الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تقدم الكلام في المرة الماضية عن آداب قضاء الحاجة، وكان مما ذكر عدم الكلام، وأن الكلام عمومًا قد يكون واجبًا إذا حدث ما يوجبه؛ مثل تنبيه أعمى عن الوقوع في بئر، ونحو ذلك، وإلا فهو مكروه، وأنه لا بأس من الكلام للحاجة.
وأما بالنسبة لذكر الله في الخلاء، فإنه لا يجوز تنزيهًا لذكره عن أن يكون في هذا الموضع الذي فيه القذر والنجاسات.
وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله الخلاء
ومن الآداب كذلك: وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله، ما لم يخش عليه، فإذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر لله -تعالى- استحب له أن يضعه.
وأما بالنسبة لحديث أنس: كان رسول الله ﷺ إذا دخل الخلاء وضع خاتمه الذي رواه ابن ماجة وأبو داود، فقد قال أبو داود: "هذا حديث منكر" [رواه أبو داود: 19، وابن ماجه: 303، وهو في ضعيف أبي داود: 4].
وقيل: إنما كان النبي ﷺ يضعه؛ لأن فيه محمداً رسول الله ثلاثة أسطر؛ يعني: محمد في سطر، ورسول في سطر، ولفظ الجلالة "الله" في سطر، أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه فلا بأس.
لو أن الإنسان أدار بطن الخاتم الذي فيه الكلام إلى باطن الكف، قال أحمد -رحمه الله-: الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه، ويدخل الخلاء.
وقال عكرمة: اقلبه هكذا في باطن كفك، واقبض عليه.
ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين.
وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء، ومعه الدراهم: أرجو ألا يكون به بأس [انظر: المغني: 1/289].
لأن اسم من ضرب الدراهم، وصك النقود، كانت لا تخلو من مثل: المستعصم بالله، والمتوكل على الله، وما شابه ذلك، لا تخلو من وجود لفظ الجلالة.
فماذا نفعل عند ذلك؟
لو قلنا: ضع الفلوس خارج دورة المياه لسرقت، وسرقة النقود أو ضياعها، مفسدة كبيرة، فالشرع لا يأمر بأن تضع نقودك إذا كنت تخشى عليها.
وكذلك ما مع الإنسان في المحفظة وغيرها مما قد يكون فيه ذكر لله من الإثباتات والأوراق، فإنه إذا لم يجد مكاناً مأموناً وضعها معه داخل الجيب وليست مفتوحة.
وكذلك ورد في أسنى المطالب: ويكره عند قضاء الحاجة حمل مكتوب قرآن. [أسنى المطالب: 1/45].
يقول: قلت: الوجه تحريم اصطحاب المصحف، ونحوه من غير الضرورة؛ لأنه يحمله مع الحدث، ويعرضه للأذى، ولما فيه من عدم توقير القرآن، ويحمل كلامهم على ما لم يحرم على المحدث حمله كالدراهم والخاتم، وما تعم به البلوى. [انظر: حاشية الرملي: 1/45].
إذًا، ينتبه الإخوان الذين يحملون المصاحف ألا يدخلوا بها إلى الخلاء، يضعوها في خانة.
لكن لو أنه نسيه ودخل، فلو تذكر قبل الشروع في قضاء الحاجة يخرج ويتركه في مكانٍ خارج الخلاء، وإذا لم يتذكر إلا بعد شروعه، فقطع حاجته فيه أذى، وضرر عليه، فلذلك لو أنه أبقاه في جيبه، وأسرع بالخروج، فليس له مندوحة، أو قد لا يكون له طريقة أخرى فلعله إن شاء الله لا يأثم؛ لأنه لم يكن متعمداً إدخال المصحف، ثم إنه قد يضره أن يقطع حاجته ويخرج.
تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج
ومن الآداب قضاء الحاجة: تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج، ويرفق ذلك بالأذكار كما تقدم، قال أحمد رحمه الله: يقول إذا دخل الخلاء: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره. [المغني: 1/190].
وسبب إرفاق التسمية بالاستعاذة؛ لأنه يقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، أن يمتنع الجن عن رؤية العورة؛ لأنه ﷺ قال: ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله[رواه ابن ماجه: 297، وصححه الألباني في صحيح : 293].
وإذا خرج قال: غفرانك [رواه أبو داود: 30، وابن ماجه: 300، وأحمد: 25261، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 23] كما تقدم.
وفي رواية: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني[رواه ابن ماجه: 301، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه: 60].
وهذا الإذهاب للأذى نعمة من الله ، ولذلك فإن المصاب بالانقباض، وحصر البول، يتعذب عذاباً شديداً، ولذلك يقول: "الحمد لله"؛ لأنها نعمة؛ لأن تيسير خروج الخارج نعمة.
ولذلك، فإن بعض الناس في المستشفيات تعمل لهم إجراءات صعبة لتيسير خروج البول وما شابه ذلك لأجل عدم القدرة، ولو احتبس في بطنه تضرر ضرراً عظيماً.
ولذلك ربما يناسب الذكر أمر من الأمور التي فعلها النبي ﷺ بالنسبة للمريض، وغيره عند الحاجة، وهو البول في القدح أو الإناء، فقد جاء عند أبي داود والنسائي وابن ماجه عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة؛ كلها أسماء مصغرة، عن أمها -وهي أميمة بنت رقيقة-: "كان للنبي ﷺ قدح من عيدان يبول فيه، ويضعه تحت السرير" [رواه النسائي: 32، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 19].
وفي رواية: "تحت سريره يبول فيه بالليل" [رواه أبو داد: 24، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 19].
والعيدان، قال في شرح الحديث: النخل الطوال المتجردة من السعة من أعلاه إلى أسفله.
وجاء أيضاً عند الشيخين: "أنه دعي بالطست ليبول فيها" [رواه النسائي: 3624، وأحمد: 24085، والبخاري: 4459، ومسلم: 4318، بمعناه].
ولكن هذا وقع في حال المرض.
إذًا، في حال المرض إذا لم يتمكن المريض من الذهاب إلى دورة المياه، فقد ورد في الحديث ما يفيد البول في إناء، ونحو ذلك.
وكذلك ذكروا أنه لو اشتدت الريح ولم يأمن من ارتداد البول عليه، بال في إناء، ونحو ذلك، ضيق الفتحة حتى يرميه بعد ذلك.
إذًا، فإذا دعت الحاجة، لا بأس بالبول في الإناء، ونحوه.
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: يقولون: إن النبي ﷺ أوصى إلى علي ، لقد دعا بالطست يبول فيها، فانخنس فمات، وما أشعر به[رواه النسائي: 3624، وأحمد: 24085، والبخاري: 4459، ومسلم: 4318، بمعناه].
عدم قضاء الحاجة في المقابر
كذلك من الآداب والأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة: عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر؛ لما روى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق[رواه ابن ماجة:1567، وصححه الألباني في إرواء الغليل: 63، وفي صحيح ابن ماجه: 1273].
والمقصود بقوله: أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق أنهما في القبح سيان، سواء قضى الحاجة وسط السوق، والناس ينظرون؛ وهي قبيحة جداً، أو قضى الحاجة في المقبرة، حتى لو لم يره أحد، فهما في القبح سيان، وهذا من حرمة الأموات، وبعض الناس إذا مشى ولم يجد مكاناً يقضي فيه حاجته تسور المقبرة، وقضى فيها حاجته، فهذه فعلة شنيعة.
وقد نبه ابن الحاج رحمه الله في كتاب المدخل على طائفة من الذين يسكنون القبور في مصر، ويقضون الحاجات فيها، وأن ذلك إيذاء للأموات، فلا يجوز، وقال أيضاً: "إن بعض أهل الأموات يبيتون عند الميت بجانب قبره أياماً، يبيتون ليلة وليلتين وثلاثاً.
قال: وإذا حضرت أحدهم قضى حاجته في المكان؛ فهذا من البدع البيات عند القبور، يزعمون أن ذلك إيناس للميت، وهم ما يفعلون إلا الإيذاء والبدعة، الرسول ﷺ كان إذا دفن الميت انصرف هو وأصحابه، ولم يبت عند قبر حمزة، ولا عند غيره، ولا يؤنس الإنسان في قبره إلا عمله الصالح.
تقديم قضاء الحاجة على الصلاة
ومن الآداب كذلك المتعلقة بقضاء الحاجة: أنه يقدم قضاء الحاجة على الصلاة إذا حضرته حاجته؛ لأن النبي ﷺ قال: لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان [رواه مسلم: 1274].
لماذا؟ لأنها تشغل قلبه، ويعجل عن إكمال صلاته، وقد يفقد الطمأنينة، فيجمع بين أمرين: العجلة، وعدم الإكمال، والشغل عن الإقبال على ربه وعلى صلاته، ولذلك فإنه عليه الصلاة والسلام أمر المسلم إذا أقيمت الصلاة وحضرته حاجته أن يبدأ بقضاء الحاجة، ولو فاتت صلاة الجماعة.
وقد طبق ذلك عبد الله بن الأرقم فإنه قد ورد عن مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة: أن عبد الله بن الأرقم كان يؤم أصحابه، فحضرت الصلاة يوماً فذهب إلى حاجته ثم رجع، فقال: إني سمعت رسول الله ﷺيقول: إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة [رواه مالك في الموطأ: 378، وابن ماجه: 616، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 499]، فلأجل أن يتفرغ للصلاة، ويخلو بالإقبال عليها، أُمر بذلك.
وينبغي أيضاً: الإشارة إلى أن الحاجة أنواع ومراتب، فهناك شيءٌ خفيف، لا يشغل عن الصلاة، ولا يعجله عنها، فإذا حصل ذلك وصلى جازت صلاته، وإن وجد من ذلك ما يشغله ويعجله، حتى ولو كان داخل الصلاة، فإنه ينصرف سواءً كان إماماً أو مأموماً، لكي يتفرغ ولا يصلي بدون خشوع؛ فإن لم ينصرف وتمادى في صلاته، وبه من الحقن، محتقن ومحصور، ما يعجله ويشغله، فقد قال مالك -رحمه الله-: "أحب إليَّ أن يعيد في الوقت وبعده".
وقال أبو حنيفة والشافعي: إن فعل فبئس ما صنع، ولا إعادة عليه.
إذًا، لو صلى وهو حاقن فما حكم صلاته؟
الجواب: إذا لم يخل بركن الطمأنينة، فصلاته صحيحة مع الكراهة، وينقص من أجره لمخالفته للحديث، وأما إذا كانت الحاجة التي حضرته شديدة جداً بحيث صار يستعجل في الصلاة جداً، فإنه عند ذلك تبطل صلاته؛ لأنه فقد شرط الطمأنينة، وقد جاء عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال: "لا يصلين أحدكم وهو ضامٌ بين وركيه" [موطأ مالك: 379].
وهذه الصلاة المقصود بها الصلاة في حال الحقن الذي يبلغ المصلي أن يضم وركيه من شدة حقنه؛ هذا معنى كلام عمر: "لا يصلين أحدكم وهو ضام بين وركيه" [موطأ مالك: 1/160] ليبدأ بقضاء حاجته، ثم يستقبل صلاته.
فالخلاصة: أن ما يجده الإنسان على ثلاثة أضرب: أن يكون خفيفاً؛ فهذا يصلي به ولا يقطع.
والثاني: أن يكون ضاماً بين وركيه؛ فهذا يقطع فإن تمادى صحت صلاته، ويستحب له الإعادة في الوقت على قول بعض العلماء كمالك -رحمه الله-.
والثالث: أن يشغله ويعجله عن استيفائها بحيث يفقد الطمأنينة؛ فهذا صلاته باطلة، ويجب عليه أن يقطع وجوباً.
جواز خروج المعتكف من المسجد لقضاء الحاجة
ومن الأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة أيضاً: أنه يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لأجل الحاجة؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبى ﷺ إذا اعتكف يدني إلي رأسه، فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" [رواه مسلم: 710].
عدم قضاء الحاجة في أماكن نزول الناس
ومن الآداب لقضاء الحاجة: عدم التضييق على الناس في مواضع نزولهم، جاء في ذلك قصة عن سهل بن معاذ قال: غزوت مع عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولاية عبد الملك الصائفة -والصائفة: كانت اسماً للجيش الذي يخرج في الصيف، فكان بعض الخلفاء ينظم الصوائف والشواتي، يعني: فرق الجيش التي تخرج في الصيف والشتاء- قال: فنزلنا على حصن سنان، فضيق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فأكمل القصة في نهيهم عن ذلك، فكل من نزل بموضع فهو أحق به؛ كما جاء في حديث: منى مناخ من سبق[رواه الترمذي: 881، وابن ماجه: 3006، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه: 648].
ولما نقول: "أحق به" يعني: أحق به وبما حوله بحيث يبقى له مربط فرسه، ومكان طبخه، وموضع قضاء حاجته، فلو جاء واحد ونزل -مثلاً- على البحر، هل يجوز للإنسان أن يأتي وينزل بجانبه مباشرة، بملاصقته، بحيث لا يبقى مكان له لطهيه ولا قضاء حاجته؟
الجواب:
هذا إيذاء، ولذلك إذا رأيت ناساً نازلين أو عائلة، أو نحو ذلك، فالإنسان لا يأت وتنزل بجانبهم مباشرة.
ومعنى: تضييق المنزل الوارد في الحديث: أن ينزل بالقرب من نزول أخيه المسلم، فيضيق عليه في المرافق، أو الأشياء التي يحتاج إليها في ذلك المكان، ويكون هذا المكان كالحريم؛ الحريم: المكان الذي له حرمة حول الشخص إذا نزل.
ومعنى: قطعوا الطريق، قطع الطريق هؤلاء الناس، النزول على الممر على وجه يتأذى به المارة، فبعض الناس، أو حتى في الحج، ينزل على الطريق ويسده، فيتأذى المارة، فهناك نزول على الطريق لا يؤذي المارة، وهناك نزول على الطريق يؤذي المارة، فإذا كان الطريق واسعاً فقد يكون النزول على جانبه لا يؤذي المارة، لكن إذا كان الطريق ضيقاً ولو نزل على طريق يؤذي المارة، فلا يجوز ذلك.
ترك الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة
ومن آداب قضاء الحاجة: عدم وجوب الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة، وقد تقدم في آداب الاستئذان: أن البيوت منها ما تكون مسكونة، لها ساكن، ومنها ما لا يكون لها ساكن، ومنها الخرابات التي تقضى فيها الحاجات كالبول والغائط، فهذا ليس على الإنسان جناح أن يدخلها دون استئذان، قد يريد الإنسان خارج البلد قضاء حاجة، فيأتي إلى مكان مهدم يريد أن يستتر به لقضاء الحاجة، فلا يلزم هناك استئذان حيث أنه لا أحد حتى يستأذنه، وليس هذا مكاناً يجب الاستئذان عند دخوله.
وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ[النور: 29].
معنى: مَتَاعٌ لَكُمْ، ليس المقصود بالضرورة أن يكون لك عفش فيها، قال: منفعة لكم بدفع الحر أو البرد، أو قضاء الحاجة من بول أو غائط؛ كما أورد ذلك صاحب بدائع الصنائع الكاساني الحنفي رحمه الله. [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 10/499].
ترك الوسوسة
ومن آداب قضاء الحاجة كذلك -كما تقدم-: عدم الوسوسة، ويدخل في ذلك إيجاب أشياء لم تجب في الشرع؛ كالاستنجاء من خروج الريح؛ فإن بعض العامة يعتقد أنه لا بد من الاستنجاء عند خروج الريح، وليس على من نام أو خرجت منه ريح الاستنجاء، وليس في هذا خلاف.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: قال أبو عبد الله: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، إنما عليه الوضوء. [المغني: 1/171].
وإيجاب ما لا يجب، حرام. وكذلك فإن الريح لا جرم لها يعلق، فلماذا يستنجي؟
تنبيه: أورد بعضهم في آداب قضاء الحاجة: عدم استقبال النيرين: الشمس والقمر، واستدلوا على ذلك بحديث، وهذا الحديث لا يصح عن النبي ﷺ، وربما كان فيه أنها تلعنه إذا استقبلها -الشمس أو القمر- وهذا ضعيف، بل باطل، ولذلك لا حرج في استقبال الشمس أو القمر، فإذا انضاف إلى ذلك ما قاله بعضهم في الكواكب، فأين يذهب الإنسان في قضاء الحاجة، إذا، القبلة لا استدبار ولا استقبال، والشمس لا، والقمر لا، والكواكب لا، إذاً هذا يحتاج إلى أن يدخل نفقاً، أو يخرج من هذه الأرض، فهذا كله من التكلف، ومن الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة أو الموضوعة.
بلُّ اليد قبل غسل النجاسة
ومن آداب قضاء الحاجة: بلُّ اليد قبل غسل النجاسة؛ وهذه ذكروها في الآداب بالتجربة؛ لأنها إذا باشرت النجاسة وهي يابسة تعلقت بها النجاسة، وصارت الرائحة في اليد قوية، فإذا غسل يده أولاً، ثم غسل النجاسة وقعت النجاسة على شيءٍ مبتل، فلا تنتقل إليها الرائحة كانتقالها إلى اليد اليابسة.
غسل اليدين بعد الاستنجاء بتراب ونحوه
وكذلك من الآداب: غسل اليد بعد الاستنجاء بتراب أو رمل، أو نحوه مما يقلع الرائحة كالصابون، وإذا كان في البر واستنجى من خروج الغائط -مثلاً- غسل يده بعد الماء بترابٍ، ونحوه.
التفريج بين الفخذين عند البول
ذكروا من آداب قضاء الحاجة: التفريج بين الفخذين عند البول، حتى لا يصيب البول عند خروجه الرِجْل.
الاسترخاء حتى يخرج ما بقي من النجاسة
وكذلك من آداب قضاء الحاجة: الاسترخاء قليلاً، والاسترخاء ضد الانكماش والانقباض، قالوا: لأنه أقرب إلى إزالة النجاسة؛ لأن في المحل، يعني: مكان الخروج والمثانة، انقباضات فربما تبقى بقية بعد التبول، فإذا أنهى البول استرخى قليلاً لأجل لو بقي شيءٌ فأنه يخرج.
ستر الرأس وتغطيته عند قضاء الحاجة
ذكروا من آداب قضاء الحاجة: ستر الرأس وتغطيته، وأوردوا في ذلك حديثاً عن أبي بكر أنه- قال: "استحيوا من الله إذا خلوتم، إني لأذهب إلى حاجتي في الخلاء متقنعاً بردائي حياءً من ربي" فقالوا: إن هذا لأجل كمال الحياء؛ ولأن قضاء الحاجة يكون في ستر ويكون بمكان لا يراه، فمن كمال الأدب أن يفعله، ولكن ليس في ذلك وجوب، حتى هذا إن صح عن أبي بكر فإنه يحمل على كمال حيائه ، وقالوا: لأن قضاء الحاجة مبني على الستر والمبالغة فيه، حتى إنه يغطي رأسه، ولكن ليس في هذا وجوب.
عدم البول في الشقوق والجحور
ومن آداب قضاء الحاجة التي ذكرها أهل العلم: عدم البول في الشقوق والجحور؛ أما بالنسبة للبول في الشقوق والجحور؛ ذكروا له علتين:
إحداهما: حتى لا تخرج عليه الهوام فتؤذيه، فقد يكون فيه عقرب، أو حية، وما شابه ذلك من هوام الأرض، التي تدخل في الجحور؛ فإذا بال في الجحر ربما خرج عليه ما يؤذيه.
ما هو الفرق بين الجحر والشق أو السرب؟
السرب والشق يكون بالطول، والجحر مستدير.
والمعنى الثاني الذي ذكروه: أن الجحور قد تكون من بيوت الجن، وذكروا في ذلك قصة: أن سعد بن عبادة لما ذهب إلى الشام في آخر عمره، ذهب ليقضي حاجته فبال في جحر فوجد مخضراً، ملقىً ميتاً، وسمع قائلاً يقول:
نحن قتلنا سيد الـ | أوس سعد بن عباده |
ورميناه بسهمين | فلم نخطي فؤاده |
انظر: مستدرك الحاكم: 5103].
ولكن ليس في هذا جزم أن الجحور بيوت الجن، فقد يكون فيها وقد لا يكون فيها، وهذه القصة الله أعلم بثبوتها.
ولذلك الإنسان على أية حال لا يتعمد البول في الجحر؛ لأن هناك احتمالاً أن يكون فيه إيذاء لمن فيها بغض النظر عمن فيها.
وثانياً: أنه قد يخرج عليه شيء فيؤذيه هو.
فلا بيول في الحجر، حتى لا يؤذي ولا يؤذى.
وقد قال بعضهم كلاماً لطيفاً قال: علل بعضهم أن الجن يحبون النجاسات، فلماذا لا نبول في الجحر حيث إنهم أصلاً يحبون النجاسات؟
فقال رداً على ذلك: إذا كان الشياطين يحبون النجاسات، ويكونون في المراحيض، وبيوت الخلاء والحشوش، ونحو ذلك، وإذا دخلنا نستعيذ بالله منهم، فإنه ليس معنى ذلك أنهم يحبون التلطخ بها، يقول: ألا ترى أنك تحب العسل، ولكن لا تحب أن تتلطخ به.
آداب قضاء الحاجة من كتاب: "المدخل" لابن الحاج
وختاماً للموضوع: فقد ذكر ابن الحاج رحمه الله، وهو محمد بن محمد العبدلي المالكي، آداب قضاء الحاجة، مجموعة في كتابه: "المدخل" جمع فيه نحواً من تسعة وسبعين أدباً، نمر عليها -إن شاء الله-، ولكن بعض هذه الآداب قد لا يكون عليها دليل، فنتجاوزه.
يقول رحمه الله: "فصل: في الاستبراء وكيفية النية فيه" يقول: وقد تقدم على أن الأفعال على قسمين: واجب، ومندوب، وقد ذكر علماؤنا رحمة الله عليهم آداب التصرف في ذلك كله، وهي تنوف على سبعين خصلة يحتاج من قام إلى قضاء حاجته أن يتأدب بها، وهي كلها ماشية على قانون الاتباع: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ[آل عمران:31]:
الأولى: الإبعاد، حتى لا يرى له شخص، ولا يسمع له صوت، فإن القصد من الإبعاد ليس فقط ألا يرى، ولكن أيضاً حتى لا يسمع منه صوت عند قضاء الحاجة، من باب الأدب أيضاً.
كذلك: الاستعداد قبل الدخول بيسير من الماء والأحجار؛ لأن بعض الناس لا يستعد، ربما يدخل دورة المياه، ثم يكتشف أن الماء مقطوع فيتورط، فإذا دخل الخلاء يتأكد هل يوجد فيه ماء، وإن لم يوجد أدخل معه ماءً أو أدخل معه مناديل للاستجمار.
الثالثة: أن يقدم الشمال وأن يؤخر اليمين.
الرابعة: إذا خرج فليقدم اليمين أولاً، ويؤخر الشمال.
الخامسة: أن يتعوذ التعوذ الوارد في ذلك عند الدخول، وهو أن يقول: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث النجس الرجس من الشيطان الرجيم".
السادسة: ألا يستقبل القبلة إذ ذاك.
السابعة: ألا يستدبرها إلا في المنازل المبنية، فلا بأس في الاستقبال والاستدبار ما لم يكن في سطح فأجيز وكره، يعني: بعضهم قال: إذا كان المكان مكشوفاً.
وقيل: هل هو إكرام للملائكة؟
لكن ما دام أنه ما ثبت فيه شيء فلا داعي لتكليف الإنسان نفسه، وأي فرق بين السطح المكشوف وبين الخلاء والفضاء والصحراء؟ إذا قلنا: لا بد من سطح مكشوف هذا بالنسبة لاستقبال القبلة؟ يعني: الفرق يظهر بين الصحراء والسطح في قضية الاستقبال، أما في عدم الاستقبال ليس هناك فرق، إذا لم يستقبل سواءً كان في صحراء أو في سطح نفس الشيء، لكن في قضية الاستقبال والاستدبار في البنيان بعضهم كره، يعني: أجاز استقبال جهة الكعبة واستدبارها داخل البنيان، لكن قالوا: ليس في سطح، ثم قالوا: هل هو لأجل القبلة؟ أو لأجل الملائكة؟
الثامنة: ألا يستقبل الشمس والقمر بعورته؛ وهذا ليس بشيء -كما تقدم- وليس عليه دليل.
التاسعة: أن يستتر عند التبرز.
العاشرة: أن يتوقى مسالك الطرق.
الحادية عشرة: أن يتوقى مهاب الرياح، ونبه إلى نوع من المراحيض كانت موجودة في ذلك الوقت تدخل فيها تيارات الهواء الشديدة جداً، بحيث إنه لا يسلم من الرشاش أن يرجع إليه.
الثانية عشرة: أن يتوقى ما علا من الأرض؛ لأنه إذا كان في مكان مرتفع كان عرضة؛ لأن يراه الناس.
الثالثة عشرة: أن يبالغ في أكثر ما يجد من الأرض انخفاضاً، ومنه سمي الغائط غائطاً، فالغائط في لغة العرب، هو المكان المنخفض من الأرض، فكان أحدهم إذا ذهب إلى قضاء حاجته ذهب للغائط، أي المكان المنخفض من الأرض، ثم كثر استعماله حتى سمي الخارج بالموضع، فقيل: سمي الخارج غائطاً باسم الموضع الذي كان يغشى لأجل قضاء الحاجة والتغوط.
الرابعة عشرة: ألا يقعد حتى يلتفت يميناً وشمالاً، وهذا لأجل أنه قد يكون حوله شيء من الهوام فلا يفاجئ به، فيلتفت يميناً وشمالاً قبل أن يقضي حاجته، فقد يكون هناك شيء يستدعي البعد عن هذا المكان.
الخامسة عشرة: ألا يكشف ثوبه حتى يدنو من الأرض.
السادسة عشرة: إذا قعد لا يلتفت يميناً وشمالاً.
السابعة عشرة: ألا يمس ذكره بيمينه.
الثامنة عشرة: ألا ينظر إلى عورته؛ وهذا من باب الأدب، لكن ليس محرماً.
التاسعة عشرة: ألا ينظر إلى ما يخرج منه إلا لضرورة لا بد منها؛ وهذا شيء تستقذره النفس وتكرهه، فلماذا يأتي بما يقذرها ويشينها؟!
العشرون: أن يغطي رأسه، وقد تقدم الكلام عنه.
الحادية والعشرون: ترك الكلام بالكلية ذكراً كان أو غيره، ولا بأس أن يستعيذ عند الارتياع، ويجب الكلام إذا اضطر إلى ذلك في أمر يقع مثل حريق، أو أعمى يقع، أو دابة ينبه غيره عليها، أو ما شابه ذلك.
الثانية والعشرون: ألا يسلم على أحد ولا يسلم عليه أحد، فإذا سلم عليه أحد فلا يرد عليه.
الثالثة والعشرون وما بعدها: إقامة عرقوب الرجل اليمنى على صدرها، وأن يستوطئ اليسرى، وأن يتوكأ على ركبته اليسرى، وذكرنا في هذا حديثاً ضعيفاً، لكن قالوا: هو أعون على الخروج أن يتكئ على الرجل اليسرى ويرفع اليمنى قليلاً.
وذكر بعضهم: من أجل المعدة، وأن المعدة كالإناء، وهو أنك إذا أرقته على جنب صار أسهل.
وعلى أية حال: ربما أن بعضكم يرى في بعض البيوت القديمة، أو الحمامات العربية أنهم يجعلون الجزء الأيسر من المقعد أوطأ قليلاً من الأيمن لأجل هذا المعنى، وهذه -كما قلنا- قضية تجربة وطب، إذا كان ثبت هذا فيفعله الإنسان من باب أنه أيسر له.
السادسة والعشرون: يكره البول من موضع عالٍ إلى أسفل خوفاً من الريح أن ترده عليه.
السابعة والعشرون: يكره أن يبول في المواضع المنحدرة إذا كان هو من أسفل؛ لأن بوله يرجع عليه.
الثامنة والعشرون: البول قائماً، المشهور الجواز، وتقدم الكلام عليه.
التاسعة والعشرون: يبتدئ بغسل قبله قبل دبره، يعني عند الاستنجاء وإزالة النجاسة يبدأ بالقبل أولاً لئلا يتطاير عليه شيء من النجاسة عند غسل الدبر؛ لأنه قد يحتاج في غسل الدبر إلى تمرير يده فتحتك بمكان خروج البول، فتتنجس اليد، فإذا طهر القبل أولاً لو حرك يده، فإنها تمر على مكان نظيف.
وعلى أية حال: هذا من الآداب.
قال: وأما إذا كان البول يتأخر بخروجه، ويخرج على شكل قطرات أخر غسل القبل.
الثلاثون: يغسل يده بالتراب مع الماء عند الفراغ، فهو أنظف.
الحادية والثلاثون: يستجمر وتراً.
الثانية والثلاثون: ألا يستنجي في موضع قضاء الحاجة -كما قلنا-؛ لأنه إذا قضى الحاجة، الغائط -مثلاً- ويريد أن يستنجي في مكانه لربما لامس القذر الذي في الأرض.
-طبعاً- هذا في غير المراحيض والكراسي، أو مكان قضاء الحاجة، فإن هذا ثابت لا حاجة أصلاً؛ فلا حاجة لئن يذهب إلى اليمين أو الشمال، ولكن إذا قضى حاجته في مثل صحراء أو أرض أو فلاة، فيذهب عن هذا المكان قليلاً ويغسل.
الثالثة والثلاثون: سد مكان خروج البول برفق؛ لأن استعمال الشدة ربما يؤدي إلى سلسل البول، ولذلك ترى بعض الموسوسين يستخدمون وسائل غير مشروعة، مثل العصر والدلك بشدة، والنتر والنحنحة، وربما القفز، وغير ذلك، والمسألة لا تحتاج إلى هذا، بل سلت برفق إذا خشي أن يكون فيه شيء، وإلا فإنه لا يمسه أصلاً إلا في الغسل باليسرى.
الرابعة والثلاثون: تفريج ما بين الفخذين لئلا يتطاير عليه شيء من البول.
الخامسة والثلاثون: ألا يعبث بيده.
ثم قال: الذكر: الحمد لله الذي سوغنيه طيباً، وأخرجه عني خبيثاً إذا ثبت.
أن يجمع بين الأحجار والماء فهو أحسن وأطيب، ويجوز الاقتصار على المناديل، وغيرها في الاستجمار ولو كان يوجد ماء، وإذا لم يوجد ماء يجوز الاقتصار على الاستجمار، ويجوز ثلاث مسحات فأكثر بحسب الحاجة وتراً، وإذا كان بالحجارة اختار ثلاثة أحجار، وإذا كان حجراً له ثلاثة أوجه جاز أن يستعمله.
قال: إذا أراد أن يستنجي يغسل يده اليسرى قبل أن يباشر النجاسة لئلا تعلق فيها الرائحة.
وكذلك ذكر من الآداب: إذا استنجى بالماء أن يكون الإناء في يده اليمنى، ليسكب به الماء، ويده اليسرى على المحل يعقبه ويواصل صب الماء.
والآن من طبيعة الحال توجد هذه الشفاطات في المراحيض ودورات المياه، فهي بمثابة الإناء الذي يسكب منه.
الثانية والأربعون: ألا يتغوط تحت شجرة مثمرة.
الثالثة والأربعون: ألا يتغوط في ماء راكد.
الرابعة والأربعون: ألا يفعل ذلك على شاطئ النهر، -وكما قلنا-: على شاطئ البحر والناس يدخلون ويخرجون.
الخامسة والأربعون: ألا يفعله تحت ظل حائط؛ لأن كل هذه من الملاعن.
السادسة والأربعون: أن يتجنب البول في كوةٍ من الأرض إذا لاقاها لأجل الإيذاء.
السابعة والأربعون: أن يتجنب بيع اليهود.
الثامنة والأربعون: أن يتجنب كنائس النصارى سداً للذريعة؛ لئلا يفعلوا ذلك في مساجدنا، كما نهينا عن سب الآلهة المدعوة من دون الله لئلا يسبوا الله .
ونحن نذكر أن أبرهة قام بغزو الكعبة؛ لأن بعض العرب ذهبوا إلى القليس التي بناها في اليمن، ولطخوها بالنجاسات، فثارت حفيظته.
التاسعة والأربعون: يكره البول في الأواني النفيسة للسرف، أما أواني الذهب والفضة، فإنه يمنع اتخاذها واستعمالها أصلاً، فكان يوجد بعض الأغنياء أو الملوك، وغيرهم الذين يستعملون أواني الذهب والفضة في قضاء الحاجة.
الخمسون: يكره البول في مخازن الغلة؛ المخازن التي يخزن فيها القمح والطعام، وغير ذلك، قالوا: ولو كانت فارغة؛ لأنه لو أتي بطعام بعده ليوضع في المخزن فربما انتقل إليه شيء من النجاسة الموجودة في الأرض.
الاسترخاء قليل عند النجاسة.
الحذر من إدخال الإصبع في الدبر، قال: فإنه من فعل شرار الناس.
هذه مسألة أيضاً من الأدب، ذكرها في قضية درجة البطء في خروج الخارج، قال: فرب شخص يحصل له التنظيف عند انقطاع البول عنه، فبمجرد أن ينقطع ولا يخرج شيء يغسل، وآخر لا يحصل له ذلك إلا بعد أن يقوم ويقعد، يعني: ربما يحتاج شخص آخر إلى الاسترخاء ليخرج، وآخر يحتاج أن يقوم ثم يقعد، إذا قام حضره بول إضافي غير الذي خرج منه فيقعد ليخرج ما بقي، قال: وذلك راجع إلى اختلاف أحوال الناس في أمزجتهم ومآكلهم واختلاف الأزمنة عليهم، فليس الشيخ كالشاب؛ لأنه معروف أن كبير السن يسترخي معه المكان، فتكثر عنده الحاجة لدخول دورة المياه عدة مرات، أما الشاب فيكون الموضع عندهم مستمسك، وليس من أكل البطيخ كمن أكل الجبن؛ لأن البطيخ يسبب شيئاً من الإسهال، والجبن يسبب شيئاً من الانقباض أو القبض، وليس الحر كالبرد.
المهم أنه ذكر اختلاف المآكل والأجواء، واختلاف أسنان الناس، فهذه كلها أسباب في قضية التأخر أو البطء في الخارج، وبالتالي على الإنسان أن ينتظر حتى يغسل كل شيء فيصلي وهو طاهر.
وليس معنى هذا أن الإنسان يقعد في دورة المياه ساعات، فإن بعض الناس عندهم وسوسة عجيبة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله قال: وربما قفز درجات السلم، ينـزل على سلم متتابعاً، ثم يعود لأجل أن يفرغ ما في جعبته بظنه، وربما احتشى وآذى نفسه، وأدخل أشياء في الداخل، وأنت لست مطالباً في الشريعة بتنظيف ما في الداخل، بل أنت مطالب بتنظيف المخرج فقط، وأصلاً مهما نظفت في الداخل، فإن هذا موجود ومستودع داخل الإنسان، فالمطلوب هو تنظيف المخرج فقط، وليس ما بالداخل، فأنت لست مسئولاً عما في الداخل.
وبعض الناس يقول: انتظر ربما يخرج شيء، وآفة الموسوسين قضية ربما، إني وجدت بالنظر في أحوال الموسوسين أن آفتهم آفة عظيمة، فيقول: ربما يمكن يطلع شيء، يمكن يطلع شيء بعد شوية، فهذه القضية الدقيقة عند الموسوسين، أنت مكلف بما صار الآن، ولست بمكلف بما يمكن أن يحدث، وتعمل لذلك احتياطات وتضيع الأوقات والجماعات، والصلاة.
وصرح بعضهم أنه يضيع الصلاة عن وقتها كلها من بعد الظهر إلى ما بعد العصر؛ وهذه من المصائب العظيمة، نسأل الله العافية؛ لأن هذا مرض خطير جدًا، قضية الوسوسة.
فالإنسان مكلف بما يخرج، وليس بما يمكن، احتمال، وحسيت.
ثم أيضاً: لو أن الإنسان يخرج منه البول متتابعاً، ولا يستطيع التحكم في خروجه، فما هو الحكم؟ أنه يغسل ويتوضأ ويخرج وليس بمكلف بما خرج منه بعد ذلك، يتوضأ بعد دخول الوقت ويصلي، وإن وضع شيئاً كمناديل -مثلاً- أو شيئاً لئلا تنتشر النجاسة فقط.
ولو كان يخرج متتابعاً، يخرج ويستمر يفي الخروج، ولا يتحكم فيه إطلاقاً، ومعروف حكم صاحب السلس.
قال: إذا قام للاستبراء فلا يخرج بين الناس ويمسك عورته بيده، فإن ذلك تشويه ومثلة، قال: ويكره له أن يشتغل بغير ما هو فيه لئلا يبطئ خروج الحدث.
والمقصود: الإسراع في الخروج من ذلك المحل، بذلك وردت السنة.
بعض الناس يطيلون في الحمامات، والآن المراحيض تبنى في البيوت واسعة وأنوار، يعني: يصلح مجلساً في الحقيقة، ولذلك بعضهم في قضاء الحاجة يقرؤون الجرائد، ويجلس على كرسي الحمام يقرأ الجرائد، صلا الحمام هذا مثل المجلس، مع أنه أصلاً مكان حضور الشياطين، ومكان الخبائث، ومكان النجاسات، وينبغي على الإنسان أن يخرج منه بأسرع وقت وليس أن يجعله متكأً ومقيلاً ومكاناً للكيف والراحة والاسترخاء والاستمتاع.
والآن الحضارة المدنية الحديثة حولت الحمامات إلى أماكن متعة، مع أنها أماكن حضور الشياطين، فيجب أن نفس الإنسان المسلم تنفر من المكث فيها، فيقضي حاجته ويخرج.
قال الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله: "إذا أراد الله بعبد خيراً يسر له الطهارة" هذه حقيقة، عبارة بليغة.
أما إذا أريد به شراً، فإن الطهارة تتعقد عنده وتصبح إجراءات صعبة وطويلة، ويكون عذاباً، الموسوس يعذب نفسه.
السابعة والخمسون: لا يستجمر بحائط المسجد لحرمته، ولا في حائط مملوك لغيره؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وحتى قال: لا يفعله في حائط نفسه، فبعضهم ربما كان الحيطان زمان كانت من اللبن والطين، ومن غيره، فربما إذا بال قام ومسح بالحائط.
أولاً: إذا كان في مسجد أو كان في ملك الغير، فلا يجوز، ولو كان له هو فربما نزل عليه المطر، أو الماء، وصار تحته نجاسة.
قالوا: ربما كان في الحائط حيوان فيتأذى به، وقد رأيت عياناً -هذا يقوله ابن الحاج رحمه الله- بعض الناس استجمر في حائط فلسعته عقرب كانت هناك على رأس ذكره، ورأى من ذلك شدة عظيمة.
التاسعة والخمسون: لا يستجمر بفحم؛ لأنه يلوث المحل، ولا بعظم لأنه لا ينقي، ويتعلق به حق الغير، ما هو حق الغير؟
في العظم.
زاد إخواننا المؤمنين الجن.
ولا بزجاج؛ لأنه لا ينقي وهو مؤذٍ، ولا بروث؛ لأنه لا يثبت عند الدعك ويتفتت، وهو زاد لدواب مؤمني الجن، كما ورد في الحديث.
وعظم الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها زاد لمؤمني الجن، ينقلب في أيديهم لحماً كما أخبر النبي ﷺ.
ولا يستجمر بمائع؛ لأنه يلطخ المحل، ويزيده تلويثاً، ولا يستجمر بطعام لحرمته، ولا بذهب أو فضة، أو زبرجد، أو ياقوت لإضاعة المال، ولا بثوب حرير، ولا بثوب رفيع، يعني: عالي القيمة، من غير الحرير؛ لأن ذلك كله سرف، ويستجمر بما عدا ما ذكر.
وقد حد علماؤنا رحمة الله عليهم لهذا حداً يجمع كل ما تقدم من آلات الاستجمار ينبغي الاعتناء به، أي: بهذا الضابط، فقالوا: يجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منقٍ قلاعٍ للأثر، غير مؤذٍ، ليس بذي حرمة، ولا سرف، ولا يتعلق به حق الغير. وهو ضابط جيد.
وأخيراً: التفكر والاعتبار في قضاء الحاجة بخروج عملية النجاسة، وقد ذكر في ذلك كلاماً نفيساً جداً، قال رحمه الله: "وينبغي له إذا خرج منه خارجٌ أن يعتبر إذ ذاك في الخارج، وفي نتنه، وقذره، فإن نفسه تعافه، ويعلم ويتحقق أنه لا بد أن يرجع بنفسه كذلك، سواء بسواء. كيف يرجع ويتحول الإنسان هو نفسه إلى مخلفات وخارج؟
قال: "إذا أكلته الديدان رمته من جوفها قذراً منتناً، ويعلم أن ثم قوماً لا ينتنون في قبورهم، ولا تتعدى عليهم الأرض ولا يتغيرون؛ وهم الأنبياء، وكذلك أولياء الله والعلماء والشهداء قد يكون لهم شيء من هذه الميزة، فربما يحفر قبر عن شخص ما تغير، مثل ما حصل لوالد جابر، ما تغير بعد سنين حفروا قبره، فضربت المسحاة أذنه، فنفر الدم منها.
إذاً، بعض أولياء الله أو الشهداء أو العلماء، قد يحصل لهم من الكرامات ألا تتغير جسده بعد الدفن، ولا تأكله الديدان.
قال: "فيتفكر في هذا وتكون همته سامية لبلوغ هذه المراتب".
قال: "وذلك تنبيه من الله لنا حتى يعلم كل واحد منا ما هو صائر إليه: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[البقرة:269] فمن كان له لبٌّ نظر إلى أوله، فوجده نطفة، ونظر إلى آخره فوجد أنه تأكله الديدان وترميه، وإلى وسطه -يعني: أوله الحياة وآخره الموت- يجد ما يراه في كل يوم مما يحمل ويخرج منه" يعني: هو حامل النجاسة في بطنه، أوله نطفة وآخره الديدان، وتتخلص منه قذراً، وبين ذلك يكون حاملاً للنجاسة وتكون في جوفه.
قال: أي نفس تشمخ وتتكبر؟ وهي بهذه الحال، فهذا الاعتبار.
وكذلك ينبغي في قضاء الحاجة: أن يتفكر في الطعام الذي أكله، كان طيب المذاق، شهياً للنفوس، لا يشترى إلا بالمال بعد التعب، فليتفكر ما يصير إليه هذا المال، وسلبت طهارته، وذهب عزه، وصار منتناً قذراً يتحامى عنه، لماذا؟
لأنه اختلط بنا، الطعام لما اختلط بنا، أنتن، وصار نجساً وقذراً، ونقل عن ابن عطية رحمه الله في التفسير حين تكلم عن قول الله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس: 24] ذهب أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، يعني إذا صار رجيعاً [انظر: المحرر الوجيز: 6/497].
فليتفكر الإنسان ويعتبر أن الطعام يتحول إلى ماذا؟
وهكذا عاقبة الدنيا.
وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الإنسان يعتبر بالدنيا: إن مطعم بن آدم جعل مثلا للدنيا، وإن قزحه وملحهن فانظروا إلى ما يصير[رواه أحمد: 21277، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3243].
وأشهى طعام ومشويات، وأشهى شيء، ماذا يكون في النهاية؟
هكذا الدنيا.
قال: ثم إنه لم نجد هذا الطعام وحده؛ الطعام إذا خالطنا صار بعد ذلك قاذورات، بل كل ما نباشره إن لبسنا ثوباً جديداً، فعن قليل يتوسخ، وعن قليل يتمزق، وإن مسسنا طيباً فعن قليل تذهب رائحته، وهكذا..
قال: "فالمؤمن يعتبر، ويأخذ نفسه بالأدب من وجهين:
أولاً: الهرب من خلطة من لا ينفعه في دينه؛ لأنه يخاف على نفسه من آثار هذه الخلطة.
يقول: الطعام لما اختلط بنا ولامسنا ودخل فينا ماذا صار؟ وكذلك لو خالطت قرين السوء الذي يخلط عليك دينك، فيكون أوسخ من هذا.
ثانياً: أن يكون إذا خالطه أحد من إخوانه المسلمين ممن ينتفع به في دينه أو ينفعه، فليحذر من أن يغير أحداً منهم بسبب خلطته، يعني: يحذر هو أن يتغير من قرين السوء، ويحذر أن يغير غيره، وهذان وجهان عظيمان. [انظر: المدخل لابن الحاج 1/27- 34].
نسأل الله أن يرزقنا الأدب والفقه، وحسن الخاتمة.
وصلى الله على نبينا.