الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تقدم الكلام في تعامل النبي ﷺ مع فئات من المجتمع، وأصناف من الناس، ونتحدث اليوم في تعامله ﷺ مع كبار السن.
وقد مضت سنة الله تعالى في الإنسان أن يجعله يمر بمراحل طبقاً بعد طبق في هذه الرحلة الدنيوية، فيبدأ وليداً ضعيفاً، ثم شاباً قوياً، ثم شيخاً كبيراً، قال تعالى:اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54].
ومحطة الشيخوخة محل تكريم في الإسلام، وعناية خاصة من هذا الدين لمن يصل إلى هذه المرحلة؛ لأنه يحتاج إلى إعانة، وقيام بشئونه، ويكون في كربة.
استعاذته ﷺ من الهرم
وقد كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الهرم، فيقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم [رواه البخاري: 2823]، وفي رواية أيضاً للبخاري في أدعيته ﷺ أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أُرد إلى أرذل العمر [رواه البخاري: 2822]، وأرذل العمر هو أسوأه وأنقصه؛ لأن الإنسان تنقص فيه قواه الظاهرة والباطنة فبالإضافة إلى نقصان القوة الجسدية تنقص القوة العقلية.
قال النووي رحمه الله: "وأما استعاذته ﷺ من الهرم، فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر كما جاء في الرواية التي بعده، وسبب ذلك ما فيه من الهرم والخرف، واختلال العقل، والحواس، والضبط، والفهم، وتشويه بعض المناظر في الهيئة، والشكل، والعجز عن كثير من الطاعات، والتساهل في بعضها.
وقد كان النبي ﷺ له معاملات خاصة لكبار السن، فقد أولاهم الرعاية والاهتمام.
وكان ﷺ يولي جميع الناس الاهتمام، ولكن كلما كان الإنسان أضعف كان اهتمام النبي ﷺبه أكثر، ولذلك نجد أنه ﷺ كان له إحسان أبلغ مع الصغار، وكبار السن، والنساء لضعفهم، وقد عد النبي ﷺ الرجل الكبير من خير الناس إذا حسن عمله.
فروى الترمذي عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله حديث صحيح، وقال في رواية: "فأيّ الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله. [رواه الترمذي: 2330، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3297]. قال أبو عيسى الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
قال الطيبي رحمه الله من شراح الحديث: "إن الأوقات والساعات كرأس مال التاجر، فينبغي أن يتّجر فيه فيما يربح فيه، وكلما كان رأسه ماله كثيراً كان الربح كثيراً، وكلما كان رأس المال كثيراً كان الربح أكثر، فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح". [تحفة الأحوذي: 6/512].
ومعنى ذلك أن العمل الصالح يكون أكثر كلما كان رأس المال كثيراً كان الربح أكثر، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسراناً مبينا، فهذا العمر هو رأس مالك.
وقال ﷺ: ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه يمد الله في عمره ليسبح لتسبيحه، وتكبيره، وتهليله[رواه أحمد: 1401، وحسنه محققو المسند]. رواه أحمد، وهو حديث حسن.
وقال ﷺ: خياركم أطولكم أعماراً، وأحسنكم أعمالاً [رواه أحمد: 7211، وقال الألباني: صحيح لغيره: 3361].
حثه ﷺ على توقير كبار السن
وكان ﷺ يحث أمته على توقيرهم، واحترامهم، يحث أمته على توقير كبار السن، واحترام هؤلاء وقال ﷺ: إن من إجلال الله إكرام ذا الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط رواه أبو داود، وهو حديث حسن.
إن من إجلال الله، يعني إن من تعظيم الله إكرام ذي الشيبة المسلم، تعظيم الشيخ الكبير بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، وهذا من إجلال العبد لربه، ومن تعظيمه وتبجليه لخالقه، لماذا؟ لحرمة الكبير عند الله، ولما له في الإسلام من السابق هذا صار له خمسين، ستين، سبعين، سنة يصلي، ويصوم، ويعبد الله، هذا له عند الله منزلة، فمن إجلال الله أن توقر هذا الكبير، صاحب هذا الدين، له عند الله منزلة، فمن تعظيم الله إكرام هذا الشيبة، ولما له من الحق على إخوانه المسلمين، ولذلك فإن إكرام هذا المسن ذي الشيبة المسلم، وإعطائه حقوقه يدل على رحمة.
وقال ﷺ: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1919، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 5445].
وفي رواية: من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا فليس منا [رواه أبو داود: 4943، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6540].
يعني: ليس على طريقتنا، ليس على هدينا، ليس على سنتنا، من لم يوقر كبير السن، ويعرف حقه، يعني ما يستحقه من الاحترام، والتقدير، والتوقير، بل يفعل ضد ذلك من انتقاص، وإهانة، واعتداء، ولا يوقر هذا الكبير، ولا يعرف له قدره.
وقد كان الصحابة في غاية العمل بهذا الحديث.
فقد كان عمر قد خرج في ليلة سوداء، فدخل بيتاً، وطلحة بن عبيد الله كان يحب الاقتداء بعمر، فلما رأى عمر يمشي بالليل مشى وراءه، ولما رأى عمر دخل بيتاً انتظر طلحة حتى خرج عمر وذهب، فدخل طلحة لينظر ما هذا، وإلى أين ذهب عمر في هذا الليل؟ فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: مًن هذا الذي يأتيك؟ ما باله؟ قالت: هذا يتعاهدني من مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى.
والآن وضع كبار السن في العالم في أزمة، وذلك لأن كثيراً من كبار السن في العالم محرومون من الرعاية الصحية، ومن أدنى درجات التعليم، وصناع القرار، والساسة في أكثر دول العالم، يهملون هذه الطبقة من المجتمع.
ونظراً لقلة البر في هذا الزمن آل أمر كثير من هؤلاء كبار السن إلى دور الرعاية، فلم يعد هنالك بيوت تأويهم، ولا أقارب يحتوونهم، وبعض أصحاب القلوب القاسية يقولون: هذا عالة على المجتمع، ويكلف مالاً ورعاية صحية.
فلذلك التخلص منهم أحسن، ولذلك فإنك تجد أن المجتمعات الأوربية اليوم وهي تشيخ؛ لأن عدد المواليد أقل من عدد الوفيات، فبعض هذه الدول إذا مشيت في الشارع أكثر من تجدهم كبار السن، ولا تجد من سن الشباب إلا القليل الأقل، بخلاف كثير من البلدان الإسلامية، فإنك تجد فيها الشباب كثرة؛ لأن الإنجاب عند أولئك القوم قد آل إلى النقص، وإذا كانوا يرون أن الولد مكلف وعاق، ولا يرون براً من الأبناء بالآباء، فيقولون: ولماذا ننجب؟ الكلب أوفى، ولذلك يورثونه كما ورثت مالكة سلسلة فنادق في أمريكا قبل أيام كلبها اثني عشر مليوناً من الدولارات، ووّرثت حفيديها كل واحد اثنين مليون، يعني الكلب ست أضعاف الحفيد، واثنين من الأحفاد حرمتهم ولم تورثهم وبما أنه لا قانون رباني يحكم تلك البلاد في المواريث فعندهم توريث الكلب قانوني، يكتب وصية وملزمة للتنفيذ، فالآن الكلب هو الذي يستمتع بأرباح الفنادق التي تركتها هذه العجوز، ولذلك وجد مصحات للكلاب، ومستشفيات للكلاب، وفنادق للكلاب، وحقائب للكلاب، وبدلات للكلاب، فأولئك القوم انتكست لديهم الفطرة فهم يحترمون الكلاب أكثر من كبار السن، بل يتجاهلون كثيراً منهم، وربما تفاخر الهرم في المصح أو دار الرعاية على من جانبه في الأسرة من أصحابه يقول لهم: إن ابني يزورني مرة في الشهر، أين أولادكم، ونحن مع ما عندنا من الضعف لكن إذا دخل كبير السن إلى المستشفى فإنه في الغالب فينا أن يبيت عنده ولا بدّ أحد أولاده، ويتناوبون، على رعايته وتمريضه.
كان عليه الصلاة والسلام يبادر بالذهاب إلى كبار السن، ويزورهم
بل إنه لا يريد أن يعني كبير السن في المجيء إليه فلما دخل ﷺ مكة فاتحاً، ودخل المسجد الحرام، أتاه أبو بكر الصديق بأبيه أبي قحافة، وكان مشركاً إذ ذاك، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: هلّا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيهقال أبو بكر: "يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه" قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، وقال له: أسلم، فأسلم. [رواه أحمد: 26956، وحسنه محققو المسند].
فصار عندنا أربعة في نسق واحد من المسلمين، أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنته أسماء، وابنها عبد الله بن الزبير، كلهم صحابة، فإذا قال لك هات أربعة من الصحابة في نسق واحد أربعة أجيال، فصار عندنا عبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، يعني: هذه حالة نادرة أربع أجيال في الصحابة.
وذكر ابن الجوزي عن ليث بن أبي سليم قال: "كنتُ أمشي مع طلحة بن مصرف، فقال: لو كنتَ أسنّ مني بليلة ما تقدمتك". [صفة الصفوة: 2/55].
وقد كان النبي ﷺ يكرم صديقات خديجة على كبر أسنانهن، ويقول للواحدة منهن لما دخلت عليه: كيف أنتِ، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا حديث صحيح رواه الحاكم. [المستدرك على الصحيحين للحاكم: 40].
فأحسن استقبالها، وسألها عن حالها، وهذا هو حسن المعاملة.
وكان ﷺ ربما مازح بعض هؤلاء كما حصل في قصة العجوز لما قال لها: إن الجنة لا يدخلها عجوز، [الشمائل المحمدية للترمذي: 230].
رفقه عليه الصلاة والسلام بكبار السن
وكان ﷺ يرفق بحال العجزة وكبار السن. فعن أنس قال: "مرّ النبي ﷺ بشيخٍ كبير يهادى بين ابنيه، وفي رواية: "يمشي بين ابنيه متوكئاً عليهما". [رواه مسلم: 4337].
وهذا معنى يُهادى، يمشي بين اثنين مستنداً متكئاً عليهما، فقال: ما بالُ هذا؟ قالوا: يا رسول الله، نذر أن يحج ماشياً، كل الحج، يأتي من بلده مشياً، قال: إن الله لغنيٌ عن تعذيب هذا نفسه فأمره أن يركب". [رواه البخاري: 1865، ومسلم: 4336].
وإنما لم يأمره بالوفاء بنذره لعجزة وضعفه، ومن نذر نذراً من الطاعة فلم يستطع أن يوفي به فعليه كفارة يمين ولعجزهم عن القيام بجميع الطاعات كان ﷺ يرشد كبار السن إلى اغتنام أوقات الأفضلية، فجاء رجل إلى النبي ﷺ، قال: "يا نبي الله، إني شيخ كبير عليل، يشق عليّ القيام كل ليلة، أقوم هذا صعب جداً عليّ؛ لأنه كان مريضاً، فأمرني بليلة لعل الله أن يوفقني فيها لليلة القدر، يعني: ليلة أجتهد فيها لعلي أصيب ليلة القدر، قال: عليك بالسابعة ليلة السابع والعشرين. رواه أحمد. [رواه أحمد: 2149].
وقال ابن رجب رحمه الله: "إسناده على شرط البخاري"، وقال ابن رجب: "سابعة تبقى" يعني ليست سبع وعشرين، وإنما ثلاثة وعشرين؛ لأنه إذا بقي سبع ليال من الشهر، وكان الشهر ثلاثين، فيعني أن الليلة المقصودة ليلة ثلاث وعشرين، فكلاهما محتمل في هذا الحديث. [لطائف المعارف لابن رجب: 199].
يطمّع كبار السن في رحمة الله، ولا يقنّطهم منها
وكانﷺ يطمّع كبار السن في رحمة الله، ولا يقنّطهم منها، ففي مسند أحمد عن عمرو بن عبسة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ شيخ كبير يُدعم على عصا، فقال: يا رسول الله، إن لي غدرات، وفجرات.
يعني: فجور حصل مني وشر، ذنوب كبائر ومعاصي، سجل حافل بالكبائر والمعاصي، إن لي غدرات وفجرات، فقال: ألستَ تشهد ألا إله إلا الله إذاً، ما هو سؤال الرجل هذا الكبير في السن؟ "يا رسول الله، إن لي غدرات، وفجرات، فهل يُغفر لي؟ فقال: ألستَ تشهد ألا إله إلا الله؟ قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله، قال: قد غفر لك غدراتك وفجراتك، [رواه أحمد: 19432، وقال محققو المسند: حديث صحيح بشواهده]. وهذا الحديث حسنٌ بشواهده.
فولّى الرجل وهو يقول: "الله أكبر ، الله أكبر" إعجاباً بهذه البشارة.
وهذا الحديث فيه سعة رحمة الله، وأن الإسلام يهدم ما كان قبله؛ لأن هذا الرجل كان عنده في الجاهلية فجور وشر كثير، فلما أسلم قال: يا رسول الله إذا أسلمتُ تُغفر غدراتي وفجراتي، فبشرّه النبي ﷺ أن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله، ولذلك فلا بدّ من حسن الظن بالله تعالى، وعدم اليأس والقنوط من رحمته.
وكان عليه الصلاة والسلام يمنُّ على كبار السن
ومن ذلك أن علياً لما أرسله النبي ﷺ إلى صنم طيئ ليهدمه، فشنّوا الغارة على محل أبي حاتم، يعني حاتم الطائي من الفجر؛ لأن قوم حاتم الطائي كانوا مشركين، وكان بعضهم نصرانياً؛ لأنهم كانوا في الشمال، فتأثروا بنصارى الشام، فأغارت خيل رسول الله ﷺ مع علي بن أبي طالب على صنم طيئ ديار حاتم، وكان حاتم قد مات، فهدموه، هدموا الصنم، وملؤوا أيديهم من السبي والنعم، والشاء، وكان مع السبي سفانة أُخت عدي بن حاتم.
إذاً، سفانة هذه بنت حاتم الطائي، وأخت عدي بن حاتم الطائي، وهرب عدي إلى الشام، فقال عدي ؛ لأنه أسلم بعد ذلك: "جاءت خيل رسول الله ﷺ، فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم رسول الله ﷺ، فصفوا له، قلت: يا رسول الله، تقول هذه المرأة: نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمنّ عليّ منّ الله عليك، قال: من وافدك الذي انقطع هذا؟ من هو؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله لما داهمهم جيش المسلمين هرب، استطاع الإفلات، قالت: "فمنّ عليّ، فلما رجع ورجل إلى جنبه نرى أنه علي قال: "سليه حملاناً" يعني: أشار عليها أن تطلب مركباً تركبه حتى ترجع إلى بلدها بالإضافة إلى أن منّ عليها بإطلاقها من السبي، فسألته فأمر لها بدابة تركبها. [رواه أحمد: 19381]. والحديث رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير عباد بن حبيش، وهو ثقة.
قال أبو نعيم: "سفانة بنت حاتم الطائي أخت عدي بن حاتم الطائي، سبُيت، فجاءوا بها على رسول الله ﷺ في سبايا من طيئ، فحبسها أياماً، ثم منّ عليها، وأطلقها، وأعطاها نفقة، وكسوة، وردها إلى مأمنها، وأشارت إلى أخيه عدي بن حاتم بالقدوم على رسول الله ﷺ، فجاء فعلاً بعد ذلك، وأسلم. [معرفة الصحابة لأبي نعيم: 6/3362].
بيانه ﷺ مغبة ظلم كبير السن
وكان ﷺ يبين لأصحابه مغبّة ظلم كبير السن؛ سواء كان شيخاً كبيراً أو عجوزاً.
فعن جابر قال: "لما رجعتُ إلى رسول الله ﷺ مهاجرة البحر، يعني الذين هاجروا إلى الحبشة لأنهم لما رجعوا كانوا عن طريق البحر الأحمر، قال لهم ﷺ: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: "بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، حبشية عجوز مرت بنا نحن المسلمين في مشهد رأيناه وحضرناه، تحمل على رأسها قُلّة من ماء، جرة عظيمة، فمرت بفتى منهم من الحبشة يعني كافر، لكن بعض النصارى كان عندهم علم من بقية الإنجيل، وبعض العلوم التي عندهم صحيحة مما بقي مما لم يمسه التحريف مما تبقى من العلم الأول، هذه العجوز من رهابينهم، يعني عندها شيء من العلم، والشاب الذي مرت به واحد منهم كافر أيضاً، لكنه شاب شقي مؤذي، فلما مرت به العجوز وعلى رأسها هذه القربة من الماء هذه الجرة العظيمة من الماء، جعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها.
وهذا منظر شنيع، عجوز ساقطة على الأرض نتيجة هذا الشاب الظالم الطائش المجرم الذي لا يقدّر كبار السن قدرهم، وهذه القلة التي تعبت في ملئها بالماء، وحملتها لحاجتها قد انكسرت الآن، وساح الماء على الأرض، والمرأة أصيبت بهذه السقطة، فقالت للشاب لما ارتفعت التفت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين، والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً فتوعدته بيوم القيامة.
الآن هذه القصة يقصها أناس من المسلمين على النبي ﷺ من مشهد رأوه بأرض الحبشة، فلما سمع النبي ﷺ الرواية التي رووها هؤلاء المسلمون عن العجوز، والكلام الذي قالته، وكله حق، قال: صدقت صدقت، كيف يقدّس الله أمة لا يُؤخذ لضعيفهم من شديدهم [رواه ابن ماجه: 4010، وصححه الألباني في تحقيق مختصر العلو للعلي العظيم، ص: 106]. والحديث رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.
ومعنى يقدس: يعني يطهرهم من الدنس والآثام، كيف يغفر الله لقوم ويطهرهم من الآثام لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم، ولا ينتصر للضعيف، ولا ينتقم أو يعاقب الشديد الظلوم؟.
وهذا الحدث يبين أن الله لا يطهر القوم الذين لا ينصرون المظلوم.
وصيته ﷺ بكبير السن أثناء الحرب والقتال
وكان من وصيته ﷺ ألّا يقتل كبير السن في الحرب، فكان يقول للسرية أو الجيش إذا بعثهم: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، تشوهوا الجثث، ولا تقتلوا وليداً، ولا شيخًا كبيراً [المعجم الأوسط: 135] رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الطحاوي.
فقوله: لا تقتلوا شيخاً كبيراً يعني إلا إذا كان مقاتلاً، أو صاحب رأي خبير، أما شيخ عادي الذي لا يقاتل ولا يفيد الكفار برأيه وخبرته، واستشاراته، فهذا لا يُقتل.
وكان ﷺ يقدم الكبير في أمور كثيرة
وكان ﷺ يقدِّم كبار السن في أمور كثيرة، ومن لك تقديمهم في الكلام، ففي قصة الرجل الذي قتل بخيبر، وجاء رجلان من قومه يكلمان رسول الله ﷺ فانطلق عبد الرحمن بن سهل، وميحصة، وحويصة، ابنا مسعود إلى النبي ﷺ، فذهب عبد الرحمن يتكلم، ولم يكن أكبر القوم، فقال ﷺ: كبِّر كبِّر قدم الكبير هذا معناه، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما يعني الأكبر سناً. [رواه البخاري: 3173].
وكان ﷺ يقدِّم الكبير في الإعطاء كما جاء في الحديث، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولتُ السواك الأصغر منهما فقال لي: كبّر، فدفعته إلى الأكبر [رواه مسلم: 6071].
وفي السقاية يقدم الأكبر، فقد أخرج أبو يعلى بسند قوي، عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله ﷺ إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير. [مسند أبي يعلى الموصلي: 2425] وذكره ابن حجر رحمه الله في الفتح. [فتح الباري لابن حجر: 10/87].
وكان ﷺ إذا استوت بقية الأمور يقدم الأكبر في الإمامة، كما قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سِناً [رواه مسلم: 673].
وكذلك يقدم الكبير في السلام، كما قال: يسلم الصغير على الكبير [رواه البخاري: 6231].
فالصغير هو الذي يبدأ، وهو الذي يُسلم على الكبير إشعاراً بتكريمه؛ لأن الصغير إذا تقدم على الكبير حتى في قضية؛ لأن الصغير إذا قُدم على الكبير يتأثر الكبير.
قال ابن بطال رحمه الله: "فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي" يعني حتى لا يمشي الأصغر أمام الأكبر، والمشي والكلام، وقال المهلب: "هذا ما لم يترتب القوم في الجوس، فإذا ترتبوا في الجلوس فالسنة حينئذ تقديم الأيمن". [فتح الباري لابن حجر: 1/357].
إذاً، إذا جلسوا في المجلس يُقدم الأيمن، لكن إذا ما كانوا جالسين، ولم يتربتوا في المجلس يُقدم الأكبر، حتى الخروج من الباب، الدخول إلى المكان يُقدم الأكبر، فأما إذا جلسوا فقد دل حديث النبي ﷺ لما كان في المجلس، وعن يمينه غلام، وعن يسارهم أشياخ، وجاء وأتي بإناء من ماء، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد شرب، والآن سيعطي اليمين، الأيمن صغير، والأشياخ عن الشمال، رفض الصغير، قيل: إنه ابن عباس .
ويريد أن يشرب وراء النبي ﷺ؛ ابتغاء البركة من بقية الماء الذي بقي في الإناء، فتله النبي ﷺ في يده، وضعه في يده". [رواه البخاري: 2451، ومسلم: 2030].
فهذه السنة إذًا، وهي تقديم الأكبر ما لم يُترتب في المجلس، فيقدم الأيمن.
سنأتي على بقية هذا الموضوع بمشيئة الله تعالى في الدرس القادم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد