الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد سبق الحديث في مسائل الطهارة عن أحكام النجاسات، ومنها: المسكرات، وقلنا بأن نسبة الكحول إذا كانت ضئيلة بحيث تصبح مستهلكة في الشيء الذي تخلط معه بحيث لا يظهر لها أثر ولا يسكر هذا المخلوط لو تناول منه مقدارًا كبيرًا فإنه يجوز حينئذ تناولها وبيعها؛ لأن هذه المادة المسكرة قد استهلكت فلم يعد لها أثر.
وأما إذا كانت النسبة كبيرة بحيث يكون لها تأثير في الشيء الذي أضيفت إليه، فلو شرب منه كثيرًا أسكر فإنها حرام لا يجوز استعمالها عند جمهور العلماء بأي وجه من الوجوه، وتحدثنا عن إزالة النجاسة، وأنها واجبة من ثلاث محال من ثوب الإنسان، وبدنه، ومكان صلاته، فقلنا: النجاسة إذا وقعت في أرض فضاء، أي أرض لا تجب إزالتها، لكن إذا كانت هذه الأرض يصلى عليها فيجب إزالتها حينئذ، فالنجاسة لا تجب إزالتها من أي مكان تقع فيه، لكن هذه الثلاث لابد من إزالة النجاسة منها، بدن الإنسان، وثوبه، ومكان صلاته.
وذكرنا الأدلة على ذلك، ومنها: قول الله -تعالى-: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4].
وعرفنا: أن الأعيان النجسة، وهي على حالها لا يمكن تطهيرها بأي حال من الأحوال، النجاسة ذاتها لا يمكن تطهيرها، لكن تطهير ما وقعت عليه، فالنجاسة بذاتها مهما فعلت فيها تبقى نجاسة، لكن لو وقعت على شيء فغسلته يمكن إذًا إزالة النجاسة عن هذا الشيء، وهو الذي نقول عنه: المتنجس.
وتكلمنا في موضوع الاستحالة التحول، وأن النجاسة إذا تحولت إلى مادة أخرى، وضربنا مثلًا بالميتة إذا وقعت في ملاحة، يعني أرض ملح فصارت ملحًا، هي تحولت إلى ملح بعد مدة، ما هو حكمها؟ وهل يزول الحكم بهذه الاستحالة، وهي التحول الكامل أم لا؟
وأن مذهب الحنفية والمالكية والظاهرية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن العين النجسة إذا استحالت إلى عين أخرى تصبح طاهرة؛ لأن الطهارة والنجاسة تتعلق بحقائق الأعيان، وإذا انتفت هذه الحقائق انتفت الأحكام، انتفى الحكم معها، وذهب ما كان محكومًا بنجاسته، ولم يبق الاسم الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة، ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها، وضربنا أمثلة على هذا مثل عملية تكرير مياه المجاري أو الذي يسمونه بالصرف الصحي، لو حصل التكرير والتنقية بحيث زالت أوصاف النجاسة عن هذا الماء المكرر، فلم يعد له لا رائحة ولا طعم ولا لون نجاسة، فإنه يتحول إلى ماء طاهر على الراجح مهما كان أصله، لقد تحولت المادة إلى مادة أخرى، وزالت أوصاف النجاسة، فعند هؤلاء العلماء أن زوال أوصاف النجاسة زوالًا تامًا يرفع الحكم، وأن الحكم يدور مع علته.
وذكرنا أنه لا يحكم باستحالة العين أن هذه العين المعينة أو المادة المعينة قد تحولت تحولًا يحكم معه برفع الحكم إلا إذا انقلبت عين المادة انقلابًا كاملًا وشاملًا بحيث تتغير طبيعتها وصفاتها وخواصها، وضربنا مثالًا على ذلك بتحول الدم إلى المسك، فإن الغزال فيه غدة هي أصلها دم، لكن بقدرة الله يتحول هذا الدم إلى مسك عند أخذ الغدة، ومن هنا يأخذون المسك، فإن المسك بعض دم الغزال؛ كما قال الشاعر.
وأيضًا ضربنا مثالًا بالجيلاتين مأخوذ من بقر، قد يكون مأخوذًا من حيوان لم يذك، ميتة، فالجيلاتين المتكون من استحالة عظام الحيوانات النجسة وجلودها وأوتارها إذا صار التحول كاملًا يصبح طاهرًا.
وكذلك الصابون الذي ينتج من استحالة، يعني تحول شحم ميتة أو خنزير يصبح طاهرًا بتلك الاستحالة العملية التحولية، ويجوز استعماله عند هؤلاء العلماء، والآخرون يقولون: سننظر إلى الأصل ويبقى حكم الأصل، والأصل إذا كان حرامًا فإن التحول لا يفيد، فعرفنا قولي أهل العلم في هذه المسألة، وبينا أن العين الطاهرة إذا لاقت عينًا نجسة لا يحكم بتنجسها إلا إذا كان أحدهما رطبًا، فلو كان هناك سطح ماء نجس، يعني مثلًا نجاسة على سجاد، وقع بول على سجاد فجف السجاد، هل زالت النجاسة أم لا؟
لم تزل، هذا سجاد نجس، ولا تجوز الصلاة عليه، ماذا لو وطئت السجاد هذا لو وطئت بقعة النجاسة الجافة وقدمك جافة هل تنتقل النجاسة إلى القدم؟ لا تنتقل، متى تنتقل؟ إذا كانت البقعة رطبة، أو قدمك رطبة، فالطاهر الجاف إذا لاقى نجسًا جافًا لا يتنجس، فالنجاسة إنما تتعدى مع الرطوبة، وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: ما الحكم إذا وطئت بقدمي على نجاسة بعد انتهائي من الوضوء هل أغسل القدم كلها؟ هل أغسل القدم فقط أم أعيد الوضوء؟
فأجاب: إذا كانت النجاسة رطبة كالبول والعذرة الرطبة، فعليك أن تغسل القدم فقط، ولا يعاد الوضوء، ليس من نواقض الوضوء أن يطأ على نجاسة ولو كانت رطبة، تغسل النجاسة فقط، أما إذا كانت النجاسة يابسة والقدم يابسة فليس عليك شيء ولا يضر"[فتاوى نور على الدرب، لابن باز بعناية الشويعر: 5/ 254].
وقال الشيخ عبد الله بن جبرين -رحمه الله- في بعض فتاويه: لا يضر لمس النجاسة اليابسة بالبدن والثوب اليابس، وهكذا لا يضر دخول الحمام اليابس حافيًا مع يبس القدمين؛ لأن النجاسة إنما تتعدى مع رطوبتها"[فتاوى إسلامية: 1/ 194].
ثم بينا كيفية تطهير الأشياء المتنجسة، فإذا كانت النجاسة جامدة وأصابت الأرض، أو البدن، أو الثوب، أو أي شيء يراد تطهيره، فلابد من إزالة عين النجاسة أولًا، فتزال بجرمها هي، تزال بجرمها أولًا، وجميع أجزائها، ثم يغمر مكانها بالماء حتى تذهب صفات النجاسة من لون أو طعم أو ريح، ولا يشترط الدلك ولا العصر؛ لأن هذا السؤال يأتي: هل يشترط العصر؟
إذا زالت النجاسة ما يشترط الدلك والعصر.
إذن، تطهير النجاسات إذا كانت صلبة فإننا نزيل الجرم أولًا، ثم نغسل بالماء، ولا يشترط الدلك والعصر، فإن كانت النجاسة لا تزول إلا بالدلك والفرك فلابد منهما للإزالة.
فإذن، لا يشترطان في الأصل إذا زالت النجاسة من غير فرك ولا دلك ولا عصر، فلا يجب الفرك والدلك، لكن إن كان لابد منهما للإزالة فيجبان حينئذ؛ لأن المقصود هو الإزالة، فإذا كانت لا تحصل إلا بهذا وجب، وإلا فلا يجب.
وفي "الموسوعة الفقهية": "أما إن كانت النجاسة غير مائعة بأن كانت ذات أجزاء متفرقة كالرمة والروث والدم إذا جف، هذه مسألة نتخيلها ميتة أو أجزاء من ميتة أو روث أو دم جف، واختلطت بأجزاء الأرض" صارت الآن مختلطة بأجزاء الأرض فكأنها صارت قطعًا، هذه النجاسة الجامدة ليست مائعة اختلطت بالأرض فكأنها تمزقت أو تفرقت وصارت قطعًا في الأرض "لم تطهر بالغسل، بل تطهر بإزالة أجزاء المكان حتى يتيقن زوال أجزاء النجاسة، وهذا ما لا خلاف فيه"[الموسوعة الفقهية الكويتية: 3/ 113].
إذن، لو وقعت هذه النجاسة الجافة وتفرقت واختلطت بأجزاء الأرض في بقعة معينة وأردنا تطهيرها ماذا نفعل؟
نزيل هذه الطبقة التي اختلطت فيها النجاسة بأجزاء الأرض، نزيل الطبقة كلها، بعد ذلك نسكب الماء، لكن مجرد سكب الماء عليها لا يطهرها؛ لأن أجزاء النجاسة ليست هذه الجامدة، ليست كالبول سيذهب وتشربه الأرض وانتهينا، لا، ما زالت موجودة متفرقة مبعثرة، ولذلك يكشط هذا الجزء، يحك يزال، ويمكن أن يغسل بعد ذلك.
هذا بالنسبة للنجاسة الجامدة، أما بالنسبة للنجاسة المائعة السائلة كالبول والخمر إذا أصابت الأرض فيكفي غمرها ومكاثرتها بالماء؛ كما في حديث الأعرابي الذي ورد عن النبي ﷺ أنه قال: وهريقوا على بوله سَجْلًا من ماء، أو ذَنُوبًا من ماء [رواه البخاري: 220].
وإن أصابت شيئًا لا يتشرب النجاسة، هذه السائلة أصابت شيئًا لا يتشرب الأرض، تتشرب إذا أرقنا الماء، النجاسة ستنزل تحت، ويصبح سطح الأرض طاهرًا، ونحن لسنا مكلفين بباطن الأرض، نحن لسنا مكلفين بتطهير باطن الأرض، مكلفين بتطهير سطح الأرض فقط، وهذا ما يلزم للصلاة عليها، ولذلك لو قال في نجاسة تحت مطمورة، والسطح طاهر، فتجوز الصلاة، ولذلك لو قال لك: تحت سطح غرفتي يوجد أنبوب مياه المجاري أو الصرف تتأثر صحة الصلاة؟
نقول: لا، لأننا لسنا مكلفين شرعًا بتطهير باطن الأرض، وإنما فقط الوجوب التطهير لسطح الأرض.
ماذا إذا أصاب شيئًا لا يتشرب النجاسة، هذه السائلة جاءت على سطح مصمت لا يتشرب؟ فيكفي غمرها بالماء حتى تزول صفاتها من لون وريح وطعم، قال ابن قدامة -رحمه الله-: "إن كانت جسمًا لا يتشرب النجاسة كالآنية فغسله بمرور الماء عليه" [المغني: 1/43] كيف نطهر هذا اللوح الخشبي الأملس أو الزجاجي؟
سكب الماء عليه حتى تزول صفات النجاسة.
أما إذا أصابت شيئًا يتشرب النجاسة كالثوب والسجاد والملابس عمومًا فهل يكفي غمرها بالماء أم لابد من عصرها؟
في هذه الحالة، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "وإن كانت سائلة كالبول نشفه بإسفنج حتى ينتزعه"[فتاوى نور على الدرب: 7/ 2، بترقيم الشاملة].
فلو جاءت نجاسة على سجاد ماذا نفعل أولًا؟
ننشف النجاسة قبل ما نصب ماء، وقبل ما نغسل ننشف النجاسة، فتنشيف النجاسة هذا يرفع أكبر قدر منها، قال: ثم بعد ذلك يصب الماء عليه حتى يظن أنه زال أثره أو زالت النجاسة، وذلك يحصل في مثل البول بمرتين أو ثلاث.
كيفية تطهير النجاسة إذا وقعت على سجاد؟
فلو قال واحد: كيف نطهر نجاسة وقعت على سجاد؟
فنقول:
أولًا: ننشف النجاسة.
ثانيًا: نسكب ماء على مكان النجاسة ثم ننشفه ونسكب وننشف ونسكب وننشف حتى ما يبقى أثر لا ريح ولا لون، ما يبقى أثر، تعتبر الآن السجادة صارت طاهرة، ويمكننا الصلاة عليها، قال الشيخ: وأما العصر لو قال واحد هل لابد أن ننزع السجاد ونغسل السجاد ونعصر السجاد؟
قال الشيخ: وأما العصر فإنه ليس بواجب إلا إذا كان يتوقف عليه زوال النجاسة.
فإذن، العصر -كما قلنا- في الدلك والفرك لا يجب إلا إذا توقفت إزالة النجاسة عليه، فلا يمكن إزالتها إلا بالعصر، فحينئذ لابد أن نعصر، قال: مثل أن تكون النجاسة قد دخلت في داخل هذا المغسول، ولا يمكن أن ينظف داخله إلا بالعصر فإنه لابد أن يعصر.
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وإن كان المغسول جسمًا تدخل فيه أجزاء النجاسة لم يحتسب برفعه من الماء غسلة إلا بعد عصره، وعصر كل شيء بحسبه"[المغني: 1/ 43].
وفي فتاوى "اللجنة الدائمة": "يكفي صب الماء على موضع النجاسة، ولا يجب نزع الفرشة ولا عصرها"[فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (5/ 397].
والحاصل: أن إزالة النجاسة تتوقف على أمرين: إزالة عينها وصفاتها، والصفات الطعم واللون والرائحة، فإن بقي الطعم فلابد من غسلها مرة ثانية وثالثة حتى يزول؛ لأن بقاءه دليل على بقاء جزء منها.
وأما إن غسلها وبقي اللون وحده أو الرائحة وحدها أو اللون والرائحة معًا، فمذهب جمهور العلماء أنه لا يضر بقاؤهما أو بقاء أحدهما إذا شق إزالتهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح العمدة": "ولو بقي بعد المبالغة والاستقصاء أثر لون أو ريح لم يضر" [شرح عمدة الفقه: 1/ 27] في بعض الحالات، مثلًا دم وقع على ثوب، أحيانًا مع الفرك ومع العصر ومع الغسل ومع تكرار الغسلات يبقى شيء من أثر اللون، في هذه الحالة لا يضر، قال: "مع المبالغة والاستقصاء" يعني حاولنا وجهدنا، وبقي أثر بقية لون، قال: "فلا يضر" ولا يشترط في الغسل عدد معين، بل الواجب الغسل حتى تزول عين النجاسة وآثارها، بمعنى أن يغسل الثوب أو البدن أو الأرض أو أي شيء وقعت عليه النجاسة حتى تزول، سواء احتجنا في إزالتها إلى غسلة واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو خمس أو سبع أو أكثر، فالعدد غير مقصود ولا مطلوب، وإنما المطلوب فقط الغسل الذي يزيل النجاسة؛ لأن بعض العامة عندهم عملية التسبيع لابد منها في النجاسة، والتسبيع يعني غسلها سبع مرات، وهذا لا يجب إلا في غسل نجاسة الكلب الذي لعق، أو لعاب الكلب إذا أصاب شيئًا، هو الذي يغسل سبعًا شرطًا، ولابد من السبع إحداهن بالتراب، لكن يستحب أن لا يقل الغسل عن ثلاث في النجاسات، لا يشترط، يستحب لحديث: وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده [رواه البخاري: 162، ومسلم: 278].
فندب النبي ﷺ إلى غسلها ثلاثًا خشية أن تكون باتت يده في مكان نجس، أو لامست نجاسة، أو أصابت نجاسة أثناء النوم، فدل ذلك على استحباب الثلاث.
أما عند اليقين، يعني إذا أصابت نجاسة يقينًا فلابد من الغسل حتى تزول النجاسة، والعدد غير مقصود زالت من مرة تكفي، مرة مرتين تكفي ثلاث.
وهكذا قلنا: إن نجاسة الكلب مستثناة، الخنزير مختلف فيه في العدد، فجمهور العلماء يقولون: الخنزير مثل الكلب لابد من سبع، وغيرهم يقول: لا يشترط السبع، النص ورد على الكلب، ولا يقاس عليه، وكذلك سائر نجاسات مثل نجاسات السباع.
أما بالنسبة لنجاسة بول الغلام الرضيع فقد تقدم الكلام فيها أنه يكفي فيها الرش والنضح بالماء؛ لأن نجاسة بول الغلام الذي لم يأكل الطعام مخففة في الشريعة لكثرة تداول الأيدي له وحمله.
حكم المذي وكيفية تطهيره
ماذا يشبه بول الغلام الذي لم يأكل الطعام؟ ماذا يشبه في النجاسة المخففة؟
المذي عند بعض العلماء، يقولون: المذي إذا أصاب الثوب يكفي فيه الرش والنضح، وقال آخرون: يجب الغسل.
كيفية تطهير البئر إذا وقعت فيه نجاسة
مسألة: كيف نطهر البئر إذا وقعت فيها نجاسة؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا تنجس ماء البئر، كأن تقع فيه ميتة، فإن تطهيره يكون بالتكثير إلى أن يزول التغير، ويكون التكثير بالترك، يعني نحن لن نأتي بماء خارجي نصبه في البئر، يكون التكثير بالترك حتى يزيد الماء ويصل إلى حد الكثرة، ما يشترط نصب ماء خارجي، لكن لو صببنا لا مانع، لو أتينا بصهريج ماء صببناه في البئر فكاثرنا الماء الموجودة حتى زال التغير، فنزعنا من البئر ماء فإذا هي ماء طاهر ما فيها أي أثر من النجاسة.
هذا بالنسبة للمكاثرة، ماذا أيضًا غير المكاثرة؟
لاحظ البئر الأصل أن الماء ينبع، يعني يخرج منها من أسفل، فإذا تركت الماء سيخرج مزيد من الماء، مزيد من الماء، مزيد من الماء، حتى يحصل التطهير ننزع ماء فيكون ماء طاهرًا، ما في علامة نجاسة.
كاثرناها بصب ماء فيه، عرفنا أيضًا الجواب.
ما هي مسألة النزح؟
ذهب المالكية والحنابلة إلى اعتبار النزح طريقًا للتطهير أيضًا، يعني أنت إذا أخذت ماء ثم أخذت وأخذت وأخذت.
وطبعًا سيخرج بدلًا من الماء المستخرج ماء جديد من قعر البئر حتى زالت النجاسة، فالنزح أيضًا طريقة للتطهير، فالترك يؤدي للتكثير، صب الماء مكاثرة، النزح أيضًا يؤدي للتطهير.
إزالة النجاسة من البدن
مسألة: هل إزالة النجاسة من البدن واجبة على الفور، بمعنى وقعت النجاسة الآن إذا ما غسلتها الآن تأثم؟ يعني لو بقيت ربع ساعة، نصف ساعة، هل يأثم أم لا؟
قال النووي -رحمه الله-: إن إزالة النجاسة ليست على الفور، وإنما تجب عند إرادة الصلاة ونحوها، لكن يستحب تعجيل إزالتها لئلا ينساها"[المجموع: 2/ 599] لأن النجاسة قد تكون ضارة أيضًا على المكان، ولذلك يندب إلى إزالتها فورًا ولو تأخرت الإزالة إلى حين الصلاة، فلا بأس.
حكم إزالة عين النجاسة بغير الماء
مسألة: إذا زالت عين النجاسة عن المكان الطاهر بغير الماء، هل نحكم بالطهارة أم لابد أن تكون الإزالة بالماء؟
ممكن تزول النجاسة أحيانًا بالريح، الشمس، التراب، غسلتها مثلًا بديتول كلوركس، يعني غير الماء، هل يشترط الماء في إزالة النجاسة أم لا؟ وهل لو زالت النجاسة بغير الماء نحكم بطهارة المكان؟
الأصل في إزالة النجاسة أن تكون بالماء، فالماء هو المطهر لجميع الأعيان المتنجسة؛ لأن الله -تعالى- قال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا [الفرقان: 48]، وقال : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ [الأنفال: 11].
والأخبار الثابتة عن النبي ﷺ أنه أمر بصب دلو من ماء على بول الأعرابي.
ولأنه أمر بغسل دم الحيضة بالماء، فمن الأحاديث الواردة في تطهير النجاسة بالماء قوله عن دم الحيض حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء .
وكذلك قوله في آنية المجوس: ارحضوها ثم اغسلوها بالماء .
وكذلك قوله ﷺ في حديث الأعرابي: صبوا على بوله ذنوبًا من ماء كما تقدم.
بعض وسائل التطهير بغير الماء
لكن هل يقوم غير الماء من المائعات مقامه في التطهير؟ فلو تمت إزالة النجاسة بالخل أو ماء الورد، ونحو ذلك من المنظفات في هذا الزمن -كما قلنا- صابون سائل كلوركس، إلخ..، بنزين، هل تعتبر هذه مطهرة للنجاسة؟
لاحظ المسألة هذه قد يحتاجها أصحاب المغاسل، مغاسل الثياب، ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن تطهير النجاسة لا يكون إلا بالماء، وأنه لا شيء يقوم مقام الماء، كما أن طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء، يعني الوضوء بالماء، الغسل بالماء.
إذا عدمنا الماء التراب، لكن لن نتوضأ بالخل، ولا يجزئ الوضوء بالخل، وهكذا..، فقالوا: الطهارة بالماء، والأدلة وردت على الماء كما أن إزالة الحدث الأكبر والأصغر بالماء، فأمر النبي ﷺ بغسل النجاسات بالماء، والتنصيص على الماء يدل على لزومه، ولو كان غيره يقوم مقامه لبينه، ولكن هذا قد يجاب عنه بأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي منع الحكم عن سواه، كما في أمره بالاستجمار بثلاثة أحجار، لا يعني منع الاستجمار بغير الحجر، فلو استجمر بمناديل وغيرها لجاز، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء، وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع منها الاستجمار بالحجارة" [مجموع الفتاوى: 21/ 475].
وقال ابن تيمية في موضع آخر: والذين قالوا لا تزول إلا بالماء منهم من قال إن هذا تعبد، استعمال الماء هذا أمر تعبدي، قال: وليس الأمر كذلك، فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة لتعينه؛ لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها، فقال شيخ الإسلام: لو قلنا بإزالة النجاسة بالعصير عصير البرتقال مثلًا هذا فيه إفساد لمطعومات وأشربة الناس، قال: فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماء ورد وخل وغير ذلك لم يأمرهم بإفساده، يعني لن يقول لهم: استعملوا الخل ويحتاجونه في الطعام، قال: فكيف إذا لم يكن عندهم، يعني هذه أشياء كانت في مرحلة الفقر غير متوفرة، ماء الورد والعصائر، وهل سيقول لهم: إذا ما عندك إلا حليب أزل النجاسة بالحليب واللبن، وهي أطعمتهم التي يحتاجونها، فهذا كلامه رحمه الله في الرد على أن قضية الماء قضية تعبدية، وأنه ما دام ما ذكر غيرها معناها ما يجوز غيرها، لا يجزئ، فقال شيخ الإسلام: ليس كذلك فإن غيرها مثل عصير وحليب لبن، قال: هذه مطعومات الناس ولن يأمرهم بإفسادها، قال: ومنهم من قال هذا كلامه في تبرير لماذا لم يرد الشرع غير الماء؟ قال: ومنهم من قال الذين يوجبون الماء إن الماء له من اللطف.
إذن، يعني هذا السائل فيه خصائص الذين قالوا: الماء شرط، قالوا: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره، يعني ما هو مثل حتى اللبن أو غيره، ستجد أن خصائصه مختلفة في اختراق الثوب، وتشربه له، وإزالة الأشياء منه، والتنظيف، وإزالة صفات النجاسة، قال: ومنهم من قال: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات، فلا يلحق غيره به، هذا تبرير آخر للمانعين، قال: وليس الأمر كذلك، بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة، قال: "بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة كالماء أو أبلغ وأبلغ كالماء وأبلغ، فإن الإزالة بالماء قد يبقى معها لون النجاسة فيعفى عنه، وغير الماء يزيل الطعم واللون والريح" [مجموع الفتاوى: 21/476].
طبعًا كلامه -رحمه الله- صحيح، الآن بعض المنظفات، يعني كلوركس مثلًا يزيل من الأشياء ما لا يزيله الماء.
وأما قولهم: كما أن الحدث لا يرفع إلا بالماء، فكذلك غسل النجاسة أو إزالة النجاسة لا تجوز إلا بالماء، قال: فإنه يمكن الرد أنه لا يصح قياس طهارة الحدث على الطهارة من النجس، لأن طهارة الحدث تعبدية بخلاف طهارة الخبث، فهي معقولة المعنى تدرك بالعقل، الآن وقعت نجاسة، إزالة النجاسة معقولة المعنى، ففعلًا هذا خبث، وهذا مستقذر، وهذا إزالته واضحة، لكن لو قلت لك: خرج منه الريح فلماذا يتوضأ؟ ما في شيء يغسل؟ ما في جرم؟ ما في شيء أصاب اليدين والوجه؟ ما العلاقة بين الوضوء وخروج الريح؟
إذن، إزالة الحدث تعبدية، لا تعقل، لا تدرك بالعقل، عدد ركعات الصلوات تعبدية، لكن إعطاء الزكاة للفقراء معقول المعنى، فقال: فإذًا يقال لهم: لا تقيسوا إزالة النجاسة على إزالة الحدث.
وسبق أن ذكرنا في درس ماض الفروق بين إزالة النجس وإزالة الحدث.
من بقي من الأئمة الأربعة يقول بجواز إزالة النجاسة بغير الماء؟
أبو حنيفة ذهب إلى أنه يصح تطهير النجاسة بكل مائع طاهر يزيلها، وبهذا يكون كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- موافقًا لمذهب الحنفية بشرط أن يكون هذا المائع مما ينعصر بالعصر، وأما إذا كان لا ينعصر بالعصر، مثل العسل والسمن والدهن فإنه لا يزيل النجاسة. هذا كلام في "تحفة الفقهاء" للسمرقندي من كتب الحنفية.
طبعًا اشترطوا في المائعات المزيلة للنجاسة أن تكون مما يمكن ينعصر بالعصر.
إزالة النجاسة ليست من الأمور التعبدية، بمعنى أن إدراك العلة بالعقل ممكن، معقولة المعنى، وليست تعبدية محضة لا يدركها العقل، فبالتالي لا نحصرها بشيء محدد لا تزول إلا به، بل الواجب إزالتها بأي كيفية كانت، فلو تركنا نجاسة على أرض وقعت عليها، بعد مدة مع الشمس والريح والغبار والعوامل الجوية ما عاد النجاسة لها أثر أبدًا، ذهبت من تلقاء نفسها بهذه العوامل الجوية، شمس، ريح، غبار، فنحكم إذن بطهارة المكان إذا زالت النجاسة، وزالت صفات النجاسة، فعند ذلك نحكم بالطهارة، فلما كان الواجب هو التطهير، وهذه المائعات تشارك الماء في التطهير؛ لأن الماء إنما كان مطهرًا لكونه مائعًا رقيقًا يداخل الثوب، ويدخل خلاله، فيجاور أجزاء النجاسة فيرققها إن كانت كثيفة ويستخرجها، وهذه المائعات في المداخلة والمجاورة والترقيق مثل الماء، فكانت مثله في الحكم في إفادة الطهارة، يقول صاحب "بدائع الصنائع": "فإن الخل يعمل في إزالة بعض ألوان لا تزول بالماء، فكان في معنى التطهير أبلغ" [بدائع الصنائع: 1/84].
وفي هذا العصر من المعقمات والمطهرات والمزيلات ما لا يبقى للنجاسة معه أثر، رجح شيخ الإسلام -رحمه الله- مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، وقال: فالراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة، لما في ذلك من فساد المال، كما لا يجوز الاستنجاء بها؛ لأن في هذا إهانة للنعمة، وإهدار للنعمة.
ومن المعاصرين الذي ذهبوا إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام -رحمه الله-: المصنف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي قال في "المختارات الجلية": الصحيح أن النجاسة إذا زالت بأي شيء يكون بماء أو غيره فإنها تطهر.
إذن، هذه المسألة الجمهور أنه لابد من الماء، فإذا واحد قال: أنا أريد الاحتياط؟ نقول: لا تزل النجاسة إلا بالماء، وإذا قال: الراجح؟ نقول الراجح -والله أعلم- أن النجاسة إذا زالت بأي وسيلة فإن ذلك صحيح مجزئ.
التطهير بمسح الأسطح الصقيلة
من وسائل التطهير غير الماء: المسح بالنسبة للأسطح الصقيلة التي لا تتشرب النجاسة كالسكين والزجاج والسيف، فيكفي المسح بقطعة من قماش مثلًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وتطهر الأجسام الصقيلة؛ كالسيف، والمرآة، ونحوهما إذا تنجست بالمسح وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، ونقل عن أحمد مثله في السكين من دم الذبيحة" [الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 5/311].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومن ذلك أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم وكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك" يعني يكتفون ويرون أنه يصح ويجزئ وعلى قياس هذا يقول ابن القيم "مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة فإنه يطهرها، وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها" [إغاثة اللهفان: 1/155].
التطهير بالتجفيف
ثانيًا من وسائل التطهير: الجفاف، فإذا أصابت النجاسة أرضًا أو شجرًا أو حجرًا أو بلاطًا وتركت حتى جفت بفعل الشمس أو الريح وانتهى الأثر كما ذكرنا فإنها تطهر بذلك، ما هو الدليل؟
حديث عبد الله بن عمر قال: كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله ﷺ وكنت فتى شابًا عزبًا، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك [رواه أبو داود: 382، وذكره البخاري -رحمه الله- تعليقًا: 174، وبوب عليه أبو داود: "باب في طهور الأرض إذا يبست"].
طبعًا مسجد النبي ﷺ كان مفروشًا بالحصى، بالحصباء، فلم يكن مفروشًا بالسجاد، قال العيني -رحمه الله-: "الظاهر أنها كانت تبول في المسجد، ولكنها تنشف وتيبس فتطهر، فلا يحتاج إلى رش الماء"[شرح أبي داود: 2/ 216].
وقال ابن حجر -رحمه الله-: "واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف" يعني أن قوله: لم يكونوا يرشون، يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، إذا كان رش ما يستعمل، معناه صب الماء من باب أولى أنهم ما كانوا يفعلونه، قال ابن حجر: "فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك" [فتح الباري: 1/279] لا يمكن، يعني أن يتركوا مسجد نبيهم نجسًا.
وجاء أيضًا عن أبي قلابة أنه قال: "جفوف الأرض طهورها" [رواه عبد الرزاق في مصنفه: 5143].
وعند ابن أبي شيبة: "إذا جفت الأرض فقد زكت" [مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 59].
وليس المراد بكون الأرض تطهر بالشمس والريح مجرد الجفاف، بل لابد من زوال الأثر حتى لا يبقى صورة البول أو الشيء النجس، قاله الشيخ ابن عثيمين.
وفي فتاوى شيخ الإسلام: "وتطهر الأرض النجسة بالشمس والريح إذا لم يبق أثر للنجاسة" [الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 5/ 312].
التطهير بالدلك
ثالثًا -غير الغسل-: الدلك، أي دلك؟ ما هو مفهوم الدلك؟
الحك، مثل حك النعال بالتراب.
نحن الآن ما نتكلم على الدلك بالماء، نحن الآن خارج موضوع الغسل، نتكلم على كيفيات أخرى في التطهير، غير الغسل بالماء، فإذا تكلمنا الآن على الدلك، ما نتكلم الآن على الدلك بالماء، نتكلم عن الدلك مثل دلك النعال بالتراب مثلًا.
فالدلك هو مسح المتنجس بالأرض مسحًا قويًا بحيث يزول ما به من أثر النجاسة وعينها، وهذا الدلك ينفع في تطهير الخف والنعل مثلًا من النجاسة العالقة به سواء كانت جافة أو رطبة، والدليل على هذا حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه ما معنى فليمسحه ؟ يعني فليدلكه بالأرض، وليصل فيهما [رواه أبو داود: 650، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي] إذا أراد أن يصلي فيهما، وفيهما شيء علق من الطريق من النجاسة فليمسحه، وحتى لو كان من المستقذرات الأخرى حتى لا يقذر أرض المسجد يدلكه.
ففي هذا الحديث أمر النبي ﷺ بإزالة النجاسة بالدلك، قال الصنعاني: "وفي الحديث دلالة على شرعية الصلاة في النعال، وعلى أن المسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر والأذى، والظاهر فيهما عند الإطلاق النجاسة رطبة أو جافة" [سبل السلام: 1/205].
قال العيني: "وبالحديث استدل أبو يوسف على أن الخف أو النعل ونحوهما إذا أصابته نجاسة فدلكه بالأرض ومسحه يطهر، سواء كان رطبًا أو يابسًا، وسواء كان لها جرم أو لم يكن لإطلاق الحديث، وبه أفتى مشايخ ما وراء النهر لعموم البلوى.
وقال أبو حنيفة: المراد من الأذى النجاسة العينية اليابسة؛ لأن الرطبة تزداد بالمسح انتشارًا وتلوثًا.
وقال محمد: "لا يطهر إلا بالغسل وبه قال زفر" طبعًا هؤلاء من أعيان مذهب أبي حنيفة، قال العيني بعد ذلك: والشافعي ومالك وأحمد والحديث حجة عليهم، لأنه قال: محمد لا يطهر إلا بالغسل "وبه قال زفر والشافعي ومالك وأحمد والحديث حجة عليهم" [شرح أبي داود، للعيني: 3/193].
وقال البغوي: "ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر هذا الحديث، منهم النخعي، كان يمسح النعل أو الخف يكون به السرقين عند باب المسجد- الذي هو الروث، السرقين-الذبل- فيصلي بالقوم، وبه قال الأوزاعي، وأبو ثور" [شرح السنة: 2/ 93].
قال ابن رجب: "والقول بطهارتها بالدلك قول كثير من أصحابنا" يعني إذا قال ابن رجب أصحابنا يقصد الحنابلة قال: "وهو قول قديم للشافعي، وقول ابن أبي شيبة، ويحيى بن يحيى النيسابوري"[فتح الباري، لابن رجب: 3/ 45].
تكرار المشي بالثوب الطويل
رابعًا: تكرار المشي في الثوب الطويل.
إذا قال واحد: أنتم تحاربون الثياب الطويلة، وتقولون: إن الإسبال محرم أفتريدون أن تقولوا أن هذا الطول في الثياب يفيد الآن في إزالة النجاسة؟
فنقول: ليس المقصود الرجال إنما المقصود النساء، فإن رفع الثوب للرجل أبقى وأنقى وأتقى؛ لأنه يهترئ إذا كان على الأرض ويتنجس ويتسخ، وأتقى من جهة رفع الثوب؛ لأن ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار، لكن بالنسبة للمرأة هو الذي نعني الآن بالمسألة، فإذا كانت المرأة تلبس ثوبًا طويلًا ومرت به على مكان فيه قذى، أذى، قذر، نجاسة، ثم مرت به على أرض طاهرة فإنه يطهر بذلك؛ لأن الأرض يطهر بعضها بعضًا، ما هو الدليل؟
حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت للرسول ﷺ: "إني امرأة أطيل ذيلي؟" هذه الإطالة للاحتياط في ستر العورة، "إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر"، أمر على مكان فيه قذارة فكأنها تقول: ما الحكم الآن؟ فقال رسول الله ﷺ: يطهره ما بعده [رواه مالك في الموطأ: 2/ 33، وأصحاب السنن الأربعة، الحديث ضعفه البيهقي، والخطابي، والنووي، ولكن صححه العقيلي، وابن العربي، ومن المعاصرين الألباني].
وعن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت يا رسول الله إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ صارت الأرض رطبة وفيها النتن قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه [رواه أبو داود: 384، وصححه الألباني].
فالمرأة التي يصاب ذيل ثوبها بنجاسة إن مرت بعده بأرض أو طريق أو شارع فزالت عين تلك النجاسة بهذا السحب على الأرض فإن ثوبها يطهر بذلك، ولا يتعين الماء لإزالة تلك النجاسة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ "لأن الذيول يتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف، ومحل الاستنجاء"[مجموع الفتاوى: 21/ 511]..
وقال في موضع آخر: "ويطهر النعل بالدلك بالأرض إذا أصابه نجاسة وهو رواية عن أحمد. وذيل المرأة يطهر بمروره على طاهر يزيل النجاسة، ونقله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن أحمد" [الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 5/ 311].
جمهور العلماء لم يأخذوا بظاهر هذا الحديث، بل حمله بعضهم على النجاسة اليابسة.
وبعضهم على القذر من غير النجاسة، على الوسخ الذي غير النجاسة.
التطهير بالبخار
التطهير بالبخار، انتشرت في هذا العصر المغاسل التي يقال لها: المغاسل الأوتوماتكية، التي تنظف الثياب بالبخار، ولا يستعمل الماء في عمليات الغسيل بماكينة الغسيل الجاف، فالغسيل الآن يقولون: هذا الغسيل بالغسلات العادية، وهذا الغسيل بالبخار، وهذا الغسيل بالدرايكلين، لا يستعمل فيه الماء، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل تطهر النجاسة بغير الماء؟ وهل البخار الذي تغسل به هذه المعاطف مطهر لها؟
فأجاب: متى زالت عين النجاسة بأي شيء يكون فإنه يعتبر ذلك تطهيرًا لها، فكل ما تزول به عين النجاسة وأثرها فإن ذلك يكون مطهرًا له، وبناء على هذا نقول: يقول الشيخ: إن البخار الذي تغسل به الأكوات، هذا جمع كوت-الكلمة الأجنبية الدارجة في اللهجة المحلية- إذا زالت به النجاسة فإنه يكون مطهرًا.
فحاصل ما سبق: لا يشترط لإزالة النجاسة عدد معين من الغسلات، أو طريقة محددة، أو مزيل معين، بل يجوز أن تزال بأي منظف، أو طريقة أو عدد تزول به أوصاف النجاسة؛ لأن وسيلة التطهير من النجاسة معقولة المعنى، وليست تعبدية، فلا يشترط لها صفة معينة إلا في نجاسة الكلاب، فإنه يشترط فيها سبع غسلات إحداهن بالتراب.
وقال المصنف الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: والصحيح أن النجاسة متى زالت على أي وجه كان، بأي مزيل كان؛ فإن المحل يطهر من غير اشتراط عدد ولا ماء، وهو ظاهر النصوص حيث أمر الشارع بإزالة النجاسة، وأزالتها تارة بالماء، وتارة بالمسح، وتارة بالاستجمار، وتارة بغير ذلك، ولم يأمر بغسل النجاسات سبعًا سوى نجاسة الكلب كما أن مقتضى النصوص الشرعية، وكما أنه مقتضى النصوص الشرعية فإنه مناسب غاية المناسبة؛ لأن إزالة النجاسة من باب إزالة الأشياء المحسوسة، ولهذا قال الفقهاء: إنها من باب التروك التي القصد إزالة ذاتها بقطع النظر عن المزيل لها، ولهذا لم يشترطوا فيها نية ولا فعل آدمي.
فلو غسلها من غير نية، أو غسلها غير عاقل، أو جاءها الماء فانصب عليها طهرت -كما قلنا- لو نزل المطر على سجادة نجسة، فلا زال الماء يصب عليها المطر حتى زالت بالكلية، ولا تدخل آدمي إطلاقًا، قال: أو جاءها الماء فانصب عليها طهرت.
بخلاف طهارة الحدث التي هي عبادة لابد من نيتها.
هذا الكلام في [إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب" للشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-، ص: 40].
وبه نختم درسنا هذا.
وصلى الله على نبينا محمد.