الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من فضائل الإسلام
الحمد لله الذي أرسل محمداً ﷺ بهذا الدين، وجعله رحمة للعالمين، وجعله مهيمناً لما سبق عليه، فجاء هذا الدين ليعلن أن لا إله إلا الله، كما هي شرائع الأنبياء المتقدمة بما بعث الله به سائر الأنبياء من آدم إلى محمد ﷺ، فكان في هذا الدين عبادة الله وحده لا شريك له، وترك كل ما يعبد من دون الله تعالى، فجاء الإسلام بالتحرر من عبادة الأصنام والسجود للآلهة المتعددة، وإنما يعبد الإنسان إلهاً واحداً لا شريك له، خلق السموات والأرض بالحق، خلق السموات والأرض بالعدل، وجعل هذا الدين مهيمناً على ما سبقه، وإذا كانت الأديان الأخرى تنسب إلى اسم رجل خاصة، أو بلد نشأت فيه فاليهودية سميت بهذا نسبة إلى قبيلة يهودا، وكذلك النصرانية سميت نسبة إلى بلدة الناصرة التي كان فيها المسيح ، والبوذية نسبت إلى بوذا الذي أسس هذه النحلة، والزرادشتية التي أخذ اسمها من حامل لوائها زرادشت، فإن الإسلام لا ينتمي إلى أمة بعينها، ولا إلى بلد ظهر فيه لا يقال: هذا المكي، أو المكيون، ولا إلى النبي الذي أنزله الله عليه فلا يقال: دين المحمدية، ودين المحمديين، على سبيل التسمية الشاملة لهذا الدين، وإنما يقال: الإسلام والمسلمون: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَسورة الحـج:78، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُسورة آل عمران:19، وكذلك فإن الله أرسل نبيه ﷺ ليبلغ رسالته للناس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة:21، وقال : هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِسورة إبراهيم:52، وقال : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًاسورة الأعراف:158أي: العرب والعجم، الشرقيون والغربيون، جميع أهل الأرض: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًاسورة الأعراف:158جناً وإنساً، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً.
من فضائل هذا الدين: أن رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد قال ﷺ: لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ، وسينزل عيسى في آخر الزمان ليكون تابعاً لشريعة محمد ﷺ، وحاكماً بها، وهو الذي لقي نبينا ﷺ مؤمناً به، فكان عيسى معدوداً من جملة الصحابة، فهو صحابي؛ لأنه لقي النبي ﷺ مؤمناً به، وسيموت على ذلك قطعاً، وقد قال ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب الناررواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه [رواه مسلم (153)].
القرآن مهيمن على الكتب السابقة
وكان كتاب هذا الدين -وهو القرآن- آخر الكتب نزولاً، وأحدث الكتب عهداً برب العالمين، فنسخ ما سبقه، وهيمن عليه، فلم يبق بعده كتاب يتعبد به لله، قال : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّسورة المائدة:48، ولم تلحق هذا الكتاب تغييرات وتحريفات كما لحقت الكتب الأخرى، فقال عن الكتب التي بأيدي أهل الكتاب: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُسورة المائدة:13 إذن إثبات التحريف واضح جداً في الآية: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَسورة البقرة:79.
ولهذا كان هذا الإسلام ناسخاً لما سبقه بطبيعة الحال؛ لأنه أكمل الأديان، ونبيه أفضل الأنبياء، وكتابه سالم من التحريف، وشريعته صالحة لكل زمان ومكان، وهذا كتاب أنزله الله رحمة للعالمين، وجعل هذه الشريعة باقية إلى يوم القيامة لا يمكن نسخها، ولا القضاء عليها، فكانت معجزة ببقائها واستمرارها كما هي عليه، ولا يزال في الأمة طائفة منصورة على هذا الحق، ولو ضل من ضل، وانحرف من انحرف من هذه الفرق التي افترقت عليها الأمة، ولكن ستبقى فيها الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة على هذا الكتاب وعلى هذا الدين.
الإسلام دين شمولي
ومن فضائل هذا الدين: الكليات التشريعية، والقواعد العامة التي تندرج تحتها مسائل الفروع، فهذا التشريع الإسلامي مشتمل على أصول وقواعد عامة تستنبط منها الفروع الكثيرة، فلا يعجز المسلمون عن الحكم على النوازل التي تنزل بالبشرية مهما امتدت القرون، وتوالت الأجيال.
وهذه الشمولية التي تتصف بها شريعة الإسلام تشمل كل شيء، سواء كان في أمور السياسة الشرعية والحدود التي تقام وضبط المجتمع بأحكام المعاملات بعد ضبط عِلاقة المخلوق بالخالق، وبيان العبادات، فإنها كذلك تضبط علاقة الإنسان بنفسه.
أفرأيت قضاء الحاجة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لسلمان -يعني: لما فتح المسلمين بلاد فارس-، وجعل الفرس يتعجبون مما في الإسلام، وهم ينظرون إلى قضاء الحاجة، وما فيه من الأحكام والآداب، وإنها لتربو -أي: الأحكام والآداب المتعلقة بقضاء الحاجة- على سبعين من بين حكم وأدب، قال فارسي لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ أي: أحكام قضاء الحاجة، فقال سلمان: "أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن يستنجي برجيع أو بعظم".
وهكذا كان الدين عجباً، ولقد أسلم عامل مغسلة في بلاد الكفر من ما؟ لما كان القوم يأتونه بملابسهم الداخلية والخارجية، وهو يرى في هذه الملابس الداخلية، ولو كانت داكنة اللون على حسب ما يلبسونها تلك النجاسات بأنواعها، فإن هنالك ملابس لعميل من عملاء المغسلة لم تكن فيها تلك النجاسات، فجعل يتعجب، فسأله مرة: لماذا؟ فقال: ديني يأمرني بالطهارة، وإزالة النجاسة، وشرح له الأمر، فأسلم عامل المغسلة.
نظم الإسلام حياة الناس، وجعل العلاقات بين الناس قائمة على الأسس الصحيحة المتينة، ونزَّل الأمور الاعتيادية منزلة القرب والعبادات بالنية الحسنة، ووعد بالثواب عليها، فصلة الأرحام مع أنها أمر جبلي طبعي، وكذلك بر الوالدين ونفقة الزوج على زوجته، وإطعام الأولاد، ولكن مع ذلك فيها أجر عظيم، وقربة إلى الله إن احتسبها صاحبها، وأيضاً اتباع الجنائز، وعيادة المريض، واحترام الكبير، والرحمة بالصغير، والإحسان إلى الجوار، وإكرام الضيف، فحق للإسلام أن يكون دستوراً أزلياً يُقضى به بين الناس.
فتتميز شريعته بالكمال، وأنها من عند رب العالمين ليست كالشرائع الأخرى، والقوانين والدساتير التي تكتب اليوم، يكتبها القانونيون بأيديهم، ثم يزيلون ويغيرون، يرفعون ويضعون، يبدلون ويمحون، فلما كتبوا نظاماً مالياً، ثم أعلنوا أنه قد صار بالياً مهترئاً نادوا بكتابة قانون آخر، ونظام مالي آخر، وهكذا، ولما أرادوا علاج أزمتهم المالية إذا بهم يتخبطون -كما حدث بالأمس-، فغيروا الخطة، وقالوا: لن نشتري الأصول الهالكة، والشركات الخاسرة، وإنما سنجعل ضَخَّ المال في دعم النظام الائتماني ليشتري الناس؛ فيتحسن الوضع، وهكذا لا زالوا في تخبط يلوم بعضهم بعضاً، وما الذي حصل؟ الخروج عن شريعة رب العالمين، والتعامل بما حرم الله، فهذا التخبط واضح في نظام لم يكن في القرآن ولا في السنة، وإنما كتبه البشر، وجعل يستدرجهم، وهم يصرون على حربه بأنواع المعاملات المحرمة، ويريدون أن يسيروا على شرع غير شرعه، فأراهم ما حيرهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْسورة القلم:44-45، ويؤخر ويمهل، وهم يظنون أنهم بلغوا نهاية الحضارات وسقفها، وأصبحوا القوة الغالبة المهيمنة التي يقتدي بها الجميع، فإذا بالنظام يتهاوى: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سورة القلم:44-45 كيد الله إذا وقع فيه الذي تمرد على الله فإنه لا يستطيع الخلاص؛ لأن الكيد المتين محكم، فإذا حاول من هنا أخفق، من هناك فشل، إلى الأمام لا مهرب، إلى الخلف التراجع، كيد الله متين: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سورة القلم:44-45 إذا وقعوا فيه لا يستطيعون الفكاك.
جعل ربنا هذا التشريع للناس في كل زمان ومكان، وكانت شريعة الله كاملة لما أنزلها لا تحتاج إلى زيادة، ولا إلى إضافة الخبرات، ولا إلى زيادة مواد: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْسورة المائدة:3 متى نزلت؟ في سورة المائدة لما اكتملت الأحكام من نحو ألفين وأربعمائة عام: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْسورة المائدة:3، فهو كامل من زمان، فكيف تعود البشرية إلى النقص بعد أن جاءها الكمال؟!
الإسلام فلاح في الدنيا والآخرة
وهكذا يتخبط الناس بدون شريعة رب العالمين، فهذا دين عندهم فيه تعصب، وآخر محرف، وثالث مضلل، ورابع فيه الإباحية بأنواعها، وهكذا تفلس الأنظمة لديهم، وتبقى شريعة الله تعالى.
ولا يضر الشريعة أن كثيراً من المسلمين فرطوا فيها، وأهملوها، ولم يطبقوها، ولم يعملوا بها كما أمر الله، وجهلوا أحكامها، أو عطلها بعضهم؛ لأن التطبيق الذي حصل منها كاف في بيان الصلاحية والتفوق، والقدرة على الصمود، وحل المشكلات، ومواجهة كافة المتغيرات.
جاء هذا الدين الحنيف، دين الفطرة، دين العقل، دين الصلاح، دين الفلاح، حتى اعترف المنصفون شرقاً وغرباً أن كل نافع في الدين والدنيا فيه، وليس في شريعة الإسلام ما تحيله العقول، وإنما فيه ما تشهد العقول الزكية بصدقه ونفعه وصلاحه.
هذه أوامره وهذه نواهيه لا ظلم فيها، لا شر، لا فساد، لا فشل ولا إخفاق، كلما تدبره اللبيب ازداد إيماناً بهذا الدين، ومنفعة الشريعة للناس في العالمين، صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وزكاة تطهر النفس، وفيها الإحسان إلى الخلق، وصوم يعود النفوس على العزيمة والصبر، والوفادة على الله في الحج، وسائر أحكام الشريعة، وكل الدين، أباح فيها رب العالمين من أنواع البيوع والإيجارات، والشركات والمعاملات، والأصل في الأشياء الإباحة في المطاعم والمشارب والملابس، وجعل الضوابط في تحريم الميسر والربا، والجهالة وأنواع الضرر والظلم، حرم نكاح المحارم، جاء بتقسيم عادل بديع في المواريث، وكيفية توزيع الأموال على أولياء الميت، ولم يوكل ذلك إلى الناس بل هي شريعة من الله.
لقد عرف الصحابة فضله؛ لأنهم خرجوا من جاهلية، قال جعفر بن أبي طالب أمام ملك الحبشة: "أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" رواه الإمام أحمد، فاشتمل الدين على الرحمة، وحسن المعاملة، والدعوة إلى الإحسان.
ولكن إذا تأملت المعبودات في الأديان الأخرى، هذا يعبد بوذا، وهذا يعبد حجراً وشجراً، وهذا يعبد البقر، وهذا يجعل لله ولداً وصاحبة.
جاء المسيح عن الإله رسولاً | فأبى أقل العالمين عقولاً |
ضل النصارى في المسيح وأقسموا | لا يهتدون إلى الرشاد سبيلاً |
جعلوا الثلاثة واحداً ولو اهتدوا | لم يجعلوا العدد الكثير قليلاً |
الإسلام دين العدل
هذا الدين الذي فيه صحة العقيدة، وهذه الهيمنة التي جعلها الله فيه حير أولئك القوم الذين أقبلوا على دراسته، ففيه المساواة ولكن بالعدل، أي: النساء شقائق الرجال، ولكن مع وجود فوارق، وقضية الفوارق في الشريعة واضحة جداً بين الصغير والكبير، المكلف وغير المكلف، الذكر والأنثى، المسلم وغير المسلم، الفوارق واضحة جداً لا يعمى عنها إلا أعمى القلب؛ ولذلك فإن الشرع جعل بين المسلمين السواسية مهما كان المسلم أسود أبيض، أحمر أصفر، وهكذا: جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْسورة الحجرات:13، ولا يمكن أن يكون المشرك والكافر تقياً، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، لا فضل لعربي على أعجمي، ... إلا بالتقوى[رواه أحمد (22978)].
لما اختار القوم رجلاً أسود ليرأسهم قام الكلام، كأن الإنجاز الهائل الذي حصل الآن! من زمان في شريعة الإسلام في قضية أنه لا فضل لأسود على أحمر، لا أبيض على أسود، وأصفر على أحمر، وأصفر على أسود إلا بالتقوى، وهكذا فإن البشرة السوداء في الإسلام من زمان لم تكن مشكلة، ولا مانعاً من السيادة في الفقه والقضاء، في العلم والإمارة، وجعلت الشريعة الأئمة من قريش لاعتبار خاص بهم، وأما ما دون ذلك فالناس سواء.
جاء الإسلام ديناً وسطاً بين سائر الأديان، فأديان تمنع الزواج بالكلية -رهبانية-، وأخرى تبيح الزنا واللواط، ونكاح المحارم، وزواج بلا عدد، المزدكية مثلاً إباحية جنسية، ذهب مؤسسها إلى إباحة كل النساء والأموال، وجعل الناس شركاء فيه، وفي بعض البلدان، وأماكن الهند إذا سبق الأخ إلى زوجة أخيه، فإن الزوج يتنحى.
ولما كان هذا الشرع من حكيم خبير خلق العباد، ويعلم طبائع النساء، وحقائق الرجال أباح النكاح، وجعله مقيداً بأربع، وأما ملك اليمين، فبلا تقييد في العدد، ولكن لا ضرر ولا ضرار، وجمع بين مصالح الفريقين، ولم يكن للمرأة أكثر من ثلاث ضرائر، وأتى بمصلحة الأحرار والعبيد.
وإذا كان هنالك من الأديان في الأرض ما يمنع الطلاق، ويجبر الرجل على العيش مع امرأة لا يريدها، أو لا تريده، فإن هذا الشرع قد جعل النكاح منضبطاً بالضوابط، وكذلك حل عقدته بالطلاق والخلع والفسخ على نظام بديع، وفي شريعة يهود إن الزوج إذا طلق زوجته وتزوجت غيره، ثم مات الثاني أو طلقها؛ فلا يجوز للأول أن يتزوجها؛ فإن فعل كان زنىً، وأولادهما معدودون في أولاد الزنا، وذهبت النصارى إلى منع الطلاق إلا بسبب الزنا، والزواج بثانية يعد عندهم زنا، فجاء هذا الشرع الحكيم وسطاً؛ حرم نكاح المحارم: الأمهات والبنات، والأخوات والعمات، والخالات وسائر المحارم، حرم نكاح العم لابنة أخيه، أو الخال لابنة أخته، وهو نكاح تبيحه اليهودية والمجوسية، وفرق من الهنادكة، وبعض من مسخت فطرتهم في هذا العصر.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وليس عند النصارى على من زنا أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبداً، ولا عذاب في الآخرة؛ لأن القس والراهب يغفره لهم، فكلما أذنب أحدهم ذنباً أهدى للقس هدية، أو أعطاه درهماً ليغفر له به، وإذا زنت امرأة أحدهم بيَّتها عند القس ليطيبها له، فإذا انصرفت من عنده، وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها، وتبرك به" هداية الحيارى.
هذا الدين العظيم الذي جاء بتحريم مس الرجل للمرأة الأجنبية والخلوة بها، وأمر الرجال بغض البصر، وأمر النساء بالتستر والتعفف، وإذا خرجن يخرجن غير متبرجات بزينة، فلا يقبل الإسلام ما يحدث في عالم الملابس اليوم مما يبتدعه هؤلاء الخارجون عن شرعه -البلوزا ترتفع والبنطلون ينزل!-.
المهازل التي درج عليها أولئك القوم بسبب ماذا؟ ليس هناك دين يردعهم، ولا شريعة تضبطهم، فتخرج دور الأزياء ما تخرج إلى الناس بلا ضوابط، ولا شرع يطهر، ولا دين يحكم ويضبط، فأما أحكام اللباس في الشريعة فمن أبدع ما يكون.
اللهم إنا نسألك أن تثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أحينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله والحمد لله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأزواجه، وخلفائه وذريته الطيبين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
من بدائع الدين الإسلامي
عباد الله: جاءت هذه الشريعة بإزالة النجاسات الظاهرة والباطنة، وأمرت بالتطهر من الأخلاق الشيطانية والرذائل، جاءت بنظام في الأخلاق عظيم، وجعلت صاحب حسن الخلق في منزلة الصائم نفلاً طويلاً، والقائم نفلاً ليلاً طويلاً، فجعلت حسن الخلق من أثقل شيء في ميزان العبد، ليست الأخلاق في الإسلام أخلاق نفعية، يعني: تقر عندما تكون هنالك مصلحة للمجتمع، لا، الأخلاق أخلاق دائماً، دائماً هي هكذا الأخلاق، ليست قضية مثلاً حفظ الوعد والموعد في الإسلام؛ لأن الإخلال بالموعد يترتب عليه خسائر اقتصادية، لا، هذا لأن العدل والدين والشرع يقتضي ذلك، ولأن الفطر السوية فيها هذا، بغض النظر كان الوعد لمدير شركة، أو كان الوعد لطفل صغير وُعِد بهدية لو ما أعطيتيه كتبت عليكِ كذبة.
جاء هذا الشرع بالختان الذي لم يتركه نبي من بني إبراهيم قط، وطوائف وأديان في العالم لا تعرفه، ولا تقره، ولا تعمل به، وعندهم الالتهابات مستمرة، وهذا الأقلف المبغوض شرعاً عادي عندهم! فيا له من فرق عظيم.
والأذان لو تأملته، والإعلان للصلاة يعلنه اليهود بالبوق، ويعلنه النصارى بضرب الناقوس، ويعلنه غيرهم بالنيران وإيقادها، وهذه الأمور تحصل بها مصلحة الإعلان، لكنها لا تبين ثناء على الملك العلام، فانظر للإعلام بالصلاة في الإسلام كيف جعل فيه تجديد كلمة الإيمان، والشهادة للملك العلام، وتفخيم قدر الرسول ﷺ، وبيان علو شأنه على الأنام، والحض على الصلاة، والترغيب فيها، وجعل الذي يأتيها مفلحاً في الدنيا والآخرة: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، و"الله أكبر" تفخيم شأن الملك سبحانه، وإعلان كلمة التوحيد والتذكير بها، فأين هذه المصالح الجليلة العظيمة عندهم؟ وأين المصلحة في طريقة إعلامهم بالأبواق والنواقيس إذا ما قورنت بما في شريعتنا؟ ولذلك تعجب كتابهم ومفكروهم لما درسوا هذا الدين، وقالت قائلتهم: رأيت المسلمين وهم ينطلقون إلى المساجد كلما انطلق صوت الأذان بالصلاة، وعدت بذاكرتي إلى أيام طفولتي حينما كنت أذهب قسراً إلى الكنيسة لأستمع إلى تراهات القسس، فيما يتناول الفتيات والشباب النظرات التي تخفى وقاحتها على أحد على كراسي ومقاعد الكنيسة، والملاهي تعزف، -معازف تعزف في دور العبادة!-، ومما شدني إلى الإسلام أني رأيت المسلمين الذين طالما وصفوا بالتخلف، ورموا بالرجعية يحيون حياة في تماسك وتعاطف، وتكافل اجتماعي، ومودة وتراحم.
أين نظام الصف في الإسلام؟ في المسجد، مثل الملائكة، يتمون الصفوف الأول فالأول، ويتقاربون في الصفوف، ولا فرج؛ المنكب بالمنكب، أي عبادة فيها مثل هذا؟ هذه عبادات البوذيين، الانحناء فيها إلى الأمام وبعضهم يزحف زحفاً.
أين رفع اليدين في الصلاة من ضمهما، والإيماء بالجبهة إلى بوذا أو النار؟ أين إعلان الأذان من إيقاد الشموع؟ وماذا في الشموع؟ ألسنة لهب، وما يغني اللهب.
فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، فما عند القوم كتاب فيه جوامع الكلم مثل القرآن أبداً، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداًالطهارة المائية، والطهارة الترابية، أين يوجد هذا في الأديان الأخرى؟ في دين يأمر أتباعه بأن يغسلوا أطرافهم يومياً لأداء الصلاة؟ نظافة، قال ﷺ: وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون[رواه مسلم (523)]، وهكذا يتاح المجال للمسلمين في الصلاة في أي مكان في الأرض في العالم.
وهكذا لا نرى ديناً صالحاً لكل زمان ومكان غير الإسلام، ولا نظاماً يضبط العالم غير الإسلام، ولا يوجد شريعة فيها مرونة وشمول مثل شريعة الإسلام.
يقولون في الإسلام ظلماً بأنه | يصد ذويه عن طريق التقدم |
فإن كان ذا حقاً فكيف تقدمت | أوائله في عصره المتقدم |
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله | فماذا على الإسلام من جهل مسلم |
الإسلام لا يتحمل أخطاء مسلم، لا يوجد دين في هذا الكون لا إفراط فيه ولا تفريط، ويساوي بين الأبيض والأسود، ولا يشذ عن الفطرة، وفيه كل نافع، وتحريم كل ضار، لا يوجد في الأديان الأخرى تحريم كل ضار إلا شريعة الإسلام؛ ولذلك فإن الله تعالى لا يقبل غير الإسلام: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَسورة آل عمران:85، فهذه الرسالة الحقة التي لا يسع أحداً في العالم الخروج عنها، وهي خاتمة الأديان، والناسخة لجميع الملل والشرائع، والمهيمنة على ما سبق، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِسورة الأنعام:115.
اللهم فقهنا في الدين، وارزقنا اتباع سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم نسألك الثبات حتى الممات، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المفلحين، وأن تدخلنا الجنة مع القوم الصالحين، اللهم ارزقنا الفردوس الأعلى، وكفر عنا ذنوبنا، وارفع درجاتنا، وثقل موازيننا، وبيض وجوهنا يوم نلقاك، اللهم اهد ذرياتنا وأنفسنا، اللهم طهر قلوبنا وحصن فروجنا يا ربنا، اللهم اقض ديوننا واستر عيوبنا، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور، والرشاد للأئمة وولاة الأمور، وأن تغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.