الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

31- قصة أم موسى عليه السلام


عناصر المادة
نص القصة
المعنى الأجمالي للقصة
الدروس والعبر المستفادة من القصة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

نص القصة

00:00:13

فإن من قصص القرآن العظيمة قصة أم موسى ، قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ۝ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ۝ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص: 7-13].

المعنى الأجمالي للقصة

00:01:32

وقد ذكر الله تعالى في صدر هذه السورة، وهي سورة القصص أنه يتلو علينا من نبأ وخبر نبيه موسى وعدوه فرعون بالحق والصدق لكل سامع يسمع، وذي عبرة يعتبر كأنه يشاهد الأمر ويعاينه، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ [القصص: 4].
تجبر وطغى وبغى وعتا، وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الله، فصار يزعم بأنه الإله، ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، وازداد وقاحة فقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، هذا الملك الظالم الطاغية تسلط على عباد الله، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص: 4]، وقسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع، يستعمل كل صنف منهم فيما يريد من أمور دولته، وجعل يفرق ليسود، ويستعمل كل طائفة ضد الأخرى، فهناك طائفة منهم يستضعفهم، وهم بنو إسرائيل من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكانوا في ذلك الوقت هم أصلح أهل الأرض، وكانوا هم المسلمون، سلط الله عليهم ذلك الملك الظالم الفاجر الكافر يستعبدهم، ويستخدمهم، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ  [القصص: 4] لا قصد له في الإصلاح أبداً.
وكان الحامل له على هذا الفعل القبيح -وهو تقتيل الأولاد- أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم آثار عن إبراهيم الخليل، أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه، وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل، فتحدث بها الناس، فوصلت إلى فرعون، فعند ذلك أمر بقتل بني إسرائيل حذرًا من وجود هذا الغلام.
وقيل: إن فرعون رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس، فأحرقت دور مصر، وجميع القبط، ولم تضر بني إسرائيل، فجمع الكهنة والسحرة، وسألهم عن تفسير هذه الرؤية، فقالوا له: هذا غلام من بني إسرائيل يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، وزوال ملكك على يديه، ولذلك أمر بقتل الغلمان، وترك النساء، وقد قال الله تعالى: وَنُرِيدُ إذا أراد الله لا بدّ أن يحدث ما أراد الله، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص: 4]، أي: في الدين، ونجعلهم أصحاب علو وشأن، وتمكين في الأرض، وقدرة تامة، وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ  [القصص: 5] يرثون ملك فرعون، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [القصص: 6]، نجعلهم أصحاب قوة وسلطة، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 6]، سنجعل الضعيف قويًا، والمقهور قاهرًا، والذليل عزيزًا، هذا كله فعلاً جرى لبني إسرائيل كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف: 137]، وأخرج الله فرعون ومن معه مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ۝ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:57-59]، لقد احترز فرعون كل الاحتراز ألا يوجد موسى، قتل أطفال، عمل جرائم احتياطات هائلة، حتى أنه أرسل رجالاً وقوابل -جمع قابلة، النساء الخبيرات في الولادة وأوضاع الحمل عند النساء- يطوفون على نساء بني إسرائيل، ويدورون على الحبالى، ويسجلون وقت وضع كل واحدة، القابلة ترى هذه الحامل وتسألها وتعرف من هيأتها كم شهرًا مولودها الذي في بطنها، فتسجل وقت ولادته؛ ليأتوا إليه ويأخذوا الولد ويذبحوه، على موعد الولادة، فتصوروا نفسية ومشاعر الأم الحامل التي يأتيها هؤلاء المجرمون يسجلوا موعد الولادة ليأخذوا الولد ويذبحوه، فأي نفسية تعيش؟ وأي وضع تكون فيه وهي تعرف أن هذا الذي ينمو في بطنها ويتغذى عليها آخرته وعاقبته أنه سيؤخذ ويذبح؟ فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته، كما قال ابن كثير رحمه الله وقال: "وعند أهل الكتاب إنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم، أو قاتلوهم"، قال ابن كثير: "هذا فيه نظر بل هو باطل، وإنما وقع هذا بعد بعثة موسى، فجعل يقتل الولدان". [البداية والنهاية: 1/275].


إذًا قضية قتل الولدان لم تكن فقط قبل ولادة موسى، بل كانت حتى بعد بعثة موسى، وبعد أن صار نبيًا، وبعد أن أرسله الله إلى فرعون، والدليل على أن فرعون استمر يذبح أولاد بني إسرائيل حتى بعد أن بعث الله موسى إليه، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ [غافر: 25].
ولذلك قال بنو إسرائيل لموسى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا[الأعراف: 129]، يعني: نحن أحوالنا ما تغيرت يا موسى، بعثتك فما أنقذتنا من محنتنا، هؤلاء أصحاب العجلة منهم، يريدون النتيجة بسرعة، قالوا: لا فائدة يا موسى، قال: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [الأعراف: 129]، اصبروا انتظروا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  [الأعراف: 129].
فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولاً: حذرًا من وجود موسى ، وحتى لا يخلق ولا يوجد ولا يحيا ولا يستمر في الحياة، والقدر يقول له: أيها الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده، وسلطة بأسه، واتساع سلطانه، قد حكم العظيم الذي لا يغالب، ولا يمانع، ولا تخالف أقداره، أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك، وعلى فراشك، ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك، وفي منزلك، وأنت الذي تتبناه، وتربيه، وتتعاهده،  ثم يكون هلاكك في دنياك على يديه، سبحان الله!
قتل أعدادا كبيرة حتى لا يوجد موسى، ولكن وجد موسى الذي سيهلك فرعون بسببه، ويعيش موسى في قصر فرعون، ويأكل من طعام فرعون، ويتربى عند فرعون، وهذا من عجائب قدر الله حتى يعلم الناس أنه لا يغني حذر من قدر، أن الله إذا أراد شيء مهما حصل من الاحتياطات سيقع، ويتم على ما أراد الله، فعال لما يريد ، وهو القوي الشديد، وهو ذو البأس والحول، والطول، لا مرد لمشيئته ، فلما وضعته أمه أوحى الله إليها، وهذا الوحي وحي إلهام وإرشاد، وليس وحي نبوة، لأن الوحي أنواع: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: 68] هذا وحي إلهام وإرشاد، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7]، فألهمها الله هذا الأمر، وقذف في قلبها، وألقى في روعها وخلدها أن تجعل موسى في صندوق من خشب، وتلقيه في اليم، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ [القصص: 7]، سبحان الله! الانسان إذا خاف على الشيء يخفيه، هل الواحد إذا خاف على الشيء يرميه في البحر؟ لكن الله ألهم أم موسى هذا، الله يريد أن يصل موسى إلى قصر فرعون، كيف سيصل إلى قصر فرعون الله يريد أشياء ويجعل أسبابًا تؤدي إلى نتائج، الله يريد أمرًا وسيسير على مراد الله، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ليتعود على هذا اللبن المعين، يطعم هذا اللبن حتى لا يقبل إلا هو فيما بعد، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ[القصص: 7].
فالآن هو سيمتص اللبن ويتعود على اللبن ويذوق اللبن هذا فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ  [القصص: 7-13].
فكانت تصنع ما أمرت به وأرسلته ذات يومًا، وربطته بحبل وجعلته في نهر النيل فمر على دار فرعون، إذًا لما خافت عليه جعلته في الصندوق الخشبي في اليم، في نهر النيل، فجعل ماء النهر يجري بهذا الصندوق والغلام يتهادى عليه حتى وصل بمحاذاة قصر فرعون، فشاهدت الجواري هذا الصندوق من بعيد وهو يتهادى على الماء، وأبصرته امرأة فرعون، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، الالتقاط حصل منهم، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8]، اللام هذه لام العاقبة،لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وأخذوه، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص: 8]، على خلاف الصواب، يستحقون العقوبة والحسرة، وقد ذكر الله في سورة طه آيات مشابهة.


وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ۝ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ۝ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه: 37-39].
فالتقطته الجواري فأتوا به امرأة فرعون آسيا بنت مزاحم، فلما فتحت الصندوق، وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة العظيمة، وكان الله قد ألقى على موسى محبة منه، فلا يراه أحد إلا أحبه، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39].
فلما رأته وقع حبه في قلبها وقعًا عظيمًا، ولما جاء فرعون قال: ما هذا وأمر بذبحه، فاستوهبته منه، وقالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [القصص: 9].
فلعل فرعون قال لها: أما لك فنعم، أما لي فلا لا حاجة لي به، وهكذا كان، فقد كان موسى قرة عين امرأة فرعون، أسلمت بسببه، وماتت شهيدة على دينه، وقالت: عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا[القصص: 9]، وفعلاً نفعها، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا نتبناه، أو نجعله خادم عندنا؛ لأنه لم يكن لفرعون ولد، الله يريد أن المرأة تتعلق بالولد، ما عندها أولاد، الله ما كتب لها أولاد حتى يأتي هذا الولد وتتعلق به، وتطلب من زوجها أن يبقيها، ويوافق على طلب زوجته؛ لأن ما عندها أولاد، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 9]، ولا يدور في بالهم ما المراد بهذا الغلام.
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا [القصص: 10]، فارغًا من كل شيء من أمور الدنيا إلا من ذكر موسى، وأمر موسى من شدة القلق ما عادت تفكر في شيء إطلاقًا، ومعروف عاطفة الأمومة ولهفتها على الولد.
ولذلك النبي ﷺ لما رأى امرأة تبحث عن ولدها بين الأسرى بين السبي -امرأة من الكفار أخذ ولدها في السبي- ملهوفة تبحث عنه، فلما رأته ألصقته بصدرها وأرضعته، قال: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟قالوا: لا. [رواه البخاري: 5999، ومسلم: 2754].


المرأة بهذه العاطفة والأمومة لا يمكن، وهكذا كانت أم موسى، كانت والهة على ولدها، إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص: 10]، أوشكت أن تفضح السر، وتسأل عنه جهرًا، لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص: 10] وصبرناها، وثبتناها لكي لا تتكلم، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص: 10-11]، اتبعي أثره، واطلبي خبره، وكانت تلك الأخت ذكية، أخت موسى كانت نبيهة، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ[القصص: 11].
إذًا تظاهرت أنها لا تنظر في الاتجاه ذاك، ولكنها جعلت ترقبه من بعيد بطرف عينها، تنظر إليه وكأنها لا تريده، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍفحاولت إخفاء أنها تراقب أخاها، وهذا من تمام الحزم والحذر، فإنها لو جاءت إليه قاصدة لظنوا أنها هي التي ألقته، وربما آذوها، فبصرت به عن جنب، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 11].
إذًا مراقبتها لأخيها كانت سرية خفية، حتى أن القوم لم يشعروا بها، والآن أقدار الله تتوالى واحد وراء واحد، وأشياء تبنى على أشياء، ومقدمات ونتائج، والله يريد أن يعيد إلى أم موسى ولدها؛ لأنه وعدها، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ[القصص: 7]، فكيف سيتم ذلك يا ترى وقد أصبح الغلام عند أهل فرعون وفي قصره؟ فما الذي يعيده إلى أمه التي تسكن في منازل الفقراء والمستضعفين من بني إسرائيل؟ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ[القصص: 12].
فلما استقر بدار فرعون بكى الولد من الجوع، وأرادوا أن يغذوه برضاعة، ولكنهم لم يستطيعوا، فلم يقبل ثديًا، ولا أخذ طعامًا وجعل يشتد بكاؤه، فحاروا في أمره، وأرسلوا في القوابل والنساء حتى من السوق، جاؤوا لعلهم يجدون من يوافق رضاعه، ولكن لا فائدة، فبينما هم وقوف والناس عليه عكوف، أبصرت أخته هذا المشهد، فلم تظهر أنها تعرفه، بل قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ [القصص: 12].
كأنهم ناس آخرين، ما لها بهم علاقة، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص: 12]، ولعلهم سألوها لماذا هذا الاهتمام من هؤلاء؟ فأجابتهم رغبة في صهر الملك، ورجاء منفعته، ولأنهم يريدون أي حل؟ قالوا: هاتي فلما أتت بأمه التقم ثديها، وأخذ يمتصه ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وأجرت آسيا النفقات، والهدايا، والهبات على أم موسى؛ لأنه وجد الثدي الذي قبل هذا الولد الرضاعة منه، وهكذا جمع شمله بشملها، وصارت أم موسى ترضع ولدها، وتأخذ على ذلك الأجر، وهذا معنى الحديث الوارد: مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها [مصنف ابن أبي شيبة: 19532، وضعفة الألباني السلسلة الضعيفة: 4500]، وتحقق وعد الله الأولإِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، والله وعدوه تتحقق ولا بد، أنه لا يخلف الميعاد،  وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[النساء: 122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] إذًا وعد الله سيتحقق، وقد يتحقق الوعد، والوعد الثاني بينهما عشرات السنين.
لا يمنع إبراهيم الخليل قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ[البقرة: 129]، يعني: أهل مكة، متى جاء الرسول؟ متى استجيبت دعوة إبراهيم؟ بعد آلاف السنين، وبعث محمد ﷺ وجاء رسول منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، إذًا وعد الله لا بدّ أن يتحقق ولو بعد حين، لكن الناس يستعجلون، فالآن جاء الوعد الأول، رده الله إلى أمه، بقي الوعد الثاني، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:  7-13]، وهكذا يزداد يقينها، ويعظم إيمانها، وظهر لطف الله بنبيه موسى الصغير، وبأمه التي رد ولدها إليه، ولقد مننا عليك مرة أخرى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ۝ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 38-39].
وهكذا نشأ موسى في قصر فرعون يأكل أطيب الطعام، ويشرب أطيب الشراب، ويلبس أحسن اللباس، وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39].
بمرأى من الله، وحفظ الله، وبكلأة الله ، وهكذا يتربى في حفظ الله وتحت نظر الرب البر الرحيم ، ولا ينتقل من حال إلى حال إلا والله سبحانه قد قدر له أحسن التدبير، وهكذا كان ذلك الغلام العظيم الذي نشأ في كنف ذلك الملك الظالم.

الدروس والعبر المستفادة من القصة

00:24:13

وهذه القصة فيها فوائد كثيرة:
منها: أن الظلم إذا عم فإن الله لا بدّ أن يأذن بزواله.
وكذلك تثبيت أهل الإيمان، وإن ضعفت شوكتهم، وقلت حيلتهم، فإن العاقبة للمتقين، وقد قال الله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5].
ثالثًا: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]، فلا أكره لأم موسى من أن يقع ولدها بيد فرعون، لكن ظهرت العواقب الحميدة والآثار الطيبة لهذا، يعني: أكثر شيء تخافه أم موسى على ولدها من فرعون، فما بالك إذا وقع الولد بيد فرعون نفسه، لكن سبحان الله! أراد الله أن يتربى عند هذا الظالم، ونجد في هذا من المصالح لبني إسرائيل، الآن بنو إسرائيل في ضعف وذل ومهانة، لو موسى تربى في جو الذل والضعف والمهانة كان ممكن يتأثر، لكن أراد الله أن موسى يتربى في بيت عز، وتبنوه، ولذلك كان يأمر وينهى.
يعني: نشأ موسى في بيئة منعة وقوة وعز، وما نشأ ببيئة ذل وهوان، ولذلك لما استنصره الإسرائيلي على الرجل الآخر، وكزه موسى فقضى عليه.
يعني: واضح الأثر في شخصيته لأن الإنسان إذا تربى في بيئة ذل وهوان تنطمس مواهبه الإنتاجية، وها هو صار ذا شخصية قوية، وهمة عالية، وغيرة متوقدة، ولذلك ما كان يرضى بأن يقف واحد ضعيف ينتظر الإنقاذ إلا وينقذه كما حصل، والله يلهم أهل الإيمان الصواب والرشد.
وهذا من فوائد القصة أن الله ألهم أم موسى لإيمانها؛ ألهمها ما فيه خيرها وخير ولدها، وجعل لها مورد رزق أيضاً، أنظر كيف القضية أم موسى فقيرة، الله جعل لها مورد رزق، وجعل ولدها يتربى في بيئة عز ولا يقتل، حماه من القتل.


وفي المقابل فإن الله يخذل الكفار، فيعملون الأعمال التي يظنون فيها نفع لهم، فإذا فيها مضرة عليهم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36]، ولذلك الآن حماقات اليهود على سبيل المثال في العالم، وفي فلسطين تؤلب الناس عليهم، تصور لو أن تطبيعهم نجح، لكن الآن المسلمون في ذل عظيم، لكن كان وضع المسلمين عقيدة المسلمين في خطر شديد جداً؛ لتكالب عليهم الداخل والخارج، لكن بسبب حماقات اليهود التي يرتكبونها -وإن كان المسلمون يدفعون ثمن ذلك دماء وعذابًا وتشريدًا- لكن البراءة من الكفار والولاء للدين صار قويًا الآن، فالكفار قد يعملون أشياء يظنونها في مصلحتهم، فقد يطغون، ويضربون، ويتجبرون، ويقتلون، لكن ممكن القضية تنقلب عليهم، وهذا الوقت بالذات أملنا في حماقات اليهود والصليبين، نحن نعول على أشياء من حماقات اليهود والصليبين أنها ستنتكس، وتردد عليهم، هذا هو المتوقع.
يعني: نحن الآن لو قعدنا ننفخ في المسلمين، أو أن كل الخطباء قاموا يتكلمون يبثون روح الجهاد في الناس بدون حماقات اليهود كان هذا أثره ضعيف، لكن مع حماقات اليهود أكثر الناس صار عندهم الرغبة في قتال اليهود، ويمكن أيام محاولة التطبيع والسلم كان قليل الذي عنده حماس للجهاد ضد اليهود، لكن اليهود عملوا من الحماقات ما أثار في نفوس المسلمين الحمية للجهاد، وجعل الأمة على الأقل تفكر في هذا الركن من أركان الإسلام، وهكذا كان قدر الله ضد فرعون، وكانت هذه الشدة التي جاء بعدها الفرج، فسبحان من بيده الأمر، ما شاء كان .
وتأمل كيف أن البلاء موكل بالمنطق، فأحيانًا الواحد يقول كلمة يتفاءل بها بالشر على نفسه فتأتي، هكذا البلاء موكل بالمنطق، ولما جاء النبي ﷺ إلى رجل كبير في السن يعوده من المرض، فرأى عليه الحمى، فالنبي عليه الصلاة والسلام من باب المواساة لهذا المريض الكبير في السن -الذي عنده السخونة والحمى- قال له مواسيًا: لا بأس طهور إن شاء الله يعني: يزول البأس، وإن شاء الله أنك تقوم متفائلاً، فماذا قال ذلك المسكين؟ قال: "بلى حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور"، يعني: يقول له: ليس هناك أمل أصلا، هذه الحمى ستقضي علي، "حمى تفور على شيخ كبير لتيزيره القبور" تقضي عليه، وتجعله يدفن في المقابر، فلما رأى النبي ﷺ إعراض هذا الرجل وقبح كلامه، يعني: أنا أتفاءل لك بالخير، وأنت تقول: لا يوجد أمل، فلما رأى النبي ﷺ هذا قال: فنعم إذًا [رواه البخاري: 5656] يعني: إذا هذا فألك على نفسك، فنعم إذًا وفعلاً الرجل انتهى.


فإذًا البلاء موكل بالمنطق، وقد يتفاءل الإنسان على نفسه بالشر ويصاب به فعلاً، ولذلك لما قالت امرأة فرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ[القصص: 9]، قال فرعون: "أما لك فنعم، وأما لي فلا لا حاجة لي به" وهكذا قالت: عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا[القصص: 9]، وجاءها النفع، وهداها الله به، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص: 9]، لأنهما تبنياه، وكان سكن امرأة فرعون في الجنة بسبب موسى، وفي فراسة من امرأة فرعون، ولذلك قال عبد الله بن مسعود : "أفرس الناس ثلاثة:" أشد الناس فراسة ثلاثة: "امرأة فرعون في موسى"، يعني" توسمت فيه، قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا [القصص: 9]، وفعلاً نفعها.
"وصاحب يوسف، حيث قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف: 21].
وأبو بكر الصديق في عمر حيث جعله الخليفة من بعده". [المستدرك: 3320].
ونرى في هذه القصة أن لله تعالى سنن كونية، وسنن شرعية، وأنه إذا أراد شيئًا فلا بد أن يكون، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40]، ولا بد أننا نسير وفق هذه السنن، نصبر ولا نستعجل.
ثم نلاحظ في هذه الآية فيها بلاغة عجيبة، لذلك لما استغرب الأصمعي من بلاغة إحدى النساء في وصفها وتشبيهها، قال: قاتلك الله ما أفصحك، قالت: أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7].
فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين، أنظر هذه آية سطر ونصف فقط وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] تقول: فصاحتي ما تطلع شيء بجانب الآية هذه من القرآن، آية فقط، هذا على قصرها فيها أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان:
الأمران: أرضعيه، وألقيه.
والنهيان: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي [القصص: 7].
والخبران: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى،فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ [القصص: 7]، وإذا خفتي عليه.
والبشارتين إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، تأمل بلاغة القرآن العظيم كيف أتى بهذا في كلمات قليلة قصيرة، هذا ما يأتي به البشر.
والقصة هذه تدل على أن كل من أراد أن يقف أمام إرادة الله فهو عاجز وضعيف، فاشل خاسر، لا يمكن أن يغلب الله .
وأن الله سبحانه يشاء من الأساليب والطرق والأسباب ما يوصل للنتيجة التي يريدها
وأن البشر مهما خططوا، ومهما درسوا، ومهما رسموا، ومهما نظموا، يضيع ويتلاشى إذا قضى الله بخلافه، وأنهم يعجزون عن فعل أمر والدفاع عن شخص إذا أراد الله له الهلاك، أو أنهم يعجزون عن إيذاء شخص إذا أراد الله له النجاة.
ثم لله جنود أخفياء أمر النهر أن يسير بهذا الصندوق، ولم يغرق.
وكذلك فإنه مع أوليائه، وهو يمكر بمن مكر به كما مكر بفرعون لعنه الله، وهو يعوض عباده الصالحين، ما فقدوه من الناس، فها هو موسى الرضيع يفقد حضن أمه وحنانها، فعوضه الله بالمحبة التي ألقاها عليه.
وكذلك فإن كون الإنسان يأخذ أجرة وهو يقوم بالواجب لا ينفي أجره، ممكن الإنسان يقوم بشيء واجب عليه ويعطى أجر، ولا ينافي هذا هذا، بل إنه يعتبر قائمًا بالواجب ولو أخذ عليه مالاً إذا لم يطلبه ولم يرده، يعني: الله ساقه لأم موسى بقدره ، ولذلك كان لمن أعطي المال بغير سؤال منه أن يأخذه، أتاه الله مالاً بغير إشراف نفس ولا مسألة فليقبله.
نسأل الله أن يجعلنا ممن ينتفع بهدي كتابه، وأن يجعلنا ممن يتدبر هذا الكتاب العزيز، وصلى الله على نبينا محمد.