الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
آداب المال
عباد الله: لقد استخلفنا الله تعالى في هذه الدنيا وأموالها، وجعل المال حبيباً للنفس، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّاسورة الفجر20، وابتلانا فيه لينظر تعالى ماذا نعمل فيه.
والمال: كل ما يتمول، سواء كان من ذهب، أو من فضة، أو ما يقوم مقامها، أو عقار، أو أثاث، أو مراكب، ونحو ذلك مما يؤخذ العوض عنه عادة، كل ما يمتلك من دواب ونقود وغير ذلك، وهذا المال للشرع فيه آداب، حسن النية في أخذه وإنفاقه، وتحري الحلال فيه، والابتعاد عن الحرام، ومن ذلك إطراء السلعة بغير حق، كما قال ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أَعطَى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك[رواه البخاري2369 ومسلم 108]. رواه البخاري ومسلم.
آداب العقار
وكذلك حسن الوفاء، والقضاء، والاقتضاء، وهذا المال منه هذا العقار، هذا العقار الذي للناس فيه مآرب، ولهم فيه حاجات، هذا العقار الذي قبضه تخليته؛ لأنه لا ينقل كغيره من الأموال، هذا العقار الذي جاءت الشريعة بتوجيهات متعددة فيه، فمن ذلك حرمة التعدي فيه على ما يملكه الآخرون، ولقد لعن النبي ﷺ من غير منار الأرض، ولا يجوز الاعتداء في العقار، لا على عقار آخر عام لبيت المال ولا خاص.
وكذلك: جاءت الشريعة بمنع الإسراف حتى في البناء، وجعلت آداباً في البيت لمن يريد أن يبنيه، ومن ذلك أن يتخذ فيه مصلىً للسنن والنوافل للرجل؛ لأن الفرائض في المسجد، وأما المرأة فتصلي فيه، والنبيﷺ قال للصحابي: أين تحب أن أصلي لك من بيتك[رواه البخاري424].
وكذلك: جعلت للجار حقوقاً في العقار، ومنها أن الجار أحق بسقبه، يعني جار الدار أحق بدار الجار إذا أراد أن يتحول عنها، أو أن يبيعها فهو أحق بشرائها بالثمن المعروض.
وكذلك: فإن الله تعالى لما قال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِسورة النساء36 فإنه أوصى ، أوصى بأن يكون لهذا الجار حق، وهذا الجار يجب أن يحفظ عورات جاره وأن لا يكشفها وأن لا يضايقه في وضع شيء، ولا أن يطرح قمامة أمام باب داره، ولا يتبعه النظر فيما يحمله، ويستر ما ينكشف له من عورته، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته. فكم سرقت دور على مرأى ومسمع من الجيران؛ لأن الجيران ليس عندهم خبر عن سفر جارهم أو عن غيابه، أو هل نقل من البيت أم لا.
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي | حتى يواري جارتي مأواها |
وهكذا ذكر العلماء في مسألة فتح النافذة ونحوها مما يشرف على الجار وعلى حريمه، فإنه يقضى بسده.
إذا شئت أن ترقى جدارك مرة | لأمر فآذن جار بيتك من قبل |
هكذا قال العلماء.
فكان الجار إذا أراد أن يرقى على سطح داره هو يخبر جاره قبل أنه سيرقى، حتى يحفظ عوراته ويأخذ أهل الدار المجاورة أهبتهم لذلك.
وقال العلماء: لا ينبغي حجب الهواء عن الجار ورفع البنيان فوق مستوى بنيانه، وأن لا يمنعه أن يغرس الخشب في جداره إذا كان لا يتضرر، وكان جوار الصالحين يشترى؛ لأن الجار الصالح من أسباب السعادة.
باع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص جاري، كم تدفعون الآن على الجوار، قالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل إن فقدت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرج عني، فبلغ ذلك سعيداً، فبعث إليه بمائة ألف درهم.
بينما على النقيض، جار السوء في دار المقام، والنبي ﷺ كان يتعوذ منه؛ لأن جار البادية يتحول، يطوي خيمته ويمشي إذا صبرت عنه، أو أنت تطوي وتمشي، ولكن في الحضر إذا اشتريت داراً فابتليت بجار سوء فماذا ستفعل؟
يلومونني إذ بعت بالرخص منزلاً | ولم يعرفوا جاراً هناك ينغص |
فقلت لهم كفوا الملام فإنها | بجيرانها تغلو الديار وترخص |
حرمة الاحتكار
والشرع لما حرم الاحتكار، الاحتكار الأصل أنه في الأطعمة يحتكرها بعض التجار لترتفع الأسعار فيتضرر الناس، ولكن ذلك في الحقيقة يدخل فيه كل ما يحتاجه الناس، فما تمس الحاجة إليه تدخل فيه أحكام الاحتكار، ولذلك قال ﷺ: لا يحتكر إلا خاطئ[رواه مسلم1605]، والخاطئ العاصي الآثم، وهذا الاحتكار -ولا شك- مما يضر الناس وخصوصاً في مثل حاجة السكن التي هي من الحاجات الأساسية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا امتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، وقد قرر جمهور أهل العلم، أنه لو احتكر إنسان شيئاً واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس وتعاوناً على حصول العيش؛ ولذلك يمنع أن يجتمع طائفة بأيديهم سلعة يحتاجها الناس فيجعلوا مثلاً شركة واحدة.
قال ابن القيم: منع غير واحد من العلماء القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، يعملوا شركة، فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة، لكن عندما يشتغل كل واحد وحده يوجد تنافس، والتنافس يخفض الأسعار، فإذن الشريعة حكيمة، والله يعلم ماذا يحتاج الناس، وقد جعل في شرعه ما يمنع وقوع المشكلات وما يحلها إذا وقعت.
عباد الله: إذا كانت أقل وحدة سكنية بسبعمائة ألف، وإذا كان الذي سيشتري حتى بالتقسيط لا بد أن يكون دخله الشهري سبعة عشر ألفاً كما يقول بعض الاقتصاديين، فما هو حال الناس المساكين؟
أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة بأشياء فيها معالجات للعقار كإحياء الموات، وكنصيحة النبي ﷺ من عنده أرض لا يستعملها أن يعطيها أخاه ليزرعها مثلاً، أو ليستفيد منها، وهذه من الصدقات العظيمة، والظلم في العقار وأكل حق الغير حرام، كما يفعله بعض الإخوة الكبار في أخواتهم، أو إخوانهم الصغار، أو من تولى على أيتام، أو على أوقاف.
عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أن أروى خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها، هذه القطعة التي خاصمتني فيها دعوها لها، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من أخذ شبراً من الأرض بغير حق طوقه في سبع أرضين يوم القيامة، ثم قال الصحابي: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها، قال -يعني الراوي-: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها.[رواه البخاري3198 ومسلم1610]رواه البخاري ومسلم.
أما الذين يستولون على حقوق إخوانهم الصغار، أو الإناث لضعفهن، أو اليتامى فقد وعظهم الله فقال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ سورة النساء9 ضع نفسك مكانه، لو أنت عندك الصبية الصغار، أنت وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًاسورة النساء9.
وكم في المحاكم من القضايا في هذا، والاستيلاء على أوقاف المسلمين.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل أكلنا حلالاً، ورزقنا حلالاً إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عبد ربه ولم يشرك به أحداً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين وأزواجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين.
أحكام العقار
عباد الله: إن الناس يغفلون عن أمر كثيرة في العقار، ومن ذلك أحكام زكاته، فهناك عقار تجب فيه الزكاة وهو نوع واحد المعد للبيع؛ لأنه صار من عروض التجارة، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَاسورة التوبة103، فإذا نوى البيع، بدأ الحول، سواء عرضها في مكتب، أو لم يعرضها ما دامت نية التجارة في العقار قد حصلت، وجزم بها، ومعنى ذلك أن من أعد عقاره لسكناه أو لسكنى أولاده، أو أعد عقاراً ليبني عليه ما يستثمره بالتأجير، أو أعد الأرض للزراعة فإنه لا زكاة فيها، إنما الزكاة في الأجرة إذا حال عليه الحول، أو في الثمار إذا حصدت، فلا زكاة في الأرض المعدة للسكنى لنفسه، أو لأولاده، ولو طالت عليها السنون.
وكذلك لا زكاة فيما ترددت فيه النية، فيقول تارة: أريد أن أبنيها، وتارة أريد أن أبيعها، وتارة أريد أن أؤجرها إيجاراً طويل الأجل، وتارة، وتارة، فإذا ترددت النية فلا زكاة. وكذلك الأراضي العالقة لا يستطيع التصرف فيها، عليها دعوى، داخلة في مساهمة متعثرة، ونحو ذلك.
منزوعة ولم يأت التثمين، فلا زكاة فيها، وكذلك أراضي الوصايا، والأوقاف، لا زكاة فيها.
وأما المؤجر فالزكاة في الأجرة إذا حال عليها الحول، فمتى تجب الزكاة في قيمة العقار وأجرته؟
الجواب: إذا كان مؤجراً معروضاً للبيع، فإذا حال الحول وجبت الزكاة في قيمته وفي أجرته.
وكل ما أعد للقنية من أرض لسكن، أو مصنع، ونحو ذلك فلا زكاة فيها.
الأخلاق الإسلامية في العقار
أيها المسلمون: إن الأخلاق الإسلامية الشرعية ما جاء عن الله ورسوله يجعل الإنسان ينظر بمنظار آخر، ويعامل بمعاملة أخرى، وهذا مثال، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: اشترى رجلاً من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض بما فيها. فالآن النزاع على ماذا؟ على الذهب كل واحد يريد أن يأخذه الآخر، وليس كل واحد يريد أن يأخذه لنفسه، النزاع صار على الورع، المشتري يرد الذهب يقول: أنا اشتريت منك الأرض ما اشتريت منك الذهب، والبائع يقول: أنا بعتك الأرض بما فيها خذه، فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه، الحكيم هذا: ألكما ولد؟ عندك أولاد؟ عندك أولاد؟ قال أحدهما: لي غلام، عندي شاب، قال الآخر: لي جارية، عندي بنت. قال: انكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا[رواه البخاري3472 ومسلم1721]. رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: نبني هنا ونغفل أحياناً عن البناء في الجنة.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها | إلا التي كان قبل الموت بانيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه | وإن بناها بشر خاب بانيها |
أموالنا لذوي الميراث نجمعها | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
أفلا نذكر قصة التي اختارت الجار قبل الدار، وقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِسورة التحريم11، وقد ننسى أن السنن الرواتب المواظب عليها له بيت في الجنة، وظاهر الحديث كل يوم، كل يوم يحافظ على ثنتي عشرة ركعة يبنى له بيت في الجنة، ومن قرأ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌسورة الإخلاص:1عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة[رواه أحمد15183].
اللهم اغفر لنا أجمعين، استر عيوبنا، واقض ديوننا، وارحم موتانا، واشف مرضانا، اغفر ذنوبنا، تب علينا، اجمع كلمتنا على الحق، اهدنا سبل السلام، أخرجنا من الظلمات إلى النور، تول أمرنا، احفظنا بحفظك، أصلح نياتنا، وذرياتنار يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
اللهم إنا نسألك النصر لأهل الشام المستضعفين يا رب العالمين، وسائر المستضعفين في الأرض من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تنزل عليهم السكينة والصبر والسلوان، وأن تجمع كلمتهم وأن تكون معهم، يا رب العالمين أعنهم، ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم أغثهم، اللهم أغثهم، اللهم أغثهم، اللهم عليك بالظالمين، اقصم ظهور الجبارين، وعجل بهلاك المجرمين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين الظالمين. مزقهم كل ممزق، وعاجلهم بنقمتك، اجعل بأسهم بينهم واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين، عجل فرج المسلمين يا أرحم الراحمين، عجل فرج إخواننا يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، وأنت على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.