الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فضل العشر من ذي الحجة
عباد الله: قد أظلكم موسم عظيم، وعشرة جليلة، أقسم الله تعالى بها فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍسورة الفجر1-2. وهي عشر الأضحى هذه، وقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍسورة الفجر 2.ولم يقل: والليالي العشر، فعرف الفجر ونكر الليالي، فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍسورة الفجر1-2. وهذا التنكير لبيان عظمتها، فإن التنكير في لغة العرب من فوائده وأسبابه التعظيم، أقسم الله تعالى بها؛ لفضلها، ونكرت في السياق ولم تعرف لفضيلتها على غيرها، فلو عرفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، ومن فضائلها: أن الله أقسم بها جملة، وببعضها خصوصاً، فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍسورة الفجر1-2. وهي عشر ذي الحجة، وقال نبينا ﷺ: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء[رواه الترمذي 757].
فهذا الجهاد بخصوصه، هذا النوع من المجاهدين الخاص، الذي يخرج بنفسه وماله ثم لا يرجع بشيء، هو الذي يفضل على العمل في العشر، أما المجاهد الذي يخرج للجهاد ويرجع بنفسه، أو يخرج ويرجع ماله، فالعمل في العشر أفضل عند الله منه.
لا يفضل العمل في العشر إلا رجل خرج غازياً في سبيل الله، مجاهداً فقتل، وأخذ ماله، هذه الصورة من صور الجهاد هي التي تفوق العمل في أيام العشر، وبقية صور الجهاد العمل في العشر يفوقها.
فاعلم يا عبد الله هذه الميزة العظيمة للعمل الصالح في هذه الأيام، وتجتمع أمهات العبادة فيها، من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها، ولما وضع الله في نفوس المؤمنين الحنين إلى بيته العتيق، وليس كل أحد بقادر على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام، قدر في العشر على عمل في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
وهذه الأيام المعلومات العشر: هي المقصودة عند أكثر المفسرين بقول الله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍسورة الأعراف142. فكان موسى ينتظر لقاء الله في ذي القعدة كله، ثم أضيف إليها من الله عشر أخرى، حتى تم الميقات أربعين ليلة يعبد الله فيها، منتظراً إنزال الوحي عليه.
وهذه الأيام التي حصل فيها التكليم للكليم، وكمل الميقات يوم النحر، وأنزل الله عليه ما أنزل، وكمل ربنا فيها أيضاً لمحمد ﷺ الدين، فقال: الْيَوْمَيوم عرفة، كان عرفة التاسع، أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًاسورة المائدة3. نزلت عليه في يوم جمعة، في حج ذلك العام الذي حج فيه - العاشر- وهو في عرفة ﷺ.
والمسلم يسابق إلى مرضاة الله سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍسورة الحديد21. ويسارع أيضاًوَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍسورة آل عمران133. ويتنافس في الخيرات مع إخوانه يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِسورة آل عمران 114. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَسورة المؤمنون61. سابقون في الطاعات لينالوا أعلى الدرجات، سبقت لهم من الله السعادة، ولذلك سارعوا في الخيرات قبل أن تأتي الفتن، ويهجم الأجل، وتنبع المشغلات، ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع، وخصه بنوع من العبادة، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر، كعشر ذي الحجة.
وفيها هذا التكبير، وفيها هذه الأذكار، كما جاء في الحديث الصحيح من التحميد والتكبير والتهليل والتسبيح، ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد[رواه أحمد 6119]. يستحب فيها، أقسم الله بها.
وكذلك فإن سلفنا رحمهم الله، كانوا قدوة فيها، قال يزيد بن أبي زياد: "رأيت سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهداً، ومن رأينا من فقهاء الناس، يقولون في أيام العشر: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
قال مجاهد: "لقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي، حتى يبلغ الأبطح فيرتج بها أهل الأبطح، وإنما أصلها من رجل واحد.
ويقول ميمون بن مهران: "أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها".
تحدث الأرض يوم القيامة بأخبارها | وتشهد للعاملين على ظهرها |
وكذلك فإن الانشغال بذكر الله ، مما يحبب العبد إلى الرب، والاجتهاد الشديد في هذا الموسم هو سمة سلفنا، يجتهدون اجتهاداً لا يكاد يقدر عليه.
وأيضاً فإن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يعين بعضهم بعضاً على الطاعة، ولو صام التسع كلها فهو طيب، والعاشر يوم النحر العيد لا يصام، وفيها يوم عرفة ومعلوم فضله، ولو صام بعضها، فلا بأس ولا حرج، فإن الصيام من الأعمال الصالحة الداخلة في الحديث بلا ريب، وصيام السبت في عرفة لا حرج فيه لقصد عرفة، وهي توافق السبت هذا العام، وغير المواسم المعينة كعرفة، وعاشوراء، إذا صام فيها السبت يضيف إليه يوماً آخر، وإذا صام الجمعة والسبت فحسن، وكذلك السبت والأحد، وأيضاً لا يفرد الجمعة فيصوم الخميس معها، أو يضيف إليها السبت، وهكذا أما إذا وافق السبت عرفة، أو عاشوراء، فلا حرج في إفراده؛ لأنه قصد عرفة وعاشوراء ولم يقصد السبت بمفرده.
بعض أحكام الأضحية
عباد الله: هذه العشر فيها الأضحية، ما يذبح من بهيمة الأنعام تقرباً إلى الله، من الإبل، والبقر، والغنم، وهذا الذي يطلق في لغة العرب، يطلق عليه بهيمة الأنعام، لا على غيرها من الحيوانات، بهيمة الأنعام نعمة عظيمة من الله، فلحوم الطعام جلها منها للعباد، وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَاسورة النحل80. وكذلك أنفحة أجبانهم، وكثير من المنافع بجلودها، وأجلتها فيها منافع للناس.
تنحر على اسم الله وتذبح فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْسورة الكوثر2.
ومن صور التوحيد العظيم، وأنواع العبادة الجليلة، الذبح لله، وكان الكفار يذبحون لأصنامهم، وكان المسلمون يستجيبون لأمر الله معظمين وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّسورة الحـج36.
وكذلك كانوا يسمنون الأضاحي، قبل مدة من عيد الأضحى يسمنون؛ يشتريها ويطعمها، يعلفها ويسقيها حتى تسمن، فإذا جاء يوم العيد تكون أسمن ما تكون؛ ليذبحها لله ، كان المسلمون بالمدينة يسمنون، فهذا تسمينها على العلف الطيب الطاهر تسميناً؛ لتكون أعظم ما يمكن، وهذا من تعظيم شعائر الله لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْسورة الحـج37 .
فيها إحياء سنة الخليل، وتذكر ما حصل من نعمة الله عليه من الفدية التي افتدى بها إسماعيل، وكذلك فيها شكر لله على النعم، ومنها نعمة الحياة، وأنه أحياك إلى هذا العام، وكذلك فيها صور من التعبد، ومشاركة الحاج بعض عمله، فيمتنع المضحي عن الأخذ من الشعر، والأظفار، والبشرة، لا يأخذ من جلده شيئاً؛ رجاء أن يعتقه الله كله من النار، عند ذبحها يكون معتقاً عند رب العالمين، إذا أخلص لله النية. فلما شارك المضحي الحاج في الذبح، هذا القاعد في البلد له الأضحية، وهذا الحاج له الهدي، شاركه في بعض الأحكام من أحكام الإحرام، وكذلك فإن هذا الحكم خاص بالمضحي لا يشمل أهله وأولاده، ولا يشمل منفذ الوصية، ولا يشمل الوكيل، ولا الجزار، وإنما هو خاص بصاحب الأضحية الذي دفع ثمنها التي هي له، هذا الذي له الأضحية، هو الذي يلتزم بهذا الحكم.
عباد الله: ذلك ومن يعظم شعائر الله، فيشتريها خالية من العيوب، يعظم شعائر الله، فلا يعمل بها شيئاً يؤذيها، ولا شك أن الأضحية والذبح، أفضل من التصدق بثمنها، والأفضل أن تذبح في البلد، فإن قال: الأضاحي في البلد غالية مرتفعة الثمن، ولا أستطيع إلا بأضحية في الخارج، نقول: افعل والحمد لله، والشرع لم يشترط - والحمد لربنا - لم يشترط أن تكون الشاة من جنس معين من غالي الثمن، فلو ضحى بشاة بلدية، أو مستوردة من الضأن، أو من المعز كبشاً، أو تيساً، ما دام قد بلغ السن الشرعي، فإنه مجزئ مهما كان أصل هذا، ومن أي بلد جاء، ومن أي نوع ما دام من بهيمة الأنعام. إذا بلغ في الضأن ستة أشهر فما فوق، ومن المعز سنة فما فوق، ولا اشتراك في شاة، وإنما الاشتراك في البقرة، أو البدنة، والذي يذهب للحج يكفيه الهدي، فإن أراد أن يترك لأولاده أضحية فله أجر أيضاً؛ لأنه أدخل السرور على أهله في غيابه، وفي هذه الحالة فإنه لا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره إلا إذا تحلل من عمرة التمتع، فإذا ذبحت أضحيته فعند ذلك يأخذ ما شاء، وكذلك إذا رمى جمرة العقبة.
فضل الحج المبرور
عباد الله: إن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وإن هذا الحج المبرور الذي جمع إطعام الطعام، وطيب الكلام، وإفشاء السلام، الذي لا يخالطه إثم، الذي التزم فيه الحاج بشرع رب العالمين؛ يبشر بالجنة، هو الجهاد الذي لا شوكة فيه، وصاحبه مجاب الدعوة، وهو من وفد الله الذين يكرمهم ربنا، والمتابعة بين الحج والعمرة من أسباب غفران الذنوب، وانتفاء الفقر، وهو مجلبة للغنى، وكذلك إذا خرج من بيته لا يخطو خطوة إلا كتب له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، هو سبيل المباهاة من الله لملائكته بهذا الحاج الذي ترك الزينة أشعث أغبر لله رب العالمين، لم يلبس مخيطاً، وابتعد عن الطيب في إحرامه، ويؤم البيت العتيق وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاًسورة آل عمران97.
ومن رحمة ربنا أنه جعله مرة في العمر، قال عمر: لقد هممت أن أبعث رجالاً في الأمصار؛ فينظرون من كان عنده جِدَةٌ – يعني قدرة – فلم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
والنبي ﷺ قال: من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة[رواه ابن ماجه 2883 وأحمد 1837].
أنواع النسك
عباد الله: هذه الأنساك الثلاثة: التمتع: الإحرام بعمرة، طواف وسعي، ثم تحلل بأخذ من الشعر، يكون في أشهر الحج التي هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، ولا يعود إلى بلده، وإلا انقطع التمتع، فإذا كان يوم التروية أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعال الحج، فيكون متمتعاً وعليه الهدي.
وهذا الإفراد: أن يحرم بالحج وحده من الميقات، ويبقى على إحرامه؛ ليذهب إلى عرفة، ومزدلفة، ومنى، والرمي، والحلق، والنحر، والطواف، والسعي، ورمي أيام التشريق، كما يفعل المتمتع والقارن أيضاً، ليطوفوا الوداع بعدها.
والقارن: الذي ساق الهدي يؤم به البيت الحرام هدياً بالغ الكعبة، هذا السنة له أن يبقى على إحرامه قارناً.
وأما المفرد: فإذا أراد أن يتبع الأفضل فالسنة أن يفسخ إفراده إلى تمتع؛ لأمر النبي ﷺ أصحابه بذلك، وبين لهم أن الذي منعه أنه ساق الهدي، ولولا أنه ساق الهدي لجعلها عمرة، أي عمرة تمتع، ثم أحرم بالحج بعد ذلك.
والذي يحج متمتعاً يقول: لبيك اللهم بعمرة، أو بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، وفي اليوم الثامن يقول: لبيك حجاً، والذي يحج قارناً يقول: لبيك بعمرة وحج، والذي يحج مفرداً يقول: لبيك حجاً.
عباد الله: إن الاشتراط عند الإحرام إذا قام له سبب كان وجيهاً صحيحاً، كبوادر مرض يخشى أن يمنعه من إتمام الحج، وتلك المرأة التي نفست، وقد قدر الله في حجة النبي ﷺ أنواعاً من الحوادث المتنوعة؛ ليعلم الناس دينهم، وهذا من كمال الشريعة.
نسأل الله أن يتقبل منا، وأن يتوب علينا، وأن يغفر ذنبنا، وأن يدلنا على الخير، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، مصطفاه وأمينه على وحيه، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
التكبير (أنواعه وصفته وفضله)
عباد الله: إن في هذه العشر تكبير عظيم، تكبير مطلق، وفي آخرها تكبير مقيد، التكبير المطلق: الذي لا يرتبط بوقت معين، فليس مقيداً بأدبار الصلوات، ولا بغيرها؛ بل في كل وقت، في كل حين، في الأسواق، في المكاتب، في المدارس والكليات، في البيوت، في الطرقات، في الشوارع والمساجد.
ينبغي إحياء هذه السنة، سنة التكبير، التكبير المطلق، هذا الذي صفته: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. وكذلك لو قال: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيراً، فقد ثبت ذلك أيضاً. وإحياء سنة ماتت بين الناس فيه أجر عظيم، له نصيب من الشهادة، من أجل الشهادة
ومن سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، ولا يشترط بعد موته بعده؛ لأنه ذكر بها الناس فعملوا بعده، وبسببه كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء[رواه مسلم 1017]. هذا التكبير أيضاً قد ذكره ربنا وأمر به عموماً. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًاسورة الإسراء111. هذا الذي ذكرنا بالمواسم العظيمة، لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَسورة الحـج37. في سورة الحج وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة البقرة185. في سورة البقرة.
هذا التكبير العظيم من شعائر هذه الأيام، هذه العشر فيها تكبير مطلق في الثمانية الأولى منها، من ليلة أول ذي الحجة، إلى نهاية اليوم الثامن من ذي الحجة، ثمانية أيام هذه التكبير فيها تكبير مطلق لأهل البلدان، تكبير مطلق.
"كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".المساجد ترتج، وتكبير كالأمواج، كما عرفنا من فعل السلف، وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْسورة البقرة185.تكبير يذكرك يا مسلم بنعمة الهداية، تكبير تشكر الله به على نعمة الهداية، وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْسورة البقرة185.
وتكبر النساء بصوت منخفض.
"وكان عمر يكبر في قبته بمنى" فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيراً.
"كان ابن عمر يكبر على فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه".
والتكبير خارجاً لصلاة العيد أمره عظيم، هذا التكبير الذي يصبح مقيداً لأهل البلدان، من فجر يوم التاسع، ويكون من فجر يوم التاسع إلى آخر أيام التشريق مطلقاً، ومقيداً، فإذن يقيد بأدبار الصلوات، من بعد صلاة الفجر يوم عرفة لأهل البلدان، وتكون نهاية التكبير المطلق بعد صلاة العصر يوم الثالث عشر من ذي الحجة.
المقيد: يكون أوله من بعد صلاة الفجر يوم عرفة، وآخره بعد صلاة العصر يوم الثالث عشر من ذي الحجة، هذا المقيد بأدبار الصلوات، ومعه مطلق أيضاً في كل الأيام المعلومات، والمعدودات، فالتكبير المطلق إذن في المعلومات، والمعدودات، والتكبير المقيد لأهل البلدان، من بعد صلاة فجر يوم التاسع، وآخره صلاة العصر يوم الثالث عشر، فبعد صلاة الفريضة والاستغفار ثلاثاً، وقول: اللهم أنت السلام، يبدأ بالتكبير المقيد.
وأما المطلق فهو عام في جميع الأوقات، والتكبير المقيد في عيد الأضحى، وليس في عيد الفطر، فعيد الفطر التكبير فيه مطلق، والمقيد في عيد الأضحى، فهذا من الفرق في التكبير بين العيدين، والتكبير المطلق والمقيد يجتمعان في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، وأما اليوم الثامن وما قبله فيكون التكبير مطلقاً، فإذن لدينا خمس وعشرون صلاة يسن أن يكبر بعدها التكبير المقيد: التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، خمسة أيام في خمس صلوات بخمس وعشرين صلاة.
ويشرع التكبير المقيد بعد الصلوات، من فجر يوم عرفة لأهل البلدان، ومن بعد صلاة الظهر يوم النحر للحجاج، يبدأ تكبيرهم المقيد، وهذا الذي جاء عن جمهور السلف والفقهاء.
وصح عن ابن مسعود أنه قال: "ليس على الواحد والاثنين تكبير أيام التشريق، إنما التكبير على من صلى في جماعة"، وصح عن ابن عمر: "أنه كان إذا صلى وحده لم يكبر"، ومعنى ذلك عندهما أي هذين الصحابيين: أن التكبير المقيد لمن صلى في جماعة، وإلا فهو على التكبير المطلق ماضٍ، وهذا يبين فوائد صلاة الجماعة، وأهمية صلاة الجماعة.
عباد الله: إن التكبير المقيد بعد الفرائض لا النوافل، والتكبير مشروع في المواضع الكبار، والمحافل الكبار، وكذلك أماكن اجتماع الناس.
أيها المسلمون: إن التكبير الجماعي بصوت واحد كالفرقة بدعة، والذي ورد عن السلف أن بعضهم كان يذكر بعضا،ً فيكبر كل واحد لما يسمع غيره بالتكبير، يذكر هذا هذا، وليس المقصود أن ابتداءهم وانتهاءهم معاً في وقت واحد، ولذلك يشرع للمسلم أن يكبر منفرداً ليسمعه الناس، فيتذكروا فيكبرون بتكبيره، فهكذا يكون إحياء السنة، وأما التكبير الجماعي بصوت واحد، ففيه مشابهة لأهل البدع، الذين يجتمعون على أذكار جماعية بصوت واحد، والنبي ﷺ وأصحابه لم يفعلوا ذلك.
قال ابن الحاج رحمه الله: "ثم إنهم يمشون على صوت واحد يعني في التكبير وذلك بدعة؛ لأن المشروع إنما هو أن يكبر كل إنسان لنفسه، ولا يمشي على صوت غيره".
قال الشاطبي في الاعتصام: "ومن البدع التزام الكيفيات، والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد"، أيضاً فهذا مما يحذر منه.
نسأل الله أن يوفقنا لاتباع سنة نبينا، وأن يخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، ونسأله أن لا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي متقبل مشكور، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم انصر المستضعفين بالشام يا رب العالمين، وأنزل عليهم صبراً من عندك يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم السكينة واربط على قلوبهم، وأفرغ عليهم صبراً، وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم احقن دماء المسلمين باليمن، وانصر المستضعفين واقمع الظالمين، اللهم إنا نسألك لإخواننا المستضعفين في ساعتنا هذه النصر العاجل، والفرج من عندك.
اللهم أنت تجيب دعوة المضطرين وإخواننا في ضرورة عظيمة وشدة وفاقة وأنت أرحم الراحمين، ليس لهم غيرك، عليك توكلوا فانصرهم على القوم الظالمين، اللهم اقصم ظهور الجبارين، وأنزل بهم بطشك، وأنزل عليهم رجزك وعذابك، اللهم اقطع دابرهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم أعل كلمة الدين في أمصار المسلمين، وسائر الأرض يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام وأهله، وأذل الشرك وأهله، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، اقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واستر عيوبنا، واهد ضالنا، واجمع على الحق شملنا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.