الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
خطورة التحريش
إن من أعظم ما يسعى به الشيطان بين عباد الله المؤمنين هو التحريش بينهم، وكلمة التحريش قد أخبر بها النبي ﷺ عندما قال: إن الشيطان قد أيس -وفي رواية: يئس- أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم[رواه مسلم2812 والترمذي1937]، وكان ذلك في آخر عهد النبي ﷺ لما فتحت الجزيرة بالتوحيد، وانتشر فيها الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وجاءت وفود قبائل العرب تبايع على الإسلام رسول الله ﷺ، عند ذلك أخبر أصحابه بقوله: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، في ذلك الوقت، ولكن ماذا بقي له؟ يئس من الشرك، يئس أن يغويهم بالشرك، بقي له أن يحرش بينهم، ثم بعد ذلك رجع ما رجع إلى جزيرة العرب، ويرسل الله فيهم من يجدد الملة والدين، ويعيد الناس إلى السنة والتوحيد جيلاً بعد جيل، لكن بقي سبيل التحريش قائماً، فما هو التحريش؟
تعريف التحريش
التحريش إثارة العداوة، وإلقاء البغضاء، وتأليب النفوس بعضها على بعض ليحدث الشجار، ويكون الشقاق، التحريش هو الإغراء بين القوم، وقد يكون بين البهائم، وجاءت الشريعة بتحريمه فنهت عن التحريش بين البهائم؛ كمثل مناقرة الديكة، ومناطحة الأكباش، ونحو ذلك، وإذا كان الشرع قد حرم التحريش بين البهائم فكيف بالتحريش بين المسلمين، الذي يؤدي إلى قيام الخصومات، والشحناء، والحروب، والفتن، وأعظم فرحة للشيطان أن يفرق بين المسلمين، وأن يخالف بين كلمتهم، فيحرش بينهم في أمور عرقية، وطبقية، ووهمية كي يكون بينهم من الأحقاد، والضغائن ما يكون، ويتعالى بعضهم على بعض بالأحساب، والأنساب، والأموال، والمناصب، وغير ذلك، لا يرتاح الشيطان إلا إذا ألقى العداوة والفتن بين المسلمين.
صور من التحريش
عباد الله: ترى من حولك من زوجين، وأخوين، وشريكين، وجارين، بل وقبيلتين، وجماعتين بينهما ما بينهما، لماذا؟ لأن الشيطان قد نجح في التحريش بينهم، هذا التحريش الذي هو خطة المنافقين بين المؤمنين، عن جابر قال: " كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار" هذا كان منه لعباً في عرفه مداعبة لكن في عرف الآخر هذا عيب كبير، فتداعى بعضهم إلى بعض، وتثاوروا وجاء الشيطان ليحرش بينهم، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، بدأت عملية التحريش، فسمع ذلك النبي ﷺ فقال: ما بال دعوى الجاهلية، دعوها فإنها منتنة[رواه البخاري4905]فحاول ابن سلول أن يغري الأنصار ليقعوا بالمهاجرين وأن يغري المهاجرين ليقعوا بالأنصار تحت شعارات ظاهرها إسلامية: يا للمهاجرين يا للأنصار، ومع ذلك قال النبي ﷺ: دعوها فإنها منتنة.
إذن: هذه عملية التحريش التي يتعصب فيها كل قوم لمن معهم، وبسبب التحريش قتل عثمان ، ومصدر التحريش الأساس كان عبد الله بن سبأ اليهودي، وأشد ما يكون التحريش عندما يكون بين أقوام من المسلمين لشيء عرقي، أو قبلي، ونحو ذلك، لو كانت القضية قضية توحيد، وشرك، وسنة، وبدعة، لكانت المواجهة حتمية شرعية؛ لأن الشرع لا يرضى بالدمج بين التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، الشرع لا يرضى بأي تأليف وأي تجمع، ولو كان فيه مسلمون ومشركون، وأهل سنة وأهل بدعة، وخلط الحق بالباطل، لكن عندما يكون الجميع من أهل التوحيد والسنة والدين يريد الشيطان أن يلقي بينهم العداوة والبغضاء، تارة بالقبائل، وتارة بالجنسيات، وتارة بالطبقات المالية، وهكذا.
عباد الله: لقد سعى اليهود بين المسلمين للتحريش وإيقاد الفتن: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُسورة المائدة64، ومن هذه الأمثلة ما فعله شاس بن قيس اليهودي حين مر على نفر من الصحابة من الأوس والخزرج فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم فقال لشاب يهودي: اذهب فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث، هذا يوم كان قبل الإسلام يوم كان فيه حرب بين الأوس والخزرج من أيام الجاهلية، اذكر هذا واسرد بعض القصائد التي كانت من الشعراء لذلك اليوم، وذكِّر القوم المجتمعين من الأوس والخزرج بما حصل من القتلى والطعن، وما حصل في ذلك اليوم من مواجهات، ففعل الشاب اليهودي ذلك فتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من المسلمين فقال أحدهما: إن شئتم رددنا الحرب جذعة نعيدها حامية، حامية الوطيس، قال الآخرون: قد فعلنا موعدكم الحرة السلاح السلاح، خرجوا، فبلغ ذلك النبي ﷺ فخرج إليهم حتى جاءهم فقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم[تفسير ابن كثير 2/90] بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم، فعرفوا أنها نزغة من الشيطان، ورد الله كيد العدو في نحره فبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع النبي ﷺ، وقيل: إن هذا سبب نزول قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَسورة آل عمران100إلى قوله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ.. سورة آل عمران 103الآيات، فينبغي إذن تفويت سبيل الشيطان في قضية التحريش.
عباد الله: تحريش حصل من جارية يهودية كانت عند أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها، وهي أصلاً من اليهود، لكنها أسلمت، وصارت أماً للمؤمنين، فجاءت جاريتها إلى عمر فقالت: "إن صفية تحب السبت وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها، قالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها، ثم قالت: يا جارية ما حملك على ما صنعت؟ -لما عرفت أنها سبب التحريش- قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة ".
عباد الله: كان الأذكياء من الولاة يتفطنون لهذا، فدخل رجل على الوليد فقال: إن لي جاراً عصى وفر من الزحف، قال: أما أنت فتخبر أن لك جار سوء إن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقاً أقصيناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت تركناك كأنك ما بلغتنا شيئاً، قال: تاركني يرحمك الله.
وهذا التحريش الذي يكون أحياناً على أهل العلم من السفهاء، والجهلاء الذين يلغون في أعراض العلماء، وقد أوذي بذلك نفر من كبار أهل العلم كشيخ الإسلام رحمه الله لما أودع السجن، وأيضاً ما حصل لكثير من تلاميذه.
التحريش أيضاً يقع في أمور كثيرة، ومنها: الحياة الزوجية، أعظم جند إبليس من يفرق بين زوجين، فقد قال النبي ﷺ: إن إبليس يضع عرشه على الماء إذن عرش إبليس أين موقعه؟ على الماء، ثم يبعث سراياهيبعث الشيطان يومياً إبليس الأكبر يبعث شياطينه يجوسون خلال الناس، فأدناهم منهم منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم إلى إبليس بعد إنجاز المهمة فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً؟ ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه إبليس ويلتزمه ويقول: نعم أنت[رواه مسلم2813]والحديث في صحيح مسلم.
إذن: يقربه، ويضمه، ويمدحه، ويثني عليه إبليس؛ لأنه بلغ الغاية، هدم بيوت الناس.. الإفساد فيما بينهم.. تشتيت الأسرة.. تفريق الأحبة.. تشريد الأولاد، وقد قال ﷺ: ليس منا من خبب امرأة على زوجها[رواه أبو داود2175 وهو حديث صحيح]، ما هو التخبيب؟ هو الإفساد والنميمة، إثارة الطرفين على بعضهما، زوجك فيه كذا وكذا، تقوله شيطانة من الإنس يغيظها أنها ليست بذات زوج، أو مطلقة، وهذه سعيدة مع زوجها، ويقوم شيطان إنسي آخر إلى الزوج ليقول: زوجتك فيها كذا ما فعلت لك كذا ما عملت لك كذا، وهكذا حتى يريها إياه في نظره شيطاناً قبيحاً، والنبي ﷺ لعن من فعل ذلك وعده من أكبر الكبائر وتبرأ منه.
وهكذا كما قيل: إن رجلاً ذهب ليشتري عبداً فقال له البائع: إنه نمام، فاشتراه ظن النميمة هذه خصلة هينة يمكن التغلب عليها، فجاء هذا العبد مرة إلى مولاته زوجة السيد فقال: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتزوج عليك، وقد عرفت من خاصة أمره كذا وكذا، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال: خذي موسى فاحلقي بها شعرات من باطن لحيته بخريه بها، وجاء إلى الرجل بعد ذلك فقال: إن امرأتك تصادق غيرك وهي ستقتلك لكي تتمكن من الزواج بخليلها، وإذا أردت أن تتأكد فتظاهر بالنوم عندها، فذهب الرجل وتناوم فأظهر النوم، فجاءت بموسى لتحلق الشعر من أسفل لحيته فأيقن عند ذلك أنها ستذبحه فقام إليها فقتلها فأخذه أولياؤها فقتلوه بالقصاص، نميمة خبيثة تخبيب إفساد تحريش.
وهكذا فعل بعض شياطين الإنس قالوا لصاحب لهم حسدوه على زوجته وعلاقاته المستقرة: متى غيرت سيارتك؟ قال: لم أفعل، قالوا: رأينا سيارة تقف عند بابك تختلف عن سيارتك مراراً، ولا زالوا يقولون له ذلك حتى جلبوا له الوساوس، حتى أدى ذلك إلى أنه فعلاً قتل زوجته.
والإفساد بين الزوجين له صور كثيرة: إيغار صدر.. دفع إلى الخلع.. المطالبة بالطلاق.. المحرش يسمي نفسه فاعل خير، ويحدث هذا كثيراً أيها الإخوة ومع الأسف هذه الأيام التي انتشرت فيها العلاقات المحرمة، وخصوصاً عبر شبكة الإنترنت، والجوالات، والاتصالات، وإقامة العلاقات مع الطرف الآخر عندما تقع هذه المرأة في حبه كما يقولون، وتكون العلاقة بينهما وهي متزوجة فهو لا يزال يخببها على زوجها، ويعدها، ويمنيها بأنها إذا فارقت زوجها أنه سيتزوجها، وهكذا يقوم سوق الإفساد، ولا تزال المرأة تطالب بالخلع لتذهب إلى ذلك الذي ملأ حياتها رومانسية، وزوجها جاف كما تقول، وقضية الرومنسية المأخوذة من الأفلام المدبلجة كثير منها وهم، ومن نظر في حياة الممثلين والممثلات أنفسهم لرأى شقاء كبيراً، لكنهم يوهمون الناس أنهم أصحاب علاقات دافئة، والنتيجة تفريق بين الأزواج والزوجات.
أما ما يحدثه الشيطان من التحريش بين الإخوة فسائل المحاكم عن قضايا الإرث المعلقة، أرخص الأراضي والبيوت التي فيها خلاف وورثة، يقولون: هذه فيها خلاف ورثة، ورثة مختلفون، لماذا اختلفوا؟ ألم يكن الاتفاق ممكناً؟ لكن التحريش، وأحياناً يقع التحريش من أقارب الزوج فتقوم أخته بالدور، وأحياناً من أقارب الزوجة لتقوم أيضاً بعض قراباتها بالدور، ولذلك لا بد من الحكمة، لا بد من الحكمة.
التحريش قد يقع بين الأصدقاء والإخوان، وكم من علاقات بين إخوان في الله تقطعت بسبب تحريش الشيطان؟ بل الإخوة الأشقاء قال يوسف: وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيسورة يوسف100حملهم على ظلمه فتسببوا في بيعه عبداً، وتعريضه للفتنة أمام امرأة العزيز، ودخوله السجن، وكذلك حزن أبيه عليه حتى أضرت بعينيه فرقة الابن ففقد البصر، ويكثر في أيامنا التحريش بين المدير والمرؤوسين، ويقع بين الموظفين بعضهم البعض وهكذا، وكل منهم يظن أنه سيؤذي الآخر ويحفر له ونحو ذلك.
القضية نرجع إلى التحريش، قالها ﷺ والله، وحذرنا منها.
التحريش إنه ذلك الباب من أبواب الإثم العظيم الذي فيه تحقير، وهجران، واعتداء، ومشاجرات، وسوء ظن، وتجسس، يخذل المسلم أخاه المسلم، ويحقره بهذه الأسباب.
كيفية التعامل مع التحريش والمحرش
ولذلك لا بد من الوقفات الجادة المبنية على الشريعة، بماذا جاءت الشريعة بشأن المحرش، والنمام، والمخبب، والمفسد للعلاقات؟
قال تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍسورة القلم10هذه كلمة مهمة جداً في مواجهة هذه المشكلات، وَلَا تُطِعْ يغفل عنها الناس، ويغفلون عن الآية: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍسورة القلم10-11مشاء بنميم يمشي بالنميمة، مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍسورة القلم12-13إذن الحل أولاً لا تطعه؛ لأن الله قال: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍسورة القلم10قال: مَّشَّاء بِنَمِيمٍ فلا تجوز طاعته.
تنح عن النميمة واجتنبها | فإن النم يحبط كل أجر |
يثير أخو النميمة كل شر | ويكشف للخلائق كل ستر |
ويقتل نفسه وسواه ظلماً | وليس النم من أفعال حر |
المحرش لا يكون صادقاً، ولما دخل رجل على سليمان بن عبد الملك والإمام الزهري جالس في المجلس قال سليمان: بلغني أنك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، أنا أثق بالمخبر، فقال الزهري رحمه الله: لا يكون النمام صادقاً. الذي نقل إليك عنه نمام، والنمام لا يكون صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.
وعاتب معاوية الأحنف في شيء فأنكره، فقال: أخبرني الثقة أنك قلت عني كذا وكذا، فقال: إن الثقة لا يبلغ. لو كان ثقة ما بلغك عني هذا الكلام.
وكتب بعض الخلفاء على رقعة أرسلها إليه نمام قال: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.
وهكذا يفعل النبهاء إذا جاءتهم الوشايات، الواشي ليس بثقة، الواشي ليس بصادق، ولا بد من التحقق، ولا تطع كل مشاء بنميم، وأيضاً الاستعاذة بالله من الشيطان، وقول الكلمة الحسنة، هذا إجراء مهم، قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْسورة الإسراء53الكلمة الحسنة هي التي تغير الواقع السيئ، الكلمة الحسنة هي التي تعدل الأمور، الكلمة الحسنة هي التي ترد الكيد، ليس الحسن فقط، بل يختار من الكلمات الأحسن ليقولوه.
اللهم إنا نسألك أن تصلح ذات بيننا، وأن تتوب علينا، وأن تجعلنا إخوة متحابين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، وحياة الأتقياء، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أمينه، وخليله، ومصطفاه، والشافع المشفع يوم الدين، وحامل لواء الحمد، سيد الأولين والآخرين، اللهم صل وسلم عليه، اللهم بارك على آله وذريته الطيبين، اللهم صل وسلم على أصحابه، وخلفائه الميامين، وزوجاته يا رب العالمين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: لما جاء رجل إلى وهب رحمه الله يقول: فلان يقع فيك ويقول كذا وكذا وأنا سمعته في المجلس، فقال وهب: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ وهكذا يكون الرد قوياً لهؤلاء حتى لا يتمكنوا من شيء.
قبول الأعذار مهم في رد التحريش، فإذا اعتذر أخوك لك عن شيء من التقصير فاقبل منه؛ لئلا يستمر الجفاء بينك وبينه، وأيضاً فإن الارتباط بين النفاق والتحريش واضح كما في قوله تعالى: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَسورة التوبة47، ما معنى أوضعوا؟ كثير من الذين يقرؤون في المصحف لا يعرفون معناها، أوضعوا خلالكم يعني: أسرعوا بينكم يبغونكم الفتنة بالنميمة والتحريش، يريدون إثارة العداوات والفتن، ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْأسرعوا خلالكم يبثون الفرقة ويخببون ويحرشون، هذا سبيل المنافقين، فلذلك لا بد من كشفه، ومن السبل المهمة الرد القوي على الساعي بالفتنة، ولما جاء رجل إلى وهب رحمه الله يقول: فلان يقع فيك ويقول كذا وكذا وأنا سمعته في المجلس، فقال وهب: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ وهكذا يكون الرد قوياً لهؤلاء حتى لا يتمكنوا من شيء.
أهمية العمل في شهر شعبان
عباد الله: نحن في آخر شعبان الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله:
الرفع منه ما يكون يومي فيرفع لله عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، فترفع سجلات النهار في أول الليل وترفع سجلات الليل في أول النهار كما ثبت في السنة.
ورفع أسبوعي ترفع الأعمال إلى الله كل اثنين وخميس: فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم[رواه الترمذي747]
وهناك عرض سنوي الثالث شهر شعبان: شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين[رواه النسائي2357 وحسنه الألباني]، ولذلك كان يحب الإكثار من الصيام فيه، فانظر يا عبد الله ماذا يعرض على ربك، والعرض الختامي لما يموت الإنسان تختم الصحيفة وترفع إلى الله.
بعض الأحكام المتعلقة بشهر رمضان
عباد الله: ثبت عن النبي ﷺ أنه نهانا عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، فلو كان رمضان الاثنين مثلاً فلا نصوم السبت والأحد، ولو كان رمضان الأحد فلا نصوم الجمعة والسبت.. وهكذا، إلا من كان له صوم يصومه من عادة كالذي يصوم يوماً ويفطر يوماً فيكمل على عادته، كذلك من كان عليه قضاء من رمضان الماضي مثلاً: نذر، كفارة، فيجوز أن يصومه ولو في آخر شعبان.
نهينا عن صيام يوم الشك، ما هو يوم الشك؟ اليوم التاسع والعشرين من شعبان إذا غربت الشمس يتراءى الناس هلال رمضان، فإذا كان في السماء غيم صار هذا شكاً، فنهينا عن صيام اليوم الذي بعده، فإذا ما رأينا هلال رمضان نفطر على أنه ثلاثين شعبان، ولا نصوم احتياطاً كما يقول بعض الناس؛ ولذلك قال عمار : "من صام يوم الشك فقد عصا أبا القاسم ﷺ".
عباد الله: هذه الأمة لها دلالات وبينات، ومن ذلك هذا الهلال الذي جعله الله آية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّسورة البقرة189إذن قضية ارتباط العبادة بالهلال حتمي في الإسلام، جعل الله لنا آية بينة في السماء يراها المثقف، والعامي، والرجل، والمرأة، والكبير، والصغير، هلال يولد، وهلال يختفي، قال ﷺ: صوموا لرؤيته[رواه البخاري1909]فلا بد من الرؤية البصرية، فيثبت دخول الشهر برؤية الهلال سواء كان بالنظارة، أو بمنظار مقرب، أو رآه طيار، المهم بالعين، فلا يحرم استعمال التلسكوبات، والمناظير المقربة ما دامت القضية تطبيق الحديث: صوموا لرؤيته ما قال: صوموا للحسابات، قال: صوموا لرؤيته، والرؤية تكون بأي شيء؟ بالعين، فإذا رؤي بالعين وجب الصوم، وإذا ما رأيناه أكملنا عدة شعبان ثلاثين، سنة واضحة عن النبي ﷺ، والشريعة تصلح لكل زمان ومكان.
وتحري رؤية هلال رمضان من السنة، وكان المسلمون يظهرون إلى البوادي وأطراف البلد ليتمكنوا من رؤية الهلال، وهذا التحري من العبادات، ويجب أن يكون في المسلمين من يتحرى، فتحري هلال رمضان فرض كفاية لا بد أن يقوم به بعض الناس، لا بد، وترك التحري بالكلية تأثم عليه الأمة، فلا بد من التحري لهذا الهلال، فإذا ثبتت رؤيته ولو عن ثقة واحد نودي بالصيام.
واعتبار اختلاف المطالع قال به بعض العلماء، فهذا الخلاف معتبر بين المسلمين لا يشنع بعضهم على بعض فيه، فمنهم من قال: إذا رآه واحد في الأمة لزمها كلها شرقاً وغرباً، ومنهم من قال باختلاف المطالع فلكل أهل إقليم وليس بلد، لكل أهل إقليم رؤيتهم، فالهند غير الأندلس مثلاً عند من قال باختلاف المطالع، ولكن في النهاية كلها تحري الرؤية بالعين: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، النص واضح، والمشاغبة على النص والذهاب إلى قضايا حسابات ما حسابات هذا كله معاكسة للنص، وهذه الشريعة تصلح لكل زمان ومكان، وتصلح لكل بيئة، ويجب أن تبقى على ما هي عليه لا نغير ولا نبدل.
اللهم إنا نسألك الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أعتق رقابنا من النار واجعل الجنة مثوانا، اللهم اقض ديوننا واستر عيوبنا واشف مرضانا وارحم موتانا، وبلغنا شهرنا رمضان يا ربنا واجعلنا فيه من المقبولين، اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا فيه من الصائمين المقبولين وأعتقنا فيه من النار يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تتم نعمتك علينا ببلوغ شهرنا يا أرحم الراحمين، واجعلنا من المقبولين واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين، آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، من أراد بلدنا هذا بسوء فامكر به، ومن أراد أن يعبث بأمننا وإيماننا فابطش به يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.