الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد..
الخطبة وحكمها يختلف باختلاف حال المرأة
فإن الله لما حرّم على عباده السفاح، شرع لهم النكاح، ووفّق من شاء من عباده للصواب، وربط بينهم بالمصاهرة والأنساب، وجعل بين الزوجين مودة ورحمة، إنه هو الكريم الوهاب.
قال النبي ﷺ في أمر الخطبة: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا[رواه أحمد برقم (23338). وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2235)]رواه أحمد وهو حديث حسن.
فتيسير الخطبة من بركة المرأة، والنكاح من نعم الله العظيمة، جعل فيه منافع كثيرة، ورتّب عليه حقوقاً وأحكاماً، والخطبة أولى خطوات النكاح، ومقدمة إليه ووسيلة، وليست شرطاً لصحته، فلو تم العقد بلا خطبة صح ذلك، وبعض الناس يطلقون الخطبة على ما بعد العقد وقبل الدخول، وهذا المعنى ليس الذي عليه أهل العلم، فليست الخطبة عقداً ولا هي ما بعد العقد، وإنما هي وعد بالنكاح.
أما الزواج والعقد فوثيق وميثاق غليظ، له حدوده وشروطه وحقوقه وآثاره، ولا يترتب على الخطبة حق للخاطب، إلا أنه قدم في النكاح على غيره، وحكم الخطبة يختلف باختلاف حال المرأة، فإذا كانت غير متزوجة ولا معتدة ولا مخطوبة وليس بها مانع من موانع النكاح جازت خطبتها تصريحاً وتعريضاً.
وأما المتزوجة والمخطوبة فلا يجوز أن تُخطب، وكذلك من قام بها مانع من موانع النكاح؛ لأن الخطبة مقدمة لذلك، وإذا كان النكاح ممنوعاً من امرأة معينة فكذلك خطبتها، وأما المتزوجة والمخطوبة فلا يجوز أن تُخطب، وكذلك من قام بها مانع من موانع النكاح؛ لأن الخطبة مقدمة لذلك، وإذا كان النكاح ممنوعاً من امرأة معينة فكذلك خطبتها.
ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة أو من طلاق رجعي أو من طلاق بائن، فالمرأة إذا مات عنها زوجها لا يجوز لأحد أن يصرح بخطبتها أثناء العدة، كأن يقول: أطلب زواجك، أو زوجيني نفسك، أو يقول للولي: زوجني ابنتك.. وما أشبه ذلك، وسبب تحريم التصريح في خطبة المعتدة من وفاة زوجها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة، والكذب في انقضاء عدتها كما ذكر ابن القيم رحمه الله، ولأن العدة حق للزوج المتوفى، فلا يجوز الاعتداء عليه لا بعقد ولا بمقدماته، ولا يجوز أيضاً التصريح بخطبة المبانة المعتدة -وهي التي فارقها زوجها في الحياة فراقاً بائناً، كأن تكون مطلقة آخر ثلاث تطليقات-، أو المطلقة على عوض -يعني دفعت مالاً لزوجها ليطلقها-، أو من طلبت فسخ زواجها لعيب في زوجها، أو وجد هو بها عيب ففسخ النكاح، فهذه الأنواع من النسوة في العدة: عدة المطلقة ثلاثاً، وعدة مفسوخة النكاح، والمطلقة على عوض، كل هؤلاء النسوة سيدخلن في العدة، فإذا طلقها زوجها ثلاثاً دخلت في العدة، وإذا خالعت زوجها دخلت في العدة، وإذا فسخ الحاكم والقاضي عقدها لعيب في زوجها أو عيب فيها بطلب الزوج فلها عدة -عدة الفسخ-، هذه العدة لا يجوز فيها خطبة المرأة تصريحاً.
وأما التعريض بأن يبدي لها الرغبة في الخطبة فمباح؛ لقوله تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْالبقرة: من الآية235. فالتعريض بالخطبة جائزٌ للمعتدة من وفاة، والبائن بطلاق أو فسخ، فله أن يقول لوليها مثلاً: إذا انقضت عدتها فأخبرونا، مثلها يُرغب فيها، ونحو ذلك، وهذا يسمى بالتعريض عند العلماء، ولا بأس به في الحالات المتقدمة.
ويجوز التصريح والتعريض لرجل أبان زوجته بغير الطلاق بالثلاث، كرجل اتفق وزوجته أن يطلقها مقابل مبلغ معين، وكذلك يجوز التصريح والتعريض لو فسخ العقد لعيب في الزوج أو لإعسار بالصداق أو النفقة، فيجوز لهذا الزوج أن يعقد عليها ولو في العدة بمهرٍ جديدٍ؛ لأن العدة له، وهذا الكلام خاص بذات الزوج -أي أن الزوج إذا خالعته زوجته فدخلت في العدة جاز له هو أن يخطبها تصريحاً أو تعريضاً-، فهذا الكلام خاصٌ بالزوج.
ولا يحل للزوج في عدة الفسخ أن يعيدها إلا بعقد جديد، وكذلك في الخلع لا يتمكن الزوج من إعادة زوجته في عدة الخلع إلا بعقد جديد بخلاف الطلاق الرجعي، فإذا أراد الزوج في عدة الخلع أو عدة الفسخ لعيب في ذات الزوج أن يخطبها تصريحاً أو تلميحاً جاز.
وأما لو طلقها ثلاثاً فبانت منه فلا يجوز التعريض ولا التصريح؛ لأنها تحرم عليه، ولا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، ثم يفارقها هذا الثاني.
وتحرم خطبة المطلقة الرجعية، أي من شخص آخر غير الزوج؛ لأنها لا تزال في عصمة المطلق، والطلاق رجعي، فيمكن أن يسترجعها، فلذلك لا يجوز لأحدٍ أن يخطب امرأة طُلقت طلاقاً رجعياً؛ لأن في ذلك تفريقاً بينه وبين أهله وتخبيباً وإفساداً.
وأما خطبة المرأة المتزوجة، كما يفعل بعض الأشرار من خلال قيامهم بالاتصالات الخفية لإقامة علاقات بالنساء المتزوجات، ويعدها ويمنيها بأنها إذا تخلصت من زوجها نكحها، ويخطبها في هذه الحالة، فهذه خطبة محرمة تحريماً شديداً.
وكذلك يحرم التصريح بخطبة الحامل المطلقة حتى تضع الحمل، فإذا وضعته انقضت عدتها وجاز أن تخطب، ولا يجوز كذلك خطبة المحرمة بحج أو عمرة تصريحاً أو تعريضاً؛ لأنه لا يجوز أن يعقد عليها في حال الإحرام، فكذلك لا تجوز الخطبة، وكذلك المرأة المخطوبة إذا علم أنها مخطوبة فلا يجوز لخاطب آخر أن يخطبها، وأما التي لا يُعلم هل هي مخطوبة أم لا؟، ولا يعلم هل أجاب أهلها الخاطب أم لا؟، فيجوز لمن لا يعلم ذلك أن يخطبها؛ لأن الأصل الإباحة، والخاطب معذور بعدم العلم.
الاستشارة والاستخارة من آداب الخطبة
وآداب الخطبة عند العلماء: الاستخارة والاستشارة، فإذا عزم على خطبة امرأة فينبغي أن يستخير الله تعالى، ويستشير من له خبرة، وكان رسول الله ﷺ يعلّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن"[رواه البخاري برقم (1096)] رواه البخاري.
وإذا كانت الاستخارة في دقيق الأمور، فكيف بمثل هذا الأمر الذي تتوقف عليه حياة الإنسان وطبيعتها بعد الزواج.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِزَيْدٍ: اذْكُرْهَا عَلَيَّ. فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، فقَالَ: يَا زَيْنَبُ، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي -وهذه المؤامرة تستأمر ربها يعني تستخيره- فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ " [رواه مسلم برقم (2567)] أي بتزويج النبي ﷺ من زينب بقوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَاالأحزاب: من الآية37.
وفي ذلك استحباب الاستخارة -يؤخذ من هذا الحديث الذي رواه مسلم- للمرأة أيضاً، والمشروع للمؤمن إذا همّ بشيءٍ له شأن سواء كان كبيراً أو صغيراً أن يستخير الله تعالى؛ ليطلب تقدير الخير منه ، ويرفع يديه بعد الركعتين داعياًَ ربه بالدعاء المعروف، فإذا استخار وانشرح صدره لهذا، فهي علامة على أن هذا هو الذي اختاره الله له، وإذا بقي متردداً فإن له أن يعيد الاستخارة ثانياً وثالثاً حتى يتبين له، وإلا رجّح بالاستشارة، قال شيخ الإسلام: فإذا استخار اللهَ كان ما شَرَحَ له صدرَه، وتيسَّر له من الأمور هو الذي اختاره اللهُ له.
وبعض العلماء يقول: لا يشترط أن يحس بشيء، فإذا تبين له المصلحة في الأمر استخار وأقدم عليه، لا ينتظر رؤيا ولا إحساساً ولا غير ذلك.
وإذا ردت الفتاة خاطباً بعد الاستخارة فلعل هذا هو الخير، وأن يهيئ لها من هو خير منه، وكذلك إذا انسحب من الخطبة فلعل الله يهيئ لها خيراً منه ما دامت قد استخارت، فلا ينبغي أن ينكسر قلبها، ولا أن تستلم لخواطر الشيطان والهم، بل ترضى وتسلم وتعلم أن ذلك قضاء من الله تعالى، والله يقسم الأرزاق بين العباد، ومن ذلك تقسيم الأزواج على الزوجات.
وأما ما تفعله بعض الفتيات والشباب مِن استبدالها الاستخارة بالذهاب إلى المشعوذين من السحرة والعرافين؛ لمعرفة نجم الخاطب وحظه وسعده، فإذا نصحهم العراف بالإقدام على الزواج أقدموا، أو بالإحجام أحجموا، وسواء كان ذلك بالاتصال بقناة الشعوذة والدجل والعرافة، أو بإتيان مواقعهم على الشبكة، أو بالاتصال بهم هاتفياً، أو بالقدوم إليهم شخصياً، فقد قال ﷺ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ،[رواه ابن ماجه برقم (631)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5939)]وكل تلك الصور داخلة في الإتيان.
وينبغي لمن تقدم لها خطيب أو خاطب أن توصي أهلها بالسؤال عنه، أو تنيب ثقة من أقاربها يسأل عن دينه وأمانته وخلقه، فإن أُثني عليه خير استخارت وعزمت على الزواج، وتجوز الاستخارة قبل رؤية الخاطب أو المخطوبة وبعدها، فإذا استخارت أو استخار لأجل الرؤية فهو حسن، وكذلك بعدها أيضاً، ومن سُئل عن خاطب أو مخطوبة فيجب عليه أن يبين ما يعرفه عنهما، وعليه أن يذكر ما فيهما من مساوئ شرعية أو عرفية مهمة وتتعلق بالنكاح والحياة الزوجية، وتتأثر بها العشرة، ولا يكون ذلك غيبة محرمة إذا قصد به النصيحة والتحذير، لا الإيذاء.
ضرورة إيضاح الأمور المؤثرة سلباً في النكاح
ومن الأخطاء الشائعة عند السؤال: إخفاء العيوب التي يعلم عنها المسؤول، فقد يكون المسؤول عنه مدمن مخدرات ونحو ذلك، أو له علاقات محرمة، وأهله يقولون لعلنا نستره بالزواج، لعله ينصرف عن الحرام بالزواج، لعله يترك المخدرات بالزواج، لعله يترك العلاقات المحرمة بالزواج، ويدخل هذا المدمن أو المبتلى بهذه المصونة على حاله، لا توبة ولا ترك، فهؤلاء قد غشوا من خطبوا منهم؛ لأنهم لم يخبروهم بحال ابنهم، وإذا راجعوهم بعد ذلك وقالوا: كيف خطبتم ابنتنا لابنكم وأنتم تعلمون حاله؟، تحججوا بقولهم: قلنا: لعله يهتدي، ولعله يرعوي. فإذا لم يحصل ذلك فمن يتحمل هذه المسؤولية؟، إنه غش والله.
فيجب على أهل الخاطب البيان بما يعلمونه عن ابنهم من الأمور المؤثرة سلباً في النكاح، وكذلك الجيران وزملاء العمل، والذين يسألون عن شخصٍ أو امرأة يجب أن يدلوا بشهادتهم لله، وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَايوسف: من الآية81.
عن فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أنها جَاءَتْ إلى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فقالت: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ (يعني كثير الضرب للنساء، وقيل: كثير الأسفار والترحال، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ (يعني فقير لا تطيقين العيش معه)، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَرِهْتُهُ؛ (لأنه أسود، وهي من أشراف الناس) ثُمَّ قَالَ لها ﷺ: انْكِحِي أُسَامَةَ فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ"[رواه مسلم برقم (2709)] وعلى المسلم أن لا يزكي أحداً إلا بما يعلم من حاله، ولا يشهد إلا بما يعرفه منه حقيقة، لا تخميناً، وكذلك لو استشير الخاطب في أمر نفسه في النكاح، فقد قال العلماء: لو قال أهل المرأة له: بيّن لنا أمرك. فإن كان يعلم من نفسه شحاً وإمساكاً، وجب عليه أن يقول لهم: عندي شحٌ، وإن كان يعلم من نفسه عصبية وغضباً شديداً، يقول لهم: عندي غضبٌ شديدٌ، فيجب عليه البيان بحاله وما فيه؛ لأن مثل هذا الحال لا يجوز التلاعب به، ولا الغش فيه، ولا التدليس، ولا الكتمان، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
تقديم صاحب الدين والخلق في النكاح
وعلى مريد النكاح أن يبحث عن ذات الأعراق الطيبة، والسلالات الحسنة، والبيوت الطيبة، ويؤثر الأدب والأخلاق والدين على ما دون ذلك، فإن هذه الصفات تتسلسل عبر الأصلاب والأرحام، قال ﷺ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ[رواه البخاري برقم (4700)، ومسلم برقم (2661)] رواه البخاري ومسلم.
فاللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لا سيما فيمن تطول صحبته كالزوجة، ولذلك أمر النبي ﷺ بتحصيل صاحبة الدين، وأن هذا غاية البغية، قال ﷺ: الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِها الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ[رواه مسلم برقم (2668)]رواه مسلم.
فالمرأة الصالحة تذكره بالصلاة والصوم والعبادة، وتمنعه من المحرمات، وتعينه على ذكر الله، وعلى الخير وأبوابه، وتذكره إذا نسي، وتعظه، وتتعاون معه على البر والتقوى.
ولا يجوز لأهل المخطوبة ردّ الكفء إذا تقدم؛ لقوله ﷺ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ (يعني: شَيْءٌ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ أَوْ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ)، قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ،[رواه الترمذي برقم (1005)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3090)] رواه الترمذي وهو حديث حسن.
وأما تعظيم الجاه والمال وإيثاره على الدين فإنه يؤدي إلى الفتنة، وإذا نظر الإنسان إلى صاحب المال والجاه فقط فاته خير كثير، والخلق الحسن عليه مدار حسن المعيشة، كما أن الدين مدار أداء الحقوق.
كان أَبو حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ -مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا- قد تَبَنَّى سَالِمًا -وكان مَوْلًى لامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ-، ثم أَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ [رواه البخاري برقم (3699)] رواه البخاري. فلم يرى بأساً من أن ينكح بنته الشريفة القرشية من هذا المولى الذي أنفق عليه وتعاهده ورباه.
ومن حكمة الفتاة المسلمة، ألا تنظر في كون الشاب وسيماً أنيقاً رشيقاً غنياً ذا سيارة فارهة، بقدر ما تنظر في الحقائق لا في الظواهر، وصاحب الدين والخلق الذي حث الشرع عليه، هو الذي تكرم به المرأة الفاضلة في الحقيقة، والذي ينبغي أن يكون عليه مدار الرد والقبول، وأساس التخفيف لما يثقل كاهل الزوج.
والحصيفة تستثمر مدة الخطبة في تغيير السلوكيات الخاطئة عند خطيبها.. والعكس، وهذا لا يتأتى إلا بعد العقد حينما تنتقل من الخطبة إلى المعاملة المباشرة، وأما قبل العقد فلا يجوز إلا عن بعد، كإرسال ما يقرأ ويسمع، أو من ينصحه ونحو ذلك، وبعضهم إذا عزم على الزواج بامرأة غير ذات دين يقول: لعل الله أن يهديها على يدي، وربما تحول هو إلى ما هي عليه فشقي وإياها.
ومن المخالفات: تساهل الفتيات في اختيار الزوج، فقد توافق على العاصي؛ لمركزه الاجتماعي أو وظيفته، تقول: لعل الله أن يهديه، فربما سارت على ركابه أيضاً، وبعض الناس يخطب إليهم الرجل الذي لا يصلي، فيقولون: لعله أن يصلي، لنا خلقه وله دينه، وليس هذا الذي ذكره النبي ﷺ وإنما قال: ترضون خلقه ودينه، [سبق تخريجه برقم (8)] والخلق من الدين، لكن خصه منه لأهميته في الزواج، الخلق من الدين، وإنما نص عليه مفرداً وعطفه على الدين؛ لمكانته في العشرة.
مراعاة الوالي مصلحة موليته
ويجب على الوّلي أن يتقي الله في موليته، ويراعي مصلحتها لا مصلحته؛ لأنه مؤتمن ومسؤول، وأن لا يكلف الخاطب ما لا يطيق، فإذا كان مرضياً في دينه وخلقه، متحلياً بآداب الشريعة، أتم له الأمر. وإذا ظهر خلاف تلك المصلحة، فسخ الخطبة وجوباً.
فإذا تبين له أنه ليس من مصلحة موليته هذا الإنسان فسخ الخطبة ورد الأمر، قال العلماء: إذا تبين له شيء في غير مصلحة موليته عمل بذلك؛ لأنه مؤتمن عليها، فهو ينظر لها، هل تطيق العيش مع هذا؟، ما هي حاله؟، ما هي ظروفه؟، كيف تدينه؟، كيف أخلاقه؟، ما هي حال عائلته وأسرته؟، ونحو ذلك مما يعرفه في ابنته، هل تكون الموافقات والائتلاف، أم سيكون في الأمر تعسير لحياتها ونكد، أو يكون عليها ضيم وظلم ونحو ذلك؟
فلا بد من التبصّر في الأمور؛ لأن هنالك تفصيلات كثيرة تراعى في حال الخاطب والمخطوبة، فإذا صار التوافق والتطابق وغلب على الظن أن الأمور ستنجح، فإنه يمضي على بركة الله.
ومن العادات التي لا أصل لها في الشرع، أن يمنع الأب تزويج البنت الصغرى إذا خُطبت بحجة أن الأكبر منها لم تنكح، وهذا فيه إضرار بالصغرى، والضرر لا يزال بالضرر، فهل الحل أن تبقى الثنتان بلا نكاح؟، لا شك لا، بل التي يأتيها رزقها تتزوج. وقد يقول: نفضل أن تنكح الكبرى أولاً محافظة على نفسيتها، ولكن إذا لم يحصل، فإنه لا يقف أمام الصغرى في طريقها، خصوصاً وأننا نرى مشوار العنوسة يطول اليوم، فلا بد من الحرص على المصلحة للجميع.
نسأل الله أن يبارك لنا فيما آتانا، وأن يرزقنا اتباع هدي محمد ﷺ، وأن يجعلنا من المستمسكين بسنته، الحريصين على هديه، ونسأله سبحانه أن يصلح أعمالنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا. أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، خلق الذكر والأنثى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير الناس لأهله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته، وأزواجه، وخلفائه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين. إنك حميدٌ مجيد.
اختيار الودود الولود، وما يجوز ويحذر في النظر إلى المخطوبة
عباد الله: حث النبي ﷺ جابراً على النكاح، فقال: تَزَوَّجْتَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِكْرًا، أَمْ ثَيِّبًا؟، قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ، وَتَمْشُطُهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ"[رواه البخاري برقم (2143)، ومسلم برقم (2664)] رواه البخاري.
وفي رواية: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ وَالِدِي أَوْ اسْتُشْهِدَ وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ، فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا؛ لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ".[رواه البخاري برقم (2745)] رواه البخاري.
وقد تزوج النبي ﷺ بكراً وثيباً، وحث على خطبة الولود الودود، فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لاثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ. فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فنهاه، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ أَيْ الَّتِي تُحِبّ زَوْجهَا الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ.[رواه أبو داود برقم (1754)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2940)] رواه أبو داود وهو حديث حسن صحيح.
والولود إذا لم تكن ودوداً لم يرغب الزوج فيها، والودود إذا لم تكن ولوداً لم يحصل المطلوب وهو تكثير الأمة بكثرة التوالد، ويعرف ذلك في الأبكار من أقاربهن؛ لأن الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض، فإذا كان لدى أمها عدد من الأولاد، وكذلك عمتها وخالتها وأختها وجدتها ونحو ذلك، عرف أنها تكون في الغالب مثلهن في كثرة الولد.
ويستحب للخاطب النظر إلى المخطوبة بحضور محرمها ودون خلوة بها، من غير تدليس في زينةٍ أو تجمل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا،[رواه مسلم برقم (2552)] رواه مسلم.
قيل: صِغَراً، وَقِيلَ: زُرْقَة، وَفِي هَذَا دَلَالَة لِجَوَازِ ذِكْر مِثْل هَذَا لِلنَّصِيحَةِ، وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب النَّظَر إِلَى وَجْه مَنْ يُرِيد أن يتَزَوُّجهَا.
وعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْتُ لَهُ امْرَأَةً أَخْطُبُهَا، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا. أي: يوفِّق ويؤلِّف، وتحدث بينكما المحبة والمودة، قال: فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَخَطَبْتُهَا إِلَى أَبَوَيْهَا، وَأَخْبَرْتُهُمَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ (عن النظر)، فَكَأَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ، فَسَمِعَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ –الفتاة المخطوبة- وَهِيَ فِي خِدْرِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ، وَإِلَّا فَأَنْشُدُكَ (أَيْ أَسْأَلك بِاَللَّهِ) أَنْ لَا تفعل ذلك -كَأَنَّهَا أَعْظَمَتْ ذَلِكَ-، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَتَزَوَّجْتُهَا"[رواه ابن ماجه برقم (1856)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (1512)] رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.
فيستحب أن يراها وتراه، قال جمهور العلماء: ينظر إلى وجهها وكفيها، فيعرف الجمال في الوجه، وخصوبة البدن أو السمنة ونحوه في اليدين، وقال بعضهم: إذا لم يكف ذلك جاز النظر إلى وجهها ويديها ورأسها، فهذا على حسب الحاجة إذا لم يكف ذلك في اتخاذ القرار، وإذا استطاع أن ينظر إليها باتفاق مع وليها فله ذلك.
ولكن هل يجوز له أن ينظر إليها نظر غفلة وهي لا تشعر؟، إذا كان صادقاً في الخطبة غير متلاعب ولا متلصصٍ على أعراض المسلمين فنعم وإلا فلا، استناداً إلى ما رواه جَابِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ.
قَالَ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا، فَتَزَوَّجْتُهَا"،[رواه أبو داود برقم (1783)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (506)] رواه أبو داود وهو حديث حسن.
قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة؛ حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء، وهذا أفضل من النظر إليها بعد الخطبة، وقد شكت منه بعض الفتيات خاصة إذا لم تحصل موافقة، فإن لم يتيسَّر النظر ولم يمكن، بعث من يثق به من النساء للنظر إليها، ثم الإخبار بخلْقها وخُلقها، وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يُرْسِل امْرَأَةً لِتَنْظُرَ الْمَخْطُوبَةَ، ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ وَلَوْ بِمَا لاَ يَحِل لَهُ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ (يعني أن تصف الشعر ونحو ذلك من صفات الجسد)، فَيَسْتَفِيدَ بِالْبَعْثِ مَا لاَ يَسْتَفِيدُ بِنَظَرِهِ، فهذا ما أجاب عنه الجمهور الذين قالوا: ينظر إلى الوجه والكفين، وأما بقية الجسد... قالوا: لا بأس أن يرسل من النساء من ينظر إليها؛ ليخبره ببقية الوصف، وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تحريم وَصْفِ امْرَأَةٍ الأجنبية للِرَجُلٍ الأجنبي؛ لأن هذا للحاجة، وهذه عشرة عمر، وسينبني عليها حياة بين زوجين، فلا بد أن يكون هنالك من القناعة التي كمالها بالنظر المباشر أكثر من الوصف، ونظر الغير لا يغني عن نظر النفس، فقد تكون المرأة جميلة عند شخص، وغير جميلة عند آخر، وقد يرى الإنسان المرأة على حال غير حالها الطبيعية، كما إذا وضعت المكياجات والزينة، أما إذا نظرت إليها امرأة أخرى في مدرستها وكليتها ونحو ذلك فإنها ربما نقلت إليه ما كان في الحقيقة أدق.
وأما إرسال الفتاة صورتها فهو خطير جداً، وقد انبنى على ذلك من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، وحصل به من أنواع الشقاق، وكذلك الخلافات والجرائم ما حصل، قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : لا ترسل صورتها بالشبكة؛ لأنه قد يشاركه غيره في النظر إليها (وهذا أبلغ منه أن لا تظهر له عبر الشبكة؛ لأن هذه الصور تحفظ)؛ قال الشيخ: لأنه قد يشاركه غيره في النظر إليها، ولأن الصورة لا تحكي الحقيقة تماماً، فكم من صورة رآها الإنسان فإذا شاهد المصوَّر وجده مختلفاً، وربما تبقى الصورة عند الخاطب ويعدل عن الخطبة، فقد يلعب بها كما شاء. انتهى كلامه رحمه الله.
فمن الخطأ ما تفعله بعض الخطّابات من عرضها لمجموعة من صور النساء على من يريد الزواج، فينظر الرجل إلى عشرين وثلاثين وخمسين صورة؛ ليختار منهن، وإنما الذي ينبغي أن تُرشح له فتاة بعينها، ممن يثق بهن من النساء، فيطلب النظر إليها، ولا بأس أن يأتي ولي المرأة بصورتها للخاطب قبل أن يراها، فإذا وافق مبدئياً رآها، وهذا قد يفيد في تلاشي مواطن الإحراج، عندما يراها ثم لا يريدها.
وقال بعض العلماء: يسأل عن جمالها قبل أن يسأل عن دينها، حتى إذا ردها ردها لأجل عدم الجمال، بينما إذا سأل عن دينها أولاً فقيل له: ذات دين، ثم سأل عن الجمال فلم يعجبه، ردها بعدما عرف أنها صاحبة دين، وفي هذا من الحرج ما فيه، فلذلك يبدأ بمعرفة جمالها، ويسأل عن دينها بعدها مباشرة.
وقد قال ﷺ: إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ[سبق تخريجه برقم (16)] وهذا يعني أنه يجوز له تكرار النظر إذا كان صادقاً غير متلاعب إذا لم يكف النظر الأول؛ حتى لا يندم على النكاح، وهذا يتقيد بقدر الحاجة، فلو اكتفى بنظرة لا يجوز أن يواصل الثانية، فلو زارهم في بيتهم فخرجت المرأة فنظر إليها فأعجبته، وجب عليه أن يطرق ويغض البصر ويأمر وليها بأمرها بالانصراف؛ لأن الحاجة تقدر بقدرها فتتقيد بها.
شروط جواز النظر إلى المخطوبة
وشروط جواز النظر إلى المرأة المخطوبة التي ذكرها الفقهاء ستة:
أولاً: أن يكون بلا خلوة، وبلا شهوة، فإن نظر لشهوة فهو يحرم؛ لأن المقصود الآن هو الاستعلام وليس الاستمتاع –الاستمتاع سيأتي وقته-.
ثانياً: أن يغلب على ظنه أنهم سيجيبونه، فإذا غلب على ظنه أنهم سيرفضون فلا يجوز له النظر.
ثالثاً: أن ينظر إلى ما يظهر غالباً. وقد تقدم تفصيله.
رابعاً: أن يكون عازماً على الخطبة، أما إذا كان يريد أن يجول في النساء هذا حرام، فقد يقول: أخطب هذه وأراها، ثم أخطب الثانية وأراها، ثم أخطب الثالثة وأراها، ثم أخطب العاشرة وأراها، ثم أقوّم الجميع وأختار أجملهن وأتزوجها، وهذا حرام لا يجوز، وفيه جولان على النساء بغير حق، وهذا شيء لا ينتهي، فربما يختار من عشرين، وربما يقول من خمسين، وربما يرى مائة.
وكذلك الشرط الخامس: ألا تظهر المرأة متبرجة أو متطيبة، كما تفعله بعض الفتيات في الخطبة، فلا يجوز لها أن تتطيب، ولا أن تتبرج عنده؛ لأنها أجنبية، وظهورها في ذلك مفسدة، ثم إن تزوجها فوجدها على غير البهاء الذي تصنعت به، والمكياج الذي دلسّت به، ماذا سيحصل في نفسه؟.
وقد تكون الفتاة قصيرة قِصَراً فاحشاً، فتعمد إلى لبس الكعب العالي على فستان طويل، وهذا نوع تغرير، ومن هذه الشاكلة وعلى هذه الأمثلة كثير. وربما أظهروا له فتاة أخرى، ثم إذا جاء العقد صار على امرأة أخرى، وهذا من أسوأ التغرير والتدليس والغش والخداع، وهو حرام لا يرضاه الله.
ومع الأسف فإن قضية الغش والتدليس قد وصلت إلى مراحل عظيمة في حياة الناس، وبعض الآباء يمنع الخاطب من رؤية المخطوبة وهي تتبرج في الأسواق، ويقول: عاداتنا لا تسمح بذلك، سبحان الله، وعاداتكم تسمح بأن تتبرج بنتكم في الأسواق، وتسافر بغير محرم، وتخلو بالسائق الأجنبي، وتنظر في القنوات، وفيها من أنواع الفضائح ما فيها، وتتساهلون باتصالات بنتكم، وتجعلون في يديها من وسائل ذلك بلا رقيب ولا حسيب، فإذا جاء الخاطب من باب"النكاح"، يريد الرؤية على سنة رسول الله ﷺ، قلتم: عاداتنا لا تسمح، فأين عقولكم؟ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَالقلم:36 - 38.
وكذلك فإن نظر المخطوبة إلى خاطبها كحكم نظره إليها؛ لأنها يعجبها منه ما يعجبه منها، ولذلك قال بعض العلماء: إنها أولى منه بذلك –يعني أحق بالنظر إليه- منه إليها؛ لأنه يمكنه مفارقة من لا يرضاها، بخلافها هي، قال ابن عابدين رحمه الله: هي أولى منه في ذلك؛ لأنّه يمكنه مفارقة من لا يرضاها بخلافها.
روى عبد الرزاق عن عمر قال: يعمد أحدكم إلى ابنته، فيزوجها القبيح !! إنهن يحببن ما تحبون.
ولا يجوز للخاطب مصافحة المخطوبة، ولا أن يمسها؛ لأنها أجنبية، وهذه المصافحة ليست من حاجة الخطبة ولا النكاح.
ولا يجوز له أن يخلو بها، ولا أن يخرج معها، ومن الخطأ ما يفعله بعض الناس من التساهل في ذلك، ثم تنجب بعد الدخول بثلاثة أشهر.
وبعضهم يطيل المدة ما بين العقد والدخول، وهذا غير مستحب؛ لأنه يحصل فيه كثير من الخلاف، وهذه القضية تعتمد في كثير من الأحيان على حال الخاطب، وعلى تيسر أموره، واستعداده للنكاح.
وتحرم خطبة الرجل على خطبة غيره بغير أذنه؛ لأن النَّبِيُّ ﷺ قال: لا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ[ رواه البخاري برقم (4746)]
فإذاً لا يجوز أن يتقدم إذا كان هنالك خاطب، إلا في حالات: إذا رُدّ الأول، أو ترك هو، أو أذن له، فهذه ثلاثة حالات، وإلا فلا يجوز.
وما يعرف بالدِبلة والدُبلة وقت الخطوبة فهذه بدعة نصرانية، لا يجوز القيام بها، وبعضهم ينحت الصائغ اسمه واسمها على الخواتم فيتبادلانها، وهذه من عادات النصارى المحرّمة.
ولا بأس أن يعرض الولي على الرجل الصالح ابنته، فيفاتحه هو، ولا ينتظر أن يفاتحه خاطب.
وكذلك فإن إجراءات الفحص الطبي لا حرج فيها، ولا يجبر أحد على خطبة امرأة لا يريدها، وإذا تراجع في الخطبة وانفسخت الخطبة فإن ما قدمه الخاطب من الهدايا للمخطوبة حكمه حكم الهبة، لا يرجع فيها إذا كان تبرعاً محضاً، وأما إذا نصّ أنها من المهر، أو جزء من المهر، فإنه يرجع بنصفه إذا كان قبل الدخول –أي الطلاق بعد العقد وقبل الدخول كما هو معلوم-.
وقراءة الفاتحة عند الخطبة بدعة، ولكن يقرأ خطبة الحاجة المعلومة بالآيات التي وردت في ثلاث مواضع من كتاب الله تعالى.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يتوب علينا، ونسأله أن يرزقنا حسن النية وصلاح الذرية، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا. اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتستر عوراتنا، وأن تؤمن روعاتنا، اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واغفر لنا أجمعين، وألف بين قلوبنا، واسلك بنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعل الجنة مثوانا يا رحمان يا رحيم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.