الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فضل صيام شهر رمضان وستاً من شوال
قال النبي ﷺ: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[رواه البخاري2014، رواه مسلم760]. وقال أيضاً: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[رواه البخاري37، ومسلم759]. فهذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيام رمضان وقيام ليلة القدر، فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له وأصابها، سواءً شعر بها أم لم يشعر، أما صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كُمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن أدركه رمضان فلم يغفر له فأبعده الله قل آمين فقلت آمين، فإذا تم الشهر بتمام الصيام والقيام بشروط العبادة حصلت المغفرة من جميع الذنوب السالفة، ولكن إذا انقضى الشهر وقد حصل من الخروق في الصيام ما حصل فما هو الحل وما هو العمل؟ من نقص من العمل الذي عليه نُقص له من الأجر بحسب نقصه فلا يلومن إلا نفسه، الصلاة مكيال والصيام مكيال فمن وفاها وفى له الله، ومن طفف فيها فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته، إذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَسورة المطففين1-2. فكيف حال من طفف مكيال الدين، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَسورة الماعون4-5.
الاستغفار عقب كل طاعة
فماذا نفعل وبالتأكيد قد حصل في صيامنا نقص وتقصير، وقد جرحنا ذلك الصيام بأنواع من الآثام، لا بد أيها الأخوة: يا معشر المسلمين: لا بد أن نعود إلى التوبة والاستغفار، والاستغفار الدعاء بالمغفرة، وقد جاء في حديث أبي هريرة يغفر فيه يعني رمضان إلا لمن أبى، قالوا يا أبا هريرة ومن أبى؟ قال: "من أبى أن يستغفر الله "، قال الحسن رحمه الله: "أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة"، وقال لقمان لابنه: "يا بني عود لسانك الاستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً"، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَسورة محمد19.قال إبليس: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فنختم به صلاتنا وحجنا وقيامنا لليل ونختم به مجالسنا فإن كانت مجالس ذكر كانت كفارة المجلس كالطابع عليه، وإن كانت لهواً كانت كفارة له، وكذلك ينبغي أن يُختم صيامنا بالاستغفار، كتب عمر بن عبد العزيز لأهل الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر، فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث والاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث، قال عمر بن عبد العزيز في كتابه: "قولوا كما قال أبوكم آدكم: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَسورة الأعراف23. وقولوا كما قال نوح: وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَسورة هود47. وقولوا كما قال إبراهيم: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِسورة الشعراء82. وقولوا كما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي سورة القصص16. وقولوا كما قال ذو النون لا إله إلا أنت لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَسورة الأنبياء87.
صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعمل صالح شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفوا خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع، كان بعض السلف إذا صلى استغفر الله من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين، فكيف حالنا نحن المسيئين المقصرين، أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، وهي حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر الله بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود، ونذكر في هذا المقام سفر الكثيرين بعد الصيام إلى أماكن الفسق، والفجور، والمعصية، وعودة كثير من العصاة إلى معاصيهم بعد رمضان.
المداومة على العمل الصالح بعد رمضان
عباد الله: نحن ليس عندنا رصيد كبير من الحسنات بحيث أنه لا يهم ما وقع منا من السيئات فإننا لا ندري بعد ذلك الصيام والقيام هل قُبل منا العمل أم لا؟ وقد قال الله تعالى لافتاً نظر عباده إلى مسألة مهمة قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَسورة المائدة27. فماذا يعني ذلك إنما يتقبل الله من المتقين، ونحن نزكي أنفسنا إذا قلنا أننا من المتقين، والله أعلم من هو المتقي منا، ولذلك لا بد أن نخشى على العمل من أن يرد، ونسأل الله الثبات تثبيت الأجر وقبول العمل، ولذلك كان السلف رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه وإحسانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، قال بعض السلف كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً بالعمل نفسه، ألم تسمعوا قول الله : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وقال فضالة بن عبيد: "لئن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل ِأحب إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوا وقع عليهم الهم، أيقبل منهم أم لا وكان بعض السلف يقول في آخر ليلة من رمضان يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك".
عباد الله: المهم أن نسأل الله القبول، ونمتنع عما يمنع من القبول بعد رمضان حتى يُتقبل منا عمل رمضان، الذي يخشى الله تعالى فإنه يخشى على عمله من الرد، ويجتهد في العبادة ويواصل في الطاعة، أما الذي يخرج من رمضان بنفسية أنه قد عمل جبالاً من الحسنات وأنه لا يهمه ما فعل بعدها من السيئات لأن عنده رصيد فهذا قبول عمله أصلاً فيه نظر، ثم إننا مأمورون بالمواصلة في العبادة، وقد قال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُسورة الحجر99. وقال الله : فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِسورة مريم65. ثم إن الله لما ذكر صفات المؤمنين لم يقيدها بوقت، ولم يخصها بزمان، قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ دائماً، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ دائماً، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ دائماً، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَسورة المؤمنون1-5.ليس أحياناً وأحياناً وإنما دائماً، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًاسورة الفرقان63. هكذا مشيتهم دائماً، إلى آخر الآيات، إذاً لا بد أن تكون الأعمال متواصلة، ولعله لأجل هذا شُرع لنا ستة شوال بعد رمضان، فقال ﷺ: من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة[رواه ابن ماجه1715]
وقال: جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، وقال فشهر بعشر أشهر، صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام سنة أيام بشهرين، الحسنة بعشر أمثالها، ستة في عشرة بستين، ستين يعني شهران، تعني شهرين، بالإضافة إلى شهر رمضان شهر بعشرة الحسنة بعشر أمثالها عشرة واثنان، اثنا عشر شهراً تمام السنة، قال ﷺ: فذلك صيام السنةرواه ابو داود الطيالسي595. فمن فعل هذا دائماً فكأنما صام عمره كله، يعني أن له أجر صيام العمر، وكذلك فإنه ممن ينبغي لمن قام الليالي الطوال وأقبل على الله بالدعاء والاستغفار في شهر الصيام، من ختم القرآن مرة أو أكثر، من تصدق بالصدقات العظام ينبغي عليه أن لا يمن بعبادته على الله تعالى، قال الله تعالى: وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُسورة المدثر6.وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ، فإنه مهما عملنا من الطاعات والعبادات فإنه في جنب حق الله ونعمه لا شيء، قال النبي ﷺ: لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله تعالى لحقره يوم القيامة[رواه أحمد17649]. إذا جاء يوم القيامة رآه لا شيء، رآه يسيراً جداً رآه شيئاً حقيراً قليلاً، استحقره ورآه قليلاً يوم القيامة، فإذاً ينبغي علينا ألا نمن على الله بالعبادة ونشعر بعد رمضان أن عندنا جبال حسنات، ولا يهمنا ما حصل منا من تقصير لأن عندنا رصيد تلك نفسية من لم يعرف لله حقا.
عباد الله: إننا لا نزعم ولا نقول بأننا نجب أن نكون بعد رمضان مثلما كنا في رمضان، فهيهات هيهات فلا الشهر كالشهر، ولا البركة كالبركة ولا الاجتماع كالاجتماع، ولا الليالي كالليالي، ولكن الانقطاع هو الذي نشكو، العودة إلى المعاصي هو الذي نتكلم عنه، وإلا فنحن نعلم أننا لا يمكن أن نكون في القيام في شوال مثلما كنا في رمضان، قطعاً ونقر بهذا ونسلم به، ولكن ما رأيكم في ترك القيام بالكلية، إننا لان قول أننا سنصوم بعد رمضان مثلما كنا نصوم فيه، ولكن ما هو الرأي في ترك الصيام بالكلية، إننا لا نقول أننا سنكون أكثر نشاطاً من تلاوة القرآن بعد رمضان أو مثله لما كنا في رمضان، ولكن ما رأيكم في ترك التلاوة بالكلية، وإغلاق المصحف ورفعه إلى رمضان القادم، هذه هي القضية وإذاً لا بد من الاستمرار في العبادة، لأننا لا ندري متى يأتي الأجل وقد قال النبي ﷺ: إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه[رواه الترمذي2142].
العبادة زمان الفتن والهرج
أيها المسلمون: نحن نعلم يقيناً أن زماننا زمان فتنة، أن وقتنا هذا وقت هرج واختلاط للأمور ولكننا نعزي أنفسنا بأن العبادة في الفتنة أجرها عظيم، ينظر الإنسان يمنياً فيرى في الأفلام والمسلسلات وما تبثه القنوات الفضائية وينظر في الأسواق وما يرى من أشكال النساء والمناظر المغرية، وفي المجلات والأفلام والألعاب وسوء ألسنة الناس، وأصدقاء السوء وأكل أموال الناس وأكل الحقوق وظلم الأقارب، ينظر في الأشياء التي من حوله فيرى فتن فيرى فتناً تموج كالجبال ولكن عزاؤنا أن العبادة في الفتن كهجرة إلى النبي ﷺ، لقد فاتتنا الهجرة، لقد مات النبي ﷺ وفاتتنا الهجرة إليه، فاتنا أجر المهاجرين، ولكن يقول ﷺ: عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليّ [رواه الطبراني في الكبير494 ]. عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليّ، في الثواب العبادة في وقتنا هذا في وقت الهرج والفتنة أجرها كأجر الهجرة إلى النبي ﷺ في المدينة، إذاً الله تعالى فتح لنا أبواباً من الأجر ونحن نصطلي ونكتوي بنيران الفتن في هذا الزمان، وينبغي أن تكون العبادة أمراً غير طارئ في حياتنا، وإنما هو أصل في حياتنا، وفرق بين من تكون العبادة طارئة في حياته، وبين من تكون العبادة أصل في حياته، شاب نشأ في طاعة الله، فهو منذ نعومة أظفاره العبادة تسري في دمائه، شاب نشأ في طاعة الله، شاب نشأ في عبادة الله، ينبغي أن تكون العبادة أصل في حياتنا، ثم إننا نذكر قول الله تعالى: وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَسورة المائدة61. هذا وصف للمنافقين مما ورد في القرآن، ما معنى الآية؟ قال ابن كثير رحمه الله: "هذه صفة المنافقين وقد دخلوا أي عندك يا محمد ﷺ بالكفر أي مستصحبين الكفر في قلوبهم دخلوا مجلسك وقد استصحبوا الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا لأن الآية تقول وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، ثم خرجوا وهو كامن فيها أي الكفر لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ولا نجعت فيهم المواعظ والزواجر، انتهى كلامه رحمه الله، ثم الآن قد يدخل ناس في رمضان بأشياء مما في قلوبهم من الريب والنفاق والمعصية أُشربت قلوبهم حب المعاصي، دخلوا في رمضان وقد خرجوا منه، فماذا حالهم بعد الخروج؟ إذا كان كحالهم قبل الدخول، قبل دخول الشهر، معنى ذلك أنهم قد استصحبوه في قلوبهم، فخرجوا من الشهر ولم تتغير القلوب، وهذا من أخطر صفات النفاق نسأل الله السلامة والعافية، قال الناس بعضهم لبعض في العيد من العايدين ومن الفائزين، فمنهم الفائزون يا عباد الله: كانت كلمة تذكر بأشياء قال الله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُسورة البروج11. وقال الله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَسورة آل عمران185. وقال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُسورة التوبة100. وقال الله تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَسورة الحشر20. من هم الفائزون إذاً؟ هم أصحاب الجنة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفائزين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى وبحبوحة الجنة. اللهم أعتق رقابنا من النار، واجعلنا في ختام شهرك الكريم من عتقائك من النار يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، رب الأولين والآخرين، وقيوم السموات، والأرضين، هو نور السموات، والأرض، ومن فيهن، وقيوم السموات، والأرض، ومن فيهن، هو الأول، والآخر والظاهر، والباطن، وهو بكل شيء عليم، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء وسبحان الله عمَّا اتهمه به المتهمون، وشتمه الشاتمون، وشتمهم إياه وسبهم له بقولهم إنه اتخذوا صاحبة وولدا، ولم يتخد صاحبة ولم يكن له ولد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه، وأمينه على وحيه، إمام الأنبياء وسيد المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا على هديه من السائرين، وعلى آله وذريته وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الندم بعد رمضان على التفريط الذي وقع في رمضان
عباد الله: ينتهي رمضان ويأتي جرد المآسي والمصائب مما حصل فيه من التقصير والبلايا فهذا جامل بعض الأجانب فأكل معهم، وآخر قال إني رجعت من الشغل تعبان وأفطرت، وهذا يقول إنه لم يصبر عن زوجته فوطئها في النهار، والكارثة العظمى تكون فيمن وقع في فاحشة في هذا الشهر الكريم، نسأل الله السلامة والعافية، ثم ما يكون من بعض المفرطين الذين وافاهم الأجل المحتوم في حوادث السيارات في أيام العيد فما هو حالهم وماذا عسى أن تكون نهايتهم بعد انقضاء ذلك الشهر، ويرجع المسلم إلى نفسه بنوع من الألم لفراق الشهر والحزن لانقضاء موسم العبادة.
دع البكاء على الأطلال والدار | واذكر لمن بان من خل ومن جار |
وأذر الدموع نحيباً وابك من أسف | على فراق ليالي ذات أنوار |
على ليالي لشهر الصوم ما جعلت | إلا لتمحيص آثام وأوزار |
يا لائمي في البكاء زدني به كلفاً | واسمع غريب أحاديثي وأخباري |
ما كان أحسننا والشمل مجتمع | منا المصلي ومنا القانت القاري |
وفي التروايح للراحات جامعة | فيها المصابيح تزهو مثل أزهار |
عباد الله: ذلك كان شهر تنزلت فيه الروح والملائكة بإذن الله تعالى إلى الأرض وقبل الله فيه من قبل ورد الله فيه من رد، وتاب فيه من تاب، وقصر فيه من قصر، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المقبولين التائبين.
أحكام القضاء بعد رمضان
عباد الله: كل من فاته شيء من رمضان كالمسافر والمريض والحائض والنفساء فإنه يقضي بعدد الأيام التي أفطرها، لقوله تعالى: " فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَسورة البقرة184. فإن كان الشهر ثلاثين وأفطره لزمه ثلاثين، وإن كان تسعة وعشرين فأفطره لزمه تسعة وعشرون، ويجوز أن يقضيه متتابعاً، وقال بعضهم صمه كما أفطرته، والراجح عدم وجوب التتابع، لأن الله لم يشترط ذلك، وإنما قال فعدة من أيام أخر، وإن تابعه في القضاء فهو أحسن، والمبادرة بالقضاء أولى من التأخير، لأن عائشة رضي الله عنها اعتذرت عن تأخير القضاء إلى شعبان بكونها لا تستطيع ولو استطاعت لما أخرته إلى شعبان والمبادرة بالقضاء فيها مسارعة لإبراء الذمة واحتياط في الدين، وقد ينسى الإنسان لا سيما إذا كانت الأيام قليلة، والمبادرة بالقضاء داخلة في عموم الأدلة الدالة على الاسراع في الخير، كقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْسورة آل عمران133. ويجوز تأخير القضاء إلى أن يكون بينه وبين رمضان الثاني بعد الأيام التي أفطرها، لكن يجب عليه، يجب على من يؤخر القضاء أن يعزم على القضاء وهناك قاعدة مهمة وهي أن كل واجب موسع يجوز تأخيره مع العزم عليه، إذا عزم على القضاء جاز له التأخير، ولا يجوز أن يؤخره حتى يدخل عليه رمضان الجديد، والأفضل كما قلنا المبادرة إلى القضاء، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له، والقضاء لا بد له من نية مبيتة من الليل كالأداء، وكذا كل صيام واجب، من كفارة أو نذر ونحوه يجب له نية من الليل ومن شرع في صيام قضاء لا يجوز له الإفطار فيه لغير عذر ولو كان الوقت موسعاً ما دام قد شرع فلا بد من الإتمام فهو ليس كصيام النافلة الذي فيه الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر بل هو صيام قضاء يحاكي الأداء فيجب فيه النية وإتمامه إذا شرع فيه، ومن مات قبل أن يصوم ما وجب عليه، فإن له حالتان الأولى أن يكون قد تمكن من القضاء ولم يقضي كمن مات وعليه قضاء من رمضان وقد عوفي ولم يصمه، فإنه يجب إطعام مسكين عن كل يوم بعدد ما عليه من تركته أو ممن يتبرع عنه، وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله أنه إن صيم عنه أيضاً أجزأه وهو قول قوي المأخذ"، ثانياً: أن يموت الميت قبل أن يتمكن من القضاء مثل من مرض في رمضان وأفطر ثم مات في أثناء رمضان، أو استمر به المرض إلى ما بعد رمضان ومات على مرضه، فهذا لم يتمكن من القضاء ولم يكن مقصراً بوجه من الوجوه، ولذلك فليس عليه ولا على أولياءه شيء لا قضاء ولا فدية، ويصوم من كان على وليه صوم قال النووي رحمه الله الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت سواءً صوم رمضان أو النذر وغيره من الصيام الواجب للأحاديث الصحيحة ولا معارض لها، والمراد بالولي وارثه أو قريبه، وهذا ليس بواجب على الولي والوارث، لكن إن تطوع بالصوم عن ميته فهو مأجور، قال البخاري قال الحسن إن صام عنه ثلاثون رجلاً يوماً واحد جاز، وأما مسألة ست شوال والقضاء فإن القضاء قبل، القضاء أولاً ثم صيام الست، لأجل الأجر لتحصيل الأجر، لأن الحديث يقول من صام رمضان أي أتمه وأكمله ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر، ولو لم يكفي شوال للقضاء والست يبدأ بالواجب، بل إن صيام الكفارة الواجب يقدم على الست، ولا قضاء للست في ذي القعدة، لكن يصومها فيه لتحصيل بعض ما فات من الأجر، فلو قالت لك زوجتك النفساء إنني لو قعدت أقضي ما فاتني من رمضان فاتتني ست من شوال فقل لها هاتي القضاء أولاً ولو فاتتك ست من شوال، ألست تريدين الأجر، ألست تريدين الأتم والأكمل والأكثر في الحسنات، إذاً هاتي القضاء أولاً أما أن يصوم نافلة وعليه واجب فهذا ليس بأكثر في الأجر أبداً، والأفضل أن ينوي لست من شوال نيتها من الليل، لأنه من النفل المعين عند كثير من العلماء وهم يشترطون النية المسبقة من الليل لأجل صوم النفل المعين كعاشوراء وعرفة، أما النفل المطلق مثل قوله ﷺ لزوجته هل عندكم من شيء؟ فقالت عائشة ما عندنا شيء، قال فإني صائم هذا لا يشترط له نية من الليل، وكذلك فإنه يجوز لمن صام يوماً من أيام الست أن يفطر أثناء النهار لأنه صيام نافلة، وقد حدث ذلك للنبي ﷺ قال: فإني صائم لعائشة ثم أهديت لهم هدية فأخبرته عائشة فسألها عن الهدية فقالت حيس وهو طعام من التمر والأقط والسمن قال: هاتيه فجئت به فأكل، ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً[رواه مسلم1154]. قال طلحة فحدثنا مجاهد بهذا الحديث، فقال: "ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها"، ولا شك أن الأفضل أن يتم الصوم، ولا يقطعه، والنبي ﷺ فعل لبيان الحكم للناس يا عباد الله: يا من لم يخرج الزكاة بعد وقد حان وقتها في رمضان عجل قبل فوات الأوان، فإنه يأثم من أخر الزكاة عن وقتها، ولا يجوز حرمان الفقير وله فيها نصيب بتأخير الزكاة عن وقتها، فعجل عجل بإخراج الزكاة، ومن نسي إخراج زكاة الفطر أو نسي وكيله أو ظن الشخص أن أهله سيخرجون عنه ثم تبين له بعد العيد أنهم لم يخرجوا عنه فإنهم يسارعون جميعاً لإخراج زكاة الفطر، وهذا شهر شوال شهر مبارك، تبتدئ به أشهر الحج، شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وفيه صيام الست، واعتكف فيه ﷺ عشرة أيام لما فاته الاعتكاف في رمضان، وقالت عائشة: "تزوجني رسول الله ﷺ في شوال وبنى بي في شوال"، رواه مسلم، وكانت عائشة تستحب أن تدخل نسائها في شوال، أي على أزواجهن، رواه مسلم، وكذلك فإن هذا الشهر ينبغي أن يكون امتداداً ومواصلة لأنواع من العبادات ونسأل الله تعالى المغفرة والقبول يا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود بعد أن صرت حراً إلى رق الأوزار أيبعدك مولاك عن النار وأنت تتقرب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها، إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين، فالظالم لنفسه غير محجوب عنها.
نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وأن يغفر ذنوبنا وأن يقضي ديوننا وأن يستر عيوبنا وأن يرحم أمواتنا ويشف مرضانا ويهدي ضالنا اللهم إنا نسألك أن تعظم لنا الأجر في ما فعلنا في الشهر، اللهم إنا نسألك ألا تردنا على أعقابنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من أمرنا رشدا، اللهم انصر المجاهدين، واقمع أعداء الدين، اللهم اكبت عبدونا وشتت شملهم وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم اللهم اجعلنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.