ﷺالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.
فقد وجد من أصحاب النبي ﷺ الكثير ممن تميز بالنبوغ والتفوق والنجابة.
وكان ﷺ من حكمته: أن يرعى أصحاب المواهب وكل مهارة من المهارات، ويوجه ذلك في خدمة دين الله وشرعه، وفي نصرة الإسلام.
وقد نبغ من أصحابه في جوانب متعددة مما يدل على تكامل ذلك المجتمع الذي رباه محمد ﷺ، فنبغ في الشعر حسان بن ثابت وغيره، ونبغ في الفقه ابن عباس وغيره، ونبغ في القضاء بين الخصوم علي رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وغيرهما، وكذلك في تعلم اللغات زيد بن ثابت، والحفظ أبو هريرة، والحنكة العسكرية خالد بن الوليد.
وأيضاً من مهارات القوة التي استعملت في مواجهة أعداء الدين، من أنواع القوة البدنية التي كان في مقدم أصحابها سلمة بن الأكوع وغيره.
رعاية النابغين بالتوجيه لما فيه مصلحة الإسلام
فكان ﷺ يرعاهم، ويوجههم، وينصحهم، ويأمرهم بالعمل لما فيه مصلحة الإسلام، ويكلف كل واحد منهم بما يناسب حاله والشيء الذي نبغ فيه لنصرة الدين.
فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل يعني الهجاء بهذا الشعر الذي تعرفه قريش جيداً، وتعرف معاني ألفاظه، وقعه عليهم أشد من رشق النبل.
فأرسل إلى ابن رواحة وكان شاعراً، فقال: اهجهم، فهجاهم ولم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه.
وأراد بذنبه هنا لسانه، فشبه نفسه بالأسد في انتقامه وبطشه إذا اغتاظ، فإنه يضرب بذنبه حينئذ جانباً، وهكذا فعل حسان بلسانه حين أدلعه فجعل يحركه.
ثم قال في الرواية: ثم أدلع لسانه أي أخرجه من بين شفتيه، فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني هذا فري الأديم، يعني لأمزقنهم تمزيق الجلد.
فقال رسول الله ﷺ: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا، حتى يلخص لك نسبي، فأتاه حسان، ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
قالت عائشة: فسمعت رسول الله ﷺ يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نفحت عن الله ورسوله.
وقالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى أي شفى المؤمنين واشتفى بما قاله في الكفار من تمزيق معنوياتهم، ونافح عن الإسلام والمسلمين.
ومما قاله حسان :
هجوت محمداً فأجبت عنه | وعند الله في ذاك الجزاء |
هجوت محمداً براً حنيفاً | رسول الله شيمته الوفاء |
فإن أبي ووالده وعرضي | لعرض محمد منكم وقاء |
ثكلت بنيتي إن لم تروها | تثير النقع من كنفي كداء |
يبارين الأعنة مصعدات | على أكتافها الأسل الظماء |
تظل جيادنا متمطرات | تلطمهن بالخمر النساء |
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا | وكان الفتح وانكشف الغطاء |
وإلا فاصبروا لضراب يوم | يعز الله فيه من يشاء |
وقال الله قد أرسلت عبداً | يقول الحق ليس به خفاء |
وقال الله قد يسرت جنداً | هم الأنصار عرضتها اللقاء |
لنا في كل يوم من معد | سباب أو قتال أو هجاء |
فمن يهجو رسول الله منكم | ويمدحه وينصره سواء |
وجبريل رسول الله فينا | وروح القدس ليس له كفاء |
[رواه مسلم: 2490].
وقال النبي ﷺ لحسان: اهجهم وجبريل معك [رواه البخاري: 3213، ومسلم: 2486].
وعن أنس : أن النبي ﷺ دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي، وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله | اليوم نضربكم على تنزيله |
ضرباً يزيل الهام عن مقيله | ويذهل الخليل عن خليله |
فقال له عمر : يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله ﷺ، وفي حرم الله تقول الشعر؟
فقال له النبي ﷺ لعمر: خل عنه يا عمر فلهي أسرع هذه الأبيات الشعر أسرع فيهم من نضح النبل[رواه الترمذي: 2847]، وهو حديث صحيح. [صححه الألباني صحيح وضعيف الترمذي: 2847].
النبي ﷺ في إنشاء المجتمع المسلم احتاج إلى من يعرف اللغات؛ لأنه يتعامل مع أصحاب لغات مختلفة من الأقوام الخارجيين: فرس، روم، يهود.. إلى آخره.
منهم من كان على مقربة منه كيهود خيبر، ومنهم من كان على مبعدة منه، ألسنة مختلفة، فمن الذي سيتطوع من المسلمين لتعلم اللغات، ليكتب النبي ﷺ مراسلاته بها، ويرسل إلى هؤلاء الأقوام المختلفين.
عن خارجة بن زيد "أن أباه زيد بن ثابت أخبره أنه لما قدم النبي ﷺ المدينة، قال زيد: ذهب بي".
كولد نابغة نابغة، زيد بن ثابت هذا فتى عظيم، الحقيقة أن عنده من التعلم السريع ما يبهر، ما يبهر، وزيد نشأ يتيماً، وكان والده قد قتل في معركة بعاث بين الأوس والخزرج قبل الإسلام، فلذلك نشأ وهو يتيم، لكن عنده مما رزقه الله به من الفطنة والموهبة والحفظ العجب.
لما قدم النبي ﷺ المدينة، قال زيد: ذهب بي إلى النبي ﷺ فأعجب بي، فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني، فقرأت(ق)، -وهذا من باب الاختبار لذكائه وحفظه- فأعجب ذلك النبي ﷺ، وقال: يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابه، يعني: لا يمكن آتي بواحد يهودي يقرأ لي ويكتب لي إذا جاء منهم رسالة، أجيب واحد رسالة يقرأ لي ويكتب لي، لا يمكن، لا آمنهم، نبغا واحد منا وفينا، ويزيد وينقص إذا استعمل يهودياً يحرف، قال زيد: فتعلمت كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، يعني أتقنته وعلمته وعرفته. تعلم لغة كاملة في كم يوم؟ خمسة عشر يوم، قال: فكنت أكتب له إذا كتب -يعني إذا أراد الكتابة لليهود- وأقرأ له إذا كتب إليه. [رواه الترمذي: 2858 وأبو داود 3645]، وهو حديث صحيح [حسنه الألباني صحيح الترمذي: 2870].
وهذا يدل على ذكائه وفطنته العجيبة، فمع صغر سنه، فقد كان عمره اثنا عشرة سنة تقريباً.
قال الذهبي: "قتل أبوه قبل الهجرة يوم بعاث، فربي يتيماً وكان أحد الأذكياء". [سير أعلام النبلاء: 2/427].
وقال ابن كثير رحمه الله: "كان زيد بن ثابت من أشد الناس ذكاءً، تعلم لسان يهود وكتابه في خمسة عشر يوماً، وتعلم الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خدام رسول الله ﷺ". [البداية والنهاية: 8/29].
ولذلك جعله النبي ﷺ أيضاً من كتبة الوحي زيد بن ثابت لغات لغات ما هو لغة واحدة.
وأيضاً إتقان وضبط ودقة وحفظ؛ لذلك جعله من كتبة الوحي؛ نظراً للصفات العظيمة التي تمتع بها هذا الشاب اختاره أبو بكر الصديق لرئاسة اللجنة التي عملت على جمع المصحف.
من النوابغ في الصحابة أيضاً الذين اعتنى بهم النبي ﷺ ورعى موهبتهم، ووجههم وعلمهم: معاذ بن جبل ، حتى أرسله قاضياً إلى اليمن، مع أنه صغير في السن، ولكنه فقه الحلال والحرام، وولاه ﷺ قضاء اليمن.
وأرسل مصعب بن عمير أيضاً إلى المدينة مع أنه صغير في السن نسبياً شاب في مقتبل عمره اختاره معلماً لأهل المدينة.. لماذا؟ وليكون أول سفير له، يعرف يعرض الحق، ويعرف يتكلم، وعنده لين وعنده حكمة وعنده جمال عرض وأسلوب جذاب في الدعوة، وعنده ما حفظ من القرآن في العهد المكي، ذهب إلى المدينة يدعو إلى الله، فمهد المدينة للنبي ﷺ، فالمدينة فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.
وعن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله ﷺ مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، قال فجعلا يقرئان الناس القرآن. [رواه البخاري: 3925].
اختيار النجباء للمهام الصعبة
كان ﷺ يختار النجباء لتكليفهم بالمهام الصعبة.
فكلف علياً بالمبيت في فراشه ليلة الهجرة مع خطورة هذه القضية؛ لأن قريشاً لما أعيتهم الأمور اجتمعوا في دار الندوة وأجمعوا على قتل النبي ﷺ، في النهاية خلاص: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ[الأنفال:30].
وأرادوا التخلص منه نهائياً، فأوحى الله بذلك إلى النبي ﷺ، وأذن له بالهجرة.
فلتكتمل الخطة، وما يكتشفوا خروج النبي ﷺ مبكراً، أمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه تلك الليلة، وأعداؤه قد أحاطوا ببيته ليقتلوه إذا خرج، فنام في فراشه ﷺ، والأعداء يظنون النائم محمد ﷺ، ومع ذلك مع الخطورة فإن علياً قام بهذه المهمة خير قيام.
والنبي ﷺ اختار علياً في مهام كثيرة دقيقة، ومنها قيادة جيش فتح خيبر.
والنبي ﷺ كان يختار من الأذكياء من أصحابه من أصحاب الفطنة، من الذين يحسنون التصرف في المواقف الصعبة والدقيقة والحرجة، لكي يأتوه بالأخبار؛ لأن القضية أحيان تحتاج إلى شخص واحد.
فاختار يوم الأحزاب حذيفة بن اليمان ليدخل بين صفوف العدو، عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة، فقال رجل: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله ﷺ وصحبتموه، قال: نعم يا ابن أخي، قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض.
كان حملناه على أكتافنا، يعني هذا التابعي يظن أنه ممكن يعمل أكثر مما عمله بعض الصحابة- ولجعلناه على أعناقنا، ولقاتلت معه وأبليت.
فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ والله لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ بالخندق، وأخذتنا ريح شديدة وقر -يعني برد- فصلى رسول الله ﷺ من الليل هوياً، ثم التفت إلينا فقال: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا.
عشرة آلاف من الكفار يحيطون بالمدينة، واليهود والمنافقون من الخلف، وبرد شديد، وظلمة، فمن الذي يجرؤ أن يخرج الآن من عسكر المسلمين وقد حوصروا هذا الحصار ليذهب ويدخل في عسكر الكفار، وقد يكتشف بأي لحظة ليأتي بالخبر، يعني أراد حذيفة أن يضرب لهذا التابعي مثلاً على صعوبة الظروف التي مرت بهم.
"فسكتنا فلم يجبه منا أحد".
مع أن العرض مغري مغري: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة.
ثم قال ﷺ: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، مع شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد -يقول حذيفة- فقال ﷺ -لما ما رأى أحد يتطوع- قال: قم يا حذيفة اذهب، قال: قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم".
لأن الله قال: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال: 24]. قال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون؟.
هم يريدون الاستمرار، هم يريدون الانصراف، هم في حال من العزيمة والقوة، أو هم في حال من الفتور وانهيار معنويات إيش الوضع داخل معسكر الكفار؟ مهم جداً، المعلومة هذه مهمة.
قم يا حذيفة، قال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا.
أنت الآن ما لك إلا مهمة واحدة فقط: تسمع وتنقل، ما تحدث شيء، تقتل تجرح تنهب تعمل تأسر، لا الآن مهمتك فقط أن تأتينا بخبر القوم فقط.
"فلما وليت من عنده" والجو كان بارد جداً، قال حذيفة: "جعلت كأنما أمشي في حمام" الحمام الذي فيه الماء الساخن، بخار الماء الساخن، هذا الحمامات القديمة، حمامات دافئة جداً، فمن بركة امتثال الأمر النبوي أن الله أكرم حذيفة بكرامة، وهي أنه جعله يمشي في دفءٍ كدفٍء الحمام، مع شدة برودة الجو.
قال: "حتى أتيتهم" ما وجد البرد، ولا الريح الشديدة، ببركة إجابة دعوة النبي ﷺ، ودعائه له، واستمر على هذا من الدفء والسكينة حتى عاد، يعني: ذاهباً وراجعاً.
لفظة الحمام لفظة عربية، ومعناه في اللغة العربية: الماء الحار، حمام: الماء الحار، وهناك الحميم: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً [محمد: 15] نسأل الله السلامة.
قال حذيفة: "فدخلت في القوم"، بين المشركين، عشرة آلاف من قريش وغطفان وأوباش العرب، والريح وجنود الله تفعل ما تفعل، رأيت بعيني: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9].
قال حذيفة -لما دخل في القوم-: فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل ما تفعل، لا تقر لهم قدر، ولا نار، ولا بناء"، يعني: لا خيمة، ولا قدر يستوي على أحجار، ولا نار تشتعل، إذا أوقدوا نار انطفأت، إذا وضعوا قدراً انسكبت وانكفأت، إذا نصبوا خيمة طاحت ووقعت، ريح وجند الله، الملائكة والريح..
أمام هذا الحال هنا سمع حذيفة أبا سفيان قائد معسكر المشركين يقول: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه، -أبو سفيان ذكي، فخاف أن يكون النبي ﷺ أرسل جواسيس يندسون، فلذلك قال لتوجيه للجيش-: لينظر امرؤ من جليسه.
لكن حذيفة المؤمن أول ما سمع الكلمة، قال: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان.
سبحان الله، الإيمان يولد الفكرة، ويولد كيف يعني ويولد المخرج كيف يتخلص الإنسان.
ثم قال أبو سفيان: "يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع، وأخلفتنا بنو قريظة، بلغنا منهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه -أرمي أبا سفيان، مكسب زعيم المشركين- فذكرت قول رسول الله ﷺ: لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ولو رميته لأصبته.
شوف الفتنة الآن لو رميته لأصبته، غنيمة، ولكن تذكرت وأمسكت، هذه طاعة النبي ﷺ.
قال حذيفة: ثم رجعت إلى رسول الله ﷺ، وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت، قررت، يعني رجع البرد، كان دفا، لما وصل الكلام وانتهت المهمة رجع البرد.
فألبسني رسول الله ﷺ من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان [رواه مسلم: 1788، وأحمد: 23382].
وهذا الاختيار لحذيفة ، وهو الفدائي الذكي النبيه، الذي يحسن التصرف.
وكذلك النبي ﷺ من جودة حذيفة في كتم الأسرار جعله كاتب أسماء المنافقين، فأخبره بها بمن يعرفه منهم.
كان عليه الصلاة والسلام يشيد ويبين مكانة صاحب النبوغ والمهارة والمنزلة بين أصحابه
فعن أنس: أن رسول الله ﷺ أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيدهم كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا، قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين، يعني شق رؤوسهم. [رواه مسلم: 2470].
فعرضه السيف على أصحابه ليبرز من له أهل، ومن يأخذه بحقه فيعرف منزلته ومكانته.
وعن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله ﷺ السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع.
فاتبعته، فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، وقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كان يقول إذا عصب بها، فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي | ونحن بالسفح لدى النخيل |
أن لا أقوم الدهر في الكيول - مؤخرة الصفوف-
أن لا أقوم الدهر في الكيول | أضرب بسيف الله والرسول |
فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله. [معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: 3218].
الثناء على أصحاب الصفات المتميزة
كان ﷺ يثني إذن على أصحاب الصفات المتميزة، ليعرف يؤخذ ماذا ممن؟ يدل الناس على المهارات في أصحابه.
فمثلاً: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، أشدهم في دين الله عمر، أصدقهم حياء عثمان، أقضاهم علي بن أبي طالب، أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، أفرضهم يعني علم الفرائض المواريث زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة[المستدرك: 5784، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 868].
النبي ﷺ أشاد بعدد من أصحابه يعني.
من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد هذا ابن مسعود [رواه ابن ماجه: 138, وصححه الألباني صحيح ابن ماجة: 114].
وهكذا، فالآن عرف الصحابة يأخذون ماذا عمن؟ وكل علم من الماهر فيه؟
أثنى النبي ﷺ على سلمة بن الأكوع على سبيل المثال، سلمة بن الأكوع بايع النبي ﷺ في بيعة الحديبية في أصل الشجرة أول الناس، وبايع وسط الناس، وبايع آخر الناس، بايعه والنبي ﷺ قال: يا سلمة أين حجفتك؟ أين درقتك التي أعطيتك؟ -وين التحصينات أين الدرع؟- قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها، فلذلك أنا ما عليّ لأنني وهبتها له، فضحك رسول الله ﷺ، وقال: إنك كالذي قال الأول –يعني المثل أو العبارة الشهيرة التي مضت- :اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليّ من نفسي.
قال: ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها، فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله ﷺ، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي من المسلمين: يا للمهاجرين قتل ابن زنيم، –وهذا استنفار، يعني في واحد من المسلمين قتل، ماذا فعل سلمة الشجاع المقدام؟ أول ما سمع العبارة، الناس الآن مضطجعين-، قال: فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً، كله مجمعاً في يدي، ويده لما راح الراوي يشوف، قال: فأخرج لنا يداً كأنها خف بعير، هذا لما كبر سلمة وحدثهم، يعني سلمة أعطاه الله جسماً يعني فعلاً ! أبلاه في طاعة الله.
"فجعلت سلاحهم ضغثاً في يدي -حزمة- ثم قلت: والذي كرم وجه محمد، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ﷺ".
يعني واحد يأخذ أربعة بأسلحتهم، يقبض على أربعة بأسلحتهم.
وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز، من قريش.
يعني شوفوا الآن اقبض على أكبر عدد من المشركين، شوف الآن هذا المسلم الذي قتل من قتله، وعندنا الآن رهن من العدو.
يقوده إلى رسول الله ﷺ، على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله ﷺ، فقال: دعوهم، يكون لهم بدأ الفجور وثناه وعفا عنهم النبي ﷺ، وإلا كان ممكن أن يأخذ بثأر الذي قتل، وأنزل الله: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24].
سلمة وهو راجع من غزوة الحديبية وما فيها من المشاق، استغفر ﷺ لمن رقي هذا الجبل الليلة طليعة للنبي ﷺ، رقي الجبل ينظر استطلاع، فرقاه سلمة في تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً. الصباح عبد الرحمن الفزاري أغار على ظهر النبي ﷺ. يعني على إبله والدواب.
واستاقه أجمع وقتل راعيه وصل الخبر إلى سلمة مباشرة: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله ﷺ أن المشركين قد أغاروا على سرحه، واستقبل المدينة وصرخ ثلاث صرخات أسمع ما بين طرفي المدينة: يا صباحاه يا صباحاه –هذه كلمة استنفار- ثم خرج في آثار المشركين يرميهم بالنبل، ويقول:
أنا ابن الأكوع | واليوم يوم الرضع |
وهم اللئام؛ لأن هم غدروا يعني غدروا بالنبي ﷺ الذي أكرمهم وأعطاهم النوق والراعي، استلبوا النوق وقتلوا الراعي، ولحق رجلاً منهم صكه في رحله سهماً حتى خلص إلى كتفه
خذها وأنا ابن الأكوع | واليوم يوم الرضع |
ولا زال يرميهم ويعقر بهم، حتى تضايق الجبل، فعلا الجبل ومن فوق يشتغل فيهم، حتى ما ترك لا ناقة ولا جمل، ولا شيء أخذه هؤلاء المشركون نهبوه من المسلمين إلا وخلصه منهم، صار الآن الواحد من المشركين يرجو النجاة، يدور الهرب من سلمة وهو واحد.
ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً حتى يتخففوا، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه علامة.
وهكذا حاول أربعة منهم أن يصعدوا إليه ولكن ما استطاعوا ما استطاعوا.
وهكذا حتى جاء فرسان من المسلمين بقيادة أبو قتادة الأنصاري، وجاءت بقية الطليعة للنبي ﷺ.
وأثنى النبي ﷺ قال: خير رجالتنا سلمة لأنه كان راجلاً.
كما قال: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة.
وأردفه النبي ﷺ إكراماً له، وفي طريق العودة للمدينة واحد يتحدى في السباق، سلمة ينزل ويسابقه، وسبقه حتى دخل المدينة. -بالرغم من كل المجهود- [ رواه مسلم: 1807].
وهكذا كان ﷺ يعطي الرايات من أهل الشجاعة والنجدة، ويوكلهم بالمهام العظيمة، وإذا كان في الأمور الحربية كان له توجيهات.
انتخاب بعض النجباء للمهمات وتقرير استنباطاتهم
وكان له أيضاً في المسلمين من ينتخبهم ويجعلهم في هذه المواقع، حتى في الأشياء العلمية، فكان يقر المسلمين على استنباطاتهم البديعة.
فروى حنش بن المعتمر أن علياً كان باليمن، فاحتفروا زبية للأسد –حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده ويغطى رأسها ليقع فيها- فوقع فيها الأسد، وقع الأسد في الحفرة.
الآن علي قاضي على اليمن، أمير على اليمن طيب، فبعض أهل اليمن حفروا حفرة للأسد والأسد وقع فيها، الآن الذين حفروا للأسد اجتمعوا على حفرة يتطلعون، إذ سقط رجل فتعلق بآخر، فتعلق الآخر بآخر، وتعلق الآخر بآخر، وتعلق الآخر بآخر حتى صاروا أربعة فجرحهم الأسد فيها، فانتدب له رجل بحربة فقتله، يعني قتل الأسد، وماتوا من جراحتهم كلهم.
فتنازعوا في ذلك، صار النزاع: من السبب؟ أنت السبب، هذا جر هذا، لا أنت جر هذا، أنتم المسئولين، أنتم أهل هذا.
فأتاهم علي فقال: "تريدون أن تقاتلوا ورسول الله ﷺ حي، إني أقضي بينكم قضاء، إن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجز بعضكم عن بعض -كففتم عن بعضكم- حتى تأتوا النبي ﷺ، فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له".
طيب، ماذا تقضي يا علي ؟
قال: اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية.
شوف ترى هذه أشياء يمكن ما يجيبها الشخص العادي أبداً، ولا يفكر فيها، يعني لولا أننا نقرأها ولا ما أحد سيحوم طائر فكره حولها.
قال: اجمعوا من الذين حفروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة.
طيب ماذا بعد ذلك؟ جمعناها وبعدين كيف نقسمها؟
واحد دحست رجله وسقط في الحفرة، وهو يهوي في الحفرة تعلق بواحد، والواحد هذا لما انسحب انجر تعلق بالثاني، والثاني بالثالث والرابع، وطاحوا كلهم داخل الحفرة، والأسد جرح فيهم جرح فيهم حتى ماتوا من الجراح.
الآن من المسؤول؟ من الذي سيدفع الدية؟
يعني إذا قلنا ما في شيء بلاش طيب، ولازم هذا دم هذا روح لازم دية.
قال علي : اجمعوا من القبائل الذين حفروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة.
الأول له أقل شيء، الثاني له الثلث، الثالث النصف، والرابع؟ ..
الدية كاملة.
طيب ليش عطينا الأول أقل شيء؟
هو الذي سحب، وهو الذي سحب واتسبب في إيش؟ في كل اللي بعده.
تفضل، هو لابد ترى شوف العلم ما هو الفقه، الفقه الواحد يفهم صح يفهم، لما قال العلماء ليش قالوا؟ وعلى أي أساس؟
قال: "فقضى للأول ربع دية، وللثاني ثلث دية، وللثالث نصف دية، وللرابع الدية كاملة" فرضي بعضهم وكره بعضهم.
فارتفعوا إلى النبي ﷺ، فأتوا النبي ﷺ وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال: أنا أقضي بينكم واحتبى، فقال رجل من القوم: إن علياً قضى فينا، فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله ﷺ". [رواه أحمد: 573، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2/326].
هؤلاء الأربعة المقتولين خطأً بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها لهم الديات على من حضر على وجه الخطأ يعتبر هذا قتل خطأ.
الأول مقتول بالمدافعة، وهو قاتل ثلاثاً بالمجاذبة.
الآن هم إيش؟ تجمعوا على الحفرة، هذا التجمع جعل واحد القريب الأقرب إلى الحفرة يهوي فيها، فهم مسؤولين عن الأول، يعني ما هو الأول اللي هوى كذا هو ألقى به، لا ما هو مفرط بنفسه وبس، لما تجمعوا على الحفرة، وكل شوية يجي ناس يتجمعوا يتجمعوا ويزدحموا كل واحد يبغا يشوف، يبغا يقرب راسه يشوف.
إيش صار على القريب؟ دفعوه. إذن مسؤولون عنه.
فالأول مقتول بالمدافعة؛ لأنهم دفعوه لزوه حتى طاح وقع، وهو الذي وقع متسبب في قتل ثلاثة بالمجاذبة، فله الدية بما قتل، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم.
وأما الثاني فله ثلث الدية، وعليه الثلثان بالاثنين الذين قتلهما بالمجاذبة.
وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف، لماذا؟ لأنه قتل واحداً بالمجاذبة.
وأما الرابع فله الدية كاملة لأنه لم يقتل أحداً.
قال ابن العربي: "هذا من بديع الاستنباط". [أحكام القرآن: 7/5].
فأحياناً -سبحان الله- شوف احنا نسمع مثلاً أقضاهم علي، وعلي والقضاء، وعلمه الله فصل الخطاب، وين مثال على هذا؟
يعني: أنت عاد لو تفكر فيها بس كذا ليلة لتنظر كيف يعني بديع الاستنباط.
ولو من البداية قلنا يالله هاتوا ما عندكم من القضاء فيها، ما طلع معنا شيء.
ولذلك فإن أصحاب النبي ﷺ هم أفقه الأمة وأعلمها بالأحكام والاستنباط، والحلال والحرام، أجمعين.
طبعاً هذا موضوع طويل ومتشعب، نكتفي بهذا القدر منه، ونعود إليكم -بمشيئة الله تعالى- لتكملة هذه السلسلة المباركة:
محمد ﷺ مع ذكرنا مع زوجاته، مع أبنائه، مع بناته، مع أحفاده، مع جيرانه، مع أصحابه، مع أعدائه، مع أصحاب الوفود، مع أهل النبوغ، مع طوائف كثيرة جداً من الناس، وأنواع مضت أخبارهم في سيرة محمد بن عبد الله ﷺ.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأزواجه، وذريته، وسلم تسليماً كثيرا.
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..