الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد. فلا زلنا نتحدث عن تعامل النبي ﷺ مع أنواع الناس.
ومن هؤلاء أهل الهيئة والمكانة والجاه من الناس.
وقد ذكرنا أن النبي ﷺ كان ينزل الناس منازلهم، ويأمر أصحابه بذلك، ويحفظ لهؤلاء مكانتهم الخاصة في أقوامهم، ويحرص على دعوتهم إلى الله، ويطمع في إسلامهم، ويعتني بهم عناية خاصة، ويفرح بإسلام من أسلم منهم.
كما فرح بإسلام عكرمة بن أبي جهل، وإسلام عدي بن حاتم الطائي.
إظهار الاهتمام بهم وإقالة عثراتهم
وكان يظهر لهم الاهتمام والحفاوة، ويحسن الإنصات لحديثهم.
كما في قصة عتبة بن ربيعة. وكان ﷺ يتجاوز عن زلات الكبار ويدعو إلى ذلك.
وقد حث أصحابه على التجاوز عمن وقع في هفوة من ذوي الهيئات من المسلمين.
فكما أن لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، فكذلك لكل كبير هفوة.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها | كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
وقد أخرج أبو داود رحمه الله أن النبي ﷺ قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود [رواه أبو داود: 4377، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1185].
ومعنى: أقيلوا: يعني اعفوا عن العثرات، يعني الزلات، وهذا يعني الأخطاء التي تستوجب تعزيراً.
إلا الحدود أي إلا ما يوجب إقامة الحد فإن الحد لا يعفى عنه؛ لأن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
وهذه قضية لا مجاملة فيها، ولا إسقاط فيها مهما كان الشخص إذا أصاب حداً من حدود الله وبلغ الإمام والحاكم فلابد من إقامة الحد ولابد.
ولكن الأشياء التي هي دون الحد فإن صاحب الفضل، صاحب المنزلة له من سابقته ما يشفع له.
قال ابن القيم رحمه الله: "والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورا مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، وأديل عليه شيطانه، فلا نسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله، فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف، كما يتعين أخذه من الوضيع". [بدائع الفوائد: 3/661].
إذن من هم ذوو الهيئات المقصودين بحديث: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم يعني أهل المروءة والخصال الحميدة، الذين دامت طاعتهم، واشتهرت عدالتهم، فهؤلاء يبقون بشر، فإذا زل الواحد منهم زلة، ماضيها الطيب، وأفعاله الحسنة، وسيرته الحميدة تشفع له، مما يعني التجاوز عن خطأ وزلة زل فيها.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "ومعنى الحديث: استحباب ترك مؤاخذة ذوي الهيئات إذا وقع، أو ذوي الهيئة إذا وقع في زلة أو هفوة لم تعهد منه، إلا ما كان حداً من حدود الله تعالى وبلغ الحاكم فيجب إقامته" فهذا المعنى إذن.
النبي ﷺ كان يأخذ بهذا، ويتعامل معهم بهذا.
وكان ﷺ أيضاً يعتذر لهم ويتحمل منهم ما يصدر عنهم.
ففي الصحيحين أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ فقال رسول الله ﷺ: لا.
لأنه ليس إلى الزوج إقامة الحد، هذا يرفع بأمره ويشهد عليه أيضاً.
فقال سعد: "بلى والذي بعثك بالحق".
وفي رواية: "إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ والذي بعثك بالحق نبياً، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. فقال رسول الله ﷺ: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني[رواه مسلم: 1498].
قال القاري رحمه الله: "وفيه اعتذار النبي ﷺ لسعد، يعني قدم عذراً لسعد، وأن ما قاله سعد قاله لغيرته" [عون المعبود: 12/171].
ولا الأصل أن الواحد ما يتقدم على قول النبي ﷺ بشيء يمتثل.
إكرام ذوي الهيئات
وكذلك فإن النبي ﷺ كان يتعامل مع هؤلاء بالإكرام.
فعن جابر بن عبد الله قال: دخل جرير بن عبد الله البجلي، وكان سيد قومه ، على رسول الله ﷺ وعنده أصحابه، فظن الناس بمجالسهم فلم يوسع له أحد، فأخذ رسول الله ﷺ رداءه فألقاه إليه، وقال: اجلس عليها، فتلقاه جرير بنحره ووجهه، فقبله ووضعه على عينيه، وقال: أكرمك الله كما أكرمتني، ثم وضعه على ظهر رسول الله ﷺ، -أي أعاده إليه- فقال رسول الله ﷺ: إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه [رواه ابن ماجه: 3712، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1205].
كان ﷺ يحسن إليهم ولو كانوا من أعدائه إذا وقعوا في الأسر، حفظاً لمكانتهم وطمعاً في إسلامهم.
فعن أبي هريرة قال: "بعث رسول الله ﷺ خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة لا يشعرون من هو".
قبضوا على رجل وجاءوا به، ولا يعرفون قيمة هذا الأسير، حتى أتوا به رسول الله ﷺ، فقال: أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي هذا سيد أهل اليمامة حتى وصف بالملك.
فقال ﷺ: أحسنوا إساره، فربطوه بسارية من سواري المسجد، ورجع رسول الله ﷺ إلى أهله، فقال: اجمعوا ما عندكم من طعام وابعثوا به إليه.
وأمر بلقحته -الناقة ذات اللبن- أن يغدى عليه بها ويراح -يعني لبن في الصباح ولبن في المساء لثمامة- فجعل لا يقع من ثمامة موقعاً -يعني هذا الإكرام ما ظهر أثره على ثمامة- فخرج إليه رسول الله ﷺ فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم".
يعني لو قتلتني فإنك ستقتل رجلاً ذا شأن لدمه موقع، قاتله سيدرك به ثأراً لو قتله، من أهميته.
وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله ﷺ، حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فأعاد عليه مقالته، فتركه رسول الله ﷺ، حتى كان من الغد، فقال له كما قال له في اليوم الأول، فأعاد عليه ثمامة مقالته، فقال رسول الله ﷺ: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد.
هو الإكرام وإن ما ظهر أثره مباشرة، لكن حفر في النفس، الآن سيظهر، زاد على الإكرام السابق إطلاق الرجل.
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة.
لأن المشركين كان عندهم حج وعمرة، لكن إلى أصنامهم يطوفون بها.
"فماذا ترى؟".
شوف الرجل يستفتي، أسلم ومباشرة يستفتي: أخذت وأنا ذاهب للعمرة، ماذا ترى؟
"فبشره رسول الله ﷺ وأمره أن يعتمر".
خرج لخير يأتي به الآن، عمر لما نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام.. مادام خير امض في الخير: أوف بنذرك.
ولكن الآن على شريعة رب العالمين، وليس على طريقة الجاهليين.
فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، -تركت دين آبائك- قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ﷺ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة يأذن فيها النبي ﷺ.
والقصة معروفة في سيرة ابن هشام، وطرف منها في صحيح البخاري وصحيح مسلم. [رواه البخاري: 4372، مسلم: 1764].
لكن لننظر كيف أن النبي ﷺ بالغ في إكرامه، وأتى له بطعام من بيته، ومن ناقته الخاصة، ويسأله ما عندك يا ثمامة؟ ويكرر عليه ثلاثة أيام، إكرام وسؤال، إكرام واستفهام من تأليف القلب، وملاطفته؛ لأنه يرجو إسلامه، لأن هذا الرجل لما أسلم نفع الله به كثيراً.
حتى أنه بعد وفاة النبي ﷺ، لما ارتدت اليمامة، الرجل هذا قام فيهم خطيباً -في أهل اليمامة- وقال: "يا بني حنيفة –لأن كثيراً منهم تابعوا مسيلمة- يا بني حنيفة، أين عزبت عقولكم؟ بسم الله الرحمن الرحيم: حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر: 3] أين هذا من: "يا ضفدع ياضفدعين نقي كما تنقين نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الشراب تكدرين ولا الماء تمنعين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون" صدق الشيطان!!
يقول شف أين هذا من هذا؟ يقرأ عليهم القرآن، ويقرأ عليهم قرآن مسيلمة، فأطاعه معهم ثلاثة آلاف وانحازوا إلى المسلمين، ففت ذلك في أعضاد مسيلمة. والخبر في الروض الأنف. [7/550-552].
يعني شف الرجل هذا نفع الله به، كان له شأن بعد ذلك في المستقبل.
استقبالهم وعدم ردهم والثناء على صفات الخير فيهم
كان ﷺ لا يرد هؤلاء عند لقائه.
عن جرير -هذا من أهل الملك في اليمن- قال: "ما حجبني النبي ﷺ منذ أسلمت -يعني ما منعني من الدخول عليه متى ما أردت- ولا رآني إلا تبسم في وجهي، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل، وأريد الجهاد في سبيل الله، فضرب بيده في صدري، وقال: اللهم ثبته، واجعله هادياً مهديا [رواه البخاري: 3020، ومسلم: 2475].
فهذا الرجل الوجيه في قومه النبي ﷺ جعل له معاملة خاصة في الدخول عليه.
وكان ﷺ يثني على صفات الخير في هؤلاء.
قال جرير: "لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي".
ما هي العيبة؟ مستودع الثياب وصندوق المتاع، الذي تحفظ فيه الأشياء النفيسة.
"ثم لبست حلتي -والحلة ثوبان من جنس واحد- ثم دخلت فإذا رسول الله ﷺ يخطب، فرماني الناس بالحدق –كل الناس صاروا ينظرون إلى جرير نظراً شديداً يتفحصون فيه- فقلت لجليسي: يا عبد الله ذكرني رسول الله ﷺ؟ -هل ذكر شيئاً عني حتى كل الناس ينظرون إليّ؟- قال: نعم، ذكرك آنفاً بأحسن الذكر، وقال: يدخل عليكم من هذا الباب من هذا الفج –الطريق الواسع البعيد- من خير ذي يمن، ألا إنّ على وجهه مسحة ملك وذلك أن الملائكة ذوو جمال، وكان جرير سيداً مطاعاً مليحاً طوالاً بديع الجمال .
"قال جرير: فحمدت الله على ما أبلاني". يعني: أنعم عليّ وأحسن. [سنن النسائي الكبرى: 8304، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 3193].
والحديث رواه أحمد، وصححه المعلق على المسند [19247].
قال ابن إسحاق: "وقدم على رسول الله ﷺ وفد طيء، وفيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلمهم وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله ﷺ: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضله ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه"، ثم سماه زيد الخير، وقطع له فيداً.
طبعاً القصة هذه أسانيدها مقطوعة كما ذكر الحافظ، لكن نحن الآن نأخذ العبرة من القصة.
"وقطع له فيداً" وهو اسم مكان بشرقي سلمى أحد جبال طيء، وهو الذي ينسب إليه حمى فيد.
"وأرضين معه أقطعها له، وكتب له بذلك -أن هذه الأراضي له- فخرج من عند رسول الله ﷺ راجعاً إلى قومه، فقال رسول الله ﷺ: إن ينج زيد من حمى المدينة -يعني هذا إذا نجا من حمى المدينة- فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات، فلما أحس بالموت أنشد:
أمرتحل قومي المشارق غدوة | وأترك في بيت بفردة منجد |
ألا رب يوم لو مرضت لعادني | عوائد من لم يبرأ منهن يجهد |
والخبر في ابن هشام. [تهذيب سيرة ابن هشام: 1/412]، وساقه ابن القيم في زاد المعاد. [3/616].
قال ابن حجر: "روي بأسانيد مقطوعة".
النبي ﷺ لما جاءه أشج عبد القيس قال له: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة [رواه مسلم: 17].
ما سبب الكلمة هذه؟ ما سبب المدح هذا؟
أن الوفد الذين فيهم أشج عبد القيس لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ﷺ، كما هم بثياب السفر، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي ﷺ، فقربه النبي ﷺ، وأجلسه إلى جانبه، وقال: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة.
فانظر إلى ثنائه ﷺ على هذا الرجل الكبير في قومه، وكيف استجلب قلبه بهذا المدح، لكن ليس فيه نفاق، ولا كذب، هو هكذا فعلاً.
طيب النبي ﷺ حتى في مكة كان، يعني من تقديره لأهل المنزلة ليدخل في جواره، وهو احتاج للدخول في الجوار فيذهب إلى الكبار.
والقصة المشهورة في السيرة "أن النبي ﷺ لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته، صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره".
الآن أهل مكة هددوه: قتل، نفي، سيكون هناك خطر محدق، ذهب للطائف ما في فائدة، طيب ماذا يفعل الآن؟ سيرجع إلى مكة ماذا سيفعل؟
طيب كيف يدخل مكة وهو مهدد؟ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30].
"بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره. فقال الأخنس: أنا حليف والحليف لا يجير. -على عادات الجاهلية العرب-، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. –لأن العرب بينها أشياء تفاهمات وأشياء وقوانين ماشية، والرجل رفض واعتذر- فبعث إلى المطعم بن عدي -وهذا من الكبار من السادات- فأجابه إلى ذلك.
شوف، يعني مع أنه رجل كان على الشرك، لكن أخذته النخوة، والنبي ﷺ الله يسر له من الأسباب في الحماية، وافق المطعم بن عدي على أن يجير النبي ﷺ، ويجير يعني خلاص إذا دخل في حمايته وجواره ما يستطيع أحد أن يمد يده إليه وإلا تصبح إراقة دماء.
فالنبي ﷺ بات عند المطعم بن عدي تلك الليلة -بعدما رجع من الطائف- فلما أصبح خرج معه هو -يعني المطعم بن عدي- خرج مع النبي ﷺ، وبنوه ستة أو سبعة متقلدي السيوف جميعاً.
والنبي ﷺ سيدخل الحرم.
فالمطعم الذي أجاره أخذ معه أولاده الستة أو السبعة متقلدي السيوف، ودخلوا حماية للنبي ﷺ وإعلان جوار، هذه معناها إعلان جوار، معناها ما أحد يقترب.
وقال لرسول الله ﷺ: طف -دخلوا المسجد وقال للنبي ﷺ طف- واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف.
جلس هو وأولاده عياناً بياناً أمام الناس، واحتبوا، الحبوة ضم الرجلين القدم والفخذين إلى البطن، بحمائل سيوفهم، يعني نحن مستعدين.
وأقبل أبو سفيان إلى مطعم، قال: أمجير أم تابع؟ قال: لا بل مجير، قال: إذن لا تخفر.
خلاص ما نستطيع، لن نخفر ذمتك، ولن نعتدي على من أجرت.
فجلس معه حتى قضى رسول الله ﷺ طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وذهب أبو سفيان إلى مجلسه، فمكث أياماً.
ثم أذن له بالهجرة، فلما هاجر رسول الله ﷺ توفي مطعم بن عدي بعده بيسير، فقال حسان بن ثابت: والله لأرثينه.
يعني لابد أن أقول فيه شعراً أمدحه على موقفه، وإن كان مشركاً، لكن قدم خدمة ومعروف، صنع معروفاً عظيماً.
فقال حسان فيما قال:
فلو كان مجد يخلد اليوم واحداً | من الناس أبقى مجده اليوم مطعما |
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا | عبادك ما لبى ملب وأحرما |
فلو سئلت عنه معد بأسرها | وقحطان أو باقي بقية جرهما |
لقالوا هو الموفي بخفرة جاره | وذمته يوماً إذا ما تذمما |
فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم | على مثله منهم أعز وأكرما |
[سيرة ابن هشام:1 / 381].
قال ابن حجر: "وكذلك أوردها الفاكهي بإسناد حسن لكن مرسل". [فتح الباري لابن حجر: 7/324].
القصة مشهورة في السيرة أن المطعم أجار النبي ﷺ.
وقد استبقى النبي ﷺ هذا المعروف وعرفه للمطعم، حتى جاء يوم بدر، ومع هؤلاء الأسارى السبعين من قريش.
قال ﷺ معبراً عن المعروف الذي صنعه له المطعم: لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له كلهم السبعين. [رواه البخاري: 3139].
إذن بين منزلته، أنه كان مستعداً أن يطلقهم لو كلمه المطعم، هذا مقابل المعروف الذي صنعه.
حفظ منزلتهم وإجابة دعوتهم
كان ﷺ في حفظ منزلة هؤلاء الكبار، إذا دعاه الواحد منهم إلى طعام أجاب دعوته.
كما روى أنس أن النبي ﷺ جاء إلى سعد بن عبادة، فجاء بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي ﷺ: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة [رواه أبو داود: 3856، صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1226].
فأفطر عندكم الصائمون هذا خبر لكن بمعنى الدعاء بالخير والبركة؛ لأن أفعال الصائمين تدل على اتساع الحال وكثرة الخير، إذ من عجز عن نفسه فهو عن غيره أعجز.
وأكل طعامكم الأبرار يعني صائمين ومفطرين. وهذه الجملة أعم من التي قبلها، يعني أفطر عندكم الصائمون وأكلوا من طعامكم، طيب وأكل طعامكم الأبرار أعم؛ لأنها تشمل الصائمين والمفطرين.
وصلت عليكم الملائكة أي استغفرت لكم، وهذا يندب لمن أفطر عندهم صائم أن يدعو له بذلك.
طبعاً هذا على أن الجملة إيش؟ دعائية يعني دعاء دعائية، وليست خبرية.
لذلك قال العلماء: "جعل الجملة دعائية -يعني دعاء أنت تقوله في مثل هذا الحال- أولى من جعلها خبرية".
لأنك لو قلت أن الجملة خبرية، يعني فقط النبي ﷺ يخبر سعداً بأنه أفطر عنده وحصل وحصل.. طيب خلاص، ولكن جعل الجملة دعائية فتصبح دعاء وذكراً يقال في مثل هذه الحال.
وكان النبي ﷺ تقديراً لهؤلاء يزورهم، يأكل عندهم.
كما جاء عن قيس بن سعد: زارنا رسول الله ﷺ في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد والد قيس رداً خفياً، يعني بحيث لا يسمع رسول الله ﷺ، رد قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته رداً خفياً- قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله ﷺ؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله ﷺ: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله ﷺ: السلام عليكم ورحمة الله، فرجع رسول الله ﷺ.
الاستئذان ثلاثاً واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله قد كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه رسول الله ﷺ، فأمر له سعد بغسل –يعني ما يغسل به من الخطمي، يعني مثل الصابون- فوضع فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران وورس فاشتمل بها".
والملحفة: اللباس الذي فوق سائر اللباس، وكل ما تغطيت به يسمى ملحفة أو التحفت به. والورس: نبت أصفر يصبغ به.
ثم رفع رسول الله ﷺ يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، ثم أصاب من الطعام، فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حماراً قد وطأ عليه بقطيفة.
يعني: على ظهر الحمار لتريح الراكب فركب رسول الله ﷺ، فقال سعد: يا قيس -ابنه- اصحب رسول الله ﷺ يعني من إكرامه لتوديعه أن ولده يذهب معه، للخدمة، للحماية- قال قيس: فقال رسول الله ﷺ: اركب يعني لا تذهب معي ماشياً، تركب معي فأبيت، قال: إما أن تركب وإما أن تنصرف قال: فانصرفت. [رواه أحمد: 15514، وأبو داود: 5185].
قال ابن حجر في الفتح: "سنده جيد". [فتح الباري: 11/170].
وقال ابن كثير في تفسيره: "جيد قوي". [تفسير ابن كثير: 6/37]، وصحح إسناده ابن الملقن. [البدر المنير: 2/257].
ممازحته ﷺ لهم
طيب، ماذا أيضاً كان يفعل النبي ﷺ مع أهل المنزلة والجاه في قومهم؟
كان يمازحهم.
فعن أسيد بن حضير، وهو من عقلاء وأشراف قومه، وذوي الرأي، وأحد النقباء الاثني عشر في ليلة العقبة- بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح، بينا يضحكهم، فطعنه النبي ﷺ في خاصرته بعود، يعني على سبيل المزاح، طبعاً الطعن في الخاصرة له أثر يعني يختلف عن الطعن في مكان آخر.
فقال أسيد: أصبرني أصبرني.
أنت طعنتني فمكني من القصاص حتى أطعن في خاصرتك كما طعنت في خاصرتي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اصطبر خذ القصاص.
قال: إن عليك قميصاً وليس عليّ قميص.
طعنتني وأنا على جلدي مباشرة.
فرفع النبي ﷺ عن قميصه، فاحتضنه أسيد وجعل يقبل كشحه، ويقول: إنما أردت هذا يا رسول الله.
[رواه أبو داود: 5224، قال الألباني: صحيح الإسناد، مشكاة المصابيح: 4685].
ما هو الكشح؟
ما بين الخاصرة إلى الضلع الأقصر من أضلاع الجنب، الضلع الأقصر من أضلاع الجنب، ما بين الخاصرة إلى الضلع الأقصر من أضلاع الجنب هذا الكشح.
كان ﷺ يعود مريضهم
عيادته ﷺ لسعد بن معاذ:
النبي ﷺ كان كما هو متوقع يعود مريض هؤلاء، يهتم بأمرهم بالعيادة.
فلما أصيب سعد بن معاذ -وهو سيد الأوس يوم الخندق- وقد رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العلقة في الأكحل".
وهو عرق في وسط الذراع يقال له عرق الحياة، ويقال إن في كل عضو منه شعبة، فهو في اليد الأكحل، وفي الظهر الأبهر، وفي الفخذ النساء، إذا قطع لم يرقأ الدم، قالوا هذا العرق في كل عضو منه شعبة، فإذا كان في اليد ماذا يسمى هذا العرق؟ الأكحل. وإذا كان العرق هذا في الظهر ماذا يسمى؟ الأبهر؟ وإذا كان هذا في الفخذ ماذا يسمى؟ النساء، يقال أن هذا العرق إذا قطع لم يرقأ الدم، الدم يستمر في النزف.
"فضرب النبي ﷺ له خيمة ليعوده من قريب". [رواه البخاري: 4122].
إذن النبي ﷺ حفظاً لمكانة سعد، وتقديراً لجهد سعد، ووفاء لمجهود سعد، وما فعله، يعني واحد ينزل عن رئاسة قومه؛ لأجل النبي ﷺ، ويدخل في دينه، ويدافع عنه، ويحارب ويقدم نفسه، ويرمى وينزف، فالنبي ﷺ جعل له خيمة مخصوصة في المسجد.
لماذا؟
ليعوده من قريب. يعني يمكن كل صلاة يدخل عليه يعوده، زيارة مريض كل صلاة.
قال أبو بكر بن العربي: "تكرار العيادة سنة؛ لما كان النبي ﷺ يفعل بسعد بن معاذ حين ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب". [تحفة الأحوذي: 7/40].
هذا إذا لم يثقل على المريض، يعني لا بأس من تكرار الزيارة إذا لم يثقل على المريض؛ لأن بعض الناس يثقلون على المريض، المريض يحتاج إلى النوم يأتي هذا يزعجه، المريض يحتاج إلى راحة يأتي هذا يزعجه، المريض يحتاج إلى دخول الخلاء ويأتي هذا.
ثم بعضهم يعني بدل ما يجلس قليلاً وينصرف، يطيل، ويقول يا الله أنت يجيك من هنا أكلات زينة هات خلنا نتعشا عندك، وهات من هذه التي عندك، وهات، حتى قال أحد الثقلاء لمريض: ماذا تشتهي؟ قال: رحيلك.
كان ﷺ يكرر زيارة سعد بن معاذ.
ولما نزف حسمه النبي ﷺ بالنار، يعني قطع الدم بالكي، فانتفخت يده فحسمه مرة أخرى، فانتفخت يده فحسمه مرة أخرى، فانتفخت يده فنزفه -يعني خرج منه دم كثير حتى ضعف- فلما رأى ذلك –يعني لما رأى سعد أن الدم لا ينقطع، والنزف مستمر- قال: "اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه -سبحان الله- هنا بالدعوة هذه وقف النزيف- فما قطر قطرة، حتى نزلوا على حكم سعد؛ لأنه حكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم فلما فرغ من أمرهم.
خلاص أخذوهم وكشفوا عنهم الذي وجدوه أنبت هذا بلغ مبلغ الرجال، وحفروا الخنادق ودفنوهم، وأخذ الذراري والنساء، وطبق الحكم، حكم سعد مشى ومضى.
"قال: فلما فرغ من أمرهم انفتق عرقه ورجع النزيف ومات". [رواه أحمد: 14815، والترمذي: 1582، وقال حسن صحيح وصححه الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة: 67].
عيادته ﷺ سعد بن عبادة:
وكان ﷺ يعود سعد بن عبادة لما سأل عن سعد بن عبادة لما مرض، فقال النبي ﷺ لأحد بني قومه: يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ طبعاً أخي سعد هذه فيها تواضع، وفيها مودة، وفيها إظهار لمقام هذا الرجل.
فقال: صالح، وهذا مما يتفاءل به للمريض.
فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: من يعوده منكم؟ فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر، وما علينا نعال، ولا خفاف، ولا قلانس، ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، يعني: الأرض السبخة التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت.
حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله ﷺ وأصحابه الذين معه، فقوم سعد تأخروا إكراماً للنبي ﷺ، وليقترب هو ومن معه، وليأنس المريض، وليأنس سعد به، فقال ﷺ: قد قضى؟ يسأل أقاربه ومن معه: هل قضى؟ مات؟
قالوا: لا يا رسول الله.
فبكى النبي ﷺ، فلما رأى القوم بكاء النبي ﷺ بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم. وأشار إلى لسانه. [رواه البخاري: 1304، ومسلم: 925].
عيادته ﷺ لأسيد بن الحضير:
وهكذا لما مرض أسيد بن الحضير، عاده في منزله ﷺ.
وكان ﷺ يشاور ذوي الهيئات ويأخذ بمشورتهم.
كما شاور عند خروجه لبدر، حتى أشار المقداد بما يريده ﷺ.
وفي يوم الخندق أرسل النبي ﷺ إلى السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، يشاورهم في أن يصالح الكفار هؤلاء على شيء من تمر المدينة، ليرجعوا.
الشاهد أن استشارة السعدين هذه كان فيها إظهار لمكانتهما.
كان عليه الصلاة والسلام أيضاً يستعين بذوي الهيئات في القضاء على المنكرات
فعن جرير قال: قال لي النبي ﷺ: ألا تريحني من ذي الخلصة؟.
وهذا كان من أوثان أهل الجاهلية، هو بيت في خثعم يسمى الكعبة اليمانية، بيت في اليمن فيه أصنام يعبدونها.
قال: ألا تريحني من ذي الخلصة؟.
طبعاً جرير البجلي من اليمن، والآن من المناسب أن يستعمل هو في مكانته، ومعرفته ببلده وقومه في القضاء على هذا المنكر من الشرك.
قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري، وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهديا، فانطلق إليها فكسرها وحرقها، ثم بعث إلى رسول الله ﷺ.
بعث إليه رسولاً، بعث إليه رسولاً، ماذا قال رسول جرير للنبي عليه الصلاة والسلام؟
قال: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها جملٌ أجرب.
فقال النبي ﷺ: فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات، يعني دعا لهم بالبركة: اللهم بارك فيهم، اللهم بارك فيهم. [رواه البخاري: 3020، ومسلم: 2476].
وخص جريراً بذلك، بهذا الإرسال؛ لأنها كانت في بلاد قومه وهو من أشرافهم.
وكلف المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بهدم الربة.
شوف سخافة عقول مشركي العرب، يقولون عندهم يعني تأنيث الإله، الله اللات، العزيز العزى، المنان مناة، وهذه ربة، آلهتهم يؤنثونها يجعلونها آلهة.
وهذا وثن كان بين ظهراني الطائف، يستر ويهدى له الهدي كما يهدى لبيت الله الحرام، فأرسل المغيرة وأبا سفيان لهدم الربة. والقصة في زاد المعاد.
تأليف قلوب ذوي الهيئات
وكان ﷺ يؤلف قلوب ذوي الهيئات، ويزيد في أعطياتهم.
وهو ﷺ «لما أعطى أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس كل واحد مائة من الإبل، أعطى عباس بن مرداس دون ذلك. فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد | بين عيينة والأقرع؟ |
فما كان بدر ولا حابس | يفوقان مرداس في المجمع؟ |
وما كنت دون امرئ منهما | ومن تخفض اليوم لا يرفع؟ |
فأتم له رسول الله ﷺ مائة من الإبل. [رواه مسلم: 1060].
وأعطى ناساً من أشراف العرب فآثرهم في القسمة.
فهذا إذن من معاملة النبي ﷺ لذوي الهيئات.
ماذا أثر فيهم؟
قال صفوان: "والله لقد أعطاني رسول الله ﷺ ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي". [رواه مسلم: 2313].
وبعث علي وهو باليمن إلى النبي ﷺ بذهيبة في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان. فهذا من تألفهم.
أيضاً وكذلك فإن النبي ﷺ كان يعامل هؤلاء هذه المعاملة، وكان لها الأثر الكبير في نفوسهم، فرأينا منهم من أسلم، ومنهم من انكف شره، ومنهم من انقلب على قومه.
وكان ﷺ مع ذلك يعلم جاهلهم، ويحسن إلى مسيئهم، ﷺ.
كان ذلك طرفاً أيها الإخوة، من معاملة النبي ﷺ لذوي الهيئات والأشراف من المسلمين والكفار.
نسأل الله أن يرزقنا الحكمة، وأن ينعم علينا باتباع السنة، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفانا مؤمنين، ويلحقنا بالصالحين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.