الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
مهر الزواج وأنواع الضيافات
عباد الله: في هذا الموسم من السنة تكثر ولائم الأعراس، ولنا في هذا المقام وقفة مع ولائم النبي ﷺ، وبعض أحكام وآداب الوليمة، نتعرف فيها على شيء مما ورد في هذه الشريعة.
لما جاء المهاجرون إلى المدينة، وأراد سعد بن الربيع أن يتنازل عن إحدى زوجتيه لعبد الرحمن بن عوف يطلقها له فتعتد ثم يتزوجها، دعا له عبد الرحمن بالبركة في ماله وأهله، وطلب منهم أن يدلوه على سوق المدينة، فذهب، وباع واشترى، وغدا وغدا حتى جاء إلى النبي ﷺ وعليه أثر صفرة، فقال الرسول الله ﷺ: تزوجت؟ قال: نعم، قال: ومنقال: امرأة من الأنصار، قال: كم سقت؟ أي: كم أعطيتها من المهر قال: زنة نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال له النبي ﷺ: أولم ولو بشاة[رواه البخاري (2048)]، فعرف النبي ﷺ من حال ابن عوف لما رأى الهيئة عليه أنه قد تزوج وسأله، وهذه الصفرة ليست بمتعمدة -للنهي عن التزعفر-، وإنما هي من أثر مس الزوجة، والنساء يباح لهن التزعفر بخلاف الرجال.
وسؤاله ﷺ عن المهر دليل على أهميته، وأنه من حق الزوجة يسلم إليها كان في تلك القصة نواة من ذهب، ربع دينار، أو خمسة دراهم كما قدره بعض أهل العلم، وجاء في الروايات.
وقوله ﷺ: أولم ولو بشاة يدل على أهمية الوليمة لما أمر بها، والوليمة: هي الطعام المتخذ للعرس، مشتقة من الولم، وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان، والضيافات ثمانية أنواع: الوليمة للعرس، الخُرس، -ويقال: الخُرص- للولادة، والإعذار للختان، والوكيرة للبناء، والنقيعة لقدوم المسافر، مأخوذة من النقع وهو الغبار، قيل: يصنعها المسافر للناس حمداً لله على سلامته، وقيل: يصنعها له غيره، والعقيقة يوم سابع الولادة، والوضيمة، وهي الطعام عند المصيبة، وهو حرام، ونوع من النياحة لا يجوز لغير أهل البيت وأضيافهم النازلين عندهم الأكل منها، أما المعزون فحرام عليهم المشاركة في طعام الوضيمة، والمأدُبة وهي الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب، هذه الولائم أو هذه الضيافات عند العرب بأسمائها.
أحكام الوليمة
ووليمة العرس قال بعض العلماء بوجوبها لقوله: أولم ، وقال كثيرون باستحبابها.
وأين تكون؟ هل هي عند الدخول؟ أو عند العقد؟ أم بعد الدخول؟ أم عند العقد وعند الدخول؟ أقوال للعلماء، ويتبين من السنة: أنه لا بأس بعملها قبل الدخول أو بعد الدخول بحسب مصلحة الإنسان وما يراه.
أولم ولو بشاة يستحب للموسر أن لا ينقص عن شاة كما جاء في شرح أهل العلم، وقد أشبع النبي ﷺ في وليمة زينب الناس خبزاً ولحماً.
والوليمة تكون على حسب حال الزوج يساراً، أو إعساراً، وإنما هي أمر مؤكد، والمشاركة فيها مؤكدة؛ لأجل أن يكون المسلمون مع أخيهم المسلم يشاركونه مشاعره، ولا شك أن الزواج من أعظم أفراح المرء في هذه الدنيا، فمشاركته مؤكدة.
وكذلك فإنه لا حد لأكثرها ما لم يصل إلى درجة الإسراف، وفي الحديث سؤال الإمام لأصحابه عن أحوالهم، وكذلك فإنه ﷺ يرشد دائماً إلى الأنفع، ويحث أصحابه على ما فيه مصلحة دينهم ودنياهم.
ما يقال للمتزوج
وماذا يقال للمتزوج؟ وبأي شيء يدعى له؟ في حديث عبد الرحمن بن عوف قال: "إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، فقال النبي ﷺ: بارك الله لك، أولم ولو بشاة[رواه البخاري (5155)]رواه هو والذي قبله البخاري رحمه الله.
فهذا يدل على استحباب الدعاء بالبركة للإنسان المتزوج، وكانت العرب تسميها ترفئة، ويقولون: بالرفاء والبنين، وقد جاء في حديث أبي هريرة عند أصحاب السنن، وصححه الترمذي: "كان رسول الله ﷺ إذا رفَّأ إنساناً قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير" [رواه الترمذي (1091)]، وكان أهل الجاهلية يقولون: بالرفاء والبنين، فلما جاء الإسلام علمهم النبي ﷺ: بارك الله فيكم، وبارك لكم[رواه النسائي (3371)]، وبارك عليكم[رواه أحمد (1741)]، وكانت الأنصار تقول: على بركة، وعلى خير طائر، البركة معروفة، وعلى خير طائر تفاؤلاً بنجاح زفافه، والتوفيق له فيما سيقدم عليه من الاجتماع بزوجته، وأما قولهم: بالرفاء والبنين، فإن الرفاء هو التآلف والتوفيق في الاجتماع، وهذا أمر طيب، ولكن لما لم يكن في هذه العبارة دعاء لله، ولا ذكر للبركة، ولكون وجود تخصيص البنين دون البنات -على عادة أهل الجاهلية في كره البنات- نهينا عن هذه العبارة، واستبدلت، وصار بدلاً منها: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير[رواه الترمذي (1091)]، وإن قال أي دعاء آخر طيب، فلا بأس بذلك.
فوائد من قصة زواج النبي ﷺ بزينب رضي الله عنها
ولما تزوج النبي ﷺ زينب كان زواجاً عظيماً مباركاً، ابتدأ بقصة عجيبة رواها الإمام مسلم رحمه الله بعد انفصال زينب من زيد بن حارثة -وكان غلاماً للنبي ﷺ، "فلما انقضت عدة زينت" قبل نزول آية الحجاب، "قال رسول الله ﷺ لزيد: فاذكرها عليَّ" أي: يخطبها له، وذلك لأنه كان يعلم أنه لا يجد في نفسه حرجاً من ذلك، "فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجيناً، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها" وقد كان زوجها قبل ذلك، "عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله" أي لأن رسول الله ﷺ"ذكرها، فستصبح إذن أماً للمؤمنين، إنها مكانة عالية، ومرتبة سامية، قال: "فوليتها ظهري" مع أن الحجاب لم يكن فرض في ذلك الوقت، "فلويتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله ﷺ يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي" أي صلاة الاستخارة، "فقامت إلى مسجدها" مكان صلاته، "ونزل القرآن" [رواه مسلم (1428)] فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَاسورة الأحزاب:37، فتم الزواج بغير ألفاظ ولا شهود؛ لأن العقد نزل من عند رب العالمين، الزواج معقود في السماء: زَوَّجْنَاكَهَافعرف النبي ﷺ أنها زوجته بنزول الآية، أبرم العقد في السماء، وانتهت المسألة، ونزل التزويج، "زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" [رواه البخاري (7420)]، "وجاء رسول الله ﷺ، فدخل عليها بغير إذن"، لقد صارت زوجته، فقال أنس : "ولقد رأيتنا أن رسول الله ﷺ أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار" [رواه مسلم (1428)].
لقد كانت تلك قصة ذلك العقد المبارك الذي حصل بزواج النبي ﷺبزينب: "لما تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام"، يريد من هؤلاء أن ينصرفوا، "فلم يقوموا"؛ لأنهم لم يتفطنوا لمراده ، "فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر" لم يتفطن هؤلاء أيضاً، "فجاء النبي ﷺ، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا" أي: لما تفطنوا، "فانطلقت، فجئت، فأخبرت النبي ﷺ أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّسورة الأحزاب:53" الآية، رواه البخاري رحمه الله[رواه البخاري (4791)].
ونزل الحجاب بعد زواجه ﷺ بزينب رضي الله تعالى عنها، وصنع الطعام للناس على ما كان عنده، وأمر أنساً أن يدعو الناس، قال: "فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون"؛ لأن البيت لم يكن متسعاً، كأن الناس يأكلون أفواجاً، فلا حرج في ذلك إذن، حتى قال أنس : "فدعوت حتى ما أجد أحداً"[رواه البخاري (4793)]، فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً.
وصنعت له أم سليم حيساً، فذهبت به إلى النبي ﷺ، فقال: اذهب، فادع فلاناً وفلاناً، وذهبت فدعوتهم "زهاء ثلاثمائة رجل" [رواه مسلم (1428)]، إذن عدد الذين حضروا زفافه ﷺ ثلاثمائة يأكلون على دفعات، أولم عليهم باللحم والخبز.
وكذلك اشتركت أم سليم بالحيس، فقال أنس: "يا رسول الله، والله ما أجد أحداً أدعوه" لقد دعوت كل من وجدت، "قال: ارفعوا طعامكم" [رواه البخاري (4793)]، وجلس الناس يتحدثون، وحصل ما حصل من عدم قيام بعضهم، واستحياء النبي ﷺ من أن يأمرهم بالخروج، فتهيأ للقيام، ففطن البعض، ولم يفطن البعض، فخرج النبي ﷺ وهم متشاغلون بالكلام حتى تفطنوا وخرجوا، وأُمرنا عند ذلك بالانتشار بعد الوليمة لعدم إشغال صاحب البيت: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواسورة الأحزاب:53؛ لعدم الإثقال على صاحب البيت، وكذلك هو منشغل بأهله في تلك المناسبة.
لقد أولم النبي ﷺ بما وجد، "ما أولم على أحد من نسائه ما أولم على زينب" [رواه البخاري (5168)]، كما جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ومشاركة الناس إذن لصاحب الوليمة أمر مشروع، وقد جاء في القصة عن أنس قال: "تزوج رسول الله ﷺ، فدخل بأهله، فصنعت أمي أم سليم حيساً، فجعلته في تور، فقالت: يا أنس، "ولدها "اذهب بهذا إلى رسول الله ﷺ، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فذهبت بها إلى رسول الله ﷺ فقلت: إن أمي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب، فادع فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ومن لقيت، وسمى رجالاً، فدعوت من سمى، ومن لقيت، كانوا ثلاثمائة"، إذن نص على أناس، ثم وكل الذي أرسله بأن يدعو من لقي في طريقه، فلا يشترط أن تأتي الدعوات بالاسم، وإنما لا بأس أن يقول لفلان: ادع من لقيت، أو ادع من تحب، أو هات معك من تريد، لا بأس بذلك، وتُعتبر دعوة للزواج حينئذ، قلت لأنس: "عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة"، "وقال لي رسول الله ﷺ: يا أنس، هات التور" هذا الإناء الذي فيه الحيس، "فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله ﷺ: ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي: يا أنس، ارفع، قال: فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟" [رواه مسلم (1428)]بركة النبي ﷺ آتاها ربه إياه، فكفى الناس، ثلاثمائة كفاهم بما أحضره لهم، وما أحضر إليه.
فيستحب لأصدقاء المتزوج أن يبعثوا إليه بطعام يساعدونه به على وليمته، فيشاركونه باللحم، أو برءوس الغنم، أو بمال، ونحو ذلك، وبهذا يتيسر الزواج، وتقل الكلفة، وبهذا يتحصن الشباب، وبهذا لا تصبح نفقات الوليمة كارثة على الشخص المتزوج، فهل هناك أعظم من النبي ﷺ، ومع ذلك حصلت المشاركة، بل أن الناظر في أحاديث زواجه ﷺ يعلم أن الأمر على السعة، وأنه لم يُطعم الناس في ولائمه لحماً دائماً، وإنما كان هناك ما دون اللحم كما جاء في زواجه ﷺ بصفية بنت حيي رضي الله عنها، قال أنس : "فدعوت المسلمين إلى وليمته، فما كان فيها من خبز، ولا لحم، أمر بالأنطاع" بسطت من الجلد، "وألقيَ عليها من التمر والأقط والسمن، فكانت وليمته" [رواه النسائي (3382)]، هذه كانت وليمته ﷺ. رواه النسائي.
ولما ألقيت قال ﷺ لما بنا بها، فأصبح: من كان عنده شيء فليجئ به، وبسط نطعاً، فجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، قال وأحسبه ذكر السويق، فحاسوا حيساً" [رواه البخاري (371)]، وهكذا صنع الطعام من هذه المواد: تمر وسمن، وهكذا كانت وليمته ﷺ، لم يكن فيها لحم في زواجه بصفية رضي الله تعالى عنها، جهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فدخل بها، وفي الصباح عمل الوليمة ﷺ، وكانت مشتركة من أصحابه، وبورك فيها، فكفى الناس أجمعين.
إجابة دعوة الوليمة
وفي حكم إجابتها قال ﷺ: إذا دُعيَ أحدكم إلى الوليمة فليأتها[رواه البخاري (5173)]، وقال أبو هريرة : "شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله ﷺ" رواه البخاري[رواه البخاري (5177)].
وهذا فيه نقد لاذع للذين يقتصرون في دعوتهم في الولائم على الأغنياء، ووجهاء الناس الذي هم في شبع وليسوا بحاجة للطعام، ويمنعون الفقراء الذين هم في حاجة إلى الطعام، فوصف وليمة هذا عمل صاحبها بأنها شر الطعام.
ومع ذلك أمر بإجابة الدعوة، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله، هذا إذا لم يكن فيها منكر، وقد فهم بعض العلماء أن الذي يجري على عادة أهل الجاهلية الذين يدعون الأغنياء، ويتركون الفقراء أن الإجابة ليست واجبة حينئذ؛ لأن المدعو شر الطعام، وأما إذا دعا الجميع، ودعا من عرف، ولم يميز بين طائفة وطائفة، فيمنع الفقراء، فإنه يجب إجابة دعوته ما لم تشتمل على منكر، وإجابة الدعوة واجبة كما هو النص في هذا الحديث.
حتى أن بعض الصحابة كان يأتي صائماً، تنفيذاً لدعوة النبي ﷺ، ويدعو لهم إذا كان صائماً، وذلك أن بعض ولائمهم كانت في النهار، يعملون وليمة الزفاف في النهار، وبعض الصحابة كانوا صيَّاماً، فيأتون فيدعون امتثالاً لقوله ﷺ: فإن كان صائماً فليصل [رواه مسلم (1431)] وإن حصل أنه شعر بمشقة على صاحب الطعام إذا لم يأكل فالمستحب له أن يفطر كما فعل النبي ﷺ، وقال: دعاكم أخوكم، وتكلف لكم، فقال للصائم: أفطر، ثم صم مكانه إن شئت[رواه الطبراني في الأوسط (3240)]
ائتوا الدعوة إذا دُعيتم[رواه مسلم (2577)]، هكذا جاء في الحديث، فإذن تؤتى الدعوة ولابد، وبالذات وليمة العرس، وهي مؤكدة في الإتيان أكثر من أي وليمة أخرى، فإذا كان الداعي مكلفاً حراً رشيداً لم يخص الأغنياء دون الفقراء، ولم يظهر منه في دعوته رغبة أو رهبة في المدعو كأن يكون دعاه كارهاً، أو يكون دعاه لطمع، وأن يكون الداعي مسلماً على الأصح، ولا يكون فيها منكر من المنكرات، فعند ذلك تجب الإجابة، وإذا دعي من أكثر من شخص قدم الأسبق، وإن جاءا معاً -إن جاءت بطاقات الدعوة معاً- قدم الأقرب رحماً، وكذلك الأقرب جواراً بعده، فإن استويا أقرع كما قال بعض أهل العلم.
وكذلك فإن بطاقات الأعراس المرسلة التي فيها الدعوة إذا كان مقصود مرسلها الاقتصار على من أُرسلت إليه دون غيره لم يجز لمتطفل أن يأتي، فإن جاء إنسان مع إنسان مدعو استأذن له، فقال: معي فلان أيدخل؟ وإذا دُعي إنسان وهو مشغول، ولا يريد أن يقع في إثم بعدم الحضور فليعتذر، وإذا كانت الوليمة جفلة -أي الدعوة عامة كما الولائم المقامة في الأماكن العامة المفتوحة التي يظهر من طريقة إقامتها أن الباب مفتوح للجميع- فلا يجب الاستئذان حينئذٍ، والانتباه من عدم الإسراف في الولائم أمر مهم فإن الناس يسرفون حتى تُرمى نعمة الله في براميل القمامة، ويجب الاعتناء بدفعها إلى الجمعيات الخيرية، أو المحسنين الذين يتكفلون بإيصال الطعام الزائد إلى الفقراء، وهذه من الترتيبات التي ينبغي أن تحدث قبل الوليمة؛ لأن الإزراء بالنعمة حرام، ورمي النعمة حرام، ونحن مسؤولون عن هذا.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا إنه خير مسؤول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
من منكرات الأعراس
عباد الله: لا يخفى عليكم تلك المنكرات المنتشرة في ولائم الزفاف، من إحضار الفرق الموسيقية والمغنين، وأنتم تعلمون حكم المعازف في هذه الشريعة التي أخبر النبي ﷺ فيها أنه سيأتي أقوام يستحلون المعازف -كل آلة يُعزف بها من الآلات الوترية أو غيرها، وهذه الآلات الكهربائية التي ظهرت في هذا الزمان، العبرة بالصوت الناتج، وليس بطريقة إيقاع هذه الآلة-، وبعض الناس يستخدمون الطبل وهو حرام؛ لأنه قد جاء في الحديث الصحيح أنه ﷺ نهى عن الكوبة، والكوبة هي الطبل، وأخبر ﷺ عن صوتين ملعونين، وقال: مزمار عند نعمة[رواه أبو داود في مسنده (1788)]، فاستعمال الآلات إذن حرام على الرجال والنساء، لا يستثنى من ذلك إلا الدف للنساء، دف بغير صلاصل ولا حلق معدنية، دف مجرد يضرب به النساء، وإذا كن بالغات، فيشترط أن لا يصل الصوت للرجال، وإذا كن بنات صغيرات فلو وصل الصوت للرجال فلا حرج.
ثم هذه الملابس المتعرية التي يأتي بها كثير من نساء المسلمين إلى الأعراس، المشقوقة والشفافة، والضيقة الملتصقة على الجسم لقد صار أمراً مزرياً -أيها الإخوة- أن نساء المسلمين يأتين إلى الزفاف بملابس لا يجوز لهن الظهور بها حتى بين النساء، إن هذه الحرمة المؤكدة التي خالفتها الكثيرات في عصر الفتنة هذا دليل ولا شك على قلة الحياء، وعدم الخوف من الله ، وعدم قيام الأب بمسؤوليته نحو بناته، وعدم قيام الزوج بمسؤوليته نحو زوجته، فهل تفقدت يوماً -يا عبد الله- الملابس التي ستخرج بها نساؤك إلى الأعراس؟ هلا عرفت ما يلبسن أم أنك توكل الأمر إلى غير أهله؟ أم أنك أهملت المسؤولية؟ وكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته...، والرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول[رواه البخاري (844)]، إنه مسؤول سيسأل يوم القيامة، ومسؤول عن رعيته، هل تستباح المحرمات في الأفراح بحجة الفرح نستبيح الحرام ونغشاه؟!
أيها المسلمون: كفى تلاعباً بهذه الشريعة، ودعوكم من تقليد الكفرة الذين غزونا بكل شيء، قذفوا إلينا بمصنوعاتهم من الملابس، وروجتها شركاتهم ومجلاتهم، من أين تُحصل البلاء الآن؟ ينفتح عليك من كل جهة، فإن جئت إلى ما هو موجود في الأسواق من الملابس رأيت شراً عظيماً، وفي عروض الأزياء المنقولة بالدش وغيره، والمجلات الخالعة التي يقرأها نساء أهل بيتك، وما يرينه في الأعراس بل وفي بعض الأسواق النسائية أيضاً، إن في ذلك بلاءً عظيماً، ثم ما يقذف إلى النساء من هذه الموجات السامة من دعاة تحرير المرأة، يُرَكز على كل شيء فيه إظهار للفتن، وإثارة للشهوات، وإيقاع في البلاء، وهكذا، وهكذا أيها الإخوة.
أنجدها من الفاجرات؟ أم نجدها من بعض المتساهلين الذين يفتون بجواز كشف أمور من جسد المرأة، وأنها إذا كانت لا تدخل الجامعة إلا بغير حجاب فلتدخل؛ لأن الدراسة الجامعية ضرورية للمرأة حتى لو تخلت عن الحجاب، نحصلها من هؤلاء أو من هؤلاء، أو من أنواع البلاء الذي تقذفه إلينا هذه الأسواق، فإذا لم يكن عندنا تقوى، ولا خوف من الله، ولا قيام بالمسؤولية، فمتى يحدث الإصلاح إذن؟
ألسنا نخاف الله؟ ألسنا نخشى عقابه؟ أليس الله ينزل العقاب على العاصي؟ وقد توعد الخارجين عن دينه المخالفين لشريعته بأن يعمهم بعقاب خصوصاً إذا فشا المنكر ولم يُنكر، فأين أنت يا عبد الله؟ وأين قيامك بالمسؤولية؟
ومنكرات الزواج كثيرة، وأنتم تعلمونها، من التصوير، ودخول الرجال على النساء، والإصرار على دخول الزوج على النساء، وبعض النساء ربما تقاطع وتعمل المشكلات العظيمة؛ لأنه لا يريد الزوج أن يدخل، أو لا تريد الزوجة أن يدخل الزوج إذا كان في أحدهما دين، أو لا يريد أقارب أحد الطرفين حدوث هذا المنكر صارت القوة الآن لأهل المعصية في الزواجات، وهكذا صار أهل الدين في حرج، أتأتي هذه المسكينة صاحبة الدين إلى العرس، ومتى تأتي؟ وهل يجوز لزوجها أن يذهب بها؟ وهل العرس فيه منكر أم لا؟ وهل يمكن تلافيه أم لا؟ بسبب انتشار المنكرات والمحرمات، نسأل الله السلامة والعافية.
فليقم كل إنسان بدوره إذن، وليخش الله وليتقه؛ فإن تقوى الله تعالى هي سبب النجاة يوم القيامة.
منكرات في بدعة المولد النبوي
ونحذر وننبه -أيها الإخوة أيضاً- إلى ما سيقوم به المبتدعة من الخارجين عن سنة النبي ﷺ من إحياء المولد النبوي والاحتفال به معاندة لسنته ﷺ، ومخالفة له ولأصحابه، وهو لم يحتفل بمولده، وأصحابه لم يحتفلوا بمولده، والسلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى المفضلة لم يحتفلوا بمولده، ولم يضربوا دفاً، ولم يقرؤوا قصيدة البردة المليئة بالمنكرات ولا غيرها، لم يحتفلوا ويظهروا فرحاً؛ لأن الاجتماع في يوم معين يعود ويتكرر هو عيد وليس لنا إلا عيدان نحن أهل الإسلام، وعندما يوافق الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين الذي كان يوم الولادة المباركة، فإن ذلك عندهم إذن سيكون مولداً عظيماً، فليحذر أهل السنة ولينتبهوا لما يروجه أولئك الضلال من الصوفية وغيرهم، وهم الغالبية في العالم الإسلامي، وهذه قضية لا بد أن نقولها، ونعترف بها، ولكن الله قال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِسورة الأنعام:116، فالتمسك بالسنة رحمكم الله والحرص على البعد عن البدعة، ولا يقولن قائل: أليس فرحاً به ﷺ؟ فنقول: الفرح به طيلة العام، فلماذا تخصون يوماً بالفرح به؟!
ثم إنك تجد أن كثيراً من الذين يحيون الموالد فسقة، يزعمون أنهم يحبونه ﷺ في هذا اليوم من العام، ثم يعرضون عن كثير من سننه الواجبة لا المستحبة فقط طيلة أيام العام، بل إن ذات المنكر لا يخلو من منكرات فيه حتى أن بعض الراقصان يرقصن بالمجان تقرباً إلى الله بزعمهن، وتحيا الموالد في بعض البلدان بالحفلات الراقصة، وهكذا صارت القضية بدعة ومعصية في مناسبة واحدة، فيا أهل السنة، ويا أهل التوحيد، الله الله أن يحصل اختراق لكم من قبل الخارجين عن سنة النبي ﷺ.
نسأل الله أن يحيي سنة نبيه ﷺ، وأن ينشرها في العالمين، وأن ينصر أهل سنته، ويقمع أهل البدعة إنه على كل شيء قدير.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل كلمة الدين، وأظهر السنة يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تعجل فرجنا، وتهدي ضالنا، وتقضي ديوننا، وتشفي مرضانا، وترحم موتانا، وتؤلف ذات بيننا، وتجمعنا على الحق يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.