الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إحصاء الله لأعمال العباد
عباد الله: إن ربنا خبير، وعليم بصير، يُحصي، ولَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ [سورة سبأ:3].
وهو الذي قال لنا في الحديث القدسي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[1]، وهو خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وهو يكتب حركاتنا وسكناتنا، فهو الحسيب، الحفيظ، الرقيب، والشهيد.
وهذه أسماء أربعة لله من أحصاها، بحفظها، ومعرفة معناها، والعمل بمقتضاها، صحت مسيرته إلى الله، وصحت أعماله، هذه الأسماء الأربعة: الحسيب، الحفيظ، الرقيب، والشهيد، من تفكر فيها، وعمل بمقتضاها، صار باطنه خيرًا، بالإضافة إلى ظاهره.
ومن حكمته: أنه أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد كما جاء في الحديث الصحيح الذي[2]، كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة رواه مسلم: 6919]، وخلق ملائكة يكتبون أعمالنا، وقال لنا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [سورة الإنفطار:10- 12]، فإذا مات الإنسان طويت صحيفته، وجعلت معه في عنقه، في قبره، فإذا كان يوم القيامة نشرت الصحف، بعدما نشر أصحابها، ذلك يوم النشور، ونصبت الموازين، وقال الله: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [سورة الإسراء:13، 14]، كل واحد سيكون حسيب نفسه.
مواقيت رفع أعمال العباد إلى الله
ومن حكمته تعالى: أنه في ضبط أعمالنا، ترفع إليه يوميًا مرتين، وأسبوعيًا مرتين، وكذلك ترفع في السنة. فأما الرفع اليومي، فإنه مرة بالليل، ومرة بالنهار، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن ربنا تعالى: يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل في الحديث الصحيح الذي[3]، فالملائكة تصعد إليه بأعمال العباد مرة في الليل، ومرة في النهار، فيا حظه من كان عمله الصاعد صالحًا! ويا بؤسه من كان عمله الصاعد سيئًا!.
أما العرض الأسبوعي، فقد قال ﷺ: تعرض أعمال الناس في كل جمعة يعني تعرض على الله في كل جمعة، يعني في كل أسبوع، قال: مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يفيئا يعني يتراجعا ويتصالحا. والحديث[4].
كان السلف يحسبون لهذا المقام حسابه، حتى كان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته، وتبكي إليه في الخميس، لمعرفتهما بهذا اليوم الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله.
وأما العرض السنوي، وهو الثالث: فإنه رفع جملة واحدة، رفع االأعمال جملة واحدة في شهر شعبان، كما دل عليه حديث أسامة بن زيد أنه قال: يا رسول الله لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم في شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان فالناس تعظم رجب؛ لأنه شهر حرام، وتعظم رمضان؛ لأنه شهر الصيام، ويغفلون عما بينهما، وهو شهر شعبان، قال: وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم[5]، وكل عرض من هذه العروض الثلاثة، وهذا الرفع في هذه المرفوعات، لحكمة يعلمها ، لكن واضح الضبط والدقة والإحكام، والله : لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس:44] .
دقة الملائكة في كتابة وإحصاء أعمال العباد
ومن أمثلة هذه الدقة وخطواتها: ما يقوم به الملكان، قال الله -تعالى-: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:17، 18]، عَتِيدٌ يعني حاضر لا يغيب ولا لحظة، رَقِيبٌ لا يفوته شيء من كتابة أعمال العباد!.
فيأخذ الملكان أعمال الإنسان، والمقصود الأفعال والأقوال، الهم بالعمل، عن يمينه وعن شماله ملكان يكتبان، لا يراهما الإنسان، اليمين كاتب الحسنات، والشمال كاتب السيئات، ولذلك قال الحسن -رحمه الله-: "يا ابن آدم بُسِطت لك صحيفة، ووكل بك ملَكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك; فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك; وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل بما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوما القيامة"، عدل، والله من عدله: جعلك حسيب نفسك، وهذه الحركات والسكنات، والأقوال والأفعال، والهم والخواطر، بالحسنات والسيئات، تكتب بلا زيادة ولا نقصان: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [سورة يونس:21]، بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [سورة الزخرف:80]، إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [سورة مريم:84]، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [سورة القمر:52]، أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [سورة المجادلة:6]، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [سورة القمر:53]، مكتوب، مسطر في الصحائف، ولذلك يوم القيامة لا يجد المجرمون مفرًا من هذا، وقالوا: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [سورة الكهف:49].
تنافس الملائكة في كتابة الأعمال الصالحة
هذه الملائكة التي تكتب، تفرح بلا شك عندما نعمل صالحًا، وتكتبه، بل تتسارع إليه، ويكون لها احتفاء به، كما حدث على عهد النبي ﷺ مرة، فيما رواه رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يومًا نصلي وراء النبي ﷺ، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. فلما انصرف ﷺ، قال: من المتكلم؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول[6]، فإذًا، حصل التنافس من ملائكة الرحمن على كتابة عبارة هذا الإنسان الذي أثنى على ربه فيها، ومجده، وعظمه.
كرم الله في مضاعفة أجور أعمال العباد
وكذلك، فإن النبي ﷺ أخبر عن التهليل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، قال: وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة[7] بهذا، والتهليل يهدم الذنوب، وقد قال ﷺ: أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف سيئة[8].
وإن مما يكتبه الملائكة: الهمَّ بالحسنة وفعلها، فالهمَّ بها له أجر، وفعلها له أجر فيه مضاعفة، والهمَّ بالسيئة إذا تركها لله كتبت له حسنة، وإذا همَّ بها ولم يعملها، لعدم تمكنه، وهو عازم عليها، تكتب عليه، فإذا عملها كتبت أغلظ.
وخلاصة، ما قاله العلماء في هذا الباب: أن من همَّ بالحسنة والخير، وعقد قلبه على ذلك وعزم، كتب له ما نواه، وإن لم يعمله، وإن كان أجر الذي عمل أكثر، وفيه مضاعفة لا تكون للأول، وأما من همَّ بسيئة وتركها لله ولم يعملها، كتبت له حسنة كاملة، وأما من همَّ بسيئة وتركها لأجل الناس، أو لأنه حيل بينها وبينه رغمًا عنه، فإنها تكتب عليه؛ لأنه همَّ وعزم وأراد، كما في الحديث: "ما بال المقتول؟" قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[9]، وأما من همَّ بها بالسيئة، ثم انفسخ عزمه بعدما نواها، وكانت مجرد خاطر لم يؤاخذ بها، وأما إن كانت عملاً من أعمال القلوب، كالحسد، وسوء الظن، فإنه يؤاخذ بها؛ لأن هذا عمل، لكن عمل القلب.
أما مجرد أن السيئة خطرت بباله، ولم يعملها، فلا تكتب عليه، وإن تركها لله كتبت حسنة.
كتابة الملائكة لأسماء المبكرين لصلاة الجمعة والأجر المترتب على ذلك
ومن الأعمال التي تكتبها الملائكة، وهي من الأعمال العجيبة: كتابة المبكرين إلى الصلاة يوم الجمعة، فإن فيها من الأجر ما لا يخطر ببال، قال ﷺ: إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر[10]، فما هو الأجر الذي يكتبونه؟ قال في الحديث الآخر: من غسل يوم الجمعة قيل: غسل رأسه، وقيل: كان سببًا في غسل غيره، كالزوج يأتي زوجته، فتكون عليها الجنابة فتغتسل، فيكون قد غسل، واغتسل اغتسل هو لأجل الجمعة، ثم بكر فأتى الصلاة في أول وقتها، قال بعض العلماء: يبدأ التبكير إلى الجمعة من بعد الإشراق، وابتكر بالغ في التبكير، وقيل: أدرك الخطبة، ومشى ولم يركب وهذا يبين فضل المشي إلى الجمعة، ولو أنه ركب مسافة، ثم مشى بقيتها من حيث يتمكن من المشي، كان ذلك داخلاً في الأجر، وكان بعض الصحابة يأتي من أقصى المدينة، وبعضهم يأتي من خارج المدينة مشيًا إلى الجمعة، وكان في البلد في أول الإسلام، لا يوجد إلا مسجد واحد، جامع لصلاة الجمعة، قال: ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فليس إذا دخل يجلس في آخر المسجد، وإنما يتقدم إلى الأمام، ويدنو من الإمام، قال: فاستمع ولم يلغ أنصت وحضر قلبه، وليس فقط سمع صوتًا، وإنما عقل المعنى أيضاً: فاستمع ولم يلغ لم يتكلم، لم يعبث بشيء، لا بجوال، ولا بغيره، ولم يلغ، قال: كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها، لو فكرنا بهذا، بكل خطوة، لو هذا مشى إلى المسجد مثلاً مائة خطوة، وقد يمشي أكثر، معنى ذلك: أن له عمل أجر عمل مائة سنة، أجر السنة كلها صيامًا وقيامًا. فما أجر صيام 354 يومًا؟ وما أجر قيام 354 ليلة؟
قال في الحديث: كان له أجر سنة بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها والحديث رواه أبو داود[11]، وقال بعض الشراح: لا نعلم في الأحاديث الصحيحة أجرًا كهذا، كل خطوة إلى الجمعة أجر سنة صيام وقيام، فإذا مشى مائة خطوة، يعني أجر مائة سنة بصيامها قيامها، هذا فضل الله العظيم، الله واسع الفضل، واسع العطاء -سبحانه-، فما بالك إذًا بالأجور الأخرى؟
فمن جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن جاء في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن[12]، وهكذا.
فضل المشي إلى المسجد متطهرا
الخطوات إلى المساجد، هذه شأنها عند الله عظيم، حتى قال في الحديث: وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة[13]، معنى ذلك: لو مشى إلى المسجد خمسين خطوة، يرفع خمسين درجة، وقد جاء في الأحاديث: ما يفيد بأن هذا ذاهبًا وراجعًا، فإذا كان يذهب خمس مرات في اليوم، فإذا كان يذهب كل يوم، هنا تستوقف الإنسان هذه الأجور، الخطوة الواحدة فيها ثلاث مزايا: في الحسنات، والدرجات، والخطايا.
وكذلك: الملائكة تكتب ما يعمله العباد، والأجور المتسلسلة، وقضية الأجور المتسلسلة، هذه قضية عجيبة أخرى: من سن فى الإسلام سنة حسنة يعني أحيا سنة مهجورة، علم شيئًا مجهولاً، ذكر بشيء منسي، فعمل الناس بها، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء[14]، لو أن عشرة عملوا بها، والعشرة عملوا مائة، والمائة علموا ألفًا، والألف علموا الآلاف المؤلفة، هذه الأجور المسلسلة، لا يمكن أننا نحن العبيد أن نحصيها، لكن لله ملائكة، جيش من المحصين، يحصون هذه الأجور المتسلسلة، في قضية تعليم العلم، وإحياء السنة، ودل الناس على الخير: الدال على الخير كفاعله[15]، كم يكون لصاحبها إذا صدق مع الله، وأخلص النية؟ وهذه الحسنات التي ما عملها فلان: أنه كان مريضًا، وما عملها فلان؛ لأنه كان مسافرًا، وما عملها فلان؛ لأنه حال بينه وبينها عذر: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [سورة التوبة:92]، لماذا لا يجدون ما ينفقون؟ لا يجدون رواحل يركبونها: ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر[16].
وزن أعمال العباد يوم القيامة
عباد الله: أعمال العباد توزن يوم القيامة بالموازين: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:47]، فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [سورة القارعة:6- 11]، وقال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:8، 9] .
فيرجح المثقال بالذرة لدقته وحساسيته، يوم القيامة يرجح الذرة: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7، 8]، وهكذا..
وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ فَلَا ظُلْمَ وَلَا | يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلَا |
دلت النصوص على أن الذي يوزن ثلاثة أشياء:
أولاً: الأعمال.
ثانيًا: سجلات الأعمال.
ثالثًا: العامل نفسه.
وأما الأعمال، فإن النبي ﷺ قال على سبيل المثال: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم[17]، ما هو الشاهد؟ ثقيلتان في الميزان.
إذًا، تلاوتك للبقرة وآل عمران، والمصحف، وذكرك لله، والأعمال من البر والصلة، وغيرها، هذه نفسها توزن، العمل نفسه يوزن، يوم القيامة: ثقيلتان في الميزان. وأما وزن الصحف، فحديث الذي نشر له يوم القيامة تسع وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، لكن هذا الرجل موحدًا لله، صادق في التوحيد، لا يشوبه شيء من الشرك.
وقيل: إنه ما وصل إليهم من العلم بالخير إلا هذه الكلمة، فهو معذور بجهله، فيرى تسعة وتسعين سجلاً من السيئات، توضع في الميزان، من الذي يقوم بمقابلها؟! فيوقن بالهلاك، ثم يقال لك: عندنا شيء، فيؤتى بالبطاقة، فتوضع في الكفة الأخرى، فتطيش السجلات، وتثقل الكفة، ولا يقاوم اسم الله شيء، ويقال لكل واحد يوم القيامة: احضر وزنك، وهو الذي يقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم[18]، هناك أعمال عملها العبد، وفي قلبه لله حضور نية وإخلاص، وحسن قصد، وحسن عمل، واتباع للسنة، يجعلها أثقل من آحاد أخرى مجموعة، وأما وزن الشخص نفسه، فقد جاء في الحديث الصحيح: أن ساقي عبد الله بن مسعود : "أثقل في الميزان من أحد" [19]، وقد قال الله -تعالى-: قبل ذلك: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [سورة الكهف:105]، واستشهد به النبي ﷺ لما أخبرهم بقوله: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة[20] لكفره، لبدعته، لكبائره العظيمة، وسيئاته الكثيرة.
نسأل الله أن يثقل موازيننا، وأن يبيض وجوهنا، وأن يجعلنا ممن يؤتون صحائفهم بأيمانهم، اللهم لا تؤاخذنا يوم العرض عليك، وأحسن وقوفنا بين يديك، ربنا لا تخزنا يوم يبعثون، واجعلنا ممن يأتيك بقلب سليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؟، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أشهد أن لا إله إلا الله حقًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى الله صدقًا، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين، وخلفائه وأصحابه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
كل إنسان مسؤول عن أعماله يوم القيامة
عباد الله: هذه الكتابة، وهذا الإحصاء، وكلنا مسؤول عن عمله، فماذا عملنا؟ ماذا سطر علينا؟ ماذا كتب؟ ماذا أحصي؟ ماذا حفظ؟ ماذا رفع إلى الله؟ ماذا سينشر يوم القيامة؟
عباد الله: لله حقوق كثيرة في طاعته وعبادته -سبحانه-، وكذلك للعباد حقوق، وللأمة علينا حقوق.
فينبغي أن نتفكر ماذا نعمل؟ ماذا يجب علينا أن عمل لله من هذه الصلوات التي أمرنا بها، وكذلك الصيام، والعبادات، وعندما نجح بيته، ونؤمه للعمرة، ماذا يجب علينا تجاه أنفسنا في تزكيتها ومحاسبتها؟ ماذا يجب علينا في جوارحنا من الذكر باللسان؟ وفيما تنظر العين، ولأي شيء تستمع الأذن، وماذا تعمل اليد، ولأي شيء تمشي الأقدام، هذا القلب ماذا يخطر فيه؟ وماذا يحدث؟ وفيما يكون التفكر والتدبر في معاني الآيات، في معاني الأحاديث، في آلاء الله علينا والنعم.
أما كثيرون فقد غرقوا في خضم هذا الانفتاح ووسائله وأجهزته، فصاروا مستهلكين في الأوقات، مستهلكين لإنتاج الغير، أما أن العبد نفسه، ينتج أشياء هو لدينه وأمته، فهذا هو السؤال.
عباد الله: هناك مشاريع وأفكار تعليمية كثيرة، يمكن أن يقوم بها الفرد منا، في تعليم دين الله للناس، الأطفال والكبار، الذكور والإناث، طبقات المجتمع، وأصناف الناس، كذلك: التعريف بالمعروف والحق، والدلالة على الخير، توضيح السنة والمنهج، والبيان لمعالم هذا الدين.
وكذلك: إنكار المنكرات، وبيان المحرمات، وأن ترفع الأصوات في استنكار الموبقات، وخصوصًا ما يحدث فيها من المجاهرات، إن هذه الأمة اليوم قد ابتليت بتسلط أعدائها، تحتاج إلى من يتكلم في تثبيت أمنها، وجمع كلمتها على سبيل الله المستقيم، والحق المبين، وصراط أهل السنة، وطريق السلف، وعمل النبي ﷺ وأصحابه. فماذا فعلنا من أجل ذلك؟ ماذا فعلنا في سبيل الدفاع عن قضايا هذه الأمة، والمسلمون في كثير من البلدان حالهم أسوأ من السيئ؟ هل وقفنا بجانب المسلمين في قضاياهم؟
هذه أشياء سنسأل عنها، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فهل هو منهم؟!
عباد الله: واجبات وأعمال كثيرة علينا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتأييد الحق، ماذا فعلنا في الرد على الشبهات؟ ماذا فعلنا في تفنيد الباطل، والوقوف أمام الباطل، هناك قضايا كثيرة يقولها المنافقون ويثيرونها؟ ماذا فعلنا في سبيل نصرة الحق، والرد على هؤلاء؟ أليس علينا واجبات في هذا الموضوع؟ أليس سيكتب لنا ما قدمنا فيها، وسيكتب علينا ما تخاذلنا فيه؟
إنها -والله- الرسالة العظيمة في دعوة غير المسلمين للإسلام: لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم[21]، أفلا يمكن استثمار هذه الوسائل في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام؟
ماذا قدمنا في هذا الجانب أيضاً حتى التواصل مع الأرحام والأقارب، وهذه المجموعات التي تنشأ في الشبكات الاجتماعية، ماذا ننشر فيها؟ ماذا يكتب فيها؟ ما هي مسؤولية مدراء هذه المجموعات، والذين يشرفون عليها، في نشر الحق، ومنع الشر؟
عباد الله: إنها -والله- المسؤولية العظيمة، هذا الإحصاء، وهذه الكتابة، وهذا الوزن، وهذا العرض على الله، فلينظر كل منا فيما قدم لنفسه: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [سورة الفجر:24]، وفيما قدم لعباد الله.
اللهم أصلح أحوالنا، واغفر ذنوبنا، واجمع على الحق كلمتنا، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في ظل عرشك يوم تدنو الشمس من رؤوس العباد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، الأول فليس شيء قبلك، والآخر فليس شيء بعدك، والظاهر فليس شيء فوقك، والباطن فليس شيء دونك، اللهم استر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، واغسل حوبتنا، اقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واهد ضالنا، واجمع على الحق كلمتنا، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد العبث بأمننا، فاقطع دابره، اللهم انشر رحمتك علينا، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، احسن خاتمتنا، وعجل الفرج لأمة محمد ﷺ، اللهم ارفع البأس عنهم يا رب العالمين، اللهم اكشف الضر عنهم يا أرحم الراحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180- 182].
- ^ رواه مسلم: (6737).
- ^ رواه الترمذي: (2155)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادت: (3780).
- ^ رواه مسلم: (463).
- ^ رواه مسلم: (6712)
- ^ رواه النسائي: (2357)، وهو حديث صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (1022).
- ^ رواه البخاري: (799).
- ^ رواه مسلم: (7018).
- ^ رواه مسلم: (7027).
- ^ رواه البخاري: (6875).
- ^ رواه البخاري: (3211)، ومسلم: (2021).
- ^ رواه أبو داود: (345)، وابن ماجة: (1087)، وصححه الألباني في صحيح أبي دواد: (373)، وفي صحيح ابن ماجة: (891).
- ^ انظر: الحديث رواه البخاري: (881)، ومسلم: (2001).
- ^ رواه مسلم: (1520).
- ^ انظر: الحديث رواه مسلم: (2398).
- ^ رواه الترمذي: (2670)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (5711).
- ^ رواه مسلم: (4423).
- ^ رواه البخاري: (6406)، ومسلم: (7021).
- ^ انظر الحديث: رواه الترمذي: (2639)، وأحمد: (6994)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (1533).
- ^ رواه أحمد: (3991)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره وهذا إسناد حسن".
- ^ رواه البخاري: (4729)، ومسلم: (7222).
- ^ رواه البخاري: (2942).