺ يستحب التيمن في طهوره، وكذلك يؤخذ من قول النبي ﷺ في تغسيل ابنته لما قال للمغسلات ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ، فإذن، ليس بنص وإنما يؤخذ منه.
وقال المرداوي - رحمه الله -: "ويبدأ بشقه الأيمن بلا نزاع" [الإنصاف: 1/253]
وقال النووي - رحمه الله -: "والمستحب أن يبدأ بميامنه وأعالي بدنه" [شرح النووي على مسلم: 3/228].
المسألة السابعة : غسل الرجلين، ففي حديث ميمونة : "ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه".
قال القرطبي - رحمه الله -: "الحكمة في تأخير غسل الرجلين وعلى هذه الرواية رواية ميمونة؛ لأن رواية عائشة تقدم الكلام عليها وأنه توضأ وضوءًا كاملًا بغسل القدمين في أول غسله، على رواية ميمونة قال القرطبي - رحمه الله -: "الحكمة في تأخير غسل الرجلين ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء"، نقله الحافظ في الفتح، [فتح الباري لابن حجر: 1/362]. وهذا معنى استنبطه - رحمه الله - .
وقلنا أنه أحيانًا قد يغتسل حافيًا في مكان فيه طين فيناسب أن يختم بغسل الرجلين لتنظيفهما قبل المغادرة.
وبهذا يكون قد تحقق لدينا صفة الغسل الكامل، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأما الكامل فهو اغتسال رسول الله ﷺ وهو يشتمل على إحدى عشرة خصلة قال:
أوّلها : النية.
وثانيها: التسمية.
وثالثها: أن يبدأ بغسل يديه ثلاثًا كما في الوضوء وأوكد؛ لأنه هنا يرتفع الحدث عنهما بذلك.
ورابعها: أن يغسل فرجه ويدلك يده بعده - يعني بعد الغسل هذا اليسرى التي غسل بها -
وخامسها: أن يتوضأ ولا يكمل الاغتسال إلا بالوضوء، قال شيخ الإسلام : وهو مخير بين أن يتوضأ وضوءًا كاملًا كما في حديث عائشة، أو يؤخر غسل رجليه كما في حديث ميمونة.
وسادسها: أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بالماء قبل إفاضة الماء" [شرح عمدة الفقه لابن تيمية: 1/370].
يعني لو واحد قال : أنا أريد السنة خطوة خطوة، نقول : بعد ما يتوضأ يغسل الشعر ثلاثًا، ويخلل أصول الشعر، التخليل والدلك، أن يخلل أصول الشعر واللحية قبل إفاضة الماء، يعني على سائر الجسد، إذا واحد قال : أريد السنة، نقول : نحن الآن ماضون بالخطوات.
سادسًا: أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بالماء قبل إفاضة الماء؛ لأنه إذا فعل ذلك فإنه ينقي البشرة ويبل الشعر بماء يسير بعد ذلك من غير معالجة، يعني إذا الآن غسل الشعر ثلاثًا ما يحتاج بعد ذلك في الغسل الكلي إلى استقصاء أو تطويل في غسل الشعر؛ لأنه انتهت هذه الخطوة فيغسلهما مع بقية البدن.
وسابعها: أن يفيض على رأسه ثلاثًا حثية على شقه الأيمن، وحثية على شقه الأيسر، وحثية على الوسط. وهذا على رأي شيخ الإسلام.
وثامنها: أن يفيض الماء على سائر جسده ثلاثًا، هكذا قال أصحابنا : قياسًا على الرأس وإن لم ينص عليه في الحديث، وهو محل نظر، فشيخ الإسلام ذكر المذهب لكن قال: هذا محل نظر؛ لأن السنة ما دلّت على غسل الجسد ثلاثًا وإنما ظاهر الحديث غسل الجسد مرة.
قال: "وتاسعها: أن يبدأ بشقه الأيمن؛ لأن رسول اللهﷺ كان يعجبه التيامن في طهوره"
وعاشرها: قال : أن يدلك بدنه بيديه، دلك البدن مع الغسل.
والحادي عشر: أن ينتقل من مكانه فيغسل قدميه، ولو مثلًا اغتسل في مكان تراب طين.
والحادي عشر: أن ينتقل من مكانه فيغسل قدميه كما في حديث ميمونة، هذا كلام شيخ الإسلام في شرح عمدة الفقه. [شرح عمدة الفقه لابن تيمية: 1/370].
ويُستحب الاقتصاد في استعمال الماء فقد كان النبي ﷺ يغتسل بالصاع، يعني لو واحد قال : هذا حتى لو كان الواحد يغتسل بجانب نهر جار، هكذا فقط يأخذ إناء كالحلاب ويغتسل به على هذه الصفة حتى لو كان بجانبه نهر لو أراد أن يفيض الماء على جسده عشرين مرة لفعل، لكن هل هذا خاص بقلة الماء مثلًا لما كان الماء شحيحًا لما كان الماء قليلًا ؟
قال أنس: "كان النبي ﷺ يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد" [رواه البخاري: 201، ومسلم: 325]. أي كان ربما اقتصر على الصاع وهو أربعة أمداد، وربما زاد عليها إلى خمسة، فأنس لم يطلع على أن النبي ﷺ استعمل الماء في الغسل أكثر من هذا المقدار؛ لأنه رضي الله عنه جعله النهاية؛ لأن خمسة هذا أكثر شيء، ولكن روى مسلم - رحمه الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تغتسل هي والنبي ﷺ من إناء واحد هو الفرق، قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: "هو ثلاثة آصع"، وروى مسلم أيضًا من حديثها أنه ﷺ كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد، فهذا يدل على اختلاف المقدار في الروايات، لكن ممكن يحمل على حسب الإناء المتوفر، حسب الماء المتوفر، يقول ابن حجر في فتح الباري: "فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدّر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب"، انتهى. [فتح الباري لابن حجر: 1/305].
فإن قيل نحن الآن نتوضأ من الصنابير فمقياس الماء لا ينضبط، فيقال : لا تزد على المشروع في غسل الأعضاء في الوضوء، يعني لا تزد على ثلاث مرات، ولا تزد في الغسل على مرة على القول بعدم الثلاث، وبهذا يحصل الاعتدال. [الشرح الممتع لابن عثيمين] إذن، الشيخ يقول : إذا أردت الاعتدال والسنة لا تزد في الوضوء على ثلاث غسلات، ولا تزد في الغسل على مرة على القول بعدم الثلاث، وبهذا يحصل الاعتدال، والآن إذا عرضنا الواقع على السنة، ليس أقل من ثمانية وعشرين مرة، إلى أن هذا الدش شغال ما في تحكم على آخر شيء، ثم اخترعوا الآن دشوش، يعني مثل الدش الذي فوق السطح مع كل غسلة يغلق لكن من الذي يغلق، الذي يغلق أثناء الوضوء يدل على حرصه واتباعه للسنة وعلى اقتصاده، الذي يغلق الحنفية إذا أخذ ماء لعضو وأغلق الحنفية هذا يدل على فقهه واقتصاده، لكن أكثر الناس ليسوا كذلك، وبالمناسبة بعض العلماء نصوا على عدم جواز أخذ أكثر من الحاجة في الماء الموقوف مثل مياه حمامات المساجد، هذه نصوا عليها، لأن الآن هذا ما يدفع فاتورة الماء من جيبه حتى يقول : والله أنا هذا أنا أملكه بكيفي، هذا الماء الذي في حمامات المساجد، مواضئ المساجد ما يجوز الزيادة فيه؛ لأن الزيادة فيه اعتداء على الملك العام أو الماء للموقوف، وكانوا يحفرون بئرًا ويوقفونه على المسجد، والآن ممكن تسدد، تصير هذه المياه على حساب بيت مال المسلمين تبع وزارة المساجد مثلًا.
ثم قال المصنِّف - رحمه الله -: "والفرض من هذا غسل جميع البدن وما تحت الشعور الخفيفة والكثيفة والله أعلم" فالمصنّف - رحمه الله - ضبط الواجب، لو واحد قال : أعطوني ما هو الواجب؟ المستحب عرفناه، ما هو الواجب؟ الذي لا يجزئ أقل منه، نحن الآن في رحلة برية، الماء قليل وبرد، ما هو الواجب في الغسل الذي لا يجزئ أقل منه؟
قال الشيخ - رحمه الله -: "والفرض من هذا غسل جميع البدن وما تحت الشعور الخفيفة والكثيفة والله أعلم"
فلما فرغ - رحمه الله تعالى - من بيان صفة الكمال في الوضوء أعقبها ببيان صفة الاجزاء، وهي القدر الواجب فعله ليصح الغسل ويكون مجزئًا ورافعًا للحدث، وقد ذكر المصنّف - رحمه الله تعالى - أن الفرض من هذا شيء واحد وهو تعميم جميع البدن بالماء، قال الكاساني - رحمه الله -: "وأما ركنه - يعني ركن الغسل - وأما ركنه فهو إسالة الماء على جميع ما يمكن إسالته عليه من البدن من غير حرج مرة واحدة، حتى لو بقيت لمعة لم يصبها الماء لم يجز الغسل، يعني لا بد من التعميم ولو بقيت لمعة ما يجزئ، قال: وإن كانت يسيرة، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]، أي: طهّروا أبدانكم، [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 1/34].
وكذلك يجب إيصال الماء إلى جميع الشعور الخفيفة والكثيفة والموجودة في البدن.
قال النووي - رحمه الله -: "وسواء كان الشعر الذي على البشرة خفيفًا أو كثيفًا يجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة تحته بلا خلاف" [المجموع: 2/184].
وهذا الكلام خلافًا للوضوء، غير قضية البدن كله، وهذه أعضاء معينة، حتى الوضوء فيه مجزئ وفيه مستحب، الوضوء يجب فيه غسل الشعور الخفيفة فقط، ولذلك قالوا : إذا كانت لحيته كثيفة يغسل يعني في غسل وجهه، يغسل ظاهرها للوجوب، يعني التخليل سنة عند من رأى بثبوت ذلك في الحديث، لكن في الغسل يجب غسل الباطن.
إذن، من الفروق بين الوضوء والغسل مسألة غسل الشعور الكثيفة فهو واجب في الغسل، غير واجب في الوضوء، قال النووي - رحمه الله -: "لأن الوضوء متكرر فيشق غسل بشرة الكثيف" [المجموع شرح المهذب: 2/184].
قال أهل العلم: والشعر بالنسبة إلى تطهيره وما تحته ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول : ما يجب تطهير ظاهره وباطنه بكل حال، وأين هذا؟ في الغسل الواجب.
الثاني: ما يجب تطهير ظاهره وباطنه إن كان خفيفًا، وتطهير ظاهره إن كان كثيفًا، وهذا في الوضوء.
الثالث: ما لا يجب تطهير باطنه سواء كان كثيفًا أم خفيفًا وهذا في التيمم.[الشرح الممتع على زاد المستقنع: 1/363].
قال ابن قدامة - رحمه الله -: "وغسل بشرة الرأس واجب سواء كان الشعر كثيفًا أو خفيفًا، وكذلك كل ما تحت الشعر كجلد اللحية وغيرها، -هذا الغسل الواجب- لما روت أسماء أنها سألت النبي ﷺ عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطهر فتُحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء ، وقال ابن قدامة: "ولأن ما تحت الشعر بشرة أمكن إيصال الماء إليها من غير ضرر فلزمه كسائر بشرته" [المغني لابن قدامة: 1/167].
وقد وردت بعض الأحاديث في التأكيد على غسل الشعر في الغسل لكنها ضعيفة منها حديث مشهور رواه الترمذي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر لكن هذا الحديث لا يصح. [رواه ابو داود: 248، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير: 1847].
وعن علي عن النبي ﷺ قال: من ترك موضع شعرة من جسده من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار ، قال علي: "فمن ثم عاديت شعري" وكان يجزه. رواه أبو داود، لكن كلا الحديثين ضعيف. [رواه ابن ماجه: 599، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه: 599].
لكن عندما نقول في الغسل : يجب، فمعناه يكون صحيحًا، يعني تحت كل شعرة جنابة، عندما نقول : إن غسل الباطن الشعر الكثيف ليصل الماء إلى البشرة ومنابت الشعر، معناها أن هذا واجب، لكن وبالمناسبة حديث علي رضي الله عنه ثبت عنه موقوفًا، لكن لم يصح عنه مرفوعًا، هل يلزم غسل الشعر المترسل في الحدث الأكبر؟ لا فرق في الحكم، يعني وجوب تعميم البدن بين أن يكون الشعر قصيرًا أو طويلًا عند جمهور العلماء، فيجب على من كانت جنبًا؛ لأنه الآن عندنا نحن الآن عندما تكلمنا في قضية الوضوء، قلنا : المرأة في مسح الرأس تمسح لو كان شعرها طويلًا إلى آخر الظهر لو كانت تقعد عليه من طوله فرضنا، الحد الواجب المشروع في الوضوء أن تمسح إلى حدود الشعر، إلى حدود منابت الشعر في الرقبة، لكن ما تنزل أسفل من ذلك.
الغسل الآن إذا كانت صاحبة شعر مسترسل طويل هناك فرق بينه وبين الوضوء؟
نعم، قال علماء اللجنة الدائمة: فيجب على من كانت جنبًا ومن انقطع حيضها أن تعم جسدها وشعرها بالماء بنية الطهارة سواء كان شعرها طويلًا أم قصيرًا وسواء كان مضفورًا أم غير مضفور، انتهى، يعني لو قالت : ممكن أضع كيس نايلون على الشعر وأغتسل في غسل الجنابة، نقول: كلا، يجب أن تغسل الشعر فكونها ما يجب عليها نقض الشعر لا يعني أنه لا يجب عليها غسل الشعر، بل يجب عليها غسل الشعر.
وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "ولا يجوز لها أن تغسل ظاهر الشعر فقط، بل لا بد أن يصل الماء إلى أصول الشعر إلى جلدة الرأس، ولكن إذا كان مضفرًا فإنه لا يجب عليها نقضه، بل يجب عليها أن يصل الماء إلى كل الشعر بأن تضع الضفيرة حتى مصب الماء ثم تعصره حتى يدخل الماء إلى جميع الشعر"، يعني لو قالت : الشعر غزير ومضفور والضفائر كبيرة، قال الشيخ: "تضع الضفيرة تحت مصب الماء ثم تعصره حتى يدخل الماء إلى جميع الشعر باليد".
والسؤال هنا نحن ما تطرقنا للمضمضة والاستنشاق هل يدخلان في البدن الواجب غسله؟
ذهب بعض العلماء إلى أن الواجب غسل ظاهر البدن فقط، وأن المضمضة فيها غسل الجوف وباطن وداخل ما هو ظاهر، وكذلك الاستنشاق هذا غسل باطن، فذهب بعض العلماء إلى أن الواجب هو غسل ظاهر البدن فقط، ولذلك لا يدخل فيه الأنف والفم عندهم، وهذا عند المالكية والشافعية، أما الحنفية والحنابلة فذهبوا إلى وجوبهما وأن الغسل لا يصح بدون مضمضة واستنشاق، وعندهم أن الواجب إيصال الماء إلى ظاهر البدن، والباطن الذي لا ضرر من وصول الماء إليه، قال الكاساني: "واسم البدن يقع على الظاهر والباطن، فيجب تطهير ما يمكن تطهيره منه بلا حرج، ولهذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الغسل، لأن إيصال الماء إلى داخل الفم والأنف ممكن بلا حرج" [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 1/34]
"فالمراد أن يغسل الظاهر جميعه وما في حكمه من الباطن وهو ما يمكن إيصال الماء إليه من غير ضرر، وهو ما يُسن إيصال الماء إليه في الوضوء" هذا كلام شيخ الإسلام في شرح عمدة الفقه. [شرح عمدة الفقه لابن تيمية: 1/366].
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "المضمضة والاستنشاق واجبتان في الغسل من الجنابة؛ لأنهما في حكم الوجه، والبدن في الغسل يعد عضوًا واحدًا، ولذلك فإنه لا يشترط الترتيب في غسله"، يعني ليس مثل الوضوء إلا في قضية الميمنة والميسرة اليمين والشمال.
أما مسألة: هل هناك ترتيب معين في غسل البدن؟
مضى كلام شيخ الإسلام قال: أعالي بدنه يبدأ بالميمنة وأعالي بدنه، لكن هل هناك ترتيب يجب اتباعه في غسل البدن؟ الجواب : لا؛ لأن البدن يعد عضوًا واحدًا في الغسل، ولا يشترط الترتيب في غسله، قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "فرض الله الغسل مطلقًا، لم يذكر فيه شيئًا يبدأ به قبل شيء"، لاحظ عبارة الشافعي الدالة على فقهه - رحمه الله -، قال: "فرَض الله الغسل مطلقًا لم يذكر فيه شيئًا يبدأ به قبل شيء، فإذا جاء المغتسل بالغسل أجزأه والله أعلم كيفما جاء به، وكذلك لا وقت في الماء في الغسل إلا أن يأتي بغسل جميع بدنه"، [الأم للشافعي: 1/56].
والاختلاف بين الوضوء والاغتسال هنا هو الترتيب، فهو واجب في الوضوء غير واجب في الغسل، الترتيب بين الأعضاء واجب في الوضوء غير واجب في الغسل، فإذا انغمس الجنُب في البحر بنية الاغتسال أو ألقى نفسه في مسبح فماذا يبقى عليه عند الحنفية والحنابلة؟ المضمضة والاستنشاق، فيكون غسله صحيحًا مجزئًا بنية، وإذا فعل ذلك في الوضوء لم يجزئه عند من يرى وجوب الترتيب في غسل أعضاء الوضوء حتى يغسل الأعضاء مرتبة.
بقي عندنا الآن مسائل الدلك هل هو واجب؟ الموالاة هل تجب في الغسل؟ لو غسل نصف البدن ونصفه فيما بعد مثلًا، قضية النية في الغسل، التلفُّظ، تداخل النيات في الغسل، هناك أغسال واجبة وأغسال مستحبة، سنأتي على ذلك إن شاء الله في الدرس القادم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.