الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
ماهي أقوى رابطة وصلة بين العبد وبين ربه ؟
فما هي الصلة بيننا وبين الله، ما هي العلاقة بيننا وبين الرب ، ما هو الحبل الذي نمت به إليه، ونتصل به معه ؟ إنه أيها الإخوة: عبادته وحده لا شريك له، العبادة ذل وخضوع، استعانة واستقامة، خوف ورجاء، محبة وحياء، الطريق المعبد هو المذلل، قد وطأته الأقدام حتى صار فيه أثر بيّن يعرف، الذليل هو المنقاد لله، العبد المذلل لله المعظم لحرماته، المستجيب له، المستسلم له، يعرف ربه، فهو يعبده، وعرف كيف يعبده فلا يضل في عبادته، لا يرتكب بدعة، إنها شرف سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ سورة الإسراء 1. لم يصفه إلا بالعبودية، لم يذكر اسمه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ سورة الكهف 1. ومعلوم من هو عبده وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ سورة الجن 19. إنه محمد ﷺ، فهذه العبودية المقام الشريف، والوصف العظيم، هذه العبودية، التي جعلت رسول الله ﷺ في أشرف المقامات إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله[رواه البخاري 3445]. هذه العبودية التي من أجلها خلقنا الله.
أيها الإخوة: لا بد أن نسأل أنفسنا، كيف صلتنا بربنا؟ لا بد أن نسأل أنفسنا، ما هي علاقتنا به؟ لا بد أن نسأل أنفسنا، ما هي القوة والمتانة في هذه العلاقة؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ سورة البقرة 21. وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُسورة الإسراء 23. وَأَطِيعُواْ اللّهَ سورة آل عمران 132. العبودية التي تشرف الإنسان.
ومما زادني شرفاً وتيهاً | وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك: يا عبادي | وأن صيرت أحمد لي نبيا |
كلما ازداد العبد عبودية ارتفع مقامه، وعلت درجته عند ربه، ثم إن هناك جسداً يغذيه الطعام والشراب، فما هو غذاء الروح يا ترى؟ أليس فينا أرواح؟ أليس بين جنبتي كل واحد منا روح؟ أنت تعلم أن جسدك يغذيه الطعام والشراب، ويدفئه اللباس والغطاء، والفراش يقيه من الأرض، والنعال تقيه، تقي الرجلين، فما هو غذاء الروح؟ وهي موجودة قطعاً بين جنبيك، وما الذي يقيها، ويحافظ عليها، ويحفظها من الآفات؟
كلما ازداد العبد عبودية ارتفع مقامه، وعلت درجته عند ربه، ثم إن هناك جسداً يغذيه الطعام والشراب، فما هو غذاء الروح يا ترى؟ أليس فينا أرواح؟ أليس بين جنبتي كل واحد منا روح؟ أنت تعلم أن جسدك يغذيه الطعام والشراب، ويدفئه اللباس والغطاء، والفراش يقيه من الأرض، والنعال تقيه، تقي الرجلين، فما هو غذاء الروح؟ وهي موجودة قطعاً بين جنبيك، وما الذي يقيها، ويحافظ عليها، ويحفظها من الآفات؟
ما الذي ينميها؟ ما الذي ينعشها؟ ما الذي يقويها؟ الروح موجودة، ما هو غذاؤها يا عباد الله؟ نعتني بتغذية أجسادنا، وننتقي أحسن المأكولات إذا استطعنا، ونلبس أفخر الملبوسات إذا قدرنا، ونركب أحسن المراكب، ونسكن أحسن البيوت ما استطعنا، فماذا فعلنا في غذاء الروح؟ ماذا فعلنا في غذاء القلب؟ قال ابن تيمية رحمه الله: "القلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحده، ولو حصّل كل ما يريد من نعيم الدنيا لم يطمئن، ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة"، لا ينعش القلب، لا ينعش النفس، لا ينعش الروح إلا الصلة بالله، فأين صلتنا بالله؟ القلب مفطور على التوجه إلى المعبود خوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، ورغبةً، ورهبةً، وخشوعاً، وخشيةً، وإنابةً، واستعانةً، واستغاثةً، واستعاذةً، وذبحاً، ونذراً لله، عبادات هي التي تصلح القلب، هي التي تزيل الاكتئاب، هي التي تمنع الإحباط، هي التي تخلصك من هذا الضيق الذي تشعر به في كثير من الأحيان نتيجة مصائب الدنيا، نتيجة ضيق الدنيا.
ما هو الغذاء الحقيقي للروح؟
أيها الإخوة: إن هذا الغذاء ضروري جداً لنا، إن هذه الوظيفة -القيام بعبادة الله- مسألة في غاية الأهمية، إنها منوعة فهناك عبادات للجسد، عبادات للسان، لليدين، للقدمين، للعينين، للأذنين، سماع القرآن، القراءة في المصحف، ذكر الله، المشي إلى الجماعات، وأن تعمل بيديك الخير، فتصافح بهذه أخاك المسلم، وتسعى بهذه في تغيير المنكر، وترمي بهذه الجمرات، وتمسح رأس اليتيم، موزعة على الجسد العبادات، والمال، وعبادات مالية وجسدية، مشتركة بين الأمرين، كل ذلك ليتمكن العبد من تحقيق العبودية، شيء فيه تحريك الأعضاء، شيء فيه امتناع عن الطعام والشراب والنكاح، شيء فيه إيتاء المال، وهكذا تتنوع العبادات على الأعضاء المختلفة لتتحقق العبودية.
عباد الله: إن هذه العبودية تغذي أرواحنا، وتساعدنا على الوقوف في الأزمات والشدائد، ومقاومة الضغوط النفسية المختلفة، والإيذاء الذي يأتينا من الخارج، انظر إلى قوله : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ سورة الحجر 97. هذا إيذاء من الخارج، إيذاء من الأعداء وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ سورة الحجر 97-99. الآن ذكر له العلة، وصف له مكمن الألم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ سورة الحجر 97.عليك ضغوط من الخارج، عليك إيذاء، يتكلمون عنك، ما هو الحل أمام الضغوط الخارجية من الأعداء؟ ما هو الحل؟ الحل مذكور في الآية: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ سورة الحجر 97.هل الحل تقديم التنازلات؟ هل الحل مدح الكفار والثناء عليهم؟ هل الحل إنكار أشياء من الدين الإسلامي؟ فنقول: دين تسامح، ونحذف أنه دين جهاد، هل الحل أن نترك تربية أبنائنا على أشياء من الدين معلومة بالضرورة من صميم العقيدة؟ هل هذا هو الحل أمام ضغط العدو؟ نحن لسنا مثلهم في القوة العسكرية، هل الحل هو التنكر لأشياء من الدين؟ وأن نقول: لا، ليس عندنا هذا في ديننا، هل الحل أن نزيله؟ هل الحل أن نسعى في إرضائهم بأي سبيل؟ كلا وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَسورة الحجر 97.ما هو الحل؟ أنت إذا هاجمك عدو أقوى منك، ولا طاقة لك ولا قبل بمواجهته، ماذا تفعل؟ تلجأ إلى ركن شديد، تعتصم بحبل متين، تذهب إلى طرف أقوى، أليس كذلك؟ أليس هذا هو العقل والمنطق السديد؟ ولذلك تأمل في قوله تعالى في هذه الآية: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ سورة الحجر 97.ما هو الحل؟ ما هو العلاج؟ لا يقدر على مقاومتهم في مكة، لا يستطيع أن يجرد جيشاً يقاتل به الذين يؤذونه، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى الركن الشديد فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ سورة الحجر 97-99. إذن الحل: هو اللجوء إلى الله، الاعتصام بالله، عبادة الله، الحل هو هذا يا عباد الله.
ثم إن العبادة تحقق حرية الإنسان، والذي لا إله غيره لو لم يعبد الإنسان ربه لصار عبداً للآخرين، عبداً للشيطان، عبداً لأهوائه، عبداً لنفسه الأمارة بالسوء، فإذا عبد ربه تحرر من كل شيء، لا تتم الحرية إلا بالعبودية، لا تتم الحرية والانعتاق من المتسلطين إلا بعبودية رب العالمين، فإذا عبدته حقاً انعتقت من تسلط غيره عليك، قد يتسلط عليك عدو خارجي، مدير في العمل، زوجة، ولد عاق يتسلط عليك، عبوديتك لربك تنقذك، وتحررك، وترفعك، الله أرسلنا لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، هذا هو الهدف من الجهاد كان.
هل العبادة تحفظ العبد من الشرور؟
العبادة يا عباد الله تجعل العبد محفوظاً في ذمة الله من صلى الصبح فهو في ذمة الله[رواه مسلم 657]. العبادة تحفظه من الشرور: احفظ الله يحفظك [رواه الترمذي 2516]. العبادة تصيرك مذكوراً في الملأ الأعلى، وهو شرف أعظم من الدكتوراه، وأعظم من المناصب الإدارية، وأعظم من الأنساب القبلية، والأحساب الدنيوية فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ سورة البقرة 152. الله! الله أكبر فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْسبحان الله، الحمد لله الذي جعل هذا المقام لهذا الذاكر، وسبحان الله لهذه المنزلة: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْأليس شرفاً أن يذكرك الرب ؟ أليس شرفاً أن يحبك؟: وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه[رواه البخاري 6502]. ألا تريد الخلاص من الاكتئاب، والإحباط، والحزن، والهم، والغم؟ كل واحد يريد هذا أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ سورة الرعد 28. فهذا الذكر الذي أذهب عن يونس الغم والهم في بطن الحوت، يسبح ربه.
أيها الإخوة، يا عباد الله: لا بد أن نجتهد في العبادة، لو أخطأ عليك ولدك، أخطأ في حقك خطأً عظيماً، فما الذي يمكن أن يشفع له؟ بر سابق وصلك به، إحسان متصل فيما مضى قام به نحوك، لو أخطأت زوجتك في حقك خطأً عظيماً، ما الذي يمكن أن يشفع لها عندك؟ أن سيرتها معك فيما مضى حسنة، أنها صاحبة طاعة لك، أنها خدومة، تسعى في راحتك، طيلة الأوقات الماضية، فلو أخطأت خطأً عظيماً شفع لها سيرتها الماضية، لو أخطأ الطالب في حق المدرس خطأً عظيماً، فما الذي يشفع له؟ ما الذي يمكن أن يجعل المدرس يتغاضى عنه؟ أن الطالب مجد فيما مضى من السنة الدراسية، قائم بأداء الواجبات، ومذاكرة الدروس، ومتفاعل في الحصص، إذن نحن يا إخوان عندما نخطئ في حق الله خطأً عظيماً، ما الذي يمكن أن يشفع لنا عند ربنا؟ ما الذي يمكن أن ينجينا من هذه الجريمة، وهذا الذنب؟ سيرة قديمة ماضية فيما سبق، -فيما يسبق هذا الذنب- مليئة بالطاعات، حافلة بالعبادات، عامرة بالأذكار والبر والتقوى، أليس كذلك، حياة حافلة بالالتزام بالإسلام، هذه هي العبادة التي تشفع لصاحبها إذا أخطأ خطأً عظيماً، نحن نخطئ أخطاءً عظيمة في حق الرب وليس لنا سيرة سابقة إلا أعمال قليلة، لو عددناها وجدناها قليلة مدخولة، هذا أصابه رياء، وهذا أصابه عجب، وهذا أُدي على غير السنة، وهذا على المستعجل، وهذا على فضول الأوقات، هذا على المستعجل، وهذا على ما زاد من الوقت، فكيف ستشفع لنا سيرتنا الماضية؟
اللهم اجعلنا من الذاكرين كثيراً، الشاكرين لك، التائبين لك، اللهم اجعلنا إليك أواهين منيبين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم ارزقنا عبادتك، وارزقنا لذتها، وأجرنا عليها، وارفع درجاتنا إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أحمده وأستعنيه، وأستغفره وأثني عليه، وأتوكل عليه، وأشكره ولا أكفره، أشهد أن لا إله إلا هو الجليل، العظيم الحليم، الكبير المتعال، العزيز الحكيم، الشكور لعباده، المؤمن الذي أمنوا عقوبته لما عبدوه، وأصلي وأسلم على المختار من خلقه؛ ليكون خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورحمة رب العالمين لهذه الأمة، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى سبيله صدقاً، صلى الله عليه وعلى آله وذريته، وخلفائه، وأشياعه، وأتباعه إلى يوم الدين.
كيف كان حال الصالحين في عبادة ربهم؟
عباد الله: لما أدرك المسلمون، لما أدرك أولياء الله المتقون هذه القضايا، قاموا يعبدون ربهم تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ سورة السجدة 16. كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَسورة الذاريات 17-18. يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا سورة الفرقان 64. قاموا يعبدونه ويستلذون بالعبادة، حتى قال واحد منهم: "ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة".
لما كبر سن أبي موسى الأشعري وهو يعبد ويجتهد قيل له: "ارفق بنفسك، قال: إن الخيل إذا أرسلت – يعني في السباق – فقاربت رأس مجراها - أي خط النهاية – أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك".
قالت بنت أحد العابدين: "لماذا تعذب نفسك؟ قال: راحتها أريد".
قالت امرأة حسان بن أبي سنان: "كم تعذب نفسك؟ قال لها: ويحك إني أوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمناً".
قال مخلد بن حسن: "ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم يذكر الله ويصلي، فأغتم، يعني: لأنه ليس مثله، ثم أتعزى بهذه الآية: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ سورة الجمعة 4".
كان أحمد بن حنبل يختم ولا يعلم أنه ختم الختمة، كان يسر بذلك، ويقوم بالليل وهو غلام، وكان شيخ الإسلام إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى ربما مال من الخوف.
كان لسعيد بن جبير ديك يقوم الليل بصياحه، إذا صاح الديك قام سعيد لقيام الليل، فلم يصح ليلة من الليالي حتى صار الصباح، طلع الفجر فلم يقم سعيد تلك الليلة، فشق ذلك عليه، فقال غاضباً: ما له قطع الله صوته؟ فما سمع للديك صوت بعدها، فقالت أمه: يا بني لا تدع على أحد بعد ذلك.
فرق بين الذي يتحسر على فوات العبادة وهي نافلة، وفرق بين الذي إذا حصل خلل للمنبه الذي ضبطه لصلاة الفجر الواجبة قال: الحمد لله جاءت من المنبه، وإذا أخذ ولده الساعة، إذا أخذ ولده المنبه ومضى فقد، جاءت من المنبه، ويقوم مسروراً أنه قد نام سحبة واحدة حتى طلعت الشمس، ولم يخرق نومه بقيام للصلاة.
فرق بين هذا الذي يفرح لمجرد أنه ليس عليه إثم في ترك الواجب، جاءت من الساعة، وجاءت من الولد، وفرق بين الذي يغتم ويحزن وينقبض لفوات نافلة، ربما يكون هذا شيء من الفارق بين بعض السلف وبعض الخلف.
هل العبادة لها طعم ولذة وكيف هي لذة العبادة؟
عباد الله: كانت العبادة لها طعم، لها لذة، وإلا ما معنى أن يكرر الواحد آية إلى الفجر طيلة الليل؟ كرر النبي عليه الصلاة والسلام آية وبعض آية: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ سورة المائدة 118. كررت عائشة آية ساعات فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ سورة الطور 27. كرر ابن المبارك سورة قصيرة أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ سورة التكاثر 1. طيلة الليل، ما هو الدافع الذي جعلهم يتحملون التكرار، الذي لو فعل الواحد منا بعضه ما أطاق، ما أطاق؛ لأنهم كانوا يحسون بلذة لا نحسها، هذا هو الجواب، كانوا يحسون بلذة لا نحسها.
هناك إذن قضية مهمة وهي لذة العبادة، لماذا قام الصحابي وفي جسده ثلاث سهام وهو ينزف من الدم مستمر في قيام الليل، رشقه الأعداء بثلاث سهام، لماذا بقي يصلي؟ أليس غرس السهم في الجسد، وسيلان الدم شيء مؤلم؟ فكيف إذا كانت ثلاث سهام؟ كيف أطاق الاستمرار؟ لأن هناك لذة طغت على الألم، لذة قراءة القرآن ومناجاة الرب بالليل، هذا ما نفتقده يا إخوان، قضية لذة العبادة، لماذا؟ هذا الفرق، لذة العبادة، لماذا تنتفخ قدما الواحد منهم وهو يقوم لليل، وإذا جاء الصباح استلقى سفيان الثوري على ظهره ومد رجليه على الحائط، علقهما، أسندهما إلى الحائط؛ ليعود الدم من طول قيامه، فما الذي جعله يتحمل طيلة هذا الوقت، كيف؟
عبد الله بن الزبير يسجد سجدة عند المقام فلا يرفع رأسه إلا عند أذان الصبح، لماذا يعني؟ كيف يطيق الشخص أن يسجد ساعتان مثلاً؟ ساعتان من الزمن وهو ساجد، كيف يحدث هذا؟ ينحبس نفس الواحد منا لنصف دقيقة، ربع دقيقة، عشر ثواني، خمس ثواني، نلمس الأرض لمساً ونقوم، لماذا؟ لأجل قضية اللذة المفقودة، هذه هي المسألة، هذا هو السر.
لماذا ظن الصبي أن منصور ابن المعتمر ظنه شجرة على سطح الجيران، لما مات منصور قال الصبي لأمه: أين الجذع الذي كان على سطح جارنا؟ قالت: ليس بجذع إنه منصور، ما الذي جعله يثبت في قيام الليل هذه المدة الطويلة التي ظنه الصبي لأجلها جذعاً، شجرة، لماذا؟
من أين كان يأتي البكاء لحرارة التلاوة؟ قلوب موصولة بالله يا عباد الله، أفلا نحيي هذه الصلة؟ لا بد من حرارة يا إخوان في عبادة الديان، ونحن في شعبان، قريبون من رمضان، نحتاج إلى هذا المعنى جداً، كان ﷺ يصوم أكثر شعبان، حتى ظن بعضهم أنه كان يصومه كله، قال ﷺ عن شعبان: ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم [رواه أحمد 21753]. إذن لأن الله يحب هذا الشهر، وترفع الأعمال فيه، كان الاجتهاد فيه.
لماذا كان الصحابة يتحرون يوم عائشة؟ كل زوجة كان لها ليلة، كانوا يتحرون ليلة عائشة ليهدونه الهدية في ليلة عائشة؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه يحبها أكثر من سائر زوجاته، فإذا علمت أن الله يحب هذه الليلة، أو هذا الثلث الأخير من الليل، أو هذا الشهر له عند الله ميزة، أو هذا العمل له عند الله منزلة، فإن القيام بهذه العبادة بالاجتهاد فيها يدل على محبة للرب؛ لأنك تحبه فتتقرب إليه في الأوقات التي يحبها.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم انصرنا على الأعداء، اللهم اكبت اليهود والصليبيين والمشركين، واجعل عليهم رجزك وعذابك يا رب العالمين، اللهم أنقذ أراضينا وبلداننا منهم يا أرحم الراحمين، واشدد وطأتك عليهم يا جبار، يا قوي، ابطش بهم إنك على كل شيء قدير.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.