الجمعة 12 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 13 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

لحظة خروج الروح 1


عناصر المادة
الخطبة الأولى
كل الخلائق ميتة
أخرجوا أنفسكم
لا تنفع التوبة عن خروج الروح
سكرات الموت
شدة الموت
الخطبة الثانية
فرق بين احتضارين

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

كل الخلائق ميتة

00:01:33

عباد الله: كلما كان الموضوع الذي يُتَحدث عنه يمس طائفة أكبر من المصلين والمستمعين كان ذلك الموضوع أهم وأشمل، فكيف إذا كان الموضوع يمس كل واحد من المصلين، ومن غير المصلين، ممن حضر، وممن لم يحضر، مهما كانت وظيفته، ومهما كان عمله، كيف إذا كان الموضوع لا بد أن يتعرض له كل واحد.

عباد الله: إن الموت مصيبة؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِسورة المائدة:106، ومصيبة الموت لا بد أن تنزل بكل واحد، وهي كأس لا بد أن يتجرعها كل أحد.

أيها الإخوة: إنفاذاً لأمر النبي ﷺ: أكثروا من ذكر هادم اللذات[رواه الترمذي (2460)]؛ نتذاكر وإياكم شيئاً من شأن الموت، والحديث عن شيء معين في الموت، وهو لحظة خروج الروح، ماذا يحدث لحظة خروج الروح؟

أيها الإخوة: إن هذه المسألة مسألة غيبية، لا يمكن أن ندركها باستنتاج، ولا عقل، ولا تعرف إلا من جهة الوحي، وعودة إلى الكتاب والسنة لنتذاكر شيئاً من الآيات والأحاديث المتعلقة بهذه القضية خاصة، وهي لحظة خروج الروح.

أخرجوا أنفسكم

00:04:05

قال الله تعالى: حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَاأي: احتُضر وحان أجله، جاءت رسلنا ملائكة الله الموكلين بذلك، قال ابن عباس وغير واحد: "لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم" وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَسورة الأنعام:61أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها، وينزلونها حيث شاء الله ، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، وقال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُإنها لحظة هائلة، أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُأمر من الملائكة، أخرج نفسك، أخرج روحك، وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَسورة الأنعام:93.

قال ابن كثير رحمه الله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِسورة الأنعام:93أي: في سكراته وغمراته وكرباته، وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْسورة الأنعام:93أي: بالضرب، الملائكة تبسط أيديها بالضرب، اسمعوا يا عباد الله، الملائكة تبسط أيديها بالضرب؛ ولهذا قال الله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْأي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُفلماذا تضربهم الملائكة؟ ما هي العلة من وراء هذا الضرب؟ قال رحمه الله: "وذلك أن الكافر إذا احتضر بشَّرته الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده"؛ من ذعره وخوفه، من هول المنظر الذي رآه، منظر ملائكة العذاب، ثم هذه البشارة الشنيعة بهذه الألوان من العذاب تتفرق روحه في جسده، وتعصى، وتأبى الخروج، الروح تستعصي، وتأبى الخروج؛ لأنها تعرف إلى أين ستخرج، منظر فظيع، منظر ملائكة العذاب وحده يكفي، ثم البشارة بأنواع العذاب تستعصي الروح عن الخروج، وتتفرق في الجسد، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم رغماً عنهم قائلين لهم: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِأي: اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله.

وقال الله تعالى في سورة الأنفال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِسورة الأنفال:50 قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ولو عاينت -يا محمد- حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق"، يضربون الوجه والدبر، الضرب من الأمام والخلف، ضرباً شديداً مؤلماً، لتخرج الأرواح من الأجساد قهراً، هكذا تخرج أرواحهم من أجسادهم قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب.

لا تنفع التوبة عن خروج الروح

00:09:44

عند خروج الروح لا تنفع التوبة: ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً؛ ولذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُسورة يونس:90-91الآن توحِّد حين بلغت الروح الحلقوم، أقفل الباب، أغلق الباب، ولا متاب، جعلت الأمواج ترفع جنود فرعون وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَسورة يونس:90آمن حيث لا ينفعه الإيمان.

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَاالعذاب إذا نزل قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ۝ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَاسورة غافر:84-85لما قال فرعون: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَسورة يونس:90قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر في فيه يدس في فيه مخاف أن تناله الرحمة، لا يوفقهم الله للتوبة، هكذا جاء في الحديث الصحيح.

ما هو حالهم عندما تحضرهم الملائكة؟ إنهم مستسلمون غاية الاستسلام، قال الله في سورة النحل: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة النحل:28، يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم، ومجيء الملائكة لقبض أرواحهم الخبيثة: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍكما يقولون يوم القيامة مكذبين: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَسورة الأنعام:23، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْسورة المجادلة:18، وفي المقابل يقول الله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة النحل:32، أولئك الكفار ألقوا السلم عند الاحتضار، ومجيء الملائكة، أي: أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍسورة النحل:28مستسلمين لكن لا ينفع الإسلام حينئذ، أما المؤمنون: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُسورة النحل:32، إذن هناك بشارة بالسلامة: سَلامٌ عَلَيْكُمُما معنى طيبين؟ يعني: مخلصين من الشرك والدنس، وكل سوء، والملائكة تسلم عليهم عند الاحتضار وسحب الروح، وتبشرهم بالجنة.

وكذلك مما ذكره ربنا في لحظة الاحتضار، لحظة خروج الروح، انظر كم الآيات التي تتحدث عن هذا الموقف لتعرف يا عبد الله أهميته: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَسورة المؤمنون:99-100، فيخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، أو المفرطين أصحاب الفسق، أصحاب الفجور، أصحاب الأفلام، أصحاب صحون البث الذين يفلتونها في بيوتهم لتعيث فيها فساداً، الذين يفتحون على تلك القنوات لإفساد البيوت، إفساد أنفسهم، أصحاب الدياثة الذين لا غيرة لهم، وتعرض أمام ناظري أهليهم مناظر النساء في العري، أو المفرطين المقصرين في الواجبات والعبادات، أو المفرطين بأنواع المعاصي والآثام.

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين، أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، يعني قولهم، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، هذا قوله: رَبِّ ارْجِعُونِليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، فيسأل الرجعة، فلا يجاب عند الاحتضار، لا يجاب: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَسورة المؤمنون:100عذاب القبر ونعيمه، وقال الله في سورة الفرقان: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًاسورة الفرقان:22، قال ابن كثير رحمه الله: أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم، بل يرون الملائكة متى؟ في وقت الشر الذي تبشرهم فيه الملائكة بالعذاب، أما البشرى بالحسنى فلا: لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًاهذا بخلاف المؤمنين؛ فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات التي قال الله تعالى فيها: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُيعني: عند الاحتضار وخروج الروح، أَلَّا تَخَافُوامن هذا المشهد، وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَسورة فصلت:30، وقال الله في سورة محمد: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْسورة محمد:27قال ابن كثير رحمه الله: أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، وتعاصت الأرواح في أجسادهم، وأبت الخروج، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب، يخرجون أرواحهم رغماً عنهم، مَن هؤلاء؟ الذين اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْسورة محمد:28كم عدد الذين يتبعون ما أسخط الله؟ وكم عدد الذين يكرهون بعض ما أنزل الله؛ فيقولون: الحجاب تقييد، والربا مفيد؟ كرهوا ما أنزل الله.

سكرات الموت

00:18:41

وقال الله في سورة ق: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُسورة ق:19، وهذا الخطاب على الصحيح للإنسان أياً كان؛ ولذلك لما ثقل أبو بكر جاءت عائشة رضي الله عنها، فتمثلت ببيت من الشعر وهي ترى أباها في سكرات الموت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فكشف وجهه وقال : ليس كذلك، ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّسورة ق:19.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: "أنه لما تغشاه الموت جعل يدخل يديه في الماء فيسمح بهما وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات"[رواه البخاري (4449)].

وقال الله تعالى في سورة الواقعة: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ۝ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ۝ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ، أَقْرَبُ إِلَيْهِإلى الميت، مِنكُمْيا أولاده ويا أهله، ويا أحبابه ويا أطباءه، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْملائكة أدنى إليه منكم وأقرب، وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَلو أبصروا الملائكة لماتوا من الرعب، وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ۝ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۝ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة الواقعة:83-87.

قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِأي: الروح، الْحُلْقُومَأي: الحلق، وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ ۝ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ۝ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ۝ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُسورة القيامة:26-30.

قال هنا: وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَسورة الواقعة:84، فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم -لأنها تسحب من الأسفل إلى الأعلى- غرغر، فإذا غرغر انقطعت التوبة، ولا يستطيع، ولا يمَكَّن من أن يتوب، ولو تاب ما قبلت توبته.

وقال الله : وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَسورة المنافقون:10 فماذا يحدث عند نزول الموت؟ يندم المفرط على تفريطه، ويتمنى الرجعة إلى الدنيا، ولو شيئاً يسيراً ليستعتب، ويستدرك ما فات، وهيهات؛ فلا يمكن الرجوع، وقال الله في سورة القيامة: كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَسورة القيامة:26أي: هذه الروح تبلغ الترقوة العظام المجتمعة حول العنق التي بين ثغرة النحر والعاتق، إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ ۝ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍسورة القيامة:26-27هاتوا الأطباء، هاتوا الطبيب، هاتوا الراقي، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُسورة القيامة:28أيقن بالموت، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِسورة القيامة:29هذا من ألم الموت والنزع، هكذا يحدث.

شدة الموت

00:22:47

إن الموت له شدة، وله رهبة، وله ألم شديد، وهذا معنى السكرات، سكرات تسكر من الألم، وقد جاء في سنة النبي ﷺ عدداً من الأحاديث في وصف حال المحتضر، ولحظة خروج الروح:

فعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيبة، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فما يزال يقال لها ذلك حتى تخرجإذن الكلام بالبشارة مستمر طيلة خروج الروح، من وقت ابتداء خروج الروح إلى الانتهاء والبشارة تعمل من الملائكة، أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان،  وإذا كان الرجل السوء، والحديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجة، وإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ سورة ص:58،فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج[رواه أحمد (8551)، وابن ماجه (4262)]، تبشر بألوان العذاب، وَآخَرُ مِن شَكْلِهِسورة ص:58.

وكذلك فقد ثبت في السنة أن العبد المؤمن يستبشر عند نزول الموت، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قال: فأكب القوم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: إنا نكره الموت" فمعنى ذلك: أننا لا ندخل في هذا، "قال:  ليس ذلك" ليس هو الذي تقولون، "ولكنه إذا حضر" يعني: كل واحد يكره الموت وليس عيباً كراهية الموت، لكن إذا حضر الموت المؤمن فرح، "لكنه إذا حضر، فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ سورة الواقعة:89-88، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، والله للقائه أحب، وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ۝ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍسورة الواقعة:92-93،يكره لقاء الله، والله للقائه أكره"[رواه أحمد (17819)].

"ولما نزل الموت بالنبي ﷺ جعل يدخل يده في الإناء، ثم يمسح وجهه ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت"[رواه ابن ماجه (1623)]، وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّسورة ق:19السكرة شدة الموت الذاهبة بالعقل، وقوله: اللهم أعني على غمرات الموت[رواه الترمذي (978)]أعني: أعني على دفعها، وسكرات الموت وغمراته هي شدائده، وهي التي تكون عنده، ولا تنافي بين نزول الشدائد في أول الموت، وبين الفرح الذي يكون عند خروج الروح، فإنه يشدد عليه عند الاحتضار لتكفير الخطايا، ثم بعد ذلك إذا بدأ خروج الروح جاءت البشارات من الملائكة؛ ولذلك: "إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنجت الأصابع، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" هكذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في شرح الحديث، إذاً عند ارتفاع الأجفان إلى فوق، وتحديد النظر والحشرجة، وهي الصوت الذي يتردد في النفس في الصدر عند خروج الروح، وتشنج الأصابع -يعني: قبض الأصابع-، فعند ذلك للمؤمن بشارات وفرح عظيم.

اللهم إنا نسألك أن تهون علينا الموت وسكراته، اللهم اجعل خروجنا من هذه الدنيا على شهادة التوحيد.

اللهم اجعلنا ممن تبشرهم الملائكة بالروح والريحان، ورب غير غضبان، نعوذ بك من ميتة السوء، نعوذ بك من ميتة السوء، نعوذ بك من ميتة السوء يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:29:06

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة حق قامت بها السماوات والأرضين، وبها أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، ولأجلها انقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته وأزواجه الطيبين الطاهرين.

فرق بين احتضارين

00:29:58

عباد الله: لقد أخبرنا النبي ﷺ بما سيكون عند الموت من الأهوال المتعددة، وجاء في حديث البراء بن عازب، وهو حديث طويل عن النبي ﷺ نقتصر منه على ما يتعلق بهذا الموضوع، فإنه ﷺ ذكر: بأن العبد المؤمن إذا حضره الموت  إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة -وفي رواية: المطمئنة- اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال:  فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء القطرة في الإناء كأس من الزجاج إذا أملته وفيه قطرة كيف تنزلق على جدران الإناء؟ هكذا تخرج روح المؤمن من جسده، فيأخذها حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء آلاف الملايين من الملائكة تصلي على المؤمن عند خروج روحه، يعني: تدعو له، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها لم يدَعُوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها أي: ملائكة الرحمة، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَسورة الأنعام:61، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، وساق الحديث، إلى أن قال في الرجل الفاجر قال:  وإن العبد الكافر -وفي رواية: الفاجر- إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار يعني: الملابس من جهنم مفصلة لهذا الفاجر، فيجلسون منه مد البصر، ولذلك يكون المنظر مفجع؛ لأنه يرى كل ما أمامه، مد البصر ملائكة عذاب، هناك ملائكة عذاب ينتظرون متلهفين لعذابه الذي كلفهم الله به، ثم يجيء ملك الموت انظر إلى المشهد كيف يصفه النبي ﷺ؟! مشهد مروع! أولاً تنزل الملائكة ملائكة العذاب بهذا المنظر الفظيع، تحيط به من كل جانب، وإلى مد البصر، وليس واحد أو اثنان، إذا تجهزوا بهذه الملابس من جهنم، والميت يرى كل هذا أمامه، جاء ملك الموت، ملك الموت أفظع منظراً وأبشع، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول هات سيخ شواء بقي عليه لحم ناشق، بقايا عليه لاصقة به، ولف عليه صوفاً مبلولاً، ثم اسحبه بقوة، وانظر إلى كم شعبة يتشعب هذا الصوف، وينشق بعضه من بعض، فينتزعها كما يُنتزع السفود من الصوف المبلول؛ لأن الروح تستعصي من العذاب الذي تراه أمامها، تستعصي على الخروج، فتقوم الملائكة بضربه من الأمام والخلف، ويسحب الملك هذه الروح، هذه السحبة قال: فتقطع معها العروق والعصب مع هذه السحبة تقطع العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء آلاف الملايين من الملائكة تلعنه عند خروج روحه، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب وهم يدعون الله إلا ويدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فإذا أخذها ملك الموت لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرضرواه أحمد (18063)].

هذا الكلام كله -أيها الإخوة- يحدث ونحن لا نراه، ولا نشعر به، كله يحدث حتى لو أصيب بسكتة مفاجئة، ومات أمامنا في لحظة، لكن كل هذه الآلام، وهذه المشاهد موجودة حاضرة يقينية؛ لأننا أخبرنا عنها بالوحي من عالم الغيب أنباء قصها الله علينا، قصها الله علينا لنعتبر.

ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني

عندما تقبض الروح تتجه من الأسفل إلى الأعلى، أولاً تنزع من القدمين متجهة إلى الرأس، فإذا بلغت العينين جحظت العينان، واتجهتا إلى الأعلى؛ ولذلك أمرنا النبي ﷺ بغض بصر الميت، أن نغمضه؛ لأن المنظر فظيع، نغمض البصر، شق البصر، أي: اتجاه البصر إلى الأعلى؛ لأن اتجاه خروج الروح من الأسفل إلى الأعلى.

والكلام في الاحتضار طويل أيها الإخوة، ولكن المسألة الآن من الذي يتعظ؟ من الذي يتعظ؟ ويقدر هذه اللحظة؟ كل الكلام الآن في لحظة خروج الروح فقط، أما ما بعد ذلك، وما في القبر، وما في النار، وما في الأهوال الأخرى فأمور كثيرة جداً.

نسأل الله أن يجعل لنا فرجاً ومخرجاً في الدنيا والآخرة، ونسأله أن يرزقنا التوبة النصوح، وأن يمن علينا بمغفرته ورحمته، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم تجاوز عنا، اللهم تجاوز عنا، اللهم تجاوز عنا يا رب العالمين.

واتقوا الله عباد الله، وأنتم في هذا الشهر الحرام شهر رجب، ولا مجال فيه للبدع، لا للاحتفال بالإسراء والمعراج، ولم يثبت أنه في السابع والعشرين من رجب أصلاً، ولا بغيره، ولا بغيرها من البدع، نحن على السنة نحيا عليها، ونموت عليها إن شاء الله.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - رواه الترمذي (2460)
2 - رواه البخاري (4449)
3 - رواه أحمد (8551)، وابن ماجه (4262)
4 - رواه أحمد (17819)
5 - رواه ابن ماجه (1623)
6 - رواه الترمذي (978)
7 - رواه أحمد (18063)
  • أحمد

    الله يجزيكم خير