فمع أن عامة العلماء قالوا بنجاسة الدم، إلا أنهم ذهبوا إلى العفو عن يسيره في الجملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب" [مجموع الفتاوى: 19/25]، وكذلك في المغني. [المغني: 1/107].
ويدل على العفو عن يسير الدم قول الله تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام: 145]؛ فمفهوم قوله: مَسْفُوحًا ، يعني: كثيرًا، فإذا كان قليلاً فمعفو عنه.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار": "لا خلاف أن القليل من الدم الذي لا يكون جاريًا مسفوحًا متجاوز عنه"، وقال: "إذ القليل لا يكون جاريًا مسفوحًا، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطة في ثوب أو بدن لم يكن حكمها حكم المسفوح الكثير، وكان حكمها حكم القليل" [التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 22/230].
ثانيًا: آثار الصحابة الدالة على العفو عن يسير الدم.
ومن الأدلة:
أولاً: الآية، أن مفهوم الآية أن القليل معفو عنه، وأن النجس أو الرجس هو في المسفوح الكثير.
ثانيًا: آثار وردت عن الصحابة في العفو عن يسير الدم.
ومنها عن بكر قال: "رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دم؛ فحكه بين إصبعيه، ثم صلى، ولم يتوضأ " [مصنّف ابن أبي شيبة: 1/128 رقم: 1469].
وعن مجاهد عن أبي هريرة: "أنه لم يكن يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأسًا" [مصنّف ابن أبي شيبة: 1/128 رقم: 1465].
وعن أبي الزبير عن جابر : " أنه أدخل إصبعه في أنفه فخرج عليها دم فمسحه بالأرض أو بالتراب ثم صلى" [مصنّف ابن أبي شيبة: 1/128 رقم: 1474].
وعن الليث بن سعد قال: "سمعت الناس -يعني أهل العلم- لا يرون في يسير الدم يصلى به وهو في الثوب بأسًا" [الاستذكار: 1/336].
ثالثًا: أن يسير الدم يشق التحرز منه غالبًا؛ لأن الإنسان لا يخلو في غالب أمره من بثرة، أو دمل، أو حبة؛ فيعفى عن القليل منه، قال ابن قدامة -رحمه الله-: "فإن الإنسان لا يكاد يخلو من بثرة أو حكّة أو دمل، ويخرج من أنفه وفيه، وغيرهما، فيشق التحرز من يسيره أكثر من كثيرة" [المغني: 2/58].
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "فلو كلّفوا غسل اليسير من الدم والقيح لشق عليهم ذلك، فعفي عنه لقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]. [تحفة اللبيب شرح التقريب: ص 78].