السبت 22 جمادى الأولى 1446 هـ :: 23 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

27- قصة بني إسرائيل مع القوم الجبارين


عناصر المادة
نص القصة
المعنى الأجمالي للقصة
معنى الملوك
القوم الجبارين
العقوبة التي نالتهم
الفوائد والدروس المستفادة من القصة

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

نص القصة

00:00:13

فإن من قصص القرآن قصة بني إسرائيل مع القوم الجبارين، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ۝ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۝ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ۝ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۝ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 20-26].

المعنى الأجمالي للقصة

00:01:42

كانت هذه القصة بعد هلاك فرعون وقومه، خرج بنو إسرائيل من مصر قاصدين مساكنهم في بيت المقدس، وكان الله قد فرض عليهم قتال أعدائهم، فوعظهم موسى ، وذكرهم ليقووا على الجهاد، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ [المائدة: 20]، كلما هلك نبي قام فيهم نبي من إبراهيم إلى من بعده حتى ختموا بعيسى بن مريم .
في هذه الآية تذكير بنعمة الله عليهم أن يذكروها بالقلب واللسان والجوارح.

معنى الملوك

00:02:31

وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة: 20]، أي: أحرارًا تملكون أمركم، ماذا كنتم يا بني إسرائيل في مصر؟ ماذا كنتم في عهد فرعون؟ ألم تكونوا عبيدًا؟ ألم تكونوا مسخرين؟ ألم تكونوا أذلاء؟ كان القبط يتحكمون فيكم، لم تكونوا تملكون أمركم، الآن من الله عليكم صرتم تملكون أمركم، صرتم أحرارًا، أهلك عدوكم، وأغرق فرعون وجنوده، ولذلك صرتم ملوكًا، صرتم أحرارًا، تملكون أموركم، وتتمكنون من إقامة دينكم، فأنتم ملوك.
وقال بعض العلماء كابن عباس في قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة: 20]، أي: له خادم وامرأة وبيت، وقال: "المرأة والخادم، كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكًا". [تفسير ابن كثير: 3/73].
وروى مسلم رحمه الله في صحيحه "أن رجلاً سأل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك". [رواه مسلم: 2979].
وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال:  من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا [رواه الترمذي: 2346، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2318].
من أصبح منكم آمنًا يعني: غير خائف في سربه، يعني: في نفسه، والسرب: الجماعة، والمقصود في أهله وعياله، في مسلكه وطريقه، معافى أي صحيحًا سالماً من العلل والأمراض والأسقام، في جسده  باطنًا وظاهرًا، عنده قوت يومه أي كفاية قوته من وجه حلال، فكأنما حيزت له الدنيا أي جمعت له الدنيا.
وقوله: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20]، موسى يذكرهم بالنعمة قبل أن يطلب منهم الاقتحام، يذكرهم بنعمة الله عليهم ليهيئهم للاستعداد للقتال، أن الله أنعم عليكم وطلب منكم الجهاد، عليكم الآن بالقتال، والقيام للجهاد في سبيل الله.
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20]، يعني: في زمانكم، أما هذه الأمة فهي أشرف من بني إسرائيل، وأفضل من بني إسرائيل، إذًا وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ  [الجاثية: 16].
يعني في ذلك الزمان، في ذلك الوقت كانوا أشرف أمة، ما كان في وقت بني إسرائيل أمة أشرف من بني إسرائيل، كانت هي أمة الأنبياء، وأمة القادة، وأمة الدعاة، وأمة العلماء والعباد على ما فيهم من الاعوجاج، والانحراف، والزيغ، والعناد، والتمرد، والفسوق، والتحايل، لكن فيهم القادة، والشهداء، والأنبياء، والعلماء، والفضلاء، فهم كانوا أفضل أهل زمانهم، أفضل عند الله، أكمل شريعة، أقوم منهاجًا، أعظم ملكًا، أغزر أرزاقًا، أكثر أموالاً، وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء: 6].


وأوسع مملكة، وأدوم عزًا، وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20]، في ذلك الزمان، فيذكرهم بنعمة الله، ثم بدأ التحريض على الجهاد للدخول إلى بيت المقدس، الذي استولى عليه العمالقة من الجبارين، فأمر موسى بني إسرائيل أن يدخلوا بيت المقدس، ويقتحموا على الأعداء المدينة، وبشرهم بالنصر، فنكلوا، وعصوا، وخالفوا أمره، وتمردوا عليه، فعوقبوا بالتيه أربعين سنة، لا يدرون كيف المخرج.
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة: 21]، ادخلوا الأرض المطهرة بيت المقدس، الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21].
يعني: هل هناك أكثر من أن يخبرهم الله على لسان نبيه موسى أنه كتبها لهم، أنها من نصيبهم، أنها من حظهم، أنهم سيستولون عليها؟ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21]، يعني: النتيجة محسومة أنها لكم، أنتم ستستولون عليها، لكن إذا كانت القلوب خاوية فكيف تكون النتيجة؟
وموسى يعلم حال قومه، ويعرف طبيعتهم، قال: وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ [المائدة: 21]، لا تنكلوا عن الجهاد، لا تتركوا هذه الفريضة، فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة: 21]، في الدنيا، وفي الآخرة، أما خسارة الدنيا يفوتكم النصر على الأعداء، وخسارة الآخرة يفوتكم الثواب، وينزل بكم العقاب، ويحل عليكم غضب الله وعذاب النار، موسى قال للنبي عليه الصلاة والسلام قال لنبينا في رحلة المعراج: وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة [رواه البخاري: 3887].
ماذا كان الجواب بعد هذه المقدمة من موسى وهذا الطلب؟

القوم الجبارين

00:08:33

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ[المائدة: 22]، عدواً أقوياء، قوتهم شديدة، شجعان، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة: 22]، يعني: هل يتوقع الآن أن الأعداء يخرجون من البلد بغير ثمن؟ هل يتوقع من الأعداء أن يخرجوا ويسلموا المدينة لهم؟ هذا كلامهم منطقهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة: 22]، وهذا سوء أدب مع نبيهم موسى ، هذا من جبنهم، وقلة يقينهم، وذهاب رشدهم، وحرمانهم التوفيق.
القوم الجبارين ممكن يكون فيهم بسطة في الجسم، ممكن كانوا أقوياء، أشداء طوال، لكن ليس على الخرافات الإسرائيلية، قالوا: هذه أرض العمالقة فيها كان ابن بنت نوح، طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلث ذراع.
يقول ابن كثير: "وهذا شيء يستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، إذًا هذا أول البشر طوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن [رواه البخاري: 3326، ومسلم: 2841].
بعد آدم الخلق في نقص، طولهم يتناقص حتى وصل إلى طولنا، فكيف يكون في هذه القرية هذا الإنسان المخلوق ثلاث آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراع.
قالوا: إن الطوفان لما جاء لم يصل إلى ركبته في وقت نوح. يقول ابن كثير:" وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحًا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26]، وقال: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ [الشعراء: 119-120].
إذا ولد نوح الكافر ما بقي على قيد الحياة، كيف يبقى ذلك الآخر الكافر، قال ابن كثير: "هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع" [تفسير ابن كثير:3 / 109]، إذًا نجد أن بعض الروايات اخترقتها الإسرائيليات مثل هذا، ولكن النقاد والعلماء يبينون الصحيح من الضعيف الموضوع المكذوب، والإسرائيلي يبينونه، لكن كان في الأرض المقدسة قوم جبارين، كان فيها ناس أقوياء، يعني: أشداء لا شك الله قال هذا.


فلما واجهوا نبيهم بهذا الكلام قام رجلان من الذين يَخافون أو يُخافون، إذا كان يُخافون يعني: اثنين أسلما من الجبارين، وإذا كان يَخافون يعني: من قوم موسى،أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة: 23]، بثبات الجنان، وحسن الإسلام، يخافون الله فوعظا بني إسرائيل، وحظوهم على الجهاد.
إذًا وجد مع موسى من أيده ، لكن اثنين فقط، الخلاصة من هذا الجيش اثنان، ولذلك قال موسى: قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي[المائدة: 25]، أنا لي سلطة على أخي.
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ [المائدة: 23] يخافون الله، ولا يخافون الأعداء، أو يُخافون لهم مهابة، وموضع من الناس، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة: 23] بالنصر، واليقين، والتوفيق، والثبات على الدين، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] أنتم اقتحموا باغتوهم، فاجئوهم، امنعوهم من الخروج إلى الصحراء للقتال، اقتحموا عليهم المدينة، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة: 23] بكلمة الله وأمره، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23].
إذًا الخطة المباغتة والمفاجأة للأعداء، والتوكل على الله، وتوافقوا رسولكم على ما أراد منكم، فإن الله سينصركم، وتكون البلد التي كتبها الله لكم، لكن ما نفعت موعظة موسى الأولى، ولا نفعت موسى الرجلين الثانية، وهكذا لم تنفع الموعظة، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا [المائدة: 24] وازدادت الوقاحة، وقلة الأدب، بل والكفر، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، وهذا النكول عن الجهاد، والمخالفة للرسول، والتخلف عن القتال، جازمون بذلك لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا [المائدة: 24]، لا يريدون الخيار العسكري الجهادي إطلاقًا، لا يريدون طريق الرجولة ولا العز والشهادة والجنة، يريدون الذل، والجبن، والضعف، والهوان، والقعود، هو الذي كره إليهم القتال.
هذا داء الأمة اليوم، أصابنا داء اليهود، سلكت أمتنا ما سلكه اليهود من قبل، كما قال عليه الصلاة والسلام: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ [رواه البخاري: 3456].
فمن غيرهم، وهكذا يقول قومنا في مؤتمراتهم: كل الخيارات مطروحة للنقاش إلا الخيار العسكري والمقاطعة، فماذا بقي من الخيرات؟ إذًا الشجب، والتنديد، والاستنكار، ورفع الشكاوى إلى الأمم المتفرقة، ومطالبة المجتمع الدولي الكافر بالعمل على وقف العدوان.
فلما رأى موسى ذلك الجبن من قومه قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25]، ليس أحد يطيعني، ويمتثل أمري، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25]، اقض بيني وبينهم، أنزل العقوبة على من يستحق منهم، وفي هذه الآية فافرق بيننا وبينهم، تسجيل عليهم بما يستحقونه من الوصف، وهو الفسق، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[المائدة: 25].
والإشارة إلى علة الدعاء عليهم، وهو فسقهم، تعميم الحكم ليشملهم ويشمل غيرهم، فكل من نكل عن الجهاد بعد وجوبه عليه فهو فاسق.

العقوبة التي نالتهم

00:16:26

استجاب الله دعاء موسى  قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26]، حرم الله عليهم القرية التي نكلوا عن دخولها مدة أربعين سنة، وليس فقط حرمان لكن تيه في الصحراء، أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ [المائدة: 26]، يخرجون في الصباح يبحثون عن مخرج لا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في المكان الذي بدؤوا البحث منه، يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26] لا يجدون مخرجاً من صحراء. 
الوقف على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] ممكن، وعلىأَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] ممكن، وهذا يسمى تعانق الوقف عند علماء القراءة؛ لأن قوله أربعين سنة متعلق بمحرمة، أو متعلق بيتيهون، وبيان ذلك أننا إذا وقفنا على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وقف، أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ معناها أنهما عقوبتان، مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ العقوبة الأولى، وأَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي العقوبة الثانية، معنى ذلك: هذا الجيل لا يدخلها أبداً مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ هذه عقوبة، وهذه الجيل سيتيه في الصحراء أربعين سنة، واختاره ابن جرير رحمه الله. [تفسير الطبري: 10/191].
وبناء على ذلك فإن الذي دخل القرية كلهم من الجيل الثاني، ما يوجد ولا واحد دخل من الجيل الأول على هذا الوقف، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 26] عقوبتان على هذا الجيل، لا يدخلوا القرية، ويبقوا في التيه، والذين سيدخلون ليسوا من هؤلاء إطلاقًا.
وإذا وقفنا على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وقفيَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ صار التحريم عليهم أربعين، فيمكن أن يدخلوها بعد الأربعين، ولكنهم في هذه المدة سيبقون تائهين في الأرض، هذا لا يلزم أن كل الجيل هذا لن يدخلها، سيمنع منها أربعين سنة، ثم ممكن يدخلها، بل دخلها بعضهم على هذا الكلام.
ولما علم الله تعالى رقة موسى وشفقته على قومه، وأنه ربما حزن عليهم بسبب ما نالهم من العقوبة، قال: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 26]، قال الله مواسيًا معزيًا: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26]، لا تأسف عليهم، ولا تحزن عليهم، لقد حكمت فيهم وهم مستحقون هذا لفسقهم.

الفوائد والدروس المستفادة من القصة

00:19:23

هذه القصة تضمنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن الطاعة، وتوليهم عن الجهاد، وخذلانهم للنبي، وضعفهم عن مصابرة الأعداء، وترك المجالدة والمقاتلة والنبي بين أظهرهم يعدهم بالنصر والظفر، وهم مع ذلك عاصون، شاهدوا ما فعل الله بفرعون، رأوا الآيات، ورأوا قدرة الله، وكيف نجاهم الله من فرعون؟ وكيف أهلك عدوهم؟ وكيف أغرق جنوده وهم ينظرون؟
لكن بالرغم من ذلك لم يستجيبوا، وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، ويقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18]، وألزمهم اللعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضى عليهم فيها بالخلود، هذه الموقف من بني إسرائيل قابله موقف مشابه من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وليس مشابهًا في موقف القوم، وإنما مشابه في الظروف، فإن النبي ﷺ لما استشار الصحابة في قتال أهل مكة الذين جاؤوا لإنقاذ القافلة، وكانت قريش ذوي عَدد وعُدد، هل قال الصحابة: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة: 24]؟
أو هل قالوا: لن نقاتل، إن القوم أقوياء، وأكثر منا؟ أبداً، قالوا: والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله ﷺ بقول سعد هذا. [دلائل النبوة للبيهقي: 874]، ونشطه ذلك الكلام.
فروى أحمد رحمه الله عن أنس أن رسول الله ﷺ لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار عليه عمر، ثم استشارهم، فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار، إياكم رسول الله ﷺ، قالوا: إذًا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد؛ لأتبعناك" [رواه مسلم: 1779]، برك الغماد هذا موضع بقرب اليمن، فيه مهلكة ومفازة، ومكان خطير.
وقال ابن مسعود: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا [المائدة: 24].


ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسره، يعني: قوله. [رواه البخاري: 3952].
هذا الفرق بين صحابة نبينا والذين كانوا مع موسى ، وبهذا يظهر التفوق العظيم لأصحاب محمد بن عبد الله ﷺ وأرضاهم.
لقد كانت هذه القصة دليلاً على تمرد بني إسرائيل وإساءتهم الأدب، هؤلاء عرفوا من قديم بالوقاحة وسوء الأدب مع الله، يقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا [المائدة: 24] ما هذا الكفر؟ هذا ليس بمستغرب من الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181]، ليس بمستغرب من الذين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64]، ليس بمستغرب من الذين قالوا: إن الله خلق الخلق في ستة أيام وتعب، فاستراح في اليوم السابع، ليست مستغربة من الذين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]، هؤلاء الذين يقولون في تلمودهم وهو الشرح المفسر للتوراة بزعمهم: إن الله ليس معصومًا من الطيش، والغضب، والكذب تعالى الله عن قولهم، يقولون للخامات: السيادة على الله، وعليه إجراء ما يرغبون فيه، يقولون: يقضي الله ثلاث ساعات من النهار يلعب مع ملك الأسماك، يقولون في التلمود: اليهودي أحب إلى الله من الملائكة، والذي يصفع اليهودي كأنما يصفع العزة الإلهية، يقولون: إن الله يستشير الحاخامات على الأرض حين توجد معضلة لا يستطيع حلها في السماء، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، يقولون بوقاحة فاجرة: إن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها ولا تغييرها، ولو بأمر من الله، هؤلاء الذين قال الله عنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34].
هؤلاء الذين قالوا عن عيسى: إنه ابن زنا، وأن أمه حملت به خلال فترة الحيض، وأنه مشعوذ مضلل أحمق غشاش بني إسرائيل، وأنه صلب ومات، ودفن في جهنم، وأنه يعذب فيها في أتون ماء منتن يغلي من الحرارة، قال الله في فريتهم على المسيح ابن مريم وعلى أمه: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 155-157].


وهم الذين قالوا في تلمودهم في شأن نبينا ﷺ حيث أن المسيح كذاب، وحيث أن محمدًا اعترف به فهو كذاب مثله، يجب أن نقاتل الكذاب الثاني كما قاتلنا الكذاب الأول، وها هم يقول حاخامهم الأكبر: إن الله نجم على خلق الفلسطينيين، هؤلاء الذين يلفون رأس الخنزير في أوراق مصحف مكتوب عليها اسم محمد، ويلقونها في المسجد الأقصى لإغاظة المسلمين، ويرسمون خنزيرًا على الجدار ويكتبون عليه اسم نبينا، ويوقعون تحت بنجمة داود، هؤلاء الذين ما سلم منهم موسى والأنبياء، هذا نبيهم ما سلم منهم، كيف نتوقع أن يسلم نبينا منهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب: 69].
وهكذا بينت هذه القصة صفة مهمة جداً لليهود، وهي الجبن، لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ [الحشر: 14]، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة: 96]، هؤلاء من الهلع يتخلون عن الجهاد، ويؤثرون القعود، ويرفضون القتال، هؤلاء الذين لم يجدوا في ذلك الجيل منهم إلا رجلان فقط يخافون الله مستعدين للقتال.
لقد قصر الخوف على الله تعالى وحده عند المؤمنين، ولكن عند اليهود يخافون من ظلهم، لعل من الأٍسباب أن النفوس التي ألفت الذل والاستعباد لا تسلك سبيل المقاومة والمدافعة، ناس كانوا تحت قهر فرعون تربوا فترة طويلة، ألفوا الاستعباد، ولذلك لم يكونوا مستعدين للقتال، وجبنوا عند المواجهة، فكان لا بدّ من زوال هذا الجيل الذي قد تعفن وأسن، ولم يعد هناك فائدة من استصلاحه، وتاهوا في الصحراء، ومات موسى وبنو إسرائيل في التيه، وهكذا كان من الحكمة أن يتيه ذلك الجيل في الصحراء حتى يفنى ويموت، ليخرج جيل آخر تربى في الصحراء على شدتها وبأسها وظروفها الصعبة، ليخرج جيلاً يمكنه المواجهة، ليس فيه ذل الآباء، بل يتربى في هذه البيئة الشديدة، ويقدر على تنفيذ المهمة، وفعلاً بعد موسى استلم القيادة يوشع غلامه وخادمه، وأوحى الله إليه فصار نبيًا، وقاد الجيل الثاني من بني إسرائيل قادهم إلى النصر.


ونأخذ من القصة مبدأ مهم في الحرب، وهو الحرب الهجومية، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] اقتحام، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ[المائدة: 23].
وهذا ما كان يفعله النبي ﷺ في أغلب غزواته، هو الذي كان يهاجم الأعداء، يهود بني قينقاع اقتحم عليهم، يهود بني النضير اقتحم عليهم، يهود بني قريظة اقتحم عليهم، يهود خيبر اقتحم عليهم، فتح مكة اقتحم مكة، غزة هوازن على هوازن، وتبوك ذهب إلى الروم، ومؤتة ذهب إلى الروم، وجيش أسامة يخرج خارج جزيرة العرب إلى الروم، حرب هجومية، أكثر الغزوات كانت كذلك، وبذلك نقول اليوم لو أن المسلمين اقتحموا فلسطين بما تهيأ لهم من الأسباب، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ[المائدة: 23].
هل يستطيع اليهود أن يصمدوا، لا يمكن، الآن في بطولات فردية ثلاثة أشخاص يدوخوا كتيبة الجيش الإسرائيلي بأكملها، ويقتلوا فيهم مقتلة عظيمة، كما حدث قبل يومين عندما أطلقوا النار على المستوطنين، ثم انسحبوا في حركة تمثيلية ليتبعهم هؤلاء من الجيش الإسرائيلي ليدخلوا بهم زقاق مدبر محكم من قبل ليطلقوا عليهم النار من جميع الاتجاهات، فيسقط الجنود صرعى، ولا أحلى من منظر اليهود وهم يقعون في الكمين، خلاص لا يلوون على شيء، لا في ترتيب، ولا تخطيط، ولا مدارس، ولا معاهد عسكرية، ولا شيء ينفع، هم أجبن ما يكون، ثم يبقى هؤلاء في مكانهم، ولا ينسحب هؤلاء المسلمون حتى يأتي المدد والإسعاف، وعندما يبدؤون في عملية إخلاء يطلقون عليهم النار، هجوم مرة أخرى، وتقع المذبحة في اليهود، وإذا قالوا لك قتل اثني عشر فاضرب بكذا وكذا، فإنهم دائمًا يخفون خسائرهم، هذا ثلاثة، كيف لو قلنا نحن اليوم المسلمين: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23].
ما يمكن، ولذلك فإن هذه الخطة الهجومية المذكورة في هذه الآية ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23]، هو ما ينبغي التعامل به مع هؤلاء اليهود، وهذا ما ستفعله هذه الأمة بإذن الله، لكن نسأل الله أن يكون في جيلنا، ولا نكون نحن جيل التيه، وإنما نريد أن نكون جيل النصر.
نسأل الله أن ينصر الإسلام، وأن ينصر الإسلام بنا وينصرنا بالإسلام، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.