الأحد 10 ربيع الآخر 1446 هـ :: 13 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

أمة تنجب العظماء


عناصر المادة
الخطبة الأولى
الجهاد ماض إلى قيام الساعة
التجديد في الأمة وكيفيته
نماذج لحفظ الله الدين بالمجاهدين
الخطبة الثانية
تعدد أبواب الشهادة في سبيل الله وأمثلة لذلك
خبر قتل أربعة من اليهود قام بها رجلان من المسلمين في فلسطين

الخطبة الأولى

00:00:08

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

الجهاد ماض إلى قيام الساعة

00:00:27

الحمد لله الذي جعل بعد كل عسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًاسورة الشرح5-6، وإن قلوب المؤمنين لا يخالطها أدنى شك في نصرة الله لهذا الدين، وأن المستقبل لهذا الدين، إنه يقين منبعه من القرآن والسنة والتاريخ والواقع والسنن الكونية الربانية، إن دين الإسلام أنزله الله ليسود، وهو أجل وأعلى وأعظم من أن يضره موت فرد من أفراده، بل ألوف من أفراده إذ نصرة هذا الدين بيد الله ، فهو الذي تكفل بذلك، قال يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ۝ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَسورة الصف8-9، إن الدعوة والجهاد يا عباد الله في ديننا كالشمس إن غربت في جهة طلعت من جهة أخرى، فلا تزال طالعة، إن مات فرد من أفرادها أقام الله من المسلمين من يجبر النقص ويسد الثغرة، إن في هذه الأمة مقدرة عجيبة على تعويض النقص الذي يطرأ عليها، وكل ما تبدلت الدول وذهب الرجال جاء الله تعالى بمن يقيم الملة، ومصير الإسلام ليس مربوطاً بشخص ولا بجماعة ولا بدولة، ولذلك فمن الخطأ أن يربط مصير الإسلام بما يؤول إليه هذا الفرد أو تلك المجموعة، وقد يموت شخص فتحيا أمة.

إذا مات فينا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول

التجديد في الأمة وكيفيته

00:02:44

عباد الله: ليس علينا من حرج أن نحزن لموت عالم من العلماء، أو مجاهد من المجاهدين، أو داعية من الدعاة، لكننا في أنفسنا نعلم بأن الله سيخلف في الأمة ويبعث فيها من يقوم بأمر دينه، وهذه أمة عجيبة معطاء ولود، إذا سكت منها صوت خلفه ألف صوت، وإذا مات عالم، أو طالب علم، أو داعية، أو مجاهد أخلف الله في الأمة كذلك.

وهذا الوعد من الله على لسان رسوله ﷺ بأنه لا يزال يبعث فيها من يجدد لها الدين، كما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها[رواه أبو داود4291].

التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات، فرزق الله الأمة برجال كالجبال جددوا لها ما اندرس وذهب من معالم الدين، فلله درهم، قافلة عظيمة، عمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب، وغيرهم، وفي مجال الجهاد نور الدين، وصلاح الدين، وقطز مع بيبرس وغيرهم، ولا يلزم أن يكون المجدد شخصاً واحداً، بل قد يكونوا جماعة في كل واحد منهم تجديد لجانب من جوانب الدين، فهذا يجدد للأمة في أمور العقيدة والتوحيد، وآخر في الفقه والحلال والحرام، وآخر في الحديث والسنن، وآخر في الجهاد في سبيل الله، وهكذا، والظاهر أن حديث التجديد يعم الجماعة من المسلمين، وكذلك فإن الله لا يزال يظهر في الواقع من حملة الدين من يقوم به وينشره، وهذا حديث آخر من البشائر العظيمة، يرويه أبو عنبة الخولاني وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته[رواه ابن ماجه8 وأحمد17333]رواه أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح، فالبشرى البشرى يا عباد الله، فهذه اليقظة الإسلامية والصحوة والمباركة بشبابها وعلمائها ودعاتها، ومجاهديها وحملة القلم والسنان هؤلاء الوعد المبارك من رب العالمين، الغرس العظيم الذي لا يزال الله يغرسه في هذه الأمة، الوعد المبارك الحق، ومن أصدق من الله قيلاً، وثالث المبشرات في حديث الطائفة المنصورة التي قال النبي ﷺ فيها: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك[رواه مسلم1920]، إنهم جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله وقامت الساعة.

ورابع المبشرات حديث النبي ﷺ: مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره[رواه ابن ماجه2869]قال الحافظ: حديث حسن، فالخير باقٍ في هذه الأمة كما كان من أولها، والدين محتاج إلى أول الأمة لإبلاغه، ومحتاج إلى آخرها كذلك ووسطها في الاستمرار عليه، والفضل للمتقدم قطعاً، كما أن الزرع محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني، ولكن احتياجه إلى الأول آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها، ومعنى الحديث: أنه يكون في آخر الأمة من يقارب أولهم في الفضل، وإن لم يكن منهم حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل وذلك لأنه قال: لا يدرى أوله خير أم آخره، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، وإنما ينفي العلم عن المخلوق لا عن الخالق؛ لأن المقصود التشابه والتقارب، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: والتاريخ شاهد ببقاء الخير في هذه الأمة وحفظ الدين لها، فما مات عالم إلا وخلفه آخر ولو بعد حين، وما استشهد مجاهد إلا وخلفه غيره. ولما مات النبي ﷺ قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالأمر، لقد ذهل من ذهل من الصحابة، حتى إنهم رفضوا تصديق الخبر، وصعد عمر المنبر وقال: والله ما مات رسول الله ﷺ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله ﷺ، تثبت وتيقن فعلم أنه قد مات، فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، ثم خرج فقال لعمر: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَسورة الزمر30، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَسورة آل عمران144، فنشج الناس يبكون، قال ابن عباس: فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. رواه البخاري.

نماذج لحفظ الله الدين بالمجاهدين

00:10:44

إن محمداً ﷺ ليس إلا رسول قد سبقته الرسل، وماتت من قبله ودين الله تعالى له دعاة يبلغونه بعد الرسل، وله أئمة يقومون به ومجاهدون يجاهدون عنه ويذبون، إن الدعوة أقدم من الداعية، وأكبر من الداعية، وأبقى من الداعية، فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على مر الأجيال والقرون، مات رسول الله ﷺ وارتد عامة العرب عن الإسلام، فجيش أبو بكر الجيوش وبعث السرايا حتى رجع المرتدون إلى الإسلام وثبتوا عليه، وهكذا لما حصل الانحراف في العهد بعد الصحابة الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم وصار من الولاة من يفسق ويشرب الخمر ويسمع الغناء وقتل الحسين ومن معه، واستبيحت المدينة، وولي الظلمة كالحجاج وأهانوا الناس، وتهاونوا في العمل بالسنة وأماتوا الصلاة وصلوها في آخر وقتها، وصار بيت المال نهباً لهم يفعلون فيه ما يشاءون، يعطون من شاؤوا ويمنعون من شاؤوا، وكثر الظلم والجور بعث الله عمر بن عبد العزيز على رأس المائة فامتلأت الأرض عدلاً بعدما كان فيها ظلم كثير، وحفظ الله دينه بذلك الخليفة الراشد، ثم حدث ما حدث من تسلط المبتدعة على أهل الإسلام، وقيام المعتزلة بفتنة خلق القرآن، فأظهر الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فذب عن الدين وجدد السنة، وثبت على الحق وثبَّت المسلمين عليه، وهكذا حتى انقلعت هذه الفتنة وزالت عن المسلمين، وهكذا تتراكم بعد ذلك البدع والخرافات من بدع الفلسفة وأهل الكلام، وغلاة الصوفية وغيرهم، حتى صارت السنة غريبة بين الناس، فبعث الله من المجددين من نافح عن الدين وأعلى لواء السنة، ومنهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ناظر أهل البدع ونافح عن منهج أهل السنة، ولم ينقطع في المناظرة، وقام بأمر الجهاد، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأدب الطغاة وصعد في الجبل، وقاتل أهل الردة، وناصر النصارى في ملوكهم، وخوّفهم، وهكذا.

ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة هو بيننا أعجوبة العصر
هو آية في الخلق ظاهرة أنوارها أربت عن الفجر

هكذا قال بعض معاصريه، ولما دخل مصر وعنده شيخ النحاة أبو حيان، قال: ما رأت عيناي مثله، وأنشد على البديهة:

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر الدين إذ آثاره درست وأخمد الشرك إذ طارت له شرر
يا من تحدث عن علم الكتاب أصغ هذا الإمام الذي قد كان ينتظر

وهكذا لما تراكم الشرك في جزيرة العرب، وعبد غير الله من الأشجار والأحجار والقباب على القبور، وتقرب لغير الله، وهذا النذر والحلق والتطواف بهذه المعالم الشركية حتى كاد نور التوحيد أن ينطفئ فأظهر الله المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، فقام مع محمد بن سعود بالعمل على تصحيح العقيدة وتطبيق الشريعة، وهكذا صار للدعوة سيف وراية، وعالم وأمير، ولما مات محمد بن سعود خلفه ابنه عبد العزيز فواصل مسيرة أبيه، وخلفه ابنه بعد ذلك سعود الذي يعد عصره العصر الذهبي الذي اتسع فيه سلطان دولة التوحيد اتساعاً عظيماً، وكلما مات عالم في بلد أخلف الله فيه آخر، وهكذا رأينا المفتين من العلماء المعاصرين الذين جمعوا بين الفقه والحديث، والعناية بالسنة والمنافحة عن الإسلام، وبيان الحلال والحرام، وهكذا بينوا هذه الأحكام في وقت كادت أن تضيع ما بين هؤلاء المتساهلين المفرطين، والجهلة المتعصبين.

عباد الله: إن عالم التجديد في الدين غني مليء ولله الحمد، انظروا لما جاءت الحملات الصليبية على بلاد المسلمين، لما تقاطرت من أوروبا من كل حدب وصوب، واحتلوا من مدن الشام أكثر من مائتي سنة، وسقطت القدس في أيديهم مدة ثنتين وتسعين سنة، وقتلوا في القدس وحدها تسعين ألفاً من المسلمين، وارتكبوا من الجرائم والفظائع ما لا يخطر ببال، ما تشيب لذكره الولدان وتقشعر الأبدان، حتى ظن كثير من الناس أن راية الصليب قد قامت في الشام وأنه لا سبيل إلى قلعها، وفي وسط هذا الظلام الدامس يقيض الله عماد الدين زنكي، كان بطلاً شجاعاً مقداماً يضرب بشجاعته المثل، فجابه الصليبيين ودوخهم وأذلهم فاستدار الزمان وبدأ الانتصارات، فاستنقذ منهم المدن والحصون واحدة تلو الأخرى، حتى توفي رحمه الله سنة خمسمائة وواحد وأربعين للهجرة، فعوض الله المسلمين بابنه نور الدين محمود، نور الدين الملك العادل ليث الإسلام تقي الملوك، حامل رايتي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله، أظهر السنة بحلب، وقمع أهل الرفض وكان بطلاً شجاعاً وافر الهيبة متعبداً ورعاً، يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه مرة يدعو في السر، يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير، فحمل راية الجهاد وانتزع من الكفار أكثر من خمسين مدينة وحصناً، قال ابن الأثير رحمه الله: طالعت السير فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحرياً منه للعدل، يحكي يوماً من أيامه فيقول: لما التقينا العدو خفت على الإسلام فانفردت -أي عن جيشي-  ونزلت ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود؟ الدين دينك والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك، فنصرنا الله عليهم.

ذكر ابن كثير عنه رحمه الله أنه خاصمه رجل عند القاضي فأقبل مع خصمه ماشياً إلى القاضي، وأرسل نور الدين إلى القاضي أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم، فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان: إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا تبع لرسول الله ﷺ ولشرعه فنحن قائمون بين يديه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.

وقال له يوماً الفقيه الشافعي قطب الدين النيسابوري: بالله لا تخاطر بنفسك، يعني تخرج أنت للمعركة بنفسك، لا تخاطر بنفسك فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين، فقال له: اسكت يا قطب الدين، فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود، من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو، ومن هو محمود، فبكى من كان حاضراً رحمه الله.

من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو ومن هو محمود؟! وكان يرجو أن يكون فاتح القدس وأعد منبراً عظيماً للمسجد الأقصى إذا فتحه، غير أن الله قدَّر أن يتوفى وهو في غمرة الاستعدادات للقاء النصارى في عام خمسمائة وتسعة وستين للهجرة، فهل انتهت القضية؟ هل انطفأ نور الجهاد؟ هل استتب الأمر للكفار؟ كلا، أخلف الله في الأمة صلاح الدين الأيوبي فقام فوحد الأمة بين مصر والشام وسار على الطريق، فهزم الله الصليبين، واستنقذ المسجد الأقصى من أيديهم عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة بعد تلك المدة الطويلة، وانكسرت الحملات الصليبية ورجعت بلاد الشام إلى حياض الإسلام والمسلمين، وزالت الصليبية عن تلك البلاد، فماذا حصل بعدها، موجة أخرى من الاعتداءات ولكنها هذه المرة من قبل التتر، من المشرق في أوائل القرن السابع الهجري، فعل التتر بديار المسلمين ما لا يوصف، قتلوا الملايين من النساء والأطفال، واجتاحوا ديار المسلمين سلباً ونهباً، ولم يكد يقف أحد أمام سيلهم الجارف، حتى دمروا دولة الخلافة في بغداد، ووصلوا إلى الشام، وما جال بخاطر أحد أنه سيأتي يوم للخلاص من هؤلاء، ولكن الله تعالى كان قد خبأ لهم مجاهداً عظيماً أظهره في الوقت الذي شاءه سبحانه، ألا وهو السلطان المظفر سيف الدين قطز، لما علم أن التتر عازمون على دخول مصر بادرهم قبل أن يبادروه، وبرز إليهم في عين جالوت في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة ستمائة وثمانية وخمسين للهجرة، فأنزل الله نصره على المؤمنين، ولما عقر جواد قطز في المعركة ترجل وبقي ثابتاً والقتال دائر، ولامه بعض الأمراء، وقال: لم لا ركبت فرس فلان، فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك؟ قال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان، وعد خلقاً من الملوك فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الإسلام، ثم قتل سيف الدين قطز وهو عائد من موقعة عين جالوت، ولم يدم ملكه إلا نحواً من سنة، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً، وكأن الله تعالى أقامه لكسر التتار وإذلالهم، ماذا حصل بعده؟ لم ينطفئ المشعل ولم تنكس الراية فأقام الله من بعده من أكمل الجهاد ضد التتر والصليبيين وهو الملك الظاهر بيبرس، الأسد الضاري، أتى الله به على حين شدة من الناس وحاجة، في الوقت الشديد والأمر العسير، عندما أرسل هولاكو خان أرسل جيوشه ليستعيدوا الشام من أيدي المسلمين بعد عين جالوت، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون، فرجعوا خائبين خاسرين، ذلك أنه نهض إليهم الهزبر الكاسر والسيف الباتر الملك الظاهر بيبرس، فقدم دمشق، وأرسل العساكر في كل وجه لحفظ الثغور والمعاقل بالأسلحة، فلم يقدر التتر على الدنو إليه، ووجدوا الدولة قد تغيرت والسواعد قد شمرت، وعناية الله بالشام وأهله قد حصلت، ورحمته بهم، قد نزلت، فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم وكروا راجعين القهقرى، كان شهماً شجاعاً عالي الهمة، مقداماً جسوراً قصد نصرة الإسلام وأهله، وفتح الفتوحات، وانتزع بلاداً كثيرة من التتر وأوقع بالروم الخسائر ما لم يسمع معه على مر العصور، حتى توفي مسموماً في العام ستمائة وستة وسبعين للهجرة بعد أن حمى الله به الإسلام من التتر والصليبين مدة ثمانية عشر عاماً.

ثم واصل سلاطين المماليك الجهاد ضد الصليبيين من بعد كالمنصور قلاوون والأشرف خليل ابنه ليقضي على الإمارة الباقية للصليبيين في الشام، وهي عكا عام ستمائة وتسعين للهجرة، وتنظف بلاد الشام نهائياً من جميع معاقل النصارى، لم يبق لهم فيها بلد ولا حصن ولا قلعة، وصمد الإسلام أمام الضربات الوحشية التي وجهت إليه، وهكذا كافح المسلمون في الجزائر الصليبيين في العصر الحديث، وقام عبد الحميد بن باديس وغيره من المسلمين بالمنافحة عن الإسلام، وكان الدور المشهود للمجاهدين الذين أعلوا راية الله تعالى، وقامت فرنسا إبان احتلالها للجزائر بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات أدخلتهن المدارس الفرنسية وألبستهن الملابس الفرنسية، حتى أصبحن كالفرنسيات تماماً، وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفل تخرج رائعة، دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ جميع الحاضرين بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري، فثارت الصحف الفرنسية وتساءلت ماذا فعلت فرنسا في الجزائر بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً؟ فأجاب لاكست وزير المستعمرات الفرنسي: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا.

عباد الله: إنه دين عظيم والله وإنها أمة معطاءة لا يمكن أن تتوقف، فكم مضى من شهيد، وكم قام فيها من مجاهد، وكم قامت فيها من معركة، وكم قام فيها من موحد عالم، وفقيه مبين، وناصح داعية، وآمر بالمعروف محتسب ناهي عن المنكر، إنها والحمد لله أمة جليلة، لا يوجد مثلها أبداً إطلاقاً، لا في القديم ولا في الحديث، وإن كبت كبوة فلا بد أن ترجع، إنه شيء متجذر في الشخصيات، إنه شيء موجود في النفوس، لكن يريد أحداثاً عظاماً لاستخراجه، ووقتاً يشاءه الله لتحصل النصرة والقيام بالأمر.

فنسأل الله أن يعجل بنصر دينه ونسأله أن يعلي راية الجهاد في البلاد، وأن يجعل المسلمين في عز ونصرة وتمكين، وأن يكبت الكافرين والمشركين، إنه سميع مجيب قريب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:28:59

الحمد لله الذي قدر فهدى وخلق فسوى سبحانه، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

تعدد أبواب الشهادة في سبيل الله وأمثلة لذلك

00:29:23

عباد الله: لقد جعل الله لهذه الأمة أبواباً للشهادة في سبيله، وأعلاها القتل في المعارك مقبلاً غير مدبر، لا يقع الطعن إلا في نحورهم، وهكذا كانت منزلة الشهداء عند الله، والذي يقتل بيد العدو سواءً قتل بسلاح أو بسم أو بغيره من نتيجة العدو فالمنزلة عظيمة عند الله، ومنزلة تليها فيمن قتل ببعض الأمراض الخطيرة والحوادث الشنيعة، كما قال رسول الله ﷺ لأصحابه مرة:  ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذن لقليلقالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد[رواه مسلم1915]، من مات في سبيل الله ذاهب إلى المعركة، مات مرابطاً في الثغر، مات محاصراً في البلد، مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد[رواه مسلم1915]، وهكذا نعلم إذن أن الذي خرج للقتال في سبيل الله بأي طريقة مات فهو شهيد، رحمة الله بهؤلاء، والتوسعة عليهم لحسن قصدهم؛ لأنهم خرجوا يبذلون أنفسهم في سبيله، وما أعظم من تقديم النفس والروح في سبيل الله؟

إن الذي خرج للقتال في سبيل الله بأي طريقة مات فهو شهيد، رحمة الله بهؤلاء، والتوسعة عليهم لحسن قصدهم؛ لأنهم خرجوا يبذلون أنفسهم في سبيله، وما أعظم من تقديم النفس والروح في سبيل الله؟

عباد الله: لقد شاء الله أن يموت نبينا ﷺ شهيداً لم يمت على فراشه ميتة طبيعية عادية، لقد كان شهيداً، ولذلك روى أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: لأن أحلف بالله تسعاً، -تسع مرات-، إن رسول الله ﷺ قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة، وذلك بأن الله اتخذه نبياً وجعله شهيداً، فكيف كانت شهادته؟ قالت عائشة رضي الله عنها موضحة ذلك: كان النبي ﷺ يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، الشاه المسمومة التي قدمتها اليهودية، وأكثروا من السم في الكتف لعلمهم بأن نبينا ﷺ يحب الكتف، فهم يدرسون النواحي الشخصية، ويبنون عليها مؤامراتهم، مؤامرات مدروسة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[رواه البخاري باب مرض النبي ووفاته4428]، الأبهر عرق بين القلب والظهر إذا انقطع مات الإنسان، فهكذا صارت تعتاده ﷺ نوبات بعد أكله من ذلك السم حتى كان موته في آخرها، فبسبب سم اليهود كان شهادة نبينا ﷺ، إذن قد مات مسموماً، قد مات من أثر السم، فهذه الشهادة للنبي ﷺ، وقتل علي بسيف مسموم قعد الخارجي يسقيه السم شهراً، وبشر بن البراء الصحابي الجليل مات مسموماًَ بعد أكله من الشاة مع النبي ﷺ، والحسن بن علي ابن بنت رسول الله ﷺ مات شهيداً مسموماً كما قاله العراقي وغيره من العلماء، وعلى هذا الخليفة المهدي الذي كان يتتبع الزنادقة مات مسموماً أيضاً، وعمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، لم يصبروا على منع الإقطاعات والظلم الذي كان، لم يصبر بعض من حوله من الأقارب عن ذلك فدس له السم فأكله في الطعام، فكانت موتته رحمه الله تعالى.

وهكذا نفر من العلماء كالوزير العالم ابن هبيرة الحنبلي رحمه الله الموحد مات مسموماً سنة خمسمائة وستين للهجرة، وتتوالى قافلة الشهداء ماضية إلى الله من هؤلاء في القديم والحديث.

وهكذا تكون الشهادة، الشهادة سم الأعداء وسم اليهود وسم غيرهم، عباد الله إنه شرف عظيم ووسام رفيع ونهاية جليلة، نسأل الله أن يجعل ميتتنا عظيمة في سبيله إنه سميع قريب.

خبر قتل أربعة من اليهود قام بها رجلان من المسلمين في فلسطين

00:35:11

ومن الأخبار العظيمة التي حفل بها الأسبوع الماضي تلك العملية التي قام بها رجلان من المسلمين في فلسطين في مستوطنة أدورا عندما قتلوا أربعة من اليهود وأصابوا عشرة بجراح بعضهم في حال الخطر، أثناء حملة الجدار الواقي التي ظن اليهود أنهم ألحقوا بها الضربة القاصمة بالبنية التحتية للجهاد، الذي يسمونه إرهاباً، فنجح هذان في التسلل للمستوطنة وتوجها لتلك البيوت، وقاما بتلك العملية، ومع أن قيادة جيش اليهود قد استعانت بوحدات خاصة للمشاركة في عمليات التمشيط الواسعة، واستعانت بطائرات الأباتشي في التمشيط، وأشرف جنرالهم أهلكه الله وأهلك رئيسه ومن معه من العصابة، قريباً يا رب العالمين، أهلكهم الله، قام رئيس أركانهم بنفسه بالإشراف على عملية تمشيط ضد اثنين فقط من المسلمين، قام بقص الشريط المحيط بالمستعمرة وتجولا فيها أكثر من نصف ساعة، وهاجما ثلاثة من البيوت أحدها لشرطي، ووصلت سيارة الشرطة اليهودية التي تم استدعاؤها على عجل وتحقق الشرطة الآن في سبب تمكن هذين الفلسطينيين من الهرب سالمين، رغم أن رجال الشرطة الذين حضروا إلى المستعمرة لم يصابوا، ويعتقد كما يقول الخبر من وكالات أنبائهم وليس من عندنا، ويعتقد أنهم اختبؤوا أي الشرطة الإسرائيلية ولم يجرؤوا على الخروج من مخبأهم. وعند هذه الجملة يحس المسلم بمعنى قوله تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَسورة الحشر14، وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَسورة الفتح22، لو صارت المواجهة وجهاً لوجه لولوا الأدبار، فهؤلاء جاؤوا لمطاردة هذين المسلمين فاختبؤوا خوفاً منهما، ولذلك قاما بالعملية وانسحبا دون أن يقبض عليهما ولم يقتلا، فالله أكبر، كيف ينزل الرعب في قلوب أعدائه، والله أكبر، كيف يجعل هؤلاء إخوان القردة والخنازير يقع فيهم هذا الهلع وهذا الجبن ولا يستطيعون الوصول إلى كل مآربهم بالرغم من إمداد أعداء الله لهم، وبالرغم من سلطانهم وجيشهم وقوتهم.

اللهم إنا نسألك أن تعجل بأخذهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم عاجلهم بنقمتك، وأسقط عليهم كسفاً من العذاب، اللهم سلط عليهم جنودك، وخذهم أخذاً وبيلاً، اللهم مزقهم كل ممزق، واجعل بأسهم بينهم وتدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أنقذ إخواننا المستضعفين، ورد عنهم الكيد يا رب العالمين، اللهم أطعم جائعهم واكس عاريهم وأبرئ جريحهم واشف مريضهم وارحم ميتهم، وارزقهم الصبر على ما أصابهم، اللهم عجل بنصر أهل الإسلام يا رب العالمين، ونكس رايات أهل الشرك والكافرين، اللهم إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك، وتعلي فيه كلمتك، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

1 - رواه أبو داود4291
2 - رواه ابن ماجه8 وأحمد17333
3 - رواه مسلم1920
4 - رواه ابن ماجه2869
5 - رواه مسلم1915
6 - رواه مسلم1915
7 - رواه البخاري باب مرض النبي ووفاته4428