الأحد 14 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 15 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

حكم البول في موضع الاغتسال


يكره للإنسان أن يبول في مكان اغتساله، ويدل على كراهة البول في مكان الاغتسال ما جاء عن عبد الله بن مغفل أن النبي ﷺ قال: لا يبولن أحدكم في مستحمه، فإن عامة الوسواس منه [رواه أبو داود: 27، وابن ماجه: 304، وصححه ابن القطان، والمنذري، وحسنه النووي، وصححه العراقي].

وقد تكلم فيه بعضهم من جهة أن في إسناده أشعث بن عبد الله، وفيه كلام، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- دون زيادة:  فإن عامة الوسواس منه ؛ لأن الجزء الأول منه له ما يشهد له بخلاف هذه الجملة الأخيرة.

وقد جاء في سنن النسائي وأبي داود عن حميد بن عبد الرحمن قال: لقيت رجلاً صحب النبي ﷺ كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال -هذا الصحابي-: "نهى رسول الله ﷺ أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله"، [وقد حسنه النووي، وصححه الألباني].

موضوعنا الآن ليس الامتشاط، والامتشاط يعود لحاجة الإنسان، والمعنى الذي فيه هنا النهي عن المزيد من الترفه، النهي عن الترفه الزائد؛ لأن بعض الناس لا هم له إلا الامتشاط، بس المرآة والمشط وتضييع الأوقات، فهو معناه يدور على النهي عن الترفه الزائد، لكن ليس الآن تركيز الشرح على هذه الفقرة، وإنما على قوله، أو يبول في مغتسله.

قال ابن الأثير: "المستحم الموضع الذي يُغتسل فيه بالحميم" [النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/ 445].

ما هو الحميم؟

الماء الحار المسخن، هذا حميم، وهو من عذاب جهنم -نعوذ بالله منها-.

وقوله في الحديث: لا يبولن أحدكم في مستحمه  المستحم: المكان الذي يغتسل فيه بالحميم، الماء الحار، سمي مستحمًا.

فإذًا، هو في الأصل الماء الحار؛ ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام، انتقل بعد ذلك الاستعمال الكلمة إلى الاغتسال بأي ماء حتى لو ما كان حارًا، يقال: استحمام، واستحم بكذا.

طيب هذا خلاصة ما ذكره ابن الأثير -رحمه الله- في "النهاية في غريب الحديث والأثر".

وقوله في الحديث: إن عامة الوسواس منه  هذا تبيين لعلة النهي عن التبول في المستحم، لماذا لا يتبول الإنسان في مكان الاستحمام؟

قال: فإن عامة الوسواس منه  أي أكثر الوسواس الذي يحصل من البول في المغتسل؛ لأنه يصير الموضع نجسًا فيقع في قلبه وسوسة، هل أصابه شيء من رشاشه أم لا، كما في "تحفة الأحوذي".

ولكن هل هذا النهي عام في كل مغتسل؟ يعني كل مروش، كل بانيو، كل حمام، قيد كثير من العلماء النهي بقيدين الذي هو النهي عن البول في المغتسل أو المستحم، قيدوه بأمرين:

الأول: أن يكون في الحمامات والمغتسلات التي ليس لها تصريف، أما إذا كان المكان الذي يغتسل فيه له تصريف للماء النازل هذا بالوعة يجري فيها أو يجري إليها الماء فلا حرج من التبول فيه حينئذ كما في "معالم السن" للخطابي و "فيض القدير".

قال عطاء: "إذا كان له مخرج فلا بأس" يعني هذا المستحم أو المغتسل إذا كان له مخرج تصريف فلا بأس لو تبول فيه، لماذا؟

لأنه سيذهب، يعني هذا البول سيأتي عليه ماء يذهب به، ويزول أثره.

قال عطاء: "إن كان له مخرج فلا بأس".

قال ابن المنذر: "والذي قاله عطاء حسن" [الأوسط: 1/ 332].

وقال عبد الله بن المبارك: "قد وسع في البول في المغتسل إذا جرى فيه الماء" [سنن الترمذي: 1/ 33].

القيد الأول: أن يكون لا تصريف له فيكون فيه النهي، وإذا كان له تصريف فلا نهي، لا يشمله النهي.

القيد الثاني: أن تكون أرض الحمام الذي يغتسل فيه أرض المستحم أو المغتسل لينة أو ترابية بحيث لو نزل فيه البول شربته الأرض، واستقر فيها، فيكون ذلك سببًا للوسوسة إذا نزل الماء، يقول الآن هذه الأرض شربت النجاسة، والآن الماء الذي نزل عليها هل هو جاء على النجاسة أو الرشاش جاء علي، قالوا أما إن كانت الأرض صلبة كنحو بلاط بحيث يجري عليه البول فلا نهي؛ لأن البول سيذهب على البلاط بالماء النازل سيذهب، لن يبقى في المكان، لن تتشربه الأرض.

قال ابن ماجه: سمعت محمد بن يزيد يقول سمعت علي بن محمد الطنافسي يقول: "إنما هذا في الحفيرة، فأما اليوم فلا، فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير" يعني هذه مواد صلبة "فإذا بال فأرسل عليه الماء لا بأس به" [سنن ابن ماجه: 1/111].

والصاروج: خليط يستعمل في طلاء الجدران والأحواض.

والقير: هو الزفت، والمقير: المزفت.

طيب هذا رأي بعض أهل العلم في المغتسل إذا كان لينًا رخوًا يتشرب يشمله النهي، إذا كان صلبًا لو نزل عليه البول جاء وراءه ماء سيذهب به فلا يشمله النهي.

لكن بعضهم نظر نظرة أخرى، قال الحافظ ولي الدين العراقي: "حمل جماعة من العلماء هذا الحديث على ما إذا كان المغتسل لينًا، وليس فيه منفذ بحيث إذا نزل فيه البول شربته الأرض، واستقر فيها، فإن كان صلبًا ببلاط ونحوه بحيث يجري عليه البول ولا يستقر أو كان فيه منفذ كالبالوعة ونحوها فلا نهي". [نقله عنه السيوطي في حاشيته على النسائي: 1/ 36].

وقال ابن القيم: "لو كان المكان مبلطًا لا يستقر فيه البول بل يذهب مع الماء لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 1/ 82].

واختار ابن الأثير الجزري والنووي: أن النهي في حال كون المكان صلبًا، أما إذا كانت الأرض لينة فلا نهي، يعني العكس، لماذا؟

قالوا لأنه لو كان صلبًا وجاء البول عليه هنا تحدث الوسوسة؛ ارتد علي الرشاش، لكن لو كانت الأرض لينة، ونزل البول تتشربه فيذهب فيها فلا بأس، يعني نظروا من ناحية أخرى.

قال ابن الأثير: "وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول، -وهذه واضحة، موضوع البالوعة- أو كان المكان صلبًا فيوهم المغتسل أنه أصابه منه شيء فيحصل منه الوسواس" [النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/ 445].

وقال النووي: "إنما نهى عن الاغتسال فيه -يعني في المستحم- إذا كان صلبًا يخاف منه إصابة رشاشة، فإن كان لا يخاف ذلك بأن يكون له منفذ، وغير ذلك لا كراهة".

قال العراقي: "وهو عكس ما ذكره الجماعة"؛ يعني هذا عكس ما قاله الأولون، فإنهم حملوا النهي على الأرض اللينة، وحمله هؤلاء على الصلبة، وقد لمح هو معنى آخر وهو أنه في الصلبة يخشى عود الرشاش بخلاف الرخوة، وهم نظروا إلى أنه في الرخوة يستقر موضعه، وفي الصلبة يجري ولا يستقر، فإذا صب عليه الماء ذهب أثره بالكلية.

إذًا، لاحظنا هنا أن القيد هذا ليس متفقًا عليه، فقد قال بعضهم إن النهي إنما إذا كان المكان رخوًا تتشرب النجاسة، ثم يحصل الوسواس في الماء الذي ينزل على هذه النجاسة التي تشربتها الأرض.

وقال بعضهم: لا النهي إذا كان المكان صلبًا فقد يأتي عليه البول فيتوهم أنه قد ارتد عليه رشاشه؛ فتحدث الوسوسة.

على أية حال: إذا كان المكان له تصريف فسواء كان لينًا أو صلبًا خلاص النجاسة ستذهب في التصريف.

واختار المباركفوري البقاء على العموم فقال: "والأولى أن يحمل الحديث على إطلاقه ولا يقيد المستحم بشيء من القيود، فيتحرز عن البول في المغتسل مطلقًا سواء كان له مسلك أم لا، سواء كان المكان صلبًا أو لينًا؛ فإن الوسواس قد يحصل من البول في المغتسل الذي له مسلك أيضًا، وكذلك قد يحصل الوسواس منه في المغتسل اللين والصلب كما لا يخفى".

وقال في "عون المعبود": "الأولى أن لا يقيد المغتسل بلين ولا صلب فإن الوسواس ينشأ منهما جميعًا، فلا يجوز البول في المغتسل مطلقًا" [عون المعبود: 1/ 32].

إذًا، هذا رأي ثالث.

والحاصل أن العلة من النهي في مكان الاغتسال خشية أن يصيب الإنسان شيء من هذا البول دون أن يشعر فيقع في الوسواس، وعلى هذا فإن تبول في مكان فيه تصريف وأتبعه الماء فلا حرج لانتفاء العلة، والله أعلم. قاله بعضهم.

وما سبق من النهي محمول عند عامة العلماء على الكراهة.

قال الشوكاني: "وربط النهي بعلة إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة" [نيل الأوطار: 1/ 114] يعني لو قال واحد: أليس الأصل في النهي التحريم، وقد نهينا عن البول في المستحم، فالنهي للتحريم، فلماذا حمل جمهور العلماء النهي على الكراهة؟

قال الشوكاني إذا نظرنا إلى علة النهي وهي خشية الوسوسة، فإن خشية الوسوسة، العلة هذه تصلح أن تكون صارفًا عن التحريم إلى الكراهة؛ لأن الأصل أن النهي للتحريم، فلماذا صرفناه إلى الكراهة؟ لقرينة؛ وهي أن علة النهي خشية الوسوسة، وهذا ليس شيئًا قويًا مجزومًا به خشية الوسوسة، فيضعف النهي، ويصرفه من التحريم إلى الكراهة.