الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أهمية الزكاة وفضائلها
عباد الله: جعل الله في قلوب العباد محبة المال، وخلق المال، وخلق القلوب، وجعل القلوب تميل إلى المال، فالمال ميلٌ تميل إليه النفوس، وهو يتمول ويتخذ، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاًالفجر:20، والإنسان لحب الخير لشديد.
وقد جعل الله في هذه المحبوبات ابتلاء بطاعته، فهل يخرج منها عبده، وفي معنى الابتلاء بإخراج المحبوب يظهر معنىً عظيمٌ للعبودية، فإن تعبيد الناس لله، من أسسه في الشريعة؛ إخراج المحبوب لله، والتنازل عن شيء من هذا المحبوب لعلام الغيوب ، ومن هنا كان إخراج الزكاة.
فهناك عبوديات على الجوارح، وعبوديات على القلب، وعبوديات في الأموال، وقد كانت الزكاة ركن من أركان الإسلام؛ دليلاً على أهمية هذا النوع من العبودية، والزكاة فيها أعمال كما يدل عليه قوله سبحانه:وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ المؤمنون:4 أي: يفعلون هذا الإخراج، فالزكاة فيها عدة أفعال؛ لأنها تتضمن حساباً، وتقديراً، واجتهاداً، وإخراجاً، وعزلاً، وإيصالاً، وتوزيعاً، فتحتاج إلى أعمالٍ بدنية، وأعمال فكرية، فهو يحسب، ويتنازل لله، وهو يفكر في المستحق منه، فيبحث عن المستحق، ويتأمل فيهم أيهم أقرب إلى الاستحقاق، ففيها تأمل، وتدبر، ونظر، واجتهاد، وحساب، وقيام بالإخراج، والإعطاء بالجوارح. ومن الأفعال فيها ما يكون بالقلب والعقل؛ فيحسب والقلب يتنازل، ومنها ما يكون الجوارح التي تعطي، وتوزع، وتوصل، وهذه العملية، تؤدي إلى تطهير النفس من الشح؛ لأن كل نفس فيها شح، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَاالتوبة:103.
فإخراج الزكاة يرفع المنزلة، ويطهر النفس، ويزكي القلب، ويطفئ غضب الرب .
وإيتاء الزكاة عندما يكون فيه احتساب للأجر يكون هناك أبعاد أخرى، قال الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَالروم:39.
فقوله: تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ هذه مرتبطة بالزكاة ارتباطاً وثيقاً، ويترتب على هذه الإرادة لوجه الله والإخلاص في الإيتاء؛ المضاعفة في الأجر.
عندما نتأمل في عملية إخراج الزكاة، وما فيها من الرحمة، وإيصال المنافع للآخرين، ودفع حاجات الفقراء، وتقوية المسلمين لبعضهم البعض، فالمجتمع يحمل بعضه بعضاً بإخراج الزكاة، وفيها إزالة أحقاد الفقراء التي تتراكم في بعض النفوس عندما يرون الأغنياء فيما هم عليه من النعمة، ثم تكون البركة في أموال المخرجين، فهذه العملية بأبعادها، .
فكيف وقد فرضه الله ، وقرن إيتاء الزكاة بإقامة الصلاة، وجعلها من أعمدة الدين، وجعل الإخراج المقابل لشح النفوس بالتماس الأجر، فهذا يغطي على هذا، ومن أعطاها مؤتجراً أي: طالباً للأجر، فيقابل شح النفس، فالنفس لا تريد، وهذا يريد الأجر فما الذي يحمل الإنسان للتغلب على الشح؛ لأن بعض الناس لا يخرج الزكاة، وربما أخرج شيئاً منها، وبعضهم يصرح ويقول: حسبتها فلم أستطع أن أخرجها لكثرتها، نفسي ما استطاعت أن تطيب بالإخراج؛ لأن عوامل الإخراج ضعيفة، وعوامل الإمساك قوية.
فجاء الشرع بعوامل البذل وهي: تريدون وجه الله، طيبة بها نفسه، فهذه الأشياء هي التي تحمل الإنسان على الإخراج؛ لأن الإخراج يحتاج إلى قوة دافعة للتغلب على حب المال المركوز في النفس.
وعندما تأتي النصوص بأن إخراج الزكاة فيها زيادة، فالنفس ترى أن عشرة آلاف إذا أُخرجت زكاتها تصبح تسعة آلاف وسبع مائة وخمسين، فلا ترى النفس أو العين إلا النقص، فتقول: أين الزيادة؟
فيقال: لا يشترط أن تكون الزيادة مرئية؛ لأن الزيادة تحصل من جهات أخرى، إما بأن يكون بقية المال الذي زكي صار يكفي أكثر مما يكفي المال قبل الإخراج، أو يكون بركة، أو يأتي الله بأرزاق للمزكي فتزيد الأرقام التي نقصت، ناهيك عن الأجر الذي يكون في الآخرة، وما يكون للمزكي من الأجر والثواب.
عقوبات منع الزكاة الدنيوية والأخروية
إن منع الزكاة في الشريعة مسألة عظيمة، وفيها آثار ضخمة سواء في الدنيا، أو في الآخرة، فمن آثارها في الدنيا:
- تؤدي إلى إراقة الدماء، ولذلك أول حرب في الإسلام بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام كانت في قضية منع الزكاة.
- التعزير بأخذ شطر ماله، كما في الحديث ومن أبى فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا [ رواه النسائي (2444) وأبو داود (1575) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1407) ]
أي: حقاً من حقوقه، وإذا تمنع وتسلح؛ فيقاتل.
- نزع البركة، ومنع القطر من السماء.
أما آثارها في الآخرة:
- فتكوى بها الجباه والجلود بالنار، قال تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَالتوبة:35، لأنه أعرض عن الفقير - المستحق وليس المتلاعب - من جميع الجهات لما جاءه من هنا، ومن هنا، ومن هنا.
- أن الدواب تعضه، وتطأه بأظلافها وقرونها، كما جاء في الحديث الصحيح[ رواه البخاري (1402) ومسلم (987) ].
- يطوقه الثعبان، كما في الحديث من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع أي: سقط شعره من كثرة سمه له زبيبتان أي: نقطتان سوداوان فوق عينيه، أو بجانب فمه، وقيل نابان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية[ رواه البخاري (1403) ]. ولا يزال به عميلة التعذيب مستمرة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
وأيضاً: لاوي الصدقة من الملعونين على لسان محمد ﷺ، كما جاء في الحديث. [ رواه النسائي (5102) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5) ]
واللاوي: هو المانع.
حكم وأحكام الزكاة
والزكاة فيها من الحكم والأحكام، إذا تأملتها وجدت فيها:
- لله رحمة وعدلاً.
- مراعاة للمال الذي يخرج منه.
- تفريق في المقادير.
- مراعاة لتعب الإنسان، فالركاز وهو الكنز المعثور عليه بدون تعب، وإنما هو من أيام الجاهلية، فيه الخمس، وأما المواشي فإنها إذا كانت ترعى مما أنبته الله من الكلأ، والمرعى، ففيها الزكاة كما هو معروف في خمس من الإبل، وأربعين من الغنم وهكذا؛ لأنها ترعى بغير كلفة، ولا مشقة، وتنمو وتتكاثر بنفسها، وإذا علفها صاحبها، وصار هو الذي يشتري لها الشعير، فليس فيها زكاة مهما تكاثرت عنده، وأما إذا صارت عروض تجارة، فتقوّم بعروض التجارة، وصار لها بند آخر، أما إذا كان يتخذها للدر والنسل فقط، فيقال له: إذا كنت تعلف فلا زكاة.
وكذلك الزروع والثمار، فليس كل ما ينبت من الأرض فيه زكاة، فالبقول والمقاثي، ليس فيها زكاة، وإنما في أشياء معينة فقط مثل ما يقتاته الناس، وإذا كانت تسقى بماء السماء ففيها العشر؛ لأنه لم يتعب فيها، مثل الذي يسقيه النهر، أو المطر، وإذا كانت تسقى ويجلب لها الماء ففيها نصف العشر، فكلما زاد التعب قل مقدار الزكاة الواجبة فيه، وإذا كان يسقى هكذا وهكذا، ففيها ثلاثة أرباع العشر، إذن هناك تناسب ومراعاة لتعب العبد، وأيضاً لا نجد أن الزكاة في كل الأموال، بل هي في: الذهب، والفضة، والماشية، والزروع، والثمار، وعروض التجارة، فقط. وهذا لفت نظر من الشرع إلى الأموال الحقيقية؛ لأن هنالك أموال وهمية كما دلت على ذلك الأزمة المالية، ولذلك خبراء الاقتصاد المتعمقين ينادون بالعودة إلى الأموال الأصلية، فيقولون: إن الأوراق النقدية تفقد قيمتها، وإن السندات المالية، والأسهم، والأوراق المالية يمكن أن تكون وهمية، أو تنهار أسواقها، أو يحدث فيها أنواع من التلاعبات، بخلاف الأموال الحقيقة.
ولذلك ترى أن اللجوء بعد الله في الأزمات؛ إلى الأموال الحقيقية، ويجب أن يلتفت أرباب الأموال إلى هذه المسألة، فالزكاة جاءت في الأموال الحقيقية، والناس وإن طوروا أوراقاً مالية بأنظمة مالية، لكن مرجعهم في النهاية وعند كل أزمة إلى الأموال الحقيقية، ولذلك تراهم يتخذون العقار: الذهب، الأراضي الزراعية؛ لأن العالم في أزمة غذاء، ثم نلاحظ أن المعادن ليست كلها فيها زكاة، وإنما الذهب والفضة، فقد علق الله نفوس العباد بهما، فالناس لا يتخذون للتبايع معادن أخرى إلا هذين المعدنين، وسبحان من جعل في هذا المعدن الأصفر قيمة، وتعلقاً للنفوس به، ليس كقيمة أي معدن آخر، وسيعود إليه البشر إذا زادت أزماتهم المالية.
وهناك أموال تنمو بنفسها؛ كالزروع والثمار، والماشية، وهناك أموال تنمو بالتقليب؛ كالذهب، والفضة، وعروض التجارة، فما هو قابل للنماء فيه الزكاة، والعقارات تصبح عروض تجارة إذا نوى البيع، وإذا لم ينو البيع فليس بعروض تجارة، فالأرض لا تزيد من جهة الطول والعرض، فإذا اتخذها للتجارة فالقيمة تزداد، فيضارب بالعقارات، فترتفع أسعارها، وحبس العقار يراكم الزكاة، فيضطر صاحب العقار للتصرف فيه حتى لا تأكل الزكاة أرباحه، فيتسارع تداول العقار في البلد فلا تكون فيه الأزمة الموجودة التي من أسبابها عدم إخراج أصحاب العقارات زكوات عقاراتهم إذا اتخذوها للتداول والتجارة؛ لأنهم إذا نظروا في هذه المتراكمات من الزكوات احتاجوا لبيعها بسرعة، ولا يمسكون هذا الإمساك الطويل الذي يؤدي إلى أزمة العقارات.
وقد أوجب الشرع الزكاة في الذهب والورِق؛ لشرفهما دون الحديد، والرصاص، والنحاس، وأوجب زكاة الخارج في أشرفه، وهو الحبوب، والثمار، دون ما هو أدنى وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌالبقرة:61
فهناك أشرف، وهناك أقل منزلة حتى في الأطعمة.
وأيضاً: فإننا نجد أن حجم هذه الماشية يختلف في إخراج الزكاة، وليست القضية بالعدد، بل بالنوع أيضاً، فخمس من الإبل فيها شاة، أما في الغنم فلا تجب الشاة إلا في أربعين، وفرق بين هذا وهذا.
وأيضاً الشرع لم يجعل الزكاة في الأمور التي يحتاجها الإنسان وتعلقت بها نفسه، فالبيوت والسيارات، وأثاث البيت لا زكاة فيها، وكذلك العبيد والإماء لا زكاة فيهم، وكذلك اتخذت من الأشياء المستعملة فلا زكاة فيها إلا الذهب والفضة؛ لأنها أموال.
والدين عندما يكون على مماطل لا زكاة فيه، وعندما يكون على معسر لا زكاة فيه، وعندما تكون المساهمات متعثرة، والمال غير مقدور على تحصيله، ولا التصرف فيه، أو محجور عليه، فلا زكاة فيه، فالرحمة بالناس واضحة من خلال الزكاة، وكذلك المال الذي لم يبلغ النصاب لا زكاة فيه، ولذلك قول بعضهم: الحلي تفنى بالزكاة، غير صحيح؛ لأنها إذا بلغت أقل من خمسة وثمانين غراماً فلا زكاة فيها، فمراعاة أصحاب الدخل المنخفض، أو الممتلكات المنخفضة في الزكاة واضح جداً؛ لأن الزكاة للمواساة، وليست لإفناء أموال الناس، وإذا كانت في الألف خمسة وعشرين، أي: اثنين ونصف في المائة، وهو مقدار يسير جداً، فلم يكلف الله العباد فوق طاقتهم، ولم يكلفهم إخراج نصف أموالهم، ولم يقل أخرجوها كل أسبوع، أو كل شهر، وإنما كل سنة، فهذا من رحمته وعدله سبحانه، وكذلك اشترط حولان الحول لهذا الإخراج، والربح تابع للأصل؛ لأنه نتج عنه فيضم إليه.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما أتانا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يقينا شح أنفسنا، وأن يجعلنا من القائمين بفروضه، إنه هو السميع العليم، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى سبيله، البشير والنذير، والسراج المنير، أشهد أنه رسول الله حقاً، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وذريته، وخلفائه، وأزواجه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين:
كلام العلماء في مسائل الزكاة جار على قاعدة الشرع في العدل والحكمة في الإخراج، فعندما لا يستطيع إخراج الزكاة من صنفها، وهو الأصل، أن الزرع من الزرع، والماشية من الماشية، فإنه يعدل عند الحاجة.
عباد الله:
لما كانت الزكاة حقاً في المال، لم ينظر فيها إلى طبيعة المالك، هل هو صغير، وهل هو عاقل، وإنما نظر إلى المال، فالزكاة حق في المال، ولذلك يجب أداؤها في أموال اليتامى، وبالتالي تكون من مسئولية ولي اليتيم المتاجرة له في ماله، حتى لا تأكله الزكاة؛ لأنه إذا بقي محبوساً سنين بغير تقليب ينقص، فكان من كرم ولي اليتيم أن يتعاطى في ماله بما ينميه.
ومن رحمة الله سبحانه أنه لم يوجب الزكاة في مال لم تستقر ملكيته للعبد، ولم يكن ملكه عليه تاماً، ولذلك أجرة البيت قبل تمام المدة ليست مستحقة استحقاقاً كاملاً، فإذا حال عليها الحول، واستحقت وجبت الزكاة فيها، وكلام العلماء في مسائل الزكاة جار على قاعدة الشرع في العدل والحكمة في الإخراج، فعندما لا يستطيع إخراج الزكاة من صنفها، وهو الأصل، أن الزرع من الزرع، والماشية من الماشية، فإنه يعدل عند الحاجة إلى القيمة.
نقل الزكاة من بلد إلى بلد
والزكاة فيها تفكير في قضية الإخراج لفقراء البلد؛ لأن فقراء البلد يتطلعون إلى أغنياء البلد، ولذلك لا تنقل إلا عند الحاجة، فإذا لم يوجد فقراء، أو وجد حالات أشد وأصعب، أو ذووا قرابة في مكان آخر نقلت إليهم، وإلا فالأصل أن الزكاة تخرج في مكان المال، فإذا كان المال في هذا البلد، تخرج الزكاة في هذا البلد، ويجوز نقلها للحاجة، فبعض الناس أموالهم في مصارف في بلاد الكفر، فلا بد أن تنقل إلى المسلمين؛ لأن مواساة المسلم للمسلم في الزكاة واضحة، ولذلك لا تعطى الزكاة لكافر إلا لمصلحة الإسلام؛ كالمؤلفة قلوبهم، وهم رؤوس الناس الذين يرجى بإسلامهم إسلام من خلفهم كزعيم القبيلة، وليس أي كافر؛ لأن بعضهم ربما يقول: أعطيها لكافر عندي، سائق يخدمني، فيكون في ذلك منفعة للمعطي، ومن قواعد الزكاة: أنه لا يجوز أن ينتفع معطي الزكاة بالزكاة؛ لأنه شيء يخرج لله، فثوابه في الآخرة، لا في الدنيا، وإذا قال: أعطيه من الزكاة لأرغبه في البقاء عندي فهذه منفعة دنيوية.
عباد الله: الزكاة فيها ابتلاء وامتحان، ومن ذلك اجتهاد المخرج أين يذهب بزكاته، وقد ورد في الأحاديث أن من أشراط الساعة أن يصيب المخرج الهم أين يذهب بها، فقد تكون كثيرة جداً، فيحتار في توزيعها، وأحياناً لا يجد مستحقاً حوله.
تنوع مصارف الزكاة
وقد تنوعت مصارف الزكاة وهي: للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وفي الرقاب. ولم يجعلها في صنف واحد؛ رحمة للناس، وتوسعة في الإخراج.
ولا يجوز مجاوزة الأصناف الثمانية؛ لأن هناك اجتهادات في إخراج الزكاة غير مقبولة، فمنهم من يتصرف بالزكاة نيابة عن الفقير وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِالتوبة: من الآية60، واللام لام التمليك، فهو الذي يتصرف فيها، لكن يمكن أن تقضي دينه من الزكاة، ولا يشترط تسليمها له في هذه الحالة، فإذا كان غارماً جاز إعطاء الغريم، مثل إعطاء إيجار بيت الفقير لصاحب المنزل، أو وكيله بدون أن يعلم الفقير، هذا إذا خشي ألا يحسن التصرف؛ لأن هناك من الناس مدمنو مخدرات، وهناك من ينفقها في المعاصي ولا يعطي أولاده شيئاً، فقضية أين يذهب الرجل بصدقته همّ أخبر عنه النبي ﷺ، ولذلك من ضمن المسئولية الشرعية في الزكاة، الاجتهاد والنظر، فقد يكون الاجتهاد أحياناً في تقدير المال، فلا يستطيع أن يعطي رقماً واضحاً في مستودعاته وفيها بضائع، وهذه أرض قيمتها تقديرية، فهذا المكتب يقدرها بكذا، وهذا المكتب يقدرها بكذا، فيحتاج الإنسان إلى اجتهاد في معرفة الرقم الذي سيخرج الزكاة بناء عليه.
وإذا لم يكن عنده سيولة، فيقول العلماء: يسجلها على نفسه حتى تأتيه السيولة؛ ليخرج دين الله، وتكتب في الوصية؛ لأن هذا الدين أول دين يقضى عن الميت، فدين الله أحق بالقضاء، وإذا استطاع أن يبيع ما لا تتعلق به حاجته ليخرج الزكاة؛ فيجب أن يفعل ذلك، ولكن لا تلزمه الشريعة أن يبيع بثمن بخس، ولكن إذا وجد لها ثمناً، فيبيع ويخرج بلا ضرر عليه، ولا ينظر إلى السقوف العالية في الثمن.
وتقليب الأموال بين الناس مقصد شرعي؛ لأن قوله: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْالحشر: من الآية7، أي: محصوراً في الأغنياء، فكلما زاد تقليب السلع بين الناس استفاد المجتمع، والاجتهاد في التقدير الذي لا يمكن حصره بالرقم المعين، والاجتهاد في الإعطاء للفقير مطلوب، فالمزكي لا يخلو من اجتهاد، ثم إذا اجتهد فأعطى، فتبين له بعد ذلك أن هذا يمكن أن يكون عنده تلاعب، فإن الذمة برأت؛ لأنه أعطى على ظن راجح أن هذا مستحق فبرأت الذمة، ولأنه لم يعط عشوائياً، وإنما اجتهد، فلو أخطأ في الاجتهاد، فالإثم مرفوع، والذمة بريئة.
وينبغي الحرص على استفتاء أهل العلم، والرجوع إلى العلماء، وحصر الفتوى فيهم أمر مهم جداً؛ لكي تستقيم أمور الفتوى، ولكي يتم رجوع الناس إلى أهل العلم، ومن المسئولية العظيمة التي ألقاها الله على ولاة الأمر منع المتساهلين في الفتوى، وإحالة الفتوى على أهلها، ويجب أن يوفر للناس من يقوم بإفتائهم، فإن كثيراً من الناس يريدون معرفة الجواب، ولا يجدون من يجيبهم.
عبر من رمضان
أيها الإخوة: كل رمضان فيه عبر، ففي أيام مضت سمعنا عن من مات في صلاة التراويح فهنيئاً له، وسمعنا عن محرم جاء في المطار وفي صالة الانتظار، أو على هذه المنصوبات، والمقامات للمسافرين، فإذا به يسقط في إحرامه، نسأل الله أن يجعلها شهادة، ويكون حسن الخاتمة لإنسان محرم، أو ساجد في صلاة التراويح؛ عبرة للآخرين لنجتهد في الأعمال الصالحة، لعل لقاء الله يكون لنا ونحن على عمل صالح.
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة، وفقنا لما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك، يا أرحم الراحمين تقبل صلاتنا، ودعاءنا، وصيامنا، وذكرنا، يا أرحم الراحمين أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.