الثلاثاء 8 شوّال 1445 هـ :: 16 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

استشهاد الفاروق


عناصر المادة
الخطبة الأولى
الفاروق يشعر بالموت قبل حدوثه
الفاروق يسوي الصفوف
توعد المجوسي واستشهاد الفاروق
رؤيا عمر وخطورة الأيدي العاملة
حي في عِداد الأموات
الخطبة الثانية
مع الأحبة تحت الأرض

الخطبة الأولى

00:00:07

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71.

أما بعد:

الفاروق يشعر بالموت قبل حدوثه

00:01:16

فقد سبق حديث في الخطبة الماضية أيها الإخوة عن مكانة اللغة العربية وأهميتها، ولعل إكمال الموضوع يحتاج إلى مزيد نظر وتأمل لخطورته وحساسيته، وعدم انتباه كثير من الناس لأهميته، ولذا لعله يكون في الخطبة القادمة إن شاء الله، وأنتقل بكم إلى قصة عظيمة من قصص الإسلام، وحادثة مروعة من الأحداث التي كان لها شأن في التاريخ، نعتبر بها، ونأخذ الفوائد، ونرقق القلوب بذكر تلك القصة التي تعبر عن مصيبة من أهم المصائب التي نزلت في تاريخ الإسلام.

يقول عمرو بن ميمون - كما روى البخاري رحمه الله عنه في صحيحه [البخاري (3700)]-: رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، بأربعة أيام، بعد أن رجع من الحج، قال: وقف على حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ وحذيفة وعثمان كانا من أمراء عمر، وكان يبعث إلى الأراضي التي فتحها المسلمون لجباية الخراج، فبعثهما عمر إلى أرض السواد ليضربا عليها الخراج، ويأخذا الجزية من أهلها، وكان عمر يحاسب عماله وأمراءه، وكان رحيماً مشفقاً برعيته، قال: كيف فعلتما ؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تُطيق؟ أي جعلتما عليها زيادة، قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كثير فضل، وفي رواية قال عمر لعثمان: لئن زدت على كل رأس درهمين، وعلى كل جريد درهماً وقفيزاً من طعام لأطاقوا ذلك؟ قال: نعم، ليتأكد عمر أن ما ضرب على الأرض وعلى الناس حتى من الكفرة، كانوا يطيقونه؛ رحمة عمر بالناس رضي الله تعالى عنه، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، لئن سلمني الله تعالى، وكان عمر لا ينسى المشيئة ، ولا يجزم بالكلام، وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا سورة الكهف:23، لئن سلمني الله تعالى، وهكذا الصالحون ربما شعروا بالشيء قبل حدوثه، لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب.

الفاروق يسوي الصفوف

00:04:55

يقول الراوي: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، إني لقائم في الصف أنتظر الصلاة، ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس، يقول عمرو بن ميمون: شهدت عمر يوم طعن فما منعني أن أكون في الصف الأول إلا هيبته، وكان رجلاً مهيباً، وكنت في الصف الذي يليه، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبر، فهذا عمر ، الإمام العادل إمام الناس في الصلاة، يحرص على تسوية الصفوف، ولا يكبر حتى يتأكد من أن الصفوف قد استوت، قال عمرو بن ميمون: وكان عمر لا يكبر حتى يستقبل الصف المقدم بوجهه فإن رأى رجلاً متقدماً من الصف أو متأخراً ضربه بالدِّرة، فذلك الذي منعنيه، وهبت أن أكون وراءه، فمن السنة أن يُقبل الإمام بوجهه على صفوف الناس؛ ليتأكد من تسوية الصفوف قبل أن يكبر، خلافاً لما يظنه بعض الناس أنه من التكلف، ولسان حالهم يقول للإمام: عجِّل، وخلصنا، ولا تتأخر لتسوِّي الصفوف، وتسوية الصفوف يا عباد الله مسألة خطيرة، ولذلك قال ﷺ: لتسوُّن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم [رواه البخاري (717)، ومسلم (436)]، فعدم تسويتها يؤدي إلى تنافر القلوب، فلا يجوز أن يكون فيها خلل، ولا يجوز أن يُبدأ بصف، ولم يكتمل الذي قبله.

توعد المجوسي واستشهاد الفاروق

00:07:12

عمر يسوي الصفوف، فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس؛ حرصاً من عمر على أن يؤجر المصلون خلفه، كان يطول في الركعة الأولى في صلاة الفجر حتى يأتي الناس للصلاة، فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، طُعن عمر بسكين الغدر المجوسية خنجر الغدر المجوسي، والمجوس أعداؤنا ولا يزالون في بلاد فارس إلى يوم الدين، وقد دعا النبي ﷺ عليهم، وعلى آل كسرى ملك آل ساسان بأن يمزق الله ملكهم، فلا يستقر لهم ملك، ولا قرار إلى قيام الساعة، لقد كان ذلك الصانع المجوسي -فيروز أبو لؤلؤة- هو الذي طعن عمر ، تأخر عمر غير بعيد، ثم طعنه ثلاث طعنات، خرج أبو لؤلؤة المجوسي في الظلام، خرج مقابل عمر فتأخر عمر غير بعيد، لكن ذلك المجوسي أخرج خنجره وعاجله بثلاث طعنات، فرأيت عمر قائلاً بيده هكذا، يقول: دونكم الكلب فقد قتلني، الحقوا به قبل أن يفتري بالمسلمين، دونكم الكلب، وكان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة؛ فقد كان يدرك خطورة العمالة الأجنبية، وهم السبي الذين أخذوا من بلاد الكفار من الكفرة، فجيء بهم إلى المدينة، فما كان عمر يدع أحداً منهم بالغاً يدخل المدينة، هكذا كانت سياسته في البداية، حتى كتب المغيرة -وهو على الكوفة- يذكر له غلاماً عنده صانعاً -يقول: هذا محترف-، ويستأذنه أن يدخله المدينة، ويقول: إن عنده أعمالاً تنفع الناس، إنه حدَّاد نقاش نجار؛ فأذن له عمر، فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة درهم، غلامه عامل محترف، يأخذ منه كل شهر مائة، وهذا يعمل ما يشاء، ولكنه غلامه وعبده، وكسب العبد لسيده، ليس مكفولاً ليأخذ منه، فإن أخذ المال من المكفول لقاء الكفالة حرام، ولو فعل ذلك من فعله اليوم، من الناس الذين يأتون بالعمال، ثم يضربون عليهم كل شهر ثلاثمائة ونحوها، كلا، لقد كان ذلك الغلام عبداً للمغيرة، ومال العبد كله لسيده، ولكن المغيرة اكتفى منه بمائة كل شهر، فشكا ذلك المجوسي إلى عمر شدة الخراج، فقال له عمر: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل، فانصرف ساخطاً، فلبث عمر ليالي، فمر به العبد أبو لؤلؤة، فقال له عمر: ألم أحدَّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحىً تطحن بالريح، تزعم أن عندك قدرات، وتصنع رحىً تطحن بالريح من غير جهد بالدواب والبشر؟ فالتفت إليه المجوسي عابساً، فقال لعمر: لأصنعن لك رحىً يتحدث الناس بها، فكان المجوسي ينوي ما يقول فعلاً، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد، فأحس عمر واشتم من كلام هذا المجوسي التوعد، فلبث ليالي ثم اشتمل  على خنجر ذي رأسين، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس، ولم يكن أنوار ثَمَّ، حتى خرج عمر يوقظ الناس: "الصلاة الصلاة"، وكان عمر يفعل ذلك، يوقظ المسلمين للصلاة، فاحتساب الأجر في إيقاظ المسلمين لصلاة الفجر، من العبادات والطاعات العظيمة، عمر يوقظ الناس: "الصلاة الصلاة"، فلما دخل عمر المسجد وكبر خرج ذلك المجوسي من مخبئه، فطعنه ثلاث طعنات، إحداهن تحت السرة، قد خرقت الصفاق، وهي التي قتلته، وكان من نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه ليخفف عن عبده، ولكن ذلك المجوسي كان قد اصطنع خنجراً له رأسان وسمَّه، نقعه في السم.

رؤيا عمر وخطورة الأيدي العاملة

00:13:10

الصالحون قد يريهم الله تعالى من الرؤى والمنامات ما فيه شيء من الخبر عن المستقبل، ولذلك روى مسلم في صحيحه أن عمر قال: "رأيت كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أُراه إلا حضور أجلي" [رواه مسلم (567)] رأى عمر أن ديكاً نقره ثلاث نقرات، فما فمر إلا تلك الجمعة حتى طعن ، مات معه من المسلمين سبعة، منهم كليب الليثي ورحمه، وكان عمر قد قال له وهو عائد معه من الحج: "أرجو أن يدخله الله الجنة"، فكان في من طعن مع عمر وقتل.

إذن: خطورة الأيدي العاملة من الكفرة شيء حساس ومهم أن يُلتفت إليه، فأولئك الكفرة الذين يأتون بين المسلمين، لهم خطورة شديدة، ينبغي الانتباه لهم، ولذلك منع عمر الكفرة من أرض العرب، إلا أن يسلموا، ولذلك ينبغي الانتباه لمن تظاهر منهم بالإسلام، فإن بعضهم يأتيك وقد كتب في جواز سفره أنه مسلم، ثم تكتشف أنه لا يقيم الصلاة، ولا يعرف الفاتحة، ولا يذكر الله، وأنه إنما فعل ذلك التزوير من أجل الاستقدام، وطلبات مكاتب الاستقدام التي تطلب المسلمين، فلا يكون المسلم إذن مغفلاً، ولا يكون غبياً، وإنما إذا اكتشف ذلك فعليه أن يحذر من هذا الذي خان وكذب وزور أشد الحذر، ولا يخفاكم خطورة العمالة الأجنبية، الكفرة الذين يأتون بين المسلمين، وماذا يفعل الخدم منهم، والسائقون، ولا بد من تربية للمسلمين منهم وتعليمهم، فكيف بالكفرة.

لما طعن عمر طبق سنة الاستخلاف، فاستخلف من المسلمين عبد الرحمن بن عوف سحبه، تناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أراه، أما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة لأجل العارض، ولذلك يندب للإمام إذا حصل شيء في الصلاة أن يخففها؛ إذا حصل طارئ، ولذلك صلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بسورتين خفيفتين، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، غُشيَ على عمر ثم أفاق، فقال: يا ابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، فقال: الصَّنع؟ هذا العامل المحترف الصانع، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، إذن فقد كان عمر خائفاً أن يكون الذي قتله مسلماً، وأن يحاجه عند الله بلا إله إلا الله، وفيه أن القاتل المسلم تحت المشيئة، وأما الكافر فلا، ولذلك حمد عمر ربه أنه لم يلوث أحد من المسلمين يده بدم عمر رحمة بالمسلمين، وحرصاً عليهم.

حي في عِداد الأموات

00:17:14

إن عمر قد احتمل إلى بيته، فانطلقنا به، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ، وليس النبيذ هنا النبيذ المسكر، وإنما هو تمرات منقوعة بالماء -كما يسمى النبيذ في بعض أحواله- طلباً لحلاوة الماء، كانوا يضعون فيه بعض التمرات فترة يسيرة، ثم يشربون الماء، ليس مخمراً ولا مسكراً، طلب عمر شيئاً حلواً ليشربه، لقد حمل وجرحه يثعب دماً، حتى قال أحد من معه: إني لأضع أصبعي الوسطى فما تسد الفتق الذي حدث نتيجة للطعن، قال: يا عبد الله بن عباس اخرج فنادي في الناس: أعن ملأ منكم كان هذا؟ قالوا: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا، ظن عمر أن له ذنباً إلى الناس لا يعلمه، قال: لعلني افتريت فيهم فتشاوروا على قتلي، لعلني ظلمت المسلمين فتمالؤوا علي، فلما علم أن الكافر هو الذي قتله، قال الراوي: رأيت البشر في وجهه، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجل يدعي الإسلام.

ثم لما أتي بالنبيذ فشربه فخرج من جوفه، لما طعم عمر النبيذ -وهو شراب حلو- قال: هذا صديد، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت، أنه سيموت ولا شك، طلب عمر الطبيب، فلما فحصه بجعله يشرب الشراب ليعلم أين وصلت الطعنة، فلما خرج من جرحه قال الطبيب لعمر: أوصي؛ فإني لا أظنك إلا ميتاً من يومك، أو غدك، قال ابن عمر : فقال عمر: أرسلوا إلى طبيب ينظر إلى جرحي، قال: فأرسلوا إلى طبيب من العرب، فسقاه نبيذاً فشبه النبيذ بالدم حين خرج من الطعنة التي تحت السرة، قال: فدعوت طبيباً آخر من الأنصار فسقاه لبناً، فخرج اللبن من الطعنة أبيض، فقال الطبيب: اعهد يا أمير المؤمنين، الحق وأوصي، فعمر كان قد أحس أنه على فراش الموت، فدخل الناس يثنون على عمر، عرف الناس أن عمر سيموت، جعلوا يثنون عليه فمن قائل يقول له: هنيئاً لك الجنة، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، والناس يعلمون ذلك من بعد ما قاله النبي ﷺ مباشرة.

وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله ﷺ، وقدم في الإسلام، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال عمر: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي.

وفي رواية قال له: أليس قد دعا رسول الله ﷺ أن يعز الله بك الدين والمسلمين إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً، وظهر بك الإسلام، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله ﷺمن قتال المشركين، ثم قبض وهو عنك راضٍ، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي ﷺ، فضربت من أدبر بمن أقبل -الذين أقبلوا على الدين ضربت بهم المدبرين عن الدين في حروب الردة-، ثم قبض الخليفة وهو عنك راضٍ، ثم وليت بخير ما ولي الناس، مصَّر الله بك الأمصار، وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل بك على أهل بيت من سيوسعهم في دينهم وأرزقاهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك، فقال عمر: والله إن المغرور من تغررونه، تقول لي كلاماً أغتر به، وتمدحني لأغتر، ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم، وكان عمر يحب عبد الله بن عباس لعلمه وفضله جداً، وهكذا الدرس العظيم في المؤمن الذي يخاف على نفسه مهما كانت أعماله صالحة، فيرى إحسانه تقصيراً، ويزداد مخافة وإشفاقاً، هكذا حدث، ولما ولى ذلك الشاب رأى عمر في ثوبه طولاً مسبلاً، رأى في ثوبه طولاً، قال: ردوا علي الغلام، قال: ابن أخي ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، الله أكبر هذا عمر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو على فراش الموت، ولا ينسى أن يذكر ذلك المسبل أنه مسبل، ويأمره برفع إزاره، وأنه أتقى لله، وأنقى من النجاسات، وأبقى للثوب، ولذلك ترى حافة ثياب المسبلين مهترئة من جرها على الأرض.

اللهم ارحمه، واغفر له، وارفع درجته، واجزه الجزاء الأوفى.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:23:01

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

مع الأحبة تحت الأرض

00:23:25

أيها المسلمون: ماذا كانت أمنية عمر عند الموت؟ قال عمر لابنه عبد الله -الرجل الفاضل، والإمام العالم- يقول: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عمر عليك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، أنا في حكم الميت، ثم إن عمر أراد أن يطلب منها طلباً شخصياً ليس أمراً بإمرة أمير المؤمنين حتى تنفذه، وإنما طلباً شخصياً حتى إذا كان لديها ممانعة لا تمتنع ولا تحرج، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه، فسلَّم واستأذن، ثم دخل عليها، وكان عمر قد حمل به قبل ذلك، وطيف به على الناس لينظر إليهم، ويودعهم الوداع الأخير، فما مر على ملأ من أهل المدينة إلا كانوا يبكون، ينظرون إلى خليفتهم المقتول؛ يبكون على عدله، وعلى فراقه الوشيك، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: قد كنت أريده لنفسي، كانت عائشة ضنت بالمكان الباقي في حجرتها، والحجرة ليست ملكاً لها؛ لأن الحجرة ملك للنبي ﷺ، والنبي ﷺ لا يورث؛ ملكه يذهب لبيت المال، وهذه خصيصة من خصائص النبي ﷺ، وإنما ملكت عائشة الانتفاع بالحجرة، قالت: ولأوثرنه به اليوم على نفسي، كل ما كان يطلب منها من قبل هذا المكان ترفض؛ لأنها تعده لنفسها، لأجل عمر، ولعمر بالذات قالت: ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله بالجواب، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت لك، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك المضجع، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلموا، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، عمر يريد أن يتأكد أن المسألة كانت عن طواعية وسماحة نفس، وأنها لم توافق تحت الحرج والإحراج، وإنما هي مستمرة على الموافقة حتى بعد مماته، وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، وقالت: يا أمير المؤمنين، يا فلان، يا فلان، تمدحه بأوصافه، فأسكتها عمر، وقال: كفي عني كلامك هذا، أما عينيك فلا أملكهما، إذا أرسلت عينيك بالدمع فما لي سبيل عليهما، لكن الكلام لا تتكلمي بهذا، واستأذن الرجال؛ فولجت داخلاً لهم، فسمعت بكاءها من الداخل، فقال: أوصنا يا أمير المؤمنين، ثم أوصاهم عمر كيف يختارون الخليفة من بعده، وجعلها في الستة المرضيين، يشرف عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، وأوصى بالمهاجرين، وأوصى بالأنصار، وأوصى بالأعراب، وبالعرب مادة الإسلام، وأول من فشا فيهم الدين، قال: فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، وذهب عمر شهيداً إلى ربه.

وفي قصته من الفوائد والعبر ما لا يحصى، ولا بد من الاختصار لضيق المقام، ولكننا نشهد الله على حبه، ومن الذي لا يحب عمر؟! ومع ذلك يظهر من أعداء الدين من يقول: إن عمر كان خائناً، وإن عمر فيه وفيه، ويقذفونه بأقذع السباب وأشدها، ويخصصون دعاءً للعن عمر، هذا عمر إمام المسلمين.

نسأل الله أن يجزيه عن الإسلام خير الجزاء، ونسأله أن يجعلنا ممن يقتفي هدي عمر الذي اقتفى هدي النبي ﷺ، عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، وما أشد عمر على أهل البدع، فإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة [رواه أبو داوود (4607)]، وكل ضلالة في النار.

اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، وعيشة السعداء، وميتة الشهداء، يا رب العالمين.

وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - البخاري (3700)
2 - رواه البخاري (717)، ومسلم (436)
3 - رواه مسلم (567) 
4 - رواه أبو داوود (4607)