الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
آيات الله في السماء
عباد الله: مع دخول فصل الشتاء يبين الله آيات، وكم في الأرض والنفس من آيات، وأنت ترى -يا عبد الله- السحاب والمطر والريح، وسائر ما يصرفه الله تعالى في الكون، والمؤمن يجب ألَّا يكون غافلاً، فإنما هو متفاعل مع ما يرى من آيات ربه، وهناك سورة في القرآن العظيم فيها تذكرة ببعض ما نرى من هذه الآيات والأحداث التي يجريها الله جل وعلا، فتعالوا بنا نتأمل ونتدبر -وتدبر الآيات مع ربطها بالواقع من العبادات-، فذرونا نعبد الله في هذه الساعة بتذكر أشياء مما أشار إليه العلماء في هذه الآيات والأحداث، يقول الله : وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌسورة الذاريات:1-6، فأقسم الله تعالى بمخلوقاته طبقاً بعد طبق، فأقسم أولاً بالرياح الذاريات، ثم بما فوقها -وهي السحاب الحاملات وقراً-، ثم بما فوقها -وهي النجوم الجاريات يسراً-، ثم بما فوقها -وهي الملائكة المقسمات أمراً-، فأقسم الله تعالى بالرياح التي تذرو -أي التي تفرق وتنشر-، أقسم الله تعالى بها، ثم أقسم بالسحاب الذي يحمل الماء، فيكون مثقلاً به، والسحاب هي روايات الأرض التي ترويها، يسوقها الله على متون السحاب الرياح، والجاريات يسراً هي النجوم التي فوق الغمام تسير من مكان إلى مكان، مسخرة ومذللة ومنقادة، وقال بعض العلماء: إنها السفن تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً، أقسم الله بهذه الأمور الأربعة لمكان العبرة والآية فيها، والدلالة الباهرة على ربوبيته ووحدانيته وعظم قدرته، ففي الرياح من العبر هبوبها وسكونها، ولينها وشدتها، واختلاف طبائعها وصفاتها، ومهابها، وكذلك اختلاف مهابها وتصريفها، وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها، فللمطر خمسة رياح، ريح ينشر سحابه، وريح يؤلف بينه، وريح تلقحه، وريح تسوقه حيث يريد الله، وريح تذرو أمامه وتفرقه، وللنبات ريح، وللسفن ريح، وللرحمة ريح، وللعذاب ريح، إلى غير ذلك من أنواع الرياح، كل ذلك يقضي بوجود خالق مصرف لهذه الرياح يصرفها كيف يشاء، فيجعلها رخاءً تارة، وعاصفة تارة، ورحمة تارة، وعذاباً تارة، فتارة يحيي بها الزروع والثمار، وتارة يعصف بها، وتارة ينجي بها السفن، وتارة يهلكها بها، وتارة تكون عقيماً، وتارة لاقحة، وتارة جنوباً، وتارة دبوراً، وتارة صباً، وتارة شمالاً، وتارة حارة، وتارة باردة، وهي مع غاية قوتها ألطف شيء، وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، إذا قُطعت عن الكائنات الحية ماتت، فهي كبحر الماء إذا فارقه حيوان الماء هلك، يحبسها الله إذا شاء، ويرسلها إذا شاء، تحمل الأصوات إلى الآذان، والرائحة إلى الأنف، والسحاب إلى الأرض الجرز، وهي من روح الله تأتي بالرحمة، ومن عقوبتها أنه تأتي بالعذاب، وقد أرسل الله تعالى على عاد ريحاً عقيماً، ما أرسل عليهم إلا قدر حلقة الخاتم، ومع ذلك كانت عاتية، قال البخاري في صحيحه: عتت على الخزنة، فلم يستطيعوا أن يريدوها، لما أمرها الله بالهبوب، هبت فدمرت وعصفت والمقصود أن الرياح من أعظم آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته، ثم أقسم الله بالسحاب، وهو من أعظم آيات الله في الجو في غاية الخفة، ثم يحمل الماء والبرد، فيصير أثقل شيء، فيأمر الرياح، فتحمله على متونها، وتسير به حيث أُمرت، فهو مسخر بين السماء والأرض، حامل لأرزاق العباد والحيوان، فإذا أفرغه حيث أمر به اضمحل وتلاشى بقدرة الله، فإنه لو بقي لأضر النبات والحيوان، فأنشأه سبحانه في زمن يصلح الإنشاء فيه، وحمَّله من الماء ما حمله، وساقه إلى بلد شديد الحاجة إليه، فسل السحاب من أنشأه بعد عدمه، وحمَّله الماء والثلج والبرد، ومن حمله على ظهور الريح، ومن أمسكه بين السماء والأرض بغير عماد، ومن أغاث بقطره العباد، وأحيا به البلاد، وصرفه بين خلقه كما أراد، وأخرج ذلك القطر بقدر معلوم، وأنزله منه، وأفناه بعد الاستغناء عنه، ولو شاء لأدامه عليهم فلم يستطيعوا إلى دفعه سبيلاً، ولو شاء لأمسكه عنهم فلا يجدون إليه وصولاً.
سل الرياح وهذه السحاب: من أنشأها بقدرته؟ وصرفها بحكمته؟ وسخرها بمشيئته؟ وأرسلها بشرى بين يدي رحمته؟ جعلها سبباً لتمام نعمته، وسلطاناً على من يشاء عقوبته.
من جعلها رخاءً وذارية؟ ولاقحة ومثيرة؟ ومؤلفة ومغذية؟ من الذي جعلها قاصفاً وعاصفاً؟ ومهلكة وعاتية؟ وسل الجاريات يسراً من السفن: من أمسكها على وجه الماء، وسخر لها البحر؟ ومن أرسل لها الرياح التي تسوقها على الماء سوق السحاب على متون الرياح؟ ومن حفظها في مجراها ومرساها من طغيان الماء وطغيان الريح؟ فمن جعل الريح لها بقدر لو زادت عليه لأغرقها، ولو نقص عنها لعاقها؟ ومن الذي أجرى لها ريحاً واحدة تسير بها، ولم يسلط على تلك الريح ما يصادمها، ويقاومها، فتتموج في البحر يميناً وشمالاً، تتلاعب بها الرياح؟ ومن الذي علم الخلق الضعيف صنعة هذا البيت العظيم الذي يمشي على الماء، فيقطع المسافة البعيدة، ويعود إلى بلده يشق الماء ويمخره مقبلاً ومدبراً بريح واحدة تجري في موج كالجبال؟ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍسورة الشورى:32-34.
وسل الجاريات يسراً من الكواكب والشمس والقمر؟ من الذي خلقها وأحسن خلقها، ورفع مكانها، وزين بها قبة العالم، وفاوت بين أشكالها ومقاديرها، وألوانها وحركاتها وأماكنها من السماء، فمنها الكبير، ومنها الصغير، والمتوسط والأبيض، والأحمر والدري، والذي يكون في طرف السماء، والذي يكون متوسطاً فيها، ومنها ما يقطع الفلك في شهر، ومنها ما يقطعه في عام، ومنها ما يقطعه في ثلاثين عامه، ومنها ما يقطعه في أضعاف مضاعفة من السنوات الضوئية، ومنها ما لا يزال ظاهراً لا يغيب بحال، ومنها ما يختفي دائماً، ومنها ما يظهر ويختفي؟
وانظر في حركاتها من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق، فهذه التي تطلع بعد هذه في ترتيب عجيب كما قدر الرب ، فإذا تأملت فيها عرفت أن لهذا الخلق خالقاً، وأن له مصرفاً ومدبراً.
ثم قال : فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًاسورة الذاريات:4أقسم بالملائكة فهو الذي وكلهم في تدبير أمور العالم، وكل بكل عمل من الأعمال طائفة منهم، فوكل بالشمس والقمر، والنجوم والأفلاك طائفة من الملائكة، ووكل بالقطر والسحاب طائفة، ووكل بالنبات طائفة، ووكل بالأجنة والحيوان طائفة، ووكل بالموت طائفة، وبحفظ بني آدم طائفة، وبإحصاء أعمالهم وكتابتها طائفة، وبالوحي طائفة، وبالجبال طائفة، وبكل شأن من شؤون العالم طائفة، هذا مع ما في خلقهم من البهاء والحسن، وما فيهم من القوة والشدة، وكمال الانقياد لأمر الله، والقيام في تنفيذ أوامره في سائر أقطار العالم.
آيات الله في الأرض
أقسم الله على الحقيقة: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌسورة الذاريات:5، وقال في هذه السورة أيضاً: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَسورة الذاريات:20-21، في الأرض آيات في خلقها وحدوثها بعد عدمها، وفي بروزها عن الماء، وفي سعتها وتسطيحها، وجعلها فراشاً لتكون مقراً للحيوان ومساكنه، وجعلها قراراً، وجعلها مهاداً، وجعلها ذلولاً توطأ بالأقدام، وتضرب بالمعاول والفؤوس، وتحمل على ظهرها الأبنية الثقال، تحملها على ظهرها فهو ذلول مسخرة، وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها، وللأموات تضمهم في بطنها، وطحاها، فمدها وبسطها، ووسعها ودحاها، وهيأها لما يُراد منها، بأن أخرج منها الماء والمرعى، وشق فيها الأنهار، وكل ذلك من الآيات الدالة على حكمته سبحانه، فإنه جعلها ذلولاً، ليست صلبة غاية الصلابة والحديد، فيمتنع حفرها وشقها، والبناء فيها، والغرس والزرع.
وكذلك لم يجعلها غاية في اللين والرخاوة لا تمسك بناءً، ولا يستقر عليها جسم ثقيل، ثم تأمل -يا عبد الله- في هذه الأجناس المختلفة، والصفات والمنافع التي تكون في الأرض، فإنه جعلها قطعاً متجاورات متلاصقة، فهذه سهلة، وهذه حزنة تجاورها وتلاصقها، وهذه طيبة تنبت، وتلاصقها أرض لا تنبت، وهذه تربة، وتلاصقها رمال، وهذه صلبة، وتلاصقها أخرى رخوة، وهذه سوداء يليها أرض بيضاء، وهذه حصىً كلها، ويجاورها أرض لا يوجد فيها حجر، وهذه تصلح لنبات كذا، وأخرى لا تصلح له، إنما تصلح لغيره، وأخرى سبخة مالحة، وهذه بضدها، وهذه فيها جبال، وهذه منبسطة.
فلو سألتها: مَن نوعها هذا التنوع؟ ومن فرق أجزاءها هذا التفريق؟ ومن أمسكها عن الزوال؟ ومن بارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وأنشأ فيها حيوانها ونباتها؟ ومن وضع فيها معادنها وجواهرها؟ ومن هيأها مسكناً ومستقراً للأنام؟ ومن يبدأ الخلق منها، ثم يعيده إليها، ثم يخرجه منها؟ ومن جعلها ذلولاً؛ فوطأ مناكبها، وذلل مسالكها، ووسع مخارجها، وأخرج ثمارها، وصدعها بالنبات؟ ومن الذي أنشأ منها هذا النوع الإنساني الذي هو أبدع المخلوقات، وأحسن المصنوعات؟ بل أنشأ منها آدم ونوحاً، وإبراهيم وموسى، وعيسى ومحمداً صلى الله عليهم أجمعين، وأنشأ منها أولياءه وأحباءه، وعباده الصالحين، ومن جعلها حافظة لما أستودع فيها من المياه والأرزاق؟ ومن الذي جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القدر من المسافة، فلو زادت لضعفت حرارة الشمس؛ فتجمد الخلق، وضعف نور القمر فلم يستفد منه، ولو اقتربت أكثر لاحترقت أبدان الحيوان والنبات؟.
وقل لي بربك: من الذي يحييها بعد موتها، فينزل عليها الماء من السماء، ثم يرسل عليها الريح، ويطلع عليها الشمس، فتأخذ في الحبل فإذا كان وقت الولادة مخضت للوضع، واهتزت، وأنبتت من كل زوج بهيج؟ فسبحان من جعل السماء كالأب، والأرض كالأم والقطر -المطر- كالماء الذي ينعقد به الولد!.
فإذا تأملت هذه الحبة التي وصلت إليها النداوة والحرارة، فاتسعت وربت، وانتفخت وانفلقت، فعظم الولد حتى لم يبق لأبيه نسبة إليه، فإذا تأملت نسبة الشجرة إلى البذرة التي هي نشأت منها لا نسبة، ثم وضع من الأولاد بعد أبيه آلافاً مؤلفة، هذا الخلق وهو الشجر وضع بعد أبيه آلافاً مؤلفة من البذور، كل ذلك صنع الرب الحكيم في حبة واحدة في غاية الصغر، وذلك من البركة التي وضعها الله سبحانه في هذه الأم، فيا لها من آية تكفي وحدها في الدلالة على وجود الخالق، وصفات كماله وأفعاله، وعلى صدق رسله فيما أخبروا به عنه بإخراج من في القبور ليوم البعث والنشور.
فانظروا -يا عباد الله- في هذا النابت، ماذا حصل في نباته؟ وكيف تنوع؟ وما أرسل الله عليه من أنواع الحرارة، فحرارة حصلت منها قوة للانفتاح، وأخرى حصلت بها قوة للإخراج، حرارة الربيع للإخراج، وحرارة الصيف للإنضاج، والأم واحدة، والأب واحد، واللقاح واحد، والأولاد في غاية التنوع والتباين: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ، ويخرج بهذا التنوع: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَسورة الرعد:4، فانظروا رحمكم الله تعالى في هذه الآيات هذا مما في الأرض، ونحن نرى بعضه في اختلاف الفصول، وما نرى من تجمع السحاب، وهبوب الرياح، ونزول المطر، فنسأل الله أن لا يجعلنا من الغافلين، وأن ويوقظ قلوبنا لتدبر الذكر الحكيم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من القائمين بحقك، والعاملين بدينك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، الحمد لله وسبحان الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم .
قيام الليل دأب الصالحين
عباد الله: لقد ذكر الله في هذه السورة طائفة من عباده وجنساً، إنهم عباد الله المؤمنون، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَسورة الذاريات:17-18، هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم آخذين ما آتاهم ربهم.
ونريد أن نقف وقفة مع هؤلاء لمناسبة تتعلق بفصل الشتاء أيضاً، وهي قوله: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَسورة الذاريات:17، نظراً لأن ليل الشتاء طويل، ومن أجل العبادات فيه قيام الليل.
إن هؤلاء العباد، وهؤلاء الطائفة الذين أخذوا ما آتاهم ربهم: آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْسورة الذاريات:16يدل على قبولهم له، ورضاهم به، ووصولهم إليه بلا موانع، ولا حواجز، هؤلاء كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَسورة الذاريات:17، لا يقومون كل الليل؛ لأن للبدن حقاً، ولو كان المراد قيام جميع الليل لكان أولى بذلك النبي ﷺ، ولكنه ما قام ليلة حتى الصباح، وعاتب من نذر وعاهد نفسه أن لا ينام أبداً، ويجعل الليل كله قياماً.
أثنى الله عليهم بأنهم كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أثنى الله عليهم بأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، فإن قال قائل: إنه قد جاء عن النبي ﷺ بأنه كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، ثم ينام سدسه، ووصف ذلك بأنه أحب القيام إلى الله، فهل يكون وقت الهجوع أكثر، أم وقت القيام؟ فالجواب: إن من قام هذا القيام الموصوف في الحديث ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، الذي يقوم ثلثه فإن زمن هجوعه أقل من زمن يقظته قطعاً، فإنه مستيقظ من المغرب إلى العشاء، ومن الفجر إلى طلوع الشمس، فيبقى ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، فيقومون نصف ذلك الوقت، فيكون زمن الهجوع أقل من زمن الاستيقاظ، وهكذا يكون حال عباد الله في ذكرٍ متواصل لربهم .
عباد الله: إن الشتاء ربيع المؤمن طال ليله فقام فيه، وقصر نهاره فصام فيه، وأما هؤلاء العباد الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، فإنهم كانوا بالإضافة إلى القيام يستغفرون بالأسحار، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل -كما قال النبي ﷺ، وقال: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم[رواه الترمذي (3549)].
والوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين، ومن أصر على تركه ترد شهادته -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله-، وقال ﷺ: الوتر حق على كل مسلم[رواه أبو داود (1422)]، وقال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً[رواه البخاري (998)]، فقال بعضهم: إنه يجب، وقال بعضهم: إنه مستحب وسنة -وهو قول جماهير المسلمين-.
وقال بعض أهل العلم: يجب الوتر على من يتهجد بالليل، إذا تهجد وجب عليه الوتر، وأن يجعل آخر صلاته بالليل وتراً، قال ﷺ: الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن ويوتر بواحدة فليفعل رواه أبو داود، وهو حديث صحيح [رواه أبو داود (1422)].
أول وقته بعد صلاة العشاء، ولو جمعها مع المغرب، وآخر وقته طلوع الفجر لحديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول اللهﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة" وهذه أفضل الأعداد على الإطلاق لفعل نبينا ﷺ"إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين" سنة الفجر، "فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة" رواه مسلم [رواه مسلم (736)].
وكذلك فإنه ﷺ قام الليل بكيفيات مختلفة، فيجوز للمسلم أن يقوم بخمس ركعات يجعل التشهد في آخرها، ويسلم، وكذلك أن يقوم بسبع وبتسع، ولعل الفرصة تتاح لتفصيل ذلك إن شاء الله، خصوصاً في فصل الشتاء الذي يطول فيه الليل، فيكون من المناسب جداً حتى للكسالى حتى للمقصرين أن يقوموا فيه.
ثم انظروا إلى صفات عباد الله كيف كانوا بعد قيام الله يستغفرون بالأسحار، مع صلاتهم بالليل يستغفرون عند السحر، فختموا صلاتهم بالاستغفار والتوبة، فباتوا لربهم سجداً قياماً، ثم تابوا إليه، واستغفروه عقيب ذلك، وكان النبي ﷺ إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثاً، وأمره الله أن يختم عمره بالاستغفار، وأمر عباده أن يختموا عرفات عند إفاضتهم منها بالاستغفار، وشرع ﷺ للمتوضئ أن يختم وضوءه بالتوبة، فأحسن ما ختمت به الأعمال -حتى الأعمال- التوبة والاستغفار.
الغفلة عن الرحيل
عباد الله: إن الله قد أقسم في هذه السورة على الحقيقة العظيمة: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌسورة الذاريات:5، وذكَّرنا بالميعاد، ذكرنا بموعدنا مع الله، ذكرنا بما ستؤول إليه الأمور، وأقسم عليه، وهو أصدق القائلين ، وأبر المقسمين، وأكد ذلك بسائر المؤكدات -الموت-، اللقاء مع الله، الرحيل عن هذه الدار الفانية، الانفصال عن الدنيا، ومع هذا القسم، وهذا التأكيد، فأكثر النفوس في غفلة عنه؛ لا تستعد له، ولا تأخذ له أُهبة، والمستعد له الآخذ أُهبة لا يعطيه حقه إلا القليل بعد القليل، فأكثر الخلق.
تأملوا -يا عباد الله- في جميع سكان العالم، وما تنقله إليكم الصحف والأخبار من أحوال سكان هذا الكوكب، أكثر الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قلة مُقامهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم عنهم، ولا إلى أين يرحلون، وأين يستقرون، قد ملكهم الحس -المادة، الماديات-، وقل نصيبهم من العقل، وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني التي هي كالسراب، وخدعهم طول الأمل، وكأن المقيم لا يرحل، وكأن أحدهم لا يبعث، ولا يسأل، وكأن مع كل مقيم توقيع من الله لفلان ابن فلان بالأمان من عذاب النيران، والفوز بجزيل الثواب في جنات النعيم، كأن كل واحد عنده ضمان بالجنة، هكذا يتصرف كثير من المسلمين.
فأما اللذات الحسية والشهوات فإنهم يحصلونها كيف ما اتفق، ومن أي وجه لاحت أخذوها، غافلين عن المطالبة، آمنين من العاقبة، يسعون لما يدركون، ويتركون ما هم به مطالبون، ويعمرون ما عنه منتقلون، ويخربون ما هم إليه صائرون، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(سورة الروم:7)، ألهتهم شهوات أنفسهم فلا ينظرون في مصالحها، ولا يأخذون في جمع الزاد في السفر: نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَسورة الحشر:19، فإذا نزل بأحدهم الموت قلق لخراب ذاته، وذهاب لذاته، لو قيل له: موتك قريب -نزلت علامات الموت بأحد هؤلاء الغافلين- لا يقلق للمستقبل الأخروي، وعلى ذنوبه، وإنا يقلق لما يصاب به من خراب البدن، وانقطاع اللذات، حتى عند نزول الموت، فهل هناك غفلة أعظم من هذه؟!
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أحياء القلوب لا من أمواتها، اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم اعمرها بالخشوع والخضوع لك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من القانتين، والذاكرين الله كثيراً، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم رد ضالنا إلى الحق يا رب العالمين.
اللهم ثبت أمننا وإيماننا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين في سبيلك، وأن تقمع أعداء الدين، وأن ترد إلينا أولى القبلتين، ومسرى رسولك ﷺ يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه هذا الدين، وتقر فيه أعيننا بالغلبة للمؤمنين، يا رب العالمين.