الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كل إنسان مجبول على طبائع معينة
عباد الله: لقد خلق الله الإنسان ووصفه بأنه ظلوم جهول، وخلقه ووصفه بأنه عجول، وخلقه ووصفه بأنه ضعيف: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاسورة النساء:28، خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍسورة الأنبياء:37، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًاسورة الأحزاب:72، فهذا في طبعه، ضعف البنية، ضعف القوة، ضعف الإرادة، ضعف الهمة، ضعف العلم، وضعف الصبر، وقد خلق الله آدم من قبضة من جميع الأرض، فقال النبي ﷺ: إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزْن، والخبيث والطيبرواه الترمذي، وهو حديث صحيح [رواه الترمذي (2955)].
فهذا يبين أن آدم خلق من قبضة من جميع الأرض بألوان تربتها المختلفة، وكذلك من مناطق الأرض المختلفة، وطبائع الأرض المختلفة، من تربة في سهل، وتربة في جبل وعر، وهكذا صارت ألوان الآدميين وطباعهم، فلا بد أن نلتفت إلى الارتباط بين طبائع الناس وطبائع الأراضي التي خلقوا منها، وقال ﷺ: إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى...، وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيءأي: العودة، وهدوء النفس، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء، فتلك بتلك سرعة الفيء مقابل سرعة الغضب تطفئها، ألا وأن منهم سريع الغضب بطيء الفيء[رواه الترمذي (2191)]، فخيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة، بطيء الغضب سريع الفيئةهذا خيرهم، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئةرواه أحمد والترمذي، وحسنه الحافظ رحمه الله [رواه أحمد (11193)].
فحظوظ بني آدم من الطبائع كما حظوظ بني آدم من الذكاء والقوة والضعف، والطول والقصر، ونحو ذلك، وكما تتفاوت الأجساد والخلقة تتفاوت الطبائع والأخلاق.
تغيير الطبائع شاق لكنه ممكن
وتغيير الطبائع من أشق الأمور على النفوس، والطبع غلَّاب كما قالت العرب، والطبع يغلب التطبع، ونقل جبل من مكانه أسهل من تغيير طبع، ولكن لا ييأس الإنسان؛ فإن التغيير ممكن، وإن كان شاقاً على النفس لكنه يواتي من جاهد، وخالق الأنفس أعلم بها، ولذلك ندبنا إلى تزكيتها، فقال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَاسورة الشمس:7-10،
فالإنسان وإن كان غضوباً لكنه قادر على كتم الغيظ وكبت الغضب إن أراد، وجاهد نفسه وحملها على ذلك، مع ما يوجد في هذا من الألم والمشقة والصعوبة، ولكن بالاستعانة بالله تعالى يمكن هذا، وأيضاً من الأدلة قول النبي ﷺ: ومن يتصبر يصبره الله[رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053)]، فتأمل قوله: يتصبر، يتكلف الصبر، ويحمل نفسه على الصبر، وهكذا.
ومن الأدلة الواقعية على إمكان تغيير الطباع والأخلاق ما نراه فيما خلق الله من الأنعام والدواب، فأنتم تعلمون جيداً -يا عباد الله- عملية ترويض السباع، ترويض السباع! فكيف يكون ممتنعاً هذا على الإنسان الذي هو أحسن خلقاً وخُلقاً، وأعقل وأذكى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍسورة التين:4، فإذا كان شره الكلب يتحول بالتأديب إلى أن يمسك لصاحبه لا لنفسه، وأن يخلِّي عن الفريسة لمن أطلقه في الصيد، ولا يأكل هو، وإذا كانت الفرس يمكن ترويضها حتى نقلب من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وإذا كان البازي يمكن ترويضه حتى ينقلب من الاستيحاش إلى الأنس، وهكذا يوجد في ترويض هذه المخلوقات التي هي أدنى من الإنسان بكثير، فكيف إذن بالإنسان وما وهبه الله من الإمكانات؟.
حجج واهية لسيئي الأخلاق
وبعض الناس يبرر سوء طبعه وسوء أخلاقه بالوقوع تحت الضغوط، ومن استقرأ سيرة نبينا ﷺ علم أن قريشاً كلما ازدادت عليه ضغطاً، وازدادت له اضطهاداً، وازدادت عنفاً، وازدادت على أصحابه عدواناً، ازداد ﷺ حلماً، وكظماً لغيظه.
وفي ذروة التكذيب والتعذيب جاء ملك الجبال يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين رفض ﷺ، مما فيه من الرأفة والرحمة، ورجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، إذن حتى هذه الضغوط يمكن ترويض النفس تحتها.
وإن من أخطر الأشياء على العبد أن يستمر على طبعه السلبي ولا يقاوم نفسه، ولا يجاهدها، ولا يتكلف، ولا يتحمل، ولو كان الاحتجاج بالطبع حجة مقبولة لعذر الله الكفار والمشركين الذين نشأوا على الكفر منذ صغرهم، وصار في طبعهم وخصالهم، وقد رد شيخ الإسلام في تائيته على من احتج بهذا فقال:
وقول حليف الشر إني مقدَّر | علي كقول الذئب هذه طبيعتي |
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه | كذا طبعه أم هل يقال لعثرة |
أم الذم والتعذيب أوكد للذي | طبيعته فعل الشرور الشنيعة |
وسوء الخلق من الشؤم، وكم من إنسان حصل له من النكبات من جراء ذلك، ولذلك الواجب على الناس حسن الخلق وترك سوء الخلق، فالخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة وخلق واحد سيء، فيفسد الخلق السيئ عند الناس النظرة إلى ذلك الرجل مع ما فيه من الأخلاق الصالحة الكثيرة.
ومن أراد أن يغير فلا بد أن يتأمل المساوئ، فعلى سبيل المثال: لو تأمل الغضوب ما يحمله عليه الغضب من الكلام الفاحش، والشتم القبيح، وما يصيبه من تغير اللون، وشدة رعدة الأطراف، واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على شدقيه، وتحمر أحداقه، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة، فلو رأى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه في مرآة لربما سكن غضبه حياءً من قبح صورته، فكيف وقبح الباطن في هذه الحالة أعظم من قبح الصورة، وتأمل كيف يُخرج الغضب بعض الناس عن عقله حتى يصير بلا فكر، ولا بصيرة، ولا اختيار، فإذا اشتعلت نار الغضب امتدت وعمت، وأعمت وأصمت، فيظلم ويبطش، ويكسر ويطلق ويعتدي.
أما الحلم فإن شأنه عظيم في المقابل، قال الأحنف ابن قيس يروي عن من تعلم الحلم؟ ومن أين اكتسبه؟ قال: بينما نحن عند قيس بن عاصم، وهو قاعد بفنائه محتب بكسائه أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا: هذا ابنك -القتيل- قتله ابن أخيك، فو الله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه التفت إلى ابن أخيه، فقال: يا ابن أخي، بئس ما فعلت؛ أثمت في دينك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم التفت إلى ابن آخر له، فقال: قم يا بني فأطلق ابن عمك، وواري أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل؛ فإنها غريبة تزوجتها من قوم بعيدين.
والإنسان إذا ثار به الغضب فك سورته بالحزم، وأطفأ ثائرته بالحلم فهو المرجو، كان بعض الملوك أوصى إذا غضب أن تلقى بين يديه مفاتح مقابر الملوك، فكان إذا غضب ألقيت بين يديه؛ فيسكن.
طبائع ذميمة وعلاجها
ومن الطباع الذميمة الملل والسآمة، والضيق والضجر، وكثرة التشكي، وهذا غالب على طبائع البشر سرعة السآمة، وقد أفرزت هذه الحضارة الغربية -التي قامت مبادئ زوالها اليوم- ضغوطاً مادية كبيرة، اهتمت بالجسد، وأهملت الروح، ويا ليتها اهتمت بالجسد بالحلال، بل جاءت بكثير من الحرام للجسد، والإيذاء والإفساد للروح، وإضعاف الصلة بالله، فنشأ من ذلك أناس يدمنون الخمر والمخدرات، واستماع الأغاني الفاجرات، والتدخين ورؤية الأفلام الهابطة والمسلسلات، وكثرة النوم والعكوف على الكسل والراحات، وكثرة الثرثرة بالجوالات والشاتات، وهكذا قتلت الأوقات، وضاعت الأعمار في كثير من الأمور غير المفيدات، ولذلك يجب أن تنبعث التربية الإسلامية مرة أخرى لمواجهة هذا العفن المصدر من الغرب، وإحياء النفوس بطاعة الله، وحملها على الأخلاق الحسنة، والتأني في ذلك درجة درجة، إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة[رواه البخاري (39)]، قال ابن مسعود: كان النبي ﷺ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا.
وهكذا يعالج الإنسان نفسه شيئاً فشيئاً في أمور التعلم، فيزداد علماً، وفي أمور التحلم، فيزداد حلماً حتى يعود إلى الشخصية القرآنية التي أراد الله من عباده أن يكونوا عليها: أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِسورة لقمان:17-19.
في كثير من الناس حب السيطرة والأنا، والتملك على حساب الآخرين، وإذا دخل عنده شيء لا يكاد يخرج، وحب الغلبة وقهر الآخرين، يحمل ولا شك على التشاجر والعداء، والحسد والبغضاء، والتنافس في الدنيا، وانتهاك حدود الله، فلا بد من تربية النفس على العطاء، وليس أن يفتن الإنسان بنفسه، فيعشق نفسه، ويعكف على لذات نفسه، ويعظم نفسه، ويتعالى ويغتر: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر[رواه مسلم (91)]، وقال ﷺ: شر ما في رجل شح هالع، وجبن خالع[رواه أبو داود (2511)]، وكان ﷺ يستعيذ فيقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم[رواه البخاري (6367)، ومسلم (2706)]، لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.
كانت العرب تفتخر بالشجاعة والفروسية، ويتمادحون بالموت، ويتهاجون بمن مات على فراشه، فيقولون: مات فلان حتف أنفه.
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة | والمرء بالجبن لا ينجو من القدر |
لكن الإسلام لما جاء حول هذه الشجاعة إلى الجهاد في سبيل الله وقول الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدع والبيان، هذه الشجاعة التي فيها الاعتراف بالخطأ والتقصير، والانتصار على النفس، هذه الشجاعة التي فيها إغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، وإنقاذ من في الخطر، هذه الشجاعة، أما أن يقال اليوم في تحدي بين طرفين: نمشي بالسيارتين من طرفي الخط ونلتقي، والجبان الذي يحيد، النتيجة أربعة قتلى، هذه شجاعة جاهلية.
عباد الله: ومن شر ما جمع الإنسان البخل وسوء الخلق.
فاحذر مساوئ أخلاق تشان بها | وأسوأ السوء سوء الخلق والبخل |
وأي داءٍ أدوى من البخل كما قال ﷺ[الأدب المفرد للبخاري (296)]، أي: أي عيب أقبح منه، وقال ﷺ لأسماء: لا توكي؛ فيوكي الله عليك[رواه النسائي (2551)]، لا تمنعي مالك عند طلب الصدقة خشية النفاد؛ فإن المنع هو الذي يأتي بالنفاد.
قال الحسن: "ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله".
هذه طباع أيضاً في السخاء والإمساك، كان رجل في سفر فضل الطريق، فرأى بيتاً في الفلاة، فأتاه، فإذا بأعرابية فيه، فلما رأته قالت: أهلاً ومرحباً بالضيف، انزل على الرحب والسعة، وأرسلت إليه طعاماً، فأكل وشرب، فبينما هو كذلك أقبل صاحب البيت، فقال لزوجته: ما هذا؟ قالت: ضيف، فسمعه يقول لها: لا أهلاً، ولا مرحباً بالضيف، مالنا وللضيف، فلما سمع كلامه ركب وسار، فلما كان في الغد رأى بيتاً آخر فقصده، فإذا أعرابية، فلما رأته قالت: لا أهلاً، ولا مرحباً، مالنا وللضيف، فبينما هي تكلمه أقبل صاحب البيت، فقال: أهلاً ومرحباً بالضيف، ثم أتاه بطعام حسن، فأكل وشرب، فتذكر الرجل ما مر به بالأمس؛ فتعجب وتبسم، فقال صاحب الدار: مم تتبسم؟ فقص عليه ما حدث له بالأمس مع الأعرابية تلك وزوجها، فقال صاحب الدار: لا تعجب؛ إن تلك الأعرابية هي أختي، وإن بعلها هو أخو امرأتي هذه، فغلب كل على طبع أهله.
لابد من مراغمة الطبع السيء حتى ينتهي
عباد الله: الطبع عجيب لكن لا بد من مراغمته، وقد يجاهد الإنسان نفسه مراراً، فتفلت أحياناً، فيرجع إلى مراغمتها، هذا الطبع يظهر أحياناً ظهوراً عجيباً، كما أن عجوزاً لقيت ذئباً صغير، فأشفقت عليه، وأخذته يتربى مع غنمها، وكانت ترضعه من إحداهن، فلما كبر الذئب ذات يوم نهش الشاة التي كانت ترضعه، فأنشأت العجوز تقول:
أكلت شويهتي وفجعت قلبي | وأنت لشاتنا ولد ربيب |
شربت لبانها وربيت فينا | فمن أنباك أن أباك ذيب |
إذا كان الطباع طباع سوء | فلا أدب يفيد ولا أديب |
لكن هذه مبالغة مرفوض، فالأدب يفيد، والتأديب يفيد، لكن من حسن بر الإنسان بأولاده أن يحسن انتقاء أمهم: تخيروا لنطفكم[رواه ابن ماجه (1968)].
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، فإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليكم غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحد لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، عبد الله ولم يشرك به أحداً ﷺ عليه وعلى آله وصحبه، وذريته الطيبين وأزواجه، وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك إمام المتقين، وخاتم النبيين والمرسلين، صلى الله عليه إلى يوم الدين.
من وسائل تغيير الطبائع
عباد الله: إن هذا التغيير ممكن جداً في الطباع والأخلاق، وقد قال ربنا: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْسورة الرعد:11، ويدخل في هذه السنة الإلهية، والقانون الرباني موضوعنا هذا، فمن غير ما في باطنه ونفسه غير الله له من الأسوأ إلى الأحسن، فالتغيير يكون من الحسن إلى السيئ، وكذلك من السيئ إلى الحسن، ومن طلب شيئاً وجده.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته | ومدمن القرع للأبواب أن يلج |
والنبي ﷺ لما قال: من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله[رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053)]، كله دليل على إمكان التغيير، واكتساب الحسن، ونبذ الرديء، والله يعين ويقوي، والعاقل يحصي مساوئه، ويجمعها في صدره، أو ربما في كتاب، ثم يكثر عرضها على نفسه: فيّ كذا، فيّ كذا، فيّ كذا، ثم يكلف نفسه إصلاحها، ويوظف ذلك لأجل إحداث التغيير.
والتأمل في النصوص الدالة على مدح الأخلاق الحسنة، وأجر من تخلق بها، والنصوص الذامة للأخلاق الرديئة، وسيئة من اتصف بها، تحدث في النفس أثراً، هذا التأمل والتدبر في النصوص الشرعية.
قال ابن حزم رحمه الله: "كانت فيّ عيوب فلم أزل بالرياضة -يعني مجاهدة النفس، رياضة النفس- فلم أزل بالرياضة -يعني المجاهدة، الترويض، الترويض- فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق، وفي آداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه"، وذكر نحواً من اثني عشر عيباً نفسياً خفياً كالإفراط في الغضب، والعجب الشديد، والحقد المفرط، وكيف عالج تلك العيوب، وبيَّن أن ذلك لم يكن أمراً سهلاً، فقال: "وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً، وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني".
والتفكر في فضل الأخلاق الحسنة، ومساوئ الأخلاق الرديئة ينفع كثيراً، والتخلق بأخلاق السلف، وقراءة قصص السلف في الأخلاق، والقصص العملية التي جاءت عنهم ينفع كثيراً.
أمر عمر بضرب رجل أساء إليه، ولما قرئ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَسورة الأعراف:199، خلَّاه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
وليحمد الله من أنعم عليه ربه بأخلاق حسنة، فالنبي ﷺ لما قال للرجل: إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم والأناة قال: يا رسول الله، أنا أتخلق بهما، أم الله جبلني عليهما؟ قال:بل الله جبلك عليهما[أبو داود (5225)]، فغير المجبول عليه ماذا نفعل معه؟ التعود والتدريب والصبر.
قال ابن القيم رحمه الله: "من أراد أن يتخلق فليتصنع" ليتكلف "ويحمل نفسه على ذلك الخلق المطلوب؛ فيأتي به الله".
كان بعضهم قليل الذكر، فمما سمعه في فضل الذكر، ورأى من القدوات، وتأثر بذلك حمل نفسه على كثرة الذكر وترويضها عليه، فسأله إنسان: يا عم لقد من الله عليك بنعمة عظيمة وهي كثرة الذكر؛ فعلمني كيف صنعت؟ قال: "جاهدت نفسي -يا بني- على ذكر الله مدة طويلة، حتى فتح الله علي، والله إني لأذكر الله وأنا لا أشعر، وإني لأذكره حتى أنام، وربما رأيت نفسي في المنام أني أذكر، وإني أدخل بيت الخلاء فأعض على لساني حتى لا أذكر الله في بيت الخلاء".
وينبغي لصاحب الطبع المذموم -أحياناً- أن يعاقب نفسه، قال ابن وهب: "نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة".
مجالسة الحريص والزاهد تورث من طبع هذا، ومن طبع هذا، والطبع يسرق من حيث لا يدري -المخالط-، ولذلك كانت مخالطة البهائم تكسب خصالاً، والنبي ﷺ قال: السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الإبل[رواه أحمد (10987)]، فإذا كان هذا يحدث في هذا، فكيف بالذين يخالطون جلساء السوء من سيئي الأخلاق؟ فاحذر يا عبد الله.
اللهم اغفر لنا ذنوبناً، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم اجعل عيشنا دارّاً، واجعل رزقنا حسناً، واجعل ما آتيتنا عوناً لنا على طاعتك.
اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تنصر إخواننا المستضعفين، اللهم انصر المستضعفين بالشام واليمن وغيرها من الأرض يا رب العالمين، وانصر المسلمين في فلسطين وسائر الأرض يا من هو على كل شيء قدير.
اللهم اقصم ظهور الجبارين، وأنزل بطشك بالمعتدين، واجعل دائرة السوء عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وأنزل علينا سكينتك ورزقك يا رب العالمين، اجمع شملنا على الحق والتقوى، وارزقنا الاستمساك بالعروة الوثقى.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
-
خليل صلاح
<p> جزى الله شيخنا خير الجزاء ورفع الله قدره واعانه على الخير ومداومة الذكر هو وإيانا أجمعين اللهم آمين</p>
-
ام عبد الله //
بارك الله في الشيخ وعلمه وذريته فكم استفدنا ونستفيد من علمه اللهم زده وثبته وتقبل منه .