الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
كيف نجح عمر بن عبد العزيز؟
فقد سبق ذكر شيء من سيرة الخليفة العادل، والإمام العظيم، عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، الذي ولي تلك المدة القصيرة، ولكن حقق الله فيها من الأمور العظيمة والخير لأمة محمد ﷺ على يد ذلك الرجل، فكيف نجح في ذلك؟
أيها الإخوة: إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد قام بأمر عظيم في نفسه وهو شعوره بالمسؤولية في ثقلها تجاه المسلمين، فإنه لما ولي قال: إني أعلاج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد شب عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبه الناس ديناً. عندما يستشعر الإنسان حجم المسؤولية فإنه يبذل لها.
وقد دخلت فاطمة امرأته عليه مرة فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد ﷺ فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير ذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم – أي الذي يجادل عنهم – محمد ﷺ فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت.
ومن أسباب نجاح ذلك الرجل في قيامه بذلك الأمر أنه بدأ بنفسه فجردها من كل ما ليس بحق لها، ثم بأهله، فرد الأموال العظيمة إلى بيت المال، فنظرت إليه الرعية، فوجدوه قدوة يلبس مما يلبسون، ويأكل مما يأكلون، بل إنه كان حقيقة أقل من رعيته، إنه كان أقل من رعيته، فإنه حرم نفسه من أمور كثيرة لما فيها من الشبهة عنده؛ ولأنه لا يرى لنفسه حقاً فيها، وسيأتي شيء من ذلك.
وثالثاً: أن عمر رحمه الله قد أحاط نفسه بالثقات، فبين من أول الأمر صفة الذين يدخلون عليه، وأنه لا يريد المادحين الشعراء، ولكن يريد الفقهاء العلماء، وقال لمولاه مزاحم: يا مزاحم إن الولاة قد جعلوا العيون على العوام، وإني جعلتك عيني على نفسي، فإذا رأى منه شيئاً قومه ونبهه، وهو مولى عنده، لكنه كان مولى نابهاً بصيراً صاحب دين.
ورزق الله عمر أولاداً صالحين على رأسهم عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الذي قيل: إنه كان يفوق أباه في الخير، فنعم الوزير أن يذكر مثله كما قال ابن أبي علية: جلس عمر بن عبد العزيز يوماً للناس، فلما انتصف النهار ضجر ومل وكلَّ من كثرة الناس وكثرة الطلبات، فقال للناس: مكانكم حتى أنصرف إليكم، ودخل ليستريح ساعة، فجاء ابنه عبد الملك فسأل عنه، فقالوا: دخل، فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين ما أدخلك؟ قال: أردت أن أستريح ساعةً قال: أو أمنت الموت أن يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرونك وأنت تحتجب عنهم؟ فقام عمر من ساعته وخرج إلى الناس مرة أخرى.
وقد أصيب عمر بن عبد العزيز بولده في شبابه وبمولاه مزاحم وبثالث من أعز الأعزاء عليه متوالين في أيام ماتوا وهو راضٍ بأمر الله ، حتى إن واحداً ممن حضر دفن ولده قال: يا أمير المؤمنين آجرك الله، وأشار بشماله – أي: إلى هذا الولد – قال: أشر بيمينك. فعجب الناس كيف ينصح حتى في هذه الحال.
ومن أسباب نجاحه رحمه الله: أنه اعتمد خطة الناجحين من قبله وطلبها ليطبقها، فلما تولى أرسل إلى سالم بن عبد الله بن عمر، يقول: إن الله ابتلاني بما ابتلاني به من هذا الأمر من غير مشورة ولا طلب له، ولكن كان ما قدر الله ، فأسأل الله الذي ابتلاني أن يعينني عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث إليَّ بكتب عمر بن الخطاب وقضائه وسيرته في أهل العهد وأهل الذمة، فإني متبع أثره، وسائر بسيرته، إن أعانني الله على ذلك، فماذا كانت النصيحة من سالم؟ كتب له يقول: جاءني كتابك تذكر أن الله ابتلاك بما ابتلاك به من هذا الأمر من غير طلب ولا مشورة كان منك، ولكن ما كان قدر الله، فأسأل الله الذي ابتلاك بما ابتلاك به أن يعينك عليه، فإنك لست في زمان عمر، وليس عندك رجال عمر، فإن نويت الحق وأردته أعانك الله عليه، وأتاح لك عمالاً، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب فإن عون الله على قدر النية، فمن تمت نيته في الخير، تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من العون بقدر ما قصر منه، والسلام.
فهكذا النصيحة ونعم النصيحة، فكان عمر ينتقي أمراءه على الأمصار انتقاءاً عجيباً، ويختبرهم، ويبتليهم ابتلاءاً كبيراً، وكان يحرص على الأخذ بصاحب السنة، وصاحب العلم وصاحب الدين والأمانة، ولما تولى الخلافة دخل عليه شخص فهنأه ويقول: يا أمير المؤمنين من كانت الخلافة شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها، وأنت أنت، ولزم يصلي في المسجد، ويقرأ الليل والنهار حتى هم عمر أن يوليه على العراق مما رأى من عبادته، فدس إليه رجلاً ليختبره، يقول عين عمر بن عبد العزيز لهذا الشخص: إن عملت لك في ولاية العراق، أي إن سعيت لك عند أمير المؤمنين أن تكون أميراً على العراق واستخدمت معرفتي وواسطتي ووجاهتي في هذا ما تعطيني؟ فضمن له مالاً جليلاً، قال: إن أوصلتني إلى إمرة العراق، أعطيتك كذا وكذا، فرجع الرسول إلى عمر يقول هذا الجواب، فنفاه وأخرجه من البلد، فكان رحمه الله يختبر الولاة قبل أن يعينهم، ولذلك لم يكن الأمر في عهد عمر نابعاً من عدله فقط، وإنما أيضاً ممن اختارهم.
لقد اختط عمر نهجاً عظيماً في اتباع السنة، وقال للناس مرة: سن رسول الله ﷺ وخلفاؤه بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها، ثم قال: فإن عشت فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
شدة تأثره بالقرآن
كان وقافاً عند كتاب الله، شديد التأثر بالقرآن، رؤي يتلو على المنبر مرة وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَسورة الأنبياء47، حتى ختم الآية فمال على أحد شقيه حتى كاد يسقط - أي من تأثره -.
وقرأ عنده رجل مرة وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًاسورة الفرقان13، فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه وقام من مجلسه فدخل بيته وتفرق الناس.
كان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وانتفض انتفاضة الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته، ولما رفع رأسه من السجود خلف المقام مرة، نظروا إلى موضع سجوده مبتلاً من دموع عينيه.
يكون على الفراش – تقول زوجته – فيذكر الشيء من أمور الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي فأرحمه وأطرح عليه اللحاف.
قال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز.
وقال مرة: إن نفسي هذه نفس تواقة – أي عنده طموح – وإنها لم تعط شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت الذي لا شيء أفضل منه في الدنيا يعني من ناحية الرتبة، أي الخلافة تاقت إلى ما هو أفضل من ذلك يعني الجنة.
قالت له فاطمة امرأته مرة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله – يعني يوم القيامة إذا انفض ذلك اليوم – انفض الناس فريق في الجنة وفريق في السعير.
وكان رحمه الله شديد التأثر أن يرى أحداً من المساكين فيبكي لحاله ويأمر له بما يصلحه، يتورع عن أموال المسلمين، عن كل درهم منها؛ لأنه أمانة في عنقه. كان يحرس أموال المسلمين، وقد أنشأ لهم مطبخاً يطبخ منه لفقرائهم وإطعامهم، فمرة أراد أن يغتسل والجو بارد فلم يوجد في ذلك اليوم يوم الجمعة في يوم زمهرير، لم يوجد في بيته حطب لتسخين الماء فأخذوا الماء إلى مطبخ المسلمين لتسخينه، فلما جيء بالماء سأل: ليس عندكم حطب لعلكم ذهبتم به إلى المطبخ؟ فجيء بصاحب المطبخ، فقال له: قم قم أمير المؤمنين فأوقدت تحته؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أوقدت تحته عوداً، ما استعملت حطباً جديداً ولكن جمر لو تركته لصار رماداً، قال: بكم أخذت الحطب قال: بكذا، فجاء إليه بثمنه، وكان إذا أراد أن يأكل مع المسلمين في مطبخ المسلمين جعل مالاً في نفقة ذلك المطبخ مع أنه واحد منهم.
ورعه
جيء له بتفاح من الفيء من فيء المسلمين، فأخذ ابن له صغير تفاحة منها فانتزعها عمر منه انتزاعاً شديداً، فذهب الولد إلى أمه يبكي مستعبراً، فأرسلت فاطمة بدرهمين فاشترت تفاحاً للولد، فلما دخل عمر ورأى التفاح قال: يا فاطمة هل أتيتِ شيئاً من هذا الفيء؟ قالت: لا، ولكن اشتريت لابني من السوق، قال عمر: والله انتزعتها منه لكأنما انتزعتها من قلبي، أي: لم يكن انتزاعها من ولده عن قلة رحمة، قال: لما انتزعتها من ولدي كأنما انتزعتها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي من الله بتفاحة من فيء المسلمين.
حريص على أموال المسلمين، ويحاسب عماله من أجلها، حتى كتب لعماله أي أمرائه على الأمصار أن يكتبوا بأقلام دقيقة بدلاً من الغليظة، وأن يقاربوا الأسطر في الكتابة، وأن يختاروا جوامع الكلم، ويجتنبوا الإطالة حفاظاً على الأوراق؛ لأنها من بيت مال المسلمين.
كان لعمر سراجان أحدهما من ماله، والثاني من بيت المال، فكان إذا سمر في الليل لمصلحة من مصالح المسلمين أسرج بسراج بيت المال، وإذا سمر في أمر نفسه أسرج السراج من مال نفسه.
لم يكن يقرب أقاربه، بل يقرب الصالح الملائم فجمع أشراف بني أمية مرة، قال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد، أي قيادة جيش من هذه الجيوش، فقال له رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا، إني لأعلم أنه يصير إلى بلى، وإني أكره أن تدنسوه عليَّ بأرجلكم فكيف أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم، هيهات هيهات. قالوا: لمَ، أما لنا قرابة أما لنا حق؟ قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، لقد كان مجلسه رحمه الله مجلس علم وذكر يستعين بهم على طاعة الله.
قال عطاء: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت، والقيامة، والآخرة، ثم يبكون كأن بين أيديهم جنازة، تأثر الناس بخليفتهم.
لقد كانوا أيام الوليد لما كان يزداد من القصور الشاهقة يقول كل واحد من الرعية للآخر: بنيت كم، كم ارتفاع بناؤك؟ لما صاروا في عهد سليمان يحب المزارع كل واحد يقول: كم مزرعتك؟ لما صاروا في عهد عمر بن عبد العزيز جعل الواحد من الرعية يقول للآخر: كم قمت الليلة، كم قرأت من جزء، كم صمت من يوم؟ تغيرت الدنيا بتغير خليفتهم، وهكذا الناس، لم يكن له سوى قميص واحد، إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس.
قالت له امرأته وأراد أن يقترض درهماً ليشتري عنباً لها، فقالت: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنباً؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غداً في نار جهنم.
واشتهى مرة تفاحاً في المجلس وقال: هو شهي الطعم طيب الرائحة، فقام أحد جلسائه وخرج وبعث إليه بتفاح كثير فشمه عمر وقال: ما أطيب ريحه، ثم قال لغلامه ارجع أعد إليه وقل: قد بلغت هديتك مكانها من أمير المؤمنين، ولم يذق شيئاً منه، وقال: كانت الهدية للنبي هدية وهي لنا رشوة، نحن لنا رشوة نتأثر لو أخذناها، صارت في حقنا رشوة.
تواضعه
وإن عجبت فلا تعجب من تواضعه، يخفض جناحه للمؤمنين، العجيب أن الخلافة لم تزده إلا رأفة، ورحمة، وتواضعاً، فكان يصلح سراجه بنفسه، ويجلس مع الناس مع الأرض، ويأبى أن يسير الحرس بين يديه، ويعنف من يخصه بالسلام، فإذا قال له واحد: السلام عليك يا أمير المؤمنين، يقول: عُم بالسلام، سلم على الجميع لماذا تخص الخليفة.
فسمر عنده رجاء بن حيوة مرة فعشي السراج ضعف وكاد ينطفئ، وإلى جانبه خادم قد نام، فقال رجاء لعمر: ألا أنبهه؟ ليقوم الخادم ليصلح السراج؟ قال: لا دعه، قال رجاء: أنا أقوم؟ قال: لا، ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه، فقام عمر إلى إناء الزيت، وأصلح السراج، ثم رجع فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
وقال يوماً لجارية، هو يمتلك أمة، قال: روحيني يعني بالمروحة من الحر، لكي تدير هذه المروحة بيدها، فأقبلت تروحه فغلبتها عيناها فنامت، فأخذ المروحة وأقبل يروحها، فانتبهت الجارية فصاحت من هول المنظر، الخليفة يروح على أمته، فقال: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحر ما أصابني فأحببت أن أروحك بمثل الذي روحتيني.
وضرب لعمر نقود ودراهم كتبوا عليها أمر عمر بالوفاء والعدل، فقال: اكسروها واكتبوا عليها، أمر الله بالوفاء والعدل، وكان بعض بني أمية يلعنون علياً على المنابر، فلما تولى عمر بن عبد العزيز محا هذه السنة السيئة، وجعل بدلاً منها في نهاية الخطبة بدلاً من سب علي جعل قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ... وهكذا.
خرج ومعه حرسي إلى المسجد، فدخل المسجد عمر فمر في الظلمة برجل فتعثر به، فرفع الرجل رأسه في الظلام إلى هذا الذي تعثر به وهو لا يعرفه، فقال: أمجنون أنت؟ فأجابه عمر: لا، فهم الحرسي بهذا المتكلم أن يبطش به، فقال له عمر: مه، إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
وكلمه رجل مرة حتى أغضبه فهم عمر بالرجل ثم أمسك نفسه، وقال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غداً، يعني تأخذه يوم القيامة، قم عافاك الله لا حاجة لي في مقاولتك.
عمر الذي ضرب بعدله المثل في الآفاق، لقد حكم عمر تلك المدة الوجيزة فغير ذلك التغيير العجيب، وأغنى الناس فما أحد يسأل، وصار الأمر في آخر خلافته أن يطاف بالزكاة فلا يوجد من يقبلها، أغناهم بعدله، وأخرجت الأرض بركاتها في عهده.
وقيل: إن الذئاب كانت ترعى مع الغنم، ولذلك قال موسى بن أعين: كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الشاة والذئب ترعى في مكان واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب للشاة فقلت: ما نرى الرجل الصالح إلا قد مات، فحسبوه تلك الليلة التي تعرض فيها الذئب للشاة فوجدوا فعلاً أن تلك الليلة هي موت عمر بن عبد العزيز.
قيل: إنهم دسوا له السم لما لم يرضوا بمنهجه، أي: طلاب الدنيا، ورأوا كيف عطل عليهم مصالحهم، سقوه سماً فمات في ذلك السم، نحسبه ذهب شهيداً إلى ربه.
قد يقال: ماذا ترك؟ لما احتضر قال: أجلسوني فأجلسوه، قال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاث مرات، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر فقالوا: إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة، أي أناس حضروني، ما هم بإنس ولا جان، ثم قال لأهله: اخرجوا عني: فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَسورة القصص83. ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد قبض رحمه الله.
ذهب نظيفاً، فقد يقال: ماذا ترك عمر لولده وماذا ترك باقي الخلفاء لأولادهم؟
يقول الراوي: لقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرساً في سبيل الله، أي من الغنى الذي أغناهم الله به بصلاح أبيهم من بعده، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك مع كثرة ما ترك لهم من الأموال يسأل الناس مما ضيعوه بسبب الترف والشهوات.
اللهم ارحم عمر بن عبد العزيز وارفع درجته في المهديين، اللهم اجعلنا ممن يخدم هذا الدين يا رب العالمين. واجعلنا من جنوده يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والبشير والنذير، والسراج المنير، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، فصلاة الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، وعلى أصحابه وخلفائه وذريته وآله الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أين مثل عمر؟
عباد الله: نموذج من أهل الإسلام الذين قادوا البشرية، فجئني بمثله من قادة الغرب اليوم، هؤلاء الذين يزعمون قيادة البشرية، وأن الله اصطفاهم في القرن الحادي والعشرين لقيادة البشرية، هل فيهم واحد يقترب من ظفر عمر بن عبد العزيز، أو حذائه؟
وهكذا كان ملك المسلمين للأرض رحمة وهداية وبركة وخيراً ومنفعة فلما تأخر المسلمون ضجت الأرض بالظلم، فلا بد أن يأتي الأوان الذي يعود الناس المسلمون فيه إلى ربهم، ليعودوا إلى قيادة البشرية من جديد، ويخرجوا مثل تلك النماذج العظيمة التي تقود البشرية بشريعة الله، أناس صدَّقوا بالله وآمنوا بالمرسلين، وقر الإيمان في قلوبهم فقادوا الناس بدين الله وحكموا بطاعة الله وشرعه.
فضائل شهر ذي الحجة
عباد الله: قد أظلنا شهر عظيم، وهو شهر ذي الحجة، وفيه تلك الأيام العشر الفاضلة التي ستدخل علينا أفضل أيام العام على الإطلاق، العمل الصالح فيها أحب إلى الله من غيرها، والمسلم الحق يفرح بقدوم موسم الطاعة، ويشمر ويجتهد، وفيها ذلك الموسم العظيم موسم الحج، من كان صحيح البدن وملك من المواصلات ما يصل به بيت الله الحرام، وزاداً يكفيه ذهاباً وإياباً، ونفقة لأهله حين غيابه يجب أن يأتي حج البيت العتيق إذا لم يكن حج الفريضة.
ومن حج فلا يرفث ولا يفسق ولا يبدأ حجه بمعصية، ولا للمتاجرة بالحج، وليس في الحج، المتاجرة في الحج مباحة لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْسورة البقرة198، أما المتاجرة بالحج أن يبيع حجه أو يذهب ليأخذ أموال الناس قصده المال لا الحج فلا خلاق له عند الله، وهؤلاء الذين يأخذون من الناس أموالاً لكي يعطوهم عقوداً وهمية من بعض أصحاب الحملات، يبيعونها على الناس بدراهم حرام يأكلونها في بطونهم، فإنه لا يجوز بيع هذه العقود الوهمية؛ لأنه أكل للمال بالباطل، يأخذ مائتين أو ثلاثمائة ريال مقابل ماذا؟ أوراق وهو لا يقدم شيئاً؟ ولذلك فإن بعض الناس يمكن أن يرتكب الحرام وينتهز هذه العبادة العظيمة ليخدع الناس، أو يأكل المال بالباطل فلا كذب، ولا إسلال، ولا إغلال في هذا الموسم العظيم، وإنما نية صالحة لحج بيت الله الحرام من الحاج، ونية صالحة ممن يخدمه بمقابل، ويفي بشروط العقد، وإلا فويل للذين يخدعون حجاج بيت الله.
عيد الحب
عباد الله: وفي الأيام أيضاً عيد للكفار يسمونه بعيد الحب، قاتلهم الله إنها محبة إبليس وشركه، إنه الفسق والفجور الذي يقوم في الفلانتاين، إنها إظهار شعائر المشركين من البهجة والسرور والورود الحمراء، وبطاقات التهنئة بصورة كيوبيد، يخترق القوس القلب وتبادل كلمات العشق والغرام، وإقامة العلاقات المحرمة والسهرات الليلية، والأشياء المختلطة، وهدايا النصارى تروج بين المسلمين، فتباً لتلك العقول التي تتشبه بالكفار وتشارك في الفسق؛ لأنه عيد فسق وفجور، وقد علمتم أن المشاركة فيه محرمة، وأن بيع ما يستعمل فيه حرام، وأن ترويجه حرام.
ادخل وانظر في السوق في عدد من واجهات المحلات لترى اللون الأحمر ينتشر هذه الأيام، وسائل نفسك: ألهذا الحضيض قد انحدروا ولهذه الدرجة من المسخ قد وصلوا، وإلى هذا المستنقع من الرذيلة والانحلال قد انغمسوا.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا وبيوتنا وبلادنا من كل شرك ورجس، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، من أراد بلدنا هذا بشرك أو سوء فاجعل كيده في نحره، ومن أراد بلاد المسلمين بسوء، فاجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم ارفع البلاء عن المسلمين، اللهم ارفع البأس عن عبادك الموحدين، اللهم ارفع لواء دينك في العالمين، انصر المجاهدين ورد بيت المقدس إلينا سالماً يا رب العالمين، اللهم أذل اليهود والنصارى والمشركين، اقطع دابرهم، اللهم اقطع دابرهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.