الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد تحدثنا في الدرس الماضي -أيها الإخوة والأخوات- عن أحكام الآنية، وذكرنا: أن الأصل إباحة كل إناء إلا آنية الذهب والفضة، وذكرنا: أن لآنية الذهب والفضة ثلاثة أحوال:
أولاً: أن يستعملها للأكل والشرب، وهذا حرام بالنص الصحيح الصريح.
ثانيًا: أن يستعملها في غير الأكل والشرب؛ كالوضوء والتطيب والاكتحال وسائر وجوه الاستعمال الأخرى، وهذا حرام عند الأئمة الأربعة وأهل العلم كافة؛ لأن المعاني التي حرم لأجلها يعني إناء الذهب والفضة في الأكل والشرب موجودة في بقية الاستعمالات؛ سواء كان الخيلاء، والكبر، كسر نفوس الفقراء، إلخ..
ونص الشارع على الأكل والشرب هو من باب التنبيه على غيرهما؛ لأن الأكل والشرب هي أغلب وجوه الاستعمالات للآنية، وأحوج ما تحتاج فيه الآنية الأكل والشرب فإذا كان حرامًا فيهما يعني في آنية الذهب والفضة الأكل والشرب ففي غيرها من وجوه الاستعمالات من باب أولى.
فإذن، مكحلة، قلم، أي استعمال لآنية الذهب والفضة.
وذكرنا: الفرق بين اللباس والاستعمال بالنسبة للنساء؛ لأننا قلنا إن استعمال آنية الذهب والفضة حرام على الجنسين إلا اللبس للنساء، فكل ما كان يُلبس يجوز ذهبًا للنساء، وما لا يلبس لا يجوز استعماله لا للرجال ولا للنساء.
وأما الفضة للرجال في الحلية في بعض الحلية خاصة كما نعلم.
وأما بقية الاستعمالات في الذهب والفضة بالنسبة للآنية وما يتبعها أيضًا فهو محرم؛ حتى ابن حزم -رحمه الله- يقول: بعموم التحريم، يعني في الأكل والشرب والاستعمال، ونقل ابن قدامة والنووي الإجماع في هذه المسألة.
ثالثًا: حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة من غير استعمال اتخاذ من غير استعمال، وهذا محرم عند جمهور أهل العلم، وهو المعتمد في المذاهب الأربعة؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه كالخمر، لو قال واحد: أنا سأضع في بيتي قارورة خمر لكنني لن أشربها، فهذا حرام، والاتخاذ ذريعة للاستعمال، فلو قال واحد: سأضعها في رفوف في بيتي آنية الذهب والفضة ولن آكل فيها، فنقول: لا يجوز الاتخاذ.
وكذلك آلات المعازف لا يجوز اتخاذها ولا استعمالها، ولأن الاتخاذ يؤدي إلى الاستعمال غالبًا.
وذكرنا: الفرق بين الرجال والنساء، وأن النساء يباح لهن التزين والتحلي بها فقط، وأن كل ما يلبس فهو من باب الحلية، وما لا يلبس فهو من باب الآنية فيحرم على الجنسين.
ثم تكلمنا على الإناء المشتمل على شيء من الذهب والفضة، وأنه ثلاثة أنواع:
الأول: إناء مخلوط بالذهب أو الفضة فحكمه حكم إناء الذهب والفضة، سواء كانت نسبة الذهب أو الفضة هي الأكثر أو الأقل، يعني لو قال: ربعه ذهب ربعه فضة؟ لا يجوز، لأن تحريم الشيء مطلقًا، يعني ما دام ورد تحريم الذهب أو الفضة في الآنية فهو حرام كثيره وقليله، هذا الأصل أن الله إذا حرم شيئًا حرم منه القليل والكثير، وتحريم الشيء مطلقًا يقتضي تحريم كل جزء منه.
ثانيًا: الإناء المضبب بهما فإذا كانت الضبة من ذهب فهي حرام مطلقًا، وإن كانت من فضة فيجوز اليسير منها للحاجة؛ لحديث أنس في تضبيب قدح النبي ﷺ، وقلنا: مثال ذلك الثلمة أو الشعب يكون في القدح فيملأ الفراغ هذا حتى يرمم بالفضة هذا لا بأس به لورود الدليل فيه، وهو إصلاح لهذا الخلل بشيء يسير من الفضة ثبت وليس من الذهب، فلا بأس.
ثالثًا: المطلي والمموه بالذهب أو الفضة، فمذهب الحنابلة تحريمه مطلقًا.
وقال بعضهم: العبرة بما يظهر لا بالقيمة، إذا كان يظهر الذهب فلا يجوز، وبعض العلل موجودة فيه.
وذهب الجمهور إلى أنه إذا لم يتحصل منه شيء بالعرض على النار فهو مباح، المموه أو المطلي بالذهب والفضة قالوا إذا عرض على النار يتحصل منه شيء يستخرج شيء يجمع منه شيء من الذهب والفضة، إن كان يجمع منه شيء لا يجوز، وإن كان لا يجتمع منه شيء "مايكرونز"، قالوا يجوز، هذا قول الجمهور، قالوا لأن هذه القلة الشديدة في حكم العدم.
أما إذا تحصل وتجمع منه شيء بالعرض على النار أو الإذابة فإنه لا يجوز، وأغلب أواني الذهب والفضة الموجودة اليوم المطلية نسبة الذهب أو الفضة فيها قليلة جدًا كما خلص إلى ذلك بعض الباحثين، وأنها لا تزيد على ثلاثة أجزاء من عشرة آلاف جزء، فعند الجمهور يجوز استعمالها لأنها كأنها لا شيء.
وعند الحنابلة لا يجوز وخصوصًا إذا كان الظاهر من الإناء الذهب أو الفضة، فقال بعضهم: العبرة بما يظهر لا بالقيمة، وما سبق يعني من إباحة المموه الذي لا يتحصل منه شيء عند عرضه على النار عند جمهور العلماء، هذا في إباحة الاستعمال فقط لا في إباحة عملية التمويه والطلاء، فلذلك نص بعضهم كشهاب الدين الرملي الشافعي على تحريم العملية، يعني عملية الطلاء والتمويه، فقال: والكلام في استدامته، أما فعل التمويه فحرام مطلقًا؛ ففرقوا بين الصناعة وبين الاستعمال، قالوا إذا كان يسير جدًا جدًا الاستعمال يجوز، لكن عملية الطلاء نفسها لا تجوز، ولا يجوز لمصنع أن يقوم بهذه العملية، يعني عملية طلاء الأواني بالذهب والفضة.
وذكرنا: أن سائر الآنية الأخرى من غير الذهب والفضة مباحة حتى لو كانت من الجواهر النفيسة لو كانت من الياقوت والزمرد والفيروزج، وغير ذلك، فإنها مباحة، الشرع ما منعنا إلا من الذهب والفضة، لو واحد قال: أنا عندي إناء من ألماس يجوز استعمله؟
نعم، ما حرمت الشريعة علينا آنية غير آنية الذهب والفضة، لكن قد يدخل حينئذ في أبواب أخرى مثل الإسراف، والله يقول: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] لكن لو قال: هذا من البلور النقي جدًا، وهذا وهذا نقول: لا مانع.
من حرمه؟
إذا، ما عندنا دليل على التحريم فلا بأس بالاستعمال مهما كانت المادة نفيسة أو غالية.
وذكرنا: أنه لو توضأ أو اغتسل إنسان من إناء ذهب أو فضة فإنه يكون عاصيًا آثمًا، لكن وضوءه صحيح من جهة الإجزاء، لكن من جهة الإثم يأثم، وهذا مذهب عامة العلماء.
وبناء عليه لو اتخذ صنبورًا من ذهب أو فضة فتوضأ منه فوضوؤه صحيح، واتخاذه يأثم عليه وعلى استعماله.
حكم آنية الكفار
ما حكم آنية الكفار؟
هذه مسألة أخرى من مسائل الآنية، مبتعثون يذهبون إلى الخارج يدخلون في مطاعم، ناس يسافرون في أعمال في تجارات في علاج، وناس يجاورون كفار يأكلون في آنيتهم، سواء كانت آنية منازل أو مطاعم، أو نحو ذلك، فما حكم الأكل في آنية الكفار، يعني لو كانت مادتها مباحة فما حكم الأكل فيها؟
لآنية الكفار أحوال:
أولاً: أن يتيقن نجاستها فإن استعمالها محرم حتى يطهرها، فلو كان فيها بقية خمر أو لحم خنزير أو دهنه وشحمه فإنه لا يجوز استعمالها حتى تغسل وتطهر، قد يلعقها كلب، آنية الكفار كثيرًا ما تلعقها الكلاب فلابد أن تطهر قبل استعمالها.
إذن، قد يطبخون فيها نجاسة خنزير أو فيها شيء محرم خمر قد تلعقها الكلاب فلابد من تطهيرها قبل استعمالها.
ثانيًا: أن نعلم ونتيقن طهارتها مثل آنية المطاعم التي يجعل فيها الطعام ويغلف ويعبأ لأخذه خارج المطعم، فإن غالب هذه الظروف التي توضع فيها الأطعمة وتغلف لأخذها خارج المطعم كما يقول بعضهم بالعامية: "سفري"، وبالإنجليزية: "تِكَ واي"، فإن هذه الظروف التي تجعل فيها الأطعمة من البلاستيك أو الفلين أو غير ذلك نعلم طهارتها لأنها تستعمل للمرة الأولى جديدة، جديدة تستعمل للمرة الأولى، صحن بلاستيك، صحن فلين، صحن قصدير، يستعمل مرة ويجعل فيه الطعام، وهو جديد هذا الإناء فنعلم أنه لم يستعمل قبل ذلك فإذا علمنا يقينًا طهارتها، فلا حرج في استعمالها واستخدامها، قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "فإن تيقن طهارة أوانيهم وثيابهم فلا كراهة حينئذ في استعمالها كثياب المسلم، ولا نعلم فيه خلافًا" [المجموع: 1/ 263].
ثالثًا: أن لا يعلم طهارتها ولا نجاستها فما حكم استعمالها؟، الآن أخذنا إناء منهم أعطونا إناء سكبوا لنا في إناء لا نعلم طهارته من نجاسته؛ فما حكم استعماله؟
ذهب بعض العلماء إلى كراهة استعمال آنيتهم في هذه الحالة.
الآن عندنا شبهة الأصل في الأشياء الطهارة، لكن هذه آنية كفار ولا يؤمن من استعمالهم لها في نجاسة أو أمر محرم، فلذلك قامت الشبهة، واستدل هؤلاء الكارهون لاستعمالها بحديث أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب أفنأكل في أوانيهم؟ فقال: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها [رواه البخاري: 5478، ومسلم: 1930].
فهذا الحديث يدل على كراهة استعمالها إلا إذا لم يجد غيرها فإنه يغسلها ويستعملها، ولا تزول الكراهة إلا بهذين الأمرين معًا، قال ابن حجر -رحمه الله-: ومشى ابن حزم على ظاهريته، فقال: لا يجوز استعمال آنية أهل الكتاب إلا بشرطين:
أحدهما: أن لا يجد غيرها. والثاني: غسلها" [فتح الباري: 9/ 606].
وذهب جمهور العلماء إلى جواز استعمال آنية الكفار؛ لأن الأصل في الأواني الطهارة سواء استعملها المسلم أو الكتابي أو المجوسي أو غيرهم، ويدل على ذلك أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب، أي ذبائحهم، ومن المعلوم أنهم يأتون بها إلينا أحيانًا مطبوخة أو موضوعة في أوانيهم فدل ذلك على جواز استعمالها.
ثانيًا: أن النبي ﷺ توضأ وأصحابه من مزادة امرأة مشركة كما جاء في صحيح البخاري ومسلم، والمزادة: وعاء من جلد يوضع فيه الماء.
ثالثًا: عن جابر قال: "كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم" [رواه أبو داود: 3838، وصححه النووي والألباني].
فهذه الأدلة تدل على جواز استعمال آنية الكفار.
إذا علمنا النجاسة انتهينا ما يجوز.
لكن إذا ما علمنا ذكرنا:
أولاً: إذا علمنا النجاسة.
وثانيًا: إذا علمنا الطهارة.
وثالثًا: إذا جهلنا الحال.
طيب حديث أبي ثعلبة الخشني، قال أهل العلم: يحمل على قوم يطبخون في آنيتهم لحم الخنزير، ويشربون بها الخمر في العادة، ففي هذه الحالة يكره استعمالها إلا إذا لم يجد غيرها، يعني هذه في حالة نحن ما نقطع، ما قطعنا هم عادة يستعملون خمر وخنزير في الآنية، نحن ما قطعنا، لو قطعنا انتهت القضية، لو نعلم يقينًا إن هذا فيه خمر أو خنزير ما يجوز لنا أن نستعمله حتى نطهره لكن ما نعلم.
طيب الحديث يقول يعني أننا إذا وجدنا غيرها استعملنا غيرها، وإذا ما وجدنا إلا هي نغسلها ونستعملها.
فإذن، الكراهة في استعمالها إذا لم يعلم الحال الكراهة في استعمالها إلا إذا ما وجدنا غيرها نغسلها ونستعملها، والدليل على ذلك ما جاء عند أبي داود -رحمه الله- من رواية أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله ﷺ إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، يعني هذا عادة، فقال رسول الله ﷺ: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا إن وجدتم غيرها نستعمل هذا الغير، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا [رواه أبو داود: 3839، وأصله في الصحيحين].
قال الخطابي -رحمه الله-: الرحض، الغسل، والأصل في هذا أنه إذا كان معلومًا من حال المشركين أنهم يطبخون في قدروهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 10/ 224].
قوله ﷺ: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا يعني في ذلك الغير، وهذا الأمر للاستحباب عند جمهور الفقهاء، يعني يستحب التنزه عن هذه الأواني، ويكره استعمالها حتى مع غسلها إلا عند عدم وجود غيرها، فتزول الكراهة ونغسلها ونستعملها.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التنفير عنها" [فتح الباري: 9/ 606] يعني لو واحد قال: وجدنا غيرها ما المانع أن نستعمل آنية المشركين بعد الغسل كأنه لا يريدنا أن نلابسهم ولا أن نخالطهم، وأن نتباعد عنهم وعن حاجاتهم، وأن المشرك نجاسة معنوية وعنده نجاسة حسية.
فإذن، ما نستعمل آنيتهم إلا عند الحاجة، وإذا استعملناها نغسلها قبل الاستعمال، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في "الشرح الممتع": "كثير من أهل العلم حملوا هذا الحديث على أناس، عرفوا بمباشرة النجاسات من أكل الخنزير ونحوه، فقالوا: إن النبي ﷺ منع من الأكل في آنيتهم إلا إذا لم نجد غيرها فإننا نغسلها ونأكل فيها، وهذا الحمل جيد، وهو مقتضى قواعد الشرع"، انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-.
والحاصل: أن أواني المشركين طاهرة عمومًا إلا إذا علمنا النجاسة يقينًا، وتبقى في آنيتهم المستعملة الشبهة؛ لأنهم عادة يستعملونها في نجاسات أو محرمات، وحديث أبي ثعلبة الخشني محمول على أواني من كثر منهم استعمال النجاسة كطهي لحم الخنزير وشرب الخمر.
طيب لو قاموا هم بغسلها ما حكم استعمالها؟
هؤلاء المسلمين الكثيرين الذين يذهبون إلى بلاد الكفار اليوم مع سهولة المواصلات، وكثرة الأسفار، والترويجات السياحية، والبعثات الدراسية، والرحلات العلاجية، والاجتماعات في مجال المال والأعمال يذهبون إلى الخارج يدخلون مطاعم الكفار، مطاعم الكفار فيها آنية الآنية هي آنية كفار الكلام ينطبق عليها، عرفنا قضية الأواني أو الظروف هذه التي لا تستعمل، إلا مرة واحدة، وتستعمل جديدة لكن هذه الأواني التي تستعمل مرارًا وتكرارًا من الصحون والملاعق والسكاكين وغيرها؛ ما حكم الذي يدخلون المطاعم هذه ويأكلون فيها من المسلمين؟
نحن إذا علمنا أنها تغسل يوجد في المطاعم غسالات، ومشهور الآن في الأجهزة غاسِلات الصحون، مكاين غسل الأواني، فإذا كانت تغسل غسلاً حقيقيًّا انتهينا، فإنه سواء غسلها المسلم أو غسلها الكافر أو غسلتها الآلة فالعبرة هي بماذا؟ بغسلها، فإذا حصل الغسل جاز الأكل والاستعمال لهذه الآنية.
الآن هذا سؤال يرد كثيرًا جدًا، فسواء قام المسلم بغسلها أو الكافر أو الآلة، إذا حصل المقصود جاز الاستعمال.
طيب لو واحد قال: لا هو بس رش بسيط، نقول: لا لا، غسل غسل يعني فارحضوها، الحديث: فارحضوها اغسلوها غسلاً كاملاً.
أحكام جلود الحيوانات
ننتقل بعد ذلك -أيها الإخوة والأخوات- إلى مسألة أخرى من المسائل في هذا الباب وهي: أحكام جلود الحيوانات.
طبعًا ما علاقة هذا بموضوع الآنية؟
لأن بعض الأواني تصنع من الجلود، مر معنا قبل قليل حديث أنه توضأ من مزادة مشركة، والمزادة إنا من جلد يوضع فيه الماء، هذه العلاقة، طبعًا ولما نبحث في المسألة؟ لما نبحث مسألة جلود الحيوانات في كتاب الآنية؟ الفقهاء ما عندهم كذا قص لصق خبط لصق كذا عشوائي، ما في.
هذا طبعًا كان قديمًا يستعمل كثيرًا، آنية من جلود الحيوانات، الآن هذا قليل، الإناء الآنية من الجلد قليل، الآن الأواني من الزجاج، ملمين، وغير ذلك من المواد؛ بلاستيك، حتى السوائل توضع في كثير من الأحيان في آنية بلاستيكية، الآن هذه آواني المياه الموضوعة في برادات المياه التي توضع فوق البرادة مادتها من أنواع البلاستك، وغيره، أنواع فيها شيء من المرونة، لكن من قديم كان الماء يوضع في أواني جلدية، خصوصًا في الأسفار، ولذلك تم بحث مسألة حكم جلود الحيوانات في كتاب الآنية، في كتب الفقه الإسلامي.
يتكلم الفقهاء في العادة في باب الآنية عن أحكام الجلود الطاهر منها والنجس، وذلك لأن كثيرًا من الآنية كانت تصنع في السابق من جلود الحيوانات، وهذا الكلام وإن كان غير مستعمل اليوم على نطاق واسع إلا أن الحديث عن أحكام الجلود لا يزال مفيدًا وعمليًّا، خصوصًا وأنه قد دخل في هذا العصر صناعة الحقائب والمعاطف والأحذية والأحزمة وغيرها من الجلود جلود الحيوانات، هناك جلود صناعية ليست مأخوذة من الحيوان أصلاً، فإن كان مادتها طاهرة فليس هذا موضع بحثنا، وإنما موضوع البحث أحكام جلود الحيوانات الحقيقية، وهذا ينبني على معرفة حكم الحيوان الذي صنعت هذه الأشياء من جلده.
فإذن، لابد من الانتباه إلى أن هناك جلود صناعية ليست مصنوعة من الحيوانات أو من جلود الحيوانات أصلاً، قد تكون من مشتقات بترولية أو غيرها، فالأصل فيها الطهارة، لكننا نتحدث عن أحكام جلود الحيوانات.
أحوال جلد الحيوان
جلد الحيوان له أحوال:
أولاً: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، وقد ذكي ذكاة شرعية.
ثانيًا: أن يكون من جلد حيوان مأكول اللحم؛ لكنه لم يذك ذكاة شرعية.
ثالثًا: أن يكون مصنوعًا من جلد حيوان غير مأكول اللحم أصلاً.
حيوان مأكول اللحم؛ يعني جلد الأرنب، جلد الغزال، جلد البقر، جلد الثيران.
حيوان غير مأكول اللحم؛ جلد الحية، جلد الثعلب، ونحو ذلك، فلنبدأ بها واحدًا واحدًا مع بيان حكمها.
جلد مأكول اللحم المذكى
أولاً: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم وقد ذكي ذكاة شرعية، فجلودها طاهرة بإجماع العلماء؛ لأنها صارت طيبة، لأنها يعني الجلود صارت طيبة طاهرة بالذكاة، يعني الذبح؛ كجلود الإبل، والبقر، والغنم، والظباء، والأرانب؛ المذكاة، وغيرها سواء دبغت أم لم تدبغ، خلاص الجلد طاهر وما صنع منه طاهر، قال ابن حزم -رحمه الله-: واتفقوا أن جلد ما يؤكل لحمه إذا ذكي طاهر جائز استعماله وبيعه.
جلد مأكول اللحم غير المذكى
ثانيًا: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، ولكنه لم يذك ذكاة شرعية، بل هو ميتة؛ سواء لأنه لم يذبح مات حتف أنفه، وجدوا ثورًا ميتًا فأخذوا جلده وصنعوا منه أشياء، أو قتلوه فلم يذك ذكاة شرعية بالمسدس قتلوه بالصعق الكهربائي قتلوه وقيذ لم يذك ذكاة شرعية، أو أن الذابح غير مسلم ولا كتابي، ذبحه مجوسي سيخي هندوسي شيوعي بوذي، فلو ذبحه فإن ذبيحته ميتة لا تؤكل، فسواء كان هذا الحيوان مأكول اللحم مات بغير التذكية أو ذبح لكن المذكي غير مأذون شرعًا بتذكيته؛ فإن هذا ميتة، فيكون جلده نجسًا، ولا يطهر إلا بالدباغ، فإذا دبغ صار طاهرًا.
والدباغة هي: معالجة بالمنظفات والمطهرات ليزول ما في الجلد من النتن والفساد والرطوبة، وكانوا يستعملون في السابق مواد في الدباغة مثل: القرظ وهو ورق شجر السلم، والعفص، والشب وهو نبت طيب الرائحة، وقشور الرمان، ونحو ذلك، في العصر الحديث تتم دباغة الجلود في المصانع الكبرى بمواد كيماوية ونحوها لتنقية الجلد وتوحيد لون الجلد، وإزالة الأوساخ عن الجلد، عملية تنظيف وتليين وتهيئة للصناعة، الدباغة صنعة معروفة، دبَّاغ، الدباغ الذي يقوم بالدباغ.
فحيوان مأكول اللحم لو كان ميتة جلده نجس إلا إذا دبغ فيطهر بالدباغ، وكثير من المصنوعات الجلدية الموجودة اليوم في الحقائب والأحذية وغيرها مصنوعة من جلد مدبوغ في الحقيقة قد تم تنظيفه، لكن يبقى عندنا البحث هل الجلد هذا المدبوغ هو جلد حيوان مأكول اللحم وإلا هو جلد حيوان غير مأكول اللحم.
نحن نتكلم الآن في القسم الثاني عن حيوان مأكول اللحم.
في القسم الأول قلنا: إذا ذكي الجلد طاهر حتى بدون دباغة، ولو صنع منه شيء جاز استعماله، لو كان مأكول اللحم لكن غير مذكى فالجلد نجس ولا يجوز استعماله إلا بالدباغة، ويدل على طهارة جلود الحيوانات مأكولة اللحم بالدباغة ما رواه مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه قال: رأيت على ابن وعلة السبئي فروًا فمسسته، فقال: ما لك تمسه قد سألت عبد الله بن عباس قلت: إنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم؟ يعني لأنهم من المشركين والكفار غير أهل الكتاب، ويأتونا بالسقاء، -هذا إناء الجلد الذي يوضع فيه الماء- ويجعلون فيه الودك -يعني الشحم-، فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: دباغه طهوره.
وعن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله ﷺ فقال: هلا أخذتم إهابها؟ ما معنى إهابها؟ جلدها، هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها [رواه مسلم: 363].
فهذا يدل على أن جلد ميتة الحيوان المأكول اللحم تطهر بالدباغ، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وآخر ما استقر عليه قول مالك -رحمه الله- كما قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري.
ذهب بعض العلماء إلى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ مطلقًا، وهذا عند الحنابلة ومشهور عند المالكية، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله ﷺ قبل وفاته بشهرين أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [رواه أبو داود: 4127، والترمذي: 1729].
فقالوا: إن هذا الحديث ناسخ، ولا يجوز الاستعمال، لكن الحديث في صحته نزاع، صححه بعضهم كالإمام أحمد في قول عنه، وابن حزم، والبوصيري، وابن حجر، والألباني من المعاصرين، وضعفه أكثر المحدثين كابن معين، والبيهقي، وابن عبد البر، والخطابي، والبغوي، وابن الجوزي، والنووي، وابن دقيق العيد، وابن الملقن، والصنعاني، والشوكاني وأحمد شاكر، وقالوا: على تقدير صحته محمول على ما قبل الدباغ، والراوي للحديث عبد الله بن عكيم تابعي مخضرم، يعني ليس بصحابي، والحديث: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
والإهاب يطلق على الجلد قبل الدبغ، فلذلك يقال: لا إشكال؛ حتى لو صححنا الحديث نحمله على جلد الميتة قبل الدبغ، قال: "لا تنتفعوا منها بإهاب ولا عصب".
والإهاب: الجلد قبل الدبغ.
ونحمل ذلك الحديث: "إنما حرم أكلها .. هلا انتفعتم بجلدها" يحمل على الجلد بعد الدبغ.
فإذن، يحمل حديث الإباحة على الجلد بعد الدبغ.
ويحمل حديث التحريم على الجلد قبل الدبغ، وبالتالي لا نحتاج إلى القول بالنسخ، يعني يمكن الجمع بين النصين، ولا شك أن الجمع بين النصين أولى من ادعاء نسخ أحدهما للآخر، لأن عملية التوفيق بين الأحاديث المتعارضة تمر بأطوار، فبعد إثبات صحة الحديثين لأنه قد يكون أحد الحديثين ضعيفًا، وبالتالي ما نحتاج للجمع أصلاً، فبعد إثبات صحة الحديثين ننظر هل يمكن حمل أحدهما على حال، والآخر على حال، أو يمكن أن يكون أحدهما عامًا، والآخر خاصًا، أو يمكن أن يكون أحدهما مطلقًا والآخر مقيدًا، ننظر، فمثل الحالة هذه التي بين أيدينا الآن يمكن أن نحمل أحد الحديثين المتعارضين على الجلد قبل الدبغ، والآخر على الجلد بعد الدبغ، لكن من جهة الصحة ما رأيكم حديث رواه مسلم: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها أو حديث رواه تابعي مخضرم عند أبي داود والترمذي أيهما أصح؟ الأول.
لو فرضنا صحة الحديثين نتوجه هذا التوجه، قال أبو داود: قال النضر بن شميل يسمى إهابًا ما لم يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له إهاب، إنما يسمى شنًّا.
فإذن، حديث الإباحة واضح فيه الدبغ أنه يطهر، والشاة مأكولة اللحم أصلاً، ميتة نعم، الدباغ يطهر الجلد، حديث النهي عن الانتفاع من الميتة بإهاب أو عصب، الإهاب في اللغة يطلق على الجلد قبل الدبغ، فلذلك لا إشكال أو لا تعارض في الحقيقة.
قال ابن قتيبة -رحمه الله-: ونحن نقول إنه ليس هاهنا بحمد الله تناقض ولا اختلاف؛ لأن الإهاب في اللغة الجلد الذي لم يدبغ، فإذا دبغ زال عنه هذا الاسم؛ يريد لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ. [تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص257].
وقال الحازمي: فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيحات، ويُحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهابًا، وبعد الدباغ يسمى جلدًا، ولا يسمى إهابًا، وهذا معروف عند أهل اللغة، انتهى كلامه -رحمه الله- [البدر المنير: 1/600].
قال أبو عيسى يعني الترمذي: وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وسمعت أحمد بن الحسن يقول كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي ﷺ، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده، يعني حديث عبد الله بن عكيم.
إذن، كان يقول بصحته ثم صار يقول بتركه، وعلى فرض صحته عرفنا كيف الجمع، وقد وصف ابن عبد البر في "التمهيد" هذا القول وهو القول بتحريم جلد ميتة مأكول اللحم حتى مع الدباغة، حتى لو كان هو المذهب، وصف ابن عبد البر هذا القول بالشذوذ لمخالفته النصوص الصحيحة في تطهير الدباغ لجلد الميتة.
جلد غير مأكول اللحم
النوع الثالث: غير مأكول اللحم، أن يكوم من جلود السباع مثل جلد الأسد والنمر والفهد والذئب والدب وابن آوى وابن عرس، فهذه الجلود وما أشبهها نجسة سواء ذبحت أو ماتت أو قتلت لأنها وإن ذبحت لا تحل ولا تكون طيبة، فهي نجسة، لكن السؤال هو هل الدباغ ينفع أم لا؟ يعني تأخذ حية تذبحها وإلا ما تذبحها هي نجسة، يعني ذبحتها قتلتها ضربت رأسها بحجر خلاص هذ حيوان غير مأكول اللحم، فكيفما أزهقت روحه فهو نجس، فالجلد نجس لا يجوز استعماله، لكن السؤال هو هل الدباغ يؤثر فيه؟
اختلف العلماء في هذا، وسواء قلنا بطهارة هذه الجلود بالدباغة أم لا فلا يجوز استعمالها على كلا الحالين لما ورد من النصوص الصحيحة في النهي عن استعمالها، أي جلود؟ السباع، السباع لأن جلود السباع حتى لو قلنا بطهارتها لا يجوز استعمالها لوجه آخر غير قضية الاستعمال، المنع لوجه آخر فجلود السباع طبعًا قيل أشياء من مسألة الملابسة المؤدية إلى انتقال بعض صفات الملابس للملابس، وقيل قضية الخيلاء وأن جلود النمار هذه كان تجعل فيها خيلاء، فنهى عنها، جلود السباع وجلود النمار، لكن ممكن نأخذ حيوانات أخرى ليست من السباع، وغير مأكولة اللحم، وننظر في حكم الدبغ ماذا يحدث بها.
أما بالنسبة للدليل على عدم جواز استعمال جلود السباع حديث أبي المليح عن أبيه أن النبي ﷺ نهى عن جلود السباع أن تفترش. [رواه الترمذي: 1770، وصححه النووي والألباني].
وعن المقدام بن معدي كرب: أن رسول الله ﷺ نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها. [رواه أبو داود: 4131، وهو حديث صحيح].
فهذا يدل على عدم جواز الانتفاع بجلود السباع حتى لو قلنا بطهارتها بالدباغة، قال الترمذي -رحمه الله-: وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم أنهم كرهوا جلود السباع وإن دبغ، وهو قول عبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق، وشددوا في لبسها والصلاة فيها، انتهى.
وقال بعض العلماء: إن النهي عن جلود السباع المقصود بها استعمالها قبل دباغتها، قال النووي: "وهو ضعيف إذ لا معنى لتخصيص السباع حينئذ، بل كل الجلود في ذلك سواء" [المجموع: 1/ 221].
والصواب: أن النهي عن جلود السباع ليس بسبب عدم تطهير الدباغ لها وإنما لما يحدث في نفس مفترشها أو لابسها من الكبر والخيلاء أو سريان شيء من طباع السباع إلى اللابس بالمخالطة والملابسة؛ فيصبح عنده شيء من العدوانية أو الخيلاء والتجبر، ولأن فيها تشبهًا بالجبابرة، ولأنها زي أهل الترف والإسراف؛ كما في "تحفة الأحوذي، وحاشية السندي على ابن ماجه".
وعلى هذا فلا يجوز استعمالها سواء قلنا بطهارة جلدها بالدباغ أم لا، قال ابن الصلاح: "فهذه الأحاديث قوية معتمدة والتأويل المتطرق إليها غير قوي، وإذا وجد الموفق مثل هذا عن رسول الله ﷺ في مثل هذا المضطرب فهو ضالته ومستروحه لا يرى عنه معدلاً" [فتاوى ابن الصلاح: 2/ 474].
جلد غير مأكول اللحم غير السباع
رابعًا: جلود غير السباع من غير مأكول اللحم مثل: الثعابين والفيلة والحمير، ونحو ذلك، هذه الجلود وما أشبهها نجسة في الأصل سواء الحيوان ذبح كما قلنا أو قتل مات؛ لأن لحمه أصلاً لا يحل، فليس بطيب، وهو نجس في جميع الحالات، لكن هل تطهر بالدباغ؟ جلد الحية، جلد الفيل، خلاص قضية السباع عرفناها والمعنى الذي في النهي عن افتراش جلود السباع ولبسها عرفناه، لكن هذه الآن ما حكمها عندكم حيوانات أخرى تصنع منها الآن، يعني جلود تستعمل جلودها في الصناعة غير السباع وليست مأكولة اللحم، مثل الحية والتمساح -كما قلنا- التمساح بعد قالوا له أنياب، ولذلك لا يجوز أكل لحمه تنازعوا هو حيوان بحري، ولكن له أنياب، جلود الثعابين والحمير مثلاً وما أشبهها، هذه هل هي غير مأكولة اللحم، يعني مهما عملت بالحية ذبحتها وسميت وإلى القبلة لا يجوز أكل لحم الحية، لكن جلدها ما حكمه إذا دبغ؟
قال بعض العلماء: إن الدباغة تطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير، وهذا مذهب الشافعية والحنفية، الحنفية استثنوا الخنزير فقط، وهذا القول كما قال ابن عبد البر وعليه جمهور الفقهاء من أهل النظر والأثر بالحجاز والعراق والشام، ويدل لهذا المذهب حديث النبيﷺ: أيما إهاب دبغ فقد طهر [رواه الترمذي: 1728، وصححه البخاري، وكذلك الترمذي].
وحديث النبي ﷺ إذا دبغ الإهاب فقط طهر رواه مسلم، وهي صيغة عموم أيما إهاب تشمل جميع الجلود، استثني من ذلك الكلب والخنزير لأنهما نجسين في حال الحياة، فإذا كانت في حال الحياة نجسين وهي أقوى من الدباغة في التطهير لم تطهرهما الدباغة، الدباغة من باب أولى الحياة ما طهرتهما الدباغة من باب أولى، فالدبغ يزيل سبب النجاسة وهو الرطوبة والدم، والكلب والخنزير كل منهما نجس العين ذاته نجسة حيًا وميتًا، فليست النجاسة للدم الموجود في الجلد أو الرطوبة حتى نقول الدباغ يطهر، فلا يقبل التطهير جلد الكلب والخنزير.
قال ابن عبد البر: "قولهﷺ: كل إهاب دبغ فقد طهر ، قد دخل فيه كل جلد إلا أن جمهور السلف أجمعوا على أن جلد الخنزير لا يدخل في ذلك" [التمهيد: 1/ 164].
وقال: "وأما قوله: أيما إهاب دبغ فقد طهر فإنه يقتضي جميع الأهب وهي الجلود كلها؛ لأن اللفظ جاء في ذلك مجيء عموم، ولم يخص شيئًا منها، وهو قول جمهور العلماء وأئمة الفتوى إلا جلد الخنزير فإنه لا يدخل في عموم قوله: أيما إهاب دبغ فقد طهر لأنه محرم العين حيًا وميتًا، وجلده مثل لحمه، فلما لم تعمل في لحمه ولا في جلده الذكاة لم يعمل الدباغ في إهابه شيئًا" [الاستذكار: 5/ 305].
القول الثاني: قالوا الدباغة لا تطهر إلا جلد الحيوان مأكول اللحم ولو مات حتف أنفه، وأما حيوان غير مأكول اللحم فلا تطهره الدباغة، لا تطهر جلده، وهذا مذهب الأوزاعي ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم، الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، واستدلوا بحديث سلمة بن المحبق أن نبي الله ﷺ في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة، قالت: ما عندي إلا في قربة لي ميتة، قال: أليس قد دبغتها؟ قالت: بلى، قال: فإن دباغها ذكاتها [رواه النسائي: 4243، وصححه الدار قطني والنووي، وكذلك الألباني].
"فشبه الدبغ بالذكاة، والذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم" [المغني: 1/ 51].
واستدلوا أيضًا بما ثبت عن النبي ﷺ من النهي عن لبس جلود السباع والجلوس عليها مما يدل على أن الدباغة لا تطهر، لكن قد يقال: النهي عن جلود السباع ليس بسبب عدم التطهير الدباغ لها، وإنما لما فيها من الكبر والخيلاء.
والحاصل أنه لا حرج باستعمال جلد الحيوان المأكول اللحم إذا دبغ، ولو كان مات.
وأما حيوان غير مأكول اللحم ففيه خلاف جلده هل يطهر بالدباغ أم لا، الجمهور قالوا: يطهر إلا الكلب والخنزير.
وبعض العلماء قالوا: لا يطهر، الذي هو قلنا مذهب الأوزاعي ورواية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام، وبعض فقهائنا المعاصرين.
لكن الجمهور قالوا: يطهر الذي هو جلد غير مأكول اللحم إذا دبغ.
طبعًا السباع جلودها لا تستعمل.
طبعًا الأحوط نقول: عدم الاستعمال غير مأكول اللحم، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يقدم -يعني للإمامة- وعليه جلود الثعالب أو غيرها من جلود الميتة المدبوغة، فقال: إن كان لبسه وهو يتأول "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فلا بأس -يعني لأن له تعلق، يعني في دليل يتعلق به- فلا بأس أن يصلى خلفه، قيل له: فتراه أنت جائزًا؟ قال: لا.
أحمد لا يرى أن غير مأكول اللحم يطهر بالدباغ، نحن لا نراه جائزًا لقول النبي ﷺ: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب [رواه أبو داود: 4128]، ولكنه إذا كان يتأول، يعني له مذهب يعني له دليل، يعني ما هو فعلها كذا، فلا بأس أن يصلى خلفه، فقيل له: كيف وهو مخطئ في تأويله؟ فقال: وإن كان مخطئًا في تأويله، ليس من تأول كمن لا يتأول، يعني ليس من عنده حجة كمن لا حجة عنده، هذا معنى كلام أحمد.
وكلام أحمد نفيس جدًا لطلبة العلم في عذر بعضهم بعضًا في المسائل الخلافية، جاءك إمام لابس شيء فيه جلد حية مدبوغ لو أنت ترى بعدم طهارته وهو يرى بطهارته تصلي خلفه أم لا تصلي؟
تصلي، تظهر ثمرة الخلاف في حكم الانتفاع بالأشياء المصنوعة من جلد حيوان غير مأكول اللحم، فمن يرى أن الدباغة تطهره يجيز الانتفاع بهذه الجلود.
ومن يرى أن الدباغة لا تطهر جلود الحيوانات غير مأكولة اللحم لا يجيز الانتفاع بهذه الجلود، ولا الجلوس عليها ولا استعمالها.
في عملية عند بعض الأطباء يذكرون قضية الترقيع الجلدي الآن في الحروق مثلاً أو يأخذون أشياء أنا ما أدري يستعمل في الطب في أي شيء، لكن في عملية الترقيع الجلدي ممكن يؤخذ منها من جلود حيوانية، فإذا قلنا تطهر معناها يجوز استعمالها في العمليات.
إذا قلنا: ما تطهر، لا، هذه.
المهم هذه ثمرة الخلاف.
طيب نتوقف عند هذا الحد.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.