الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71،
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الدعوة إلى الله مسؤولية الجميع
أيها المسلمون: إن القيام بواجب الدعوة إلى الله غاية من الغايات العظيمة المهمة في هذا الدين، وظيفة شريفة، ومهنة كريمة، إنها عمل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإن وظيفة المسلم أن يدعو سائر أهل الملل والنحل المنحرفة الخارجة والمضادة لدين التوحيد إلى الإسلام والتوحيد، وإنه مما يؤسَف له أن ترى نشاط أعداء الله في نشر دينهم لا يُقارن بنشاط المسلمين في نشر دينهم، رغم أن أعداء الله على الباطل، وأهل الإسلام على الدين الصحيح، فكيف انقلبت الموازين، وكيف رضينا بالدون، وكيف استمرأنا أن يكون الوضع قيام الكفرة بالدعوة إلى دينهم وسط المسلمين، وليس هناك من المسلمين من يدعو إلى دينه إلى القليل من الناس الذين اشتغلوا بهذه المهمة، وغالب المسلمين مشغولون في الأكل واللهو، واللعب والنوم، واللذائذ والشهوات والملذات، لا يلوون إلا على لقمة العيش وجمع المال، ولا يأبهون كثيراً لنشر دين الله في الأرض، مع أن بيننا، وفي بيوتنا على -سبيل المثال- من الخدم والسائقين وغيرهم، وفي كثير من الشركات والمؤسسات عمال وغيرهم يدينون بغير دين الإسلام، فإذا كنا قد أتينا بهم، فعاشوا في بيوتنا، وبين أظهرنا، فهل نتركهم على الكفر، أم أننا نحن المسؤولون أمام الله عن عدم تبليغ هذا الدين لهم؟
وقد ذكرنا في خطبة ماضية شيئاً من أعمال النصارى في نشر دينهم، وما يبذلون لنشر باطلهم من الأموال والوسائل العصرية المتقدمة، ويرصدون لها الجهود البشرية والمادية الكثيرة، ونحن أهل حق، وأهل دين، نحن أهل الإسلام، نحن أصحاب الرسالة الخاتمة، ونحن أتباع محمد ﷺ كرمنا الله بهذا الدين، هل فكرت يوماً في هؤلاء الكفار كيف تدعوهم إلى الإسلام؟ وهل خاطبت نفسك -مثلاً-، فقلت: كيف أدعو نصرانياً إلى الإسلام؟
الدعوة إلى الإسلام في الأحاديث النبوية
إذا أردت الجواب، فإليكه ممثلاً بهذه الأحاديث والأمثلة وغيرها من طرق دعوة مثل هؤلاء لدين الله :
لقد مر في عصر رسول الله ﷺ وزمنه أمثلة، أمثلة لانتشار الدين وطريقة الدعوة، فهذا عدي بن حاتم مثلاً، ونحن نتعلم من السيرة، ومن الأحاديث طرق الدعوة وأساليبها ووسائلها، عدي بن حاتم رجل نصراني كان من زعماء النصارى ومقدَّميهم، قال : "أتيت رسول الله ﷺوهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم، وجئت بغير أمان، ولا كتاب، فلما دُفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك -قبل أن آتيه-: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي"، وهذه استعانة الداعية بالله، ولجوؤه إلى الله في أن يعينه على هداية كافر، وإنقاذه من جهنم، "قال: فقام، فلقيته امرأة وصبي معها، فقالا: إنا لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما"، وهذا المشهد يحدث أمامه، أمام الرجل النصراني، رسول الله ﷺ يقضي حاجة امرأة وصبي، وهو رئيس الدولة، وعظيم القوم ﷺ، فكيف يكون لهذا المشهد من الأثر، "ثم أخذ بيدي، أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما يُفِرُّك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله قال: قلت: لا، قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفر أن تقول: الله أكبر، وتعلم شيئاً أكبر من الله؟!قال: قلت: لا، قال: فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضُلَّال، قال: قلت: فإني جئت مسلم، قال: فرأيت وجهه تبسَّط فرحاً" ﷺ.
إذًا: عرض عليه الإيمان والتوحيد بهذه البساطة وهذا النقاش الهادئ، وهذه المساءلة القوية: هل تعلم شيئاً أكبر من الله؟، هل تعلم إله سوى الله؟، فاضطر الرجل للانقياد والإذعان والاقتناع.
قال: "ثم أمر بي، فأنزلت عند رجل من الأنصار" أكرمه، مسافر، ليس له مكان، أكرمه، يتألف قلبه، ويثبت عليه ما وصل إليه من القناعة بالحق، "فأنزلت عند رجل من الأنصار، جعلت أغشاه طرفي النهار، قال: فبينما أنا عنده عشية إذ جاءه قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار" فقراء، "قال: فصلى وقام، فحث عليهم" المسلمين، "ثم قال: ولو صاع، ولو بنصف صاع، ولو قبضة، ولو ببعض قبضة يقي أحدكم وجهه حر جهنم، ولو بتمرة، ولو بشق تمرة، وإن أحدكم لاق الله وقائل له ما أقول لكم: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فينظر قدامه وبعده، وعن يمينه وعن شماله، ثم لا يجد شيئاً يقي به وجهه حر جهنم، ليقي أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم، حتى تسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أو أكثر ما تخاف على مطيتها السرق قال: فجعلت أقول في نفسي: فأين لصوص طيء؟" [رواه الترمذي (2954)]رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن.
فهو يرى المجتمع الإسلامي، يرى رسول الله ﷺ يدعو المسلمين إلى الصدقة، ويرى أكواماً من الطعام والثياب تأتي لهؤلاء الفقراء، يرى التكافل في الدين الإسلامي، ويؤثر فيه الواقع، ولكننا إذا أفسدنا الواقع فكيف سيؤثر في الكفار؟.
وقال حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين، قال: قال أبو عبيدة بن حذيفة: قال عدي بن حاتم: "بعث الله محمداً ﷺ، فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول، فقلت: لو أتيته فسمعت منه، فأتيت المدينة، فاستشرفني الناس، وقالوا: جاء عدي بن حاتم، جاء عدي بن حاتم، فقال: يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم، فقلت: إني على دين، فقال: أنا أعلم بدينك منك"، وعلم الداعية بدين الآخر من المخالفين يساعد في الدعوة، "قال: أنا أعلم بدينك منك، قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: نعم، قال هذا ثلاثاً، قال: ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع؟" يعطوك ربع الغنائم، ربع الأموال؟ "قلت: بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك"، أنت في دينك لا يجوز أن تأخذ هذا، حسب دينك المحرف لا يجوز أن تأخذ هذا، "قال: فوجدت بها علي غضاضة" خجلت، فعلاً كلامه صحيح، "ثم قال: لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا خصاصة، وترى الناس علينا ألباً واحداً" يعني: تألبوا علينا، يقاتلونا، لعلك تخاف من هذا، " هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد علمت مكانها، قال: فإن الظعينة سترحل من الحيرة تطوف بالبيت بغير جوار، وليفتحن الله كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز، قال: كسرى بن هرمز، وليفيض المال حتى يهم الرجل من يقبل صدقته" حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته، "قال: فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن في بلاد فارس، ووالله لتكونن الثالثة، إنه حديث رسول الله ﷺ" [أورده بلفظه ابن القيم في هداية الحيارى (1/268)].
وهذا لبعضه شاهد في صحيح البخاري عن عدي بن حاتم قال: "بينا أنا عند النبي ﷺ إذا أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، قلت: فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طَيِّء الذين قد سعَّروا البلاد؟" أين قطاع الطرق واللصوص في ذلك الوقت، " ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت: كِسرى بن هُرْمُز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الرجل يُخرج مِلء كَفِّه من ذهب أو فضة يطلب من يَقْبَلُهُ منه، فلا يجد أحداً يقبله منه" [رواه البخاري (3595)]الحديث إلى آخره.
فإخبارهم أيضاً بما قاله نبينا ﷺ من أعلام نبوته، وإخباره بالغيب، وقد تحقق مما يقنعهم بالإسلام، وهذه حادثة أخرى تتعلم منها كيف تدعو نصرانياً إلى الإسلام.
بيان محاسن الإسلام
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وغيره في قصة النجاشي لما ذهب إليه مسلمون في هجرة الحبشة، وأرسل الكفار اثنين وراء المسلمين يطلبان من النجاشي -أصحمة- أن يرجع بالمسلمين، ويسلمهم إليهما، قال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم، وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: "أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا" فذكر حال المسلمين قبل الإسلام مهم في إقناع الكفرة بالإسلام؛ لأن الإسلام جاء وغير الأمور كلها، لكن دينهم الذي جاؤوا ماذا غير؟ وماذا أنتج؟ في مائة سنة، مائة سنة فقط من بعثة محمد ﷺ كان الإسلام من أقصى الغرب، من الأندلس إلى أقصى الشرق في الهند دولة إسلامية واحد تقول: لا إله إلا الله، من الأمة التي صنعت هذا؟ وأي دين الذي فعل هذا؟ وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له هذا الوصف، ثم قال: "حتى بعث إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده" إذن ذكر صفات محمد ﷺ للكفرة يرغبهم في الاقتناع بشخصية هذا النبي الكريم، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً" إذن ذكر محاسن دين الإسلام مهم في إقناع الكفرة بالإسلام، درس بليغ جداً، ذكر محاسن دين الإسلام من الأمور المهمة جداً في إقناع كافر بالإسلام، "وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام"، قالت أم سلمة راوية الحديث: "فعدَّد عليه أمور الإسلام فصدقناه أنه هكذا" نعم.
فتعداد شعائر الإسلام، وشرح العبادات الموجودة في الدين من الأمور التي ترغب الكافر في الإسلام؛ لأنه عندما يرى المسلمين صفوفاً واحدة في المساجد، وعندما يرى هذه الصدقات تؤخذ، ما هي ضرائب، صدقات تؤخذ من الأغنياء للفقراء يرغب في هذا الدين، فهذا دين عطف، ودين رحمة وسعة، ولكن قل للكافر أيضاً: إن الذي نهانا عنه ﷺ من الزنا وشرب الخمور والاعتداء، والكذب والخيانة وقطع الرحم، هذه الأشياء التي نهانا رسول الله ﷺ عنها قل للكافر: إنك ستجد أغلب المسلمين على ضد ذلك، وقل له: فرِّق بين الإسلام، وبين الفسقة من المسلمين، وقل له: إن الواقع الآن يزري، فلا تظن أن الإسلام هكذا عندما تشاهد عبث شباب المسلمين بالنساء في الأسواق، قل للكافر هذا حتى يعلم أنه لا تناقض، وأنه ليس هذا هو الدين بأكمله، وأننا بعد نحتاج إلى مشوار طويل للوصول إلى تطبيقه في الواقع.
"فآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان..." إلى أن قال، "فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من كهيعصسورة مريم:1 ، قالت: فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته" كلام الله ينزل على قلوبهم، هذه الآيات العظيمة البينة، "وبكت أساقفته" حين سمعوا ما تلي عليهم، وكانوا قوماً فيهم تجرد، ثم قال النجاشي: "إن هذا والله والذي جاء به موسى"، وفي رواية: "عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة"، فاستعمال سورة مريم مهم في دعوة نصرانيٍ إلى الإسلام، ولما تفلح المحاولة جاءه رسولا قريش بحيلة خبيثة أخرى، فقالوا للنجاشي: "إنهم يقولون في عيسى ابن مريم -هؤلاء المسلمين- قولاً عظيماً، يقولون: إنه عبد! فأتى النجاشي إليهم فقال، استدعاهم ليسألهم عن عيسى، وماذا يقولون فيه؟ فوقع بالمسلمين كرب عظيم، فاجتمع القوم المسلمون، فقال بعضهم لبعض: "ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن" لا تحريف، ولا تغيير، ولا تبديل، ولا نرضي الناس بما يريدون، لا، نقدم ما عندنا من الإسلام، أبوا على شأنهم، أقبلوا الحمد لله، "فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له: جعفر بن أبى طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود" [رواه أحمد (1742)].
قال أهل السير: فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة أرسل إليه النبي ﷺ كتاباً يدعوه إلى الإسلام فأسلم، ثم مات أصحمة النجاشي، فقال النبي ﷺ: إن أخاكم النجاشي قد مات؛ قوموا فصلوا عليه[رواه الترمذي (1039)]، فصلوا عليه صلاة الغائب رضي الله تعالى عنه، هذا التابعي الذي لقي الصحابة وهو في زمن رسول الله ﷺ.
بيان فساد الأديان المحرفة
ومن وسائل الإقناع إذا لم تفلح الوسائل بيان فساد مذهب دين هؤلاء الخبثاء، فتقول له: ما دينكم أيها المثلثة عباد الصليب؟ سببتم الله الخالق مسبةً ما سبه إياها أحد من البشر! نسبتم له الولد، ولم تقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمت الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد! عندما لا ينفع اللين تقيم الحجة بقوة، بما عندك من الحق، في نقض دين هؤلاء لإقامة الحجة عليهم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّاسورة مريم:88-90، يقولون: إن رب العالمين وخالق السماوات والأرضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته، ودخل في بطن امرأة -تصور فساد الدين-، ودخل في بطن امرأة فالتحم ببطنها، وأقام هناك في محل الحيض والطمث في ظلمات الأحشاء، ثم خرج من فرجها طفلاً يمص الثدي ويبكي، ويكبر شيئاً فشيئاً، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط، وينام ويصحو، ويمرض ويفرح، ويحزن ويلتذ، ويتألم ويتقلب مع الصبيان، ثم أُودع في المكتب مع صبيان اليهود يتعلم، وقد قطعت منه القلفة حين الختان؛ لأنه ختن، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان، ثم قبضوا عليه! -هذه عقيدة النصارى، هذا ما لا يستطيعون إنكار حرف واحد منه-، وأذاقوه ألوان الذل والهوان، فأمسكوه وساقوه إلى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه إلى الصلب، والأوباش والأرذال قدامه وخلفه، وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكى، ثم توجوه بتاج من الشوك مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وشدوا يداه ورجلاه بالحبال مع المسامير التي تكسر العظم، وتنشب في اللحم، وهو يستغيث: يا قوم، ارحموني، فلا يرحمه إنسان! هذا وهو رب العالمين، ومدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن.
وضربوا يديه ورجليه بالمسامير، وجعلوه بين لصين، مصلوباً بين لصين، ثم مات، ودفن في التراب تحت الأرض، ثم قام من القبر في اليوم الثالث، وصعد على عرشه وملكه بعد أن كان ما كان.
سبحانك هذا بهتان عظيم!
هل يوجد تفاهة أعظم من هذه التفاهة؟ هذا دينهم الذين يريدون دعوتنا إليه، ويبشروننا به، من أجل أي شيء كان هذا الكلام كله؟ لتتم الحيلة على إبليس بزعمهم، ليخلص آدم وسائر الأنبياء من السجن، ففداهم بنفسه حتى خلصوا من سجن إبليس، وليفتدي خطايا البشر.
لا يستطيع أن يغفر لهم وهو على عرشه! لا بد ينزل، ويخرج من فرج امرأة، ويكبر ويؤذى، ويصلب ويشتم، ويهان ويسب حتى يغفر لهم ذنوبهم، وأنه أراد أن يكلم البشر بذاته لكيلا يكون لهم حجة على زعمهم، فهبط والتحم في بطن مريم، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، كان قبلها وهو الذي خلق جسمه، وخلق أمه، وكانت أمه من قبل بالناسوت، وكان هو قبلها باللاهوت، وهو الإله التام، والإنسان التام! فهمتم شيء؟ هذه هي عقيدة النصارى!.
ومن تمام رحمته -بزعمهم- على عباده أنه رضي بإراقة دمه على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم.
ويقولون: انتصف من خطيئة آدم بصليب عيسى المسيح الذي هو إله مساوٍ له في الألوهية، فصلب ابنه في الساعة التاسعة من يوم الجمعة! هذه ألفاظهم من كتبهم، كما نقلها ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم: "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى".
والله يقول: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ سورة المؤمنون:91-92.
وعيسى، نحن نؤمن بموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسائر الأنبياء، والنصارى لا يؤمنون بمحمد، واليهود لا يؤمنون بمحمد، وهم يخطئ بعضهم بعضاً: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍسورة البقرة:113، ونحن بمؤمن بسائر الأنبياء، ونحن أحق بموسى وعيسى منهم، ونحن على الحق، وهم كفروا بنبينا، ونحن آمنا بأنبيائهم.
فهذا ديننا العظيم: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ سورة الصف:6.
والإشارة في أناجيلهم -حتى المحرفة- دالة على ظهوره ﷺ، فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌسورة الصف:6.
اللهم رب العرش العظيم، يا كريم، اجعلنا في سبيلك دعاة مجاهدين، واجعلنا إلى هديك قادة ودعاة إلى الحق يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يأخذون الأجر في الدعوة، واجعلنا من أهل الإخلاص فيها، واجعلنا من أهل البراءة من الشرك وأهله وأنواعه، وكف عنا أذى المشركين، إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الملك الحق المبين، الحمد لله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى تعالى عما يشركون، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإذا قال: كن فيكون، قوله الحق، لا إ له إلا هو رب الأولين والآخرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى سائر الأنبياء والرسل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أعاجيب النصرانية المحرفة
أيها المسلمون: فهؤلاء النصارى الذين يعتقدون أن إلههم ومعبودهم صلب، ومع ذلك يعمدون إلى الصليب فيبعدونه، ويعظمونه بأشكاله وألوانه، وكان ينبغي عليهم أن يحرقوا كل صليب يقدرون على إحراقه، وأن يهينوا الصلبان غاية الإهانة؛ لأن إلههم صلب عليها، وأوجعت ظهره، ثم يعبدون الصليب، فتباً لهذه العقول.
قال الفلَّاح للقسيس: يا أبونا، كيف كان ينتقل المسيح بين البلدان؟ قال: يا ولدي، ينتقل على حمارة، قال: هل كانت الحمارة تريحه؟ قال: نعم، قال: وعلى أي شيء ربطه اليهود لما قتلوه؟ قال: على الصليب، قال: هل كان الصليب يريحه؟ قال: لا بطيعة الحال، قال: يا أبونا، فلماذا نعبد الصليب الذي لم يكن يريحه، ولا نعبد الحمارة التي كانت تريحه؟
يقولون في دعائهم: يا والدة الإله، ارزقينا، واغفري لنا، وارحمينا، ودينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، مع أن إلههم ولد مختون، ختنوه، والتبعد بالنجاسات، واستباحة من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير، ويعطيهم صكوك الغفران.
قال مسلم لأحد القساوسة: إن بعض الناس أخبرني أن رئيس الملائكة قد مات، فقال له القسيس: هذا افتراء، فإن الملائكة خالدون لا يموتون، فقال له المسلم: وكيف كنت تقول في وعظك: إن الإله قد مات على خشبة الصليب؟! فكيف يموت الإله، وتخلد الملائكة؟!
عجباً للمسيح بين النصارى | وإلى الله والد نسبوه |
أسلموه إلى اليهود وقالوا | إنهم بعد قتله صلبوه |
فإن كان ما يقولونه حقاً | فسلوهم فأين كان أبوه |
يتفرج عليه يقتل، وهو ساكت!
ولئن كان راضياً بأذاهم | فاشكروهم من أجل ما صنعوه |
وإذا كان ساخطاً غير راضِ | فاعبدوهم لأنهم غلبوه |
فاعبدوا من صلبه؛ لأنهم غلبوا إرادة الإله وهم أقوى منه.
وهؤلاء الكفرة -الذين لا يفتأون يبشرون بدينهم المحرف السخيف مع الأسف- يطوفون مجاهل بلدان العالم الإسلامي يدعون إلى النار، والمسلمون قاعدون لا يحركون ساكناً إلا من رحم الله.
قسيس على دراجة بين سلتين -سلة فيها حلاوة، وسلة فيها حبوب الأسبرين- يتنقل، ويعطي حبة أسبرين لوجع الرأس، وحبة الحلاوة للأطفال، ويبشر بالدين، أعواماً عديدة، وسنيناً طويلة، وهكذا.
وفي بعض المدارس التبشيرية التي يوجد فيها بعض أبناء المسلمين، يرمون الحصى والبعر على الأطفال من بعيد في تمثيلة محبوكة، وتقول لهم المدرسة، من الذي رمى عليكم هذا القرف؟ ثم تجيب: إنه محمد، ثم تُرمى الحلويات من بعيد، فتقول لهم: من الذي رمى عليكن الحلويات؟ إنه عيسى، يأخذون شنطة الولد خفية يبكي الولد: من أخذها؟ محمد، يرجعونها إليه خفية يفرح: من أرجعها؟ عيسى، وعيسى ﷺ نحن نحبه، ونؤمن به، ولكنهم يكفرون بديننا وبنبينا، ويربون الأولاد على هذه الأشياء منذ نعومة أظفارهم ليكرهوا نبينا وديننا، فما أشنعهم، وما أبغضهم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
أيها المسلمون: كفى بنا نوماً، ولا يمكن لنا أن نسكت على باطل، نحن أهل حق، وأهل دين، وأهل شريعة، نحن مسئولون أمام الله عن تبليغ الدين، وقلت لكم: في بيوتنا من الخدم والسائقين، وفي شركاتنا ومؤسساتنا من العمال وغيرهم كفرة، أقل شيء يجب أن تقيم عليهم الحجة، ما عندك وقت أنت تدعوه على مراحل، وتقول: الفسقة من المسلمين أهم، صح كلامك، على الأقل استوقفه خمس دقائق، وبين له تلخيصاً لما ذكرناه الآن حتى تقيم عليه الحجة، وتعذر أمام الله أنك رأيت كافراً، وبلغته الدين، والله جعلنا شهداء على الناس: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، بأي شيء؟ بالأموال والكثرة؟ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِسورة آل عمران:110.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، وجندك الأبرار، اللهم سلمنا من كل شر ومكروه، اللهم من أراد ببلدنا سوءً وبلاد المسلمين فاجعل كيده في نحره، ودمره تدميراً.
اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا أجمعين، وأن تغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، اللهم سلم الحجاج والمعتمرين، وارزق من لم يحج حج بيتك يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.