يستحب للخطيب بعد الحمد والثناء أن يقول: أما بعد؛ تأسيًا بالنبي ﷺ وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، ولذلك لا يصح في اللغة الإتيان بها في أول الكلام.
ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات اقتداء برسول الله ﷺ كما في المغني المحتاج.
وقد عقد البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بابًا في استحباب ذلك؛ فقال: "باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد" [صحيح البخاري: 2/10]، وذكر فيه جملة من الأحاديث، كلها تشتمل على قول أما بعد.
فإذن، هذه الكلمة سنّة ثابتة عن النبي ﷺ في أكثر من ثلاثين حديثًا.
قال ابن مفلح: "رواه عنه اثنان وثلاثون صحابيًا" [شرح الزرقاني: 10/505].
يعني قول: "أما بعد" في الخطبة، ولا تقوم الواو مقام أما، وإن جرى كثير من المؤلفين والمتحدثين على الاقتصار عليها دون أما، يعني: الحمد لله وبعد، وأشار بعض من ألّف من المتأخرين أنها تقوم مقامها، كما في شرح المواهب للزرقاني وغيره نظرًا لشيوعها وكثرتها، وإلا فالأصل: "أما بعد".
والسنة: أما بعد، ولا حاجة ولا داعي للإتيان بثم قبلها، يعني ما يحتاج، ما تقول ثم أما بعد، وإن كان يصح، فإذا قلت: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، يكفي، ولم يرد في النصوص: ثم أما بعد، يعني في المرفوع عن النبي ﷺ.
وأهل العلم مختلفون في أول من قال: أما بعد من العرب على ثمانية أقوال أجملها الشاعر:
جرى الخلف أما بعد من كان باديًا | بها عد أقوالاً وداود أقرب |
ويعقوب وأيوب الصبور وآدم | وقس وسحبان وكعب ويعرُب |
لأنه قيل أن هذا أول واحد قالها، قيل هذا أول واحد قالها، ولعل أقرب الأقوال -والله أعلم- أن الذي قالها داود ؛ لأن الله قال عنه: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20].