الخميس 11 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 12 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

صلاة أهل الأعذار - الدرس الثالث عشر


عناصر المادة
حالات قصر الصلاة للمسافر

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :

فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن مسألة الإقامة التي ينتهي بها حكم السفر، وأن حكم السفر لا يتغير إلا بأمرين: أولًا: الرجوع إلى الوطن، والثاني: نية الإقامة في بلد معين.

وتكلمنا ما المقصود بالرجوع إلى الوطن، وما هو الوطن في كلام الفقهاء، وأن المسافر إذا رجع إلى وطنه وهو مكان الإقامة الدائمة المستقرة، أو مر به أثناء سفره انقطعت عنه الرخص، سواء دخل بنية الإقامة، أو للاجتياز، أو لقضاء حاجة عند جمهور العلماء .

وذكرنا أن السبب الثاني لزوال حكم السفر: أن ينزل بلدًا، وينوي الإقامة فيه، لكن ينوي الإقامة فيه مدة كم؟ هذه المسألة محل خلاف طويل ونقاشات وآراء للعلماء، وهي مسألة صعبة، ولكن هنالك بعض الأشياء الواضحة في هذه القضية، وأشياء أخرى يحتاج طالب العلم أن يبذل فيها جهدًا، ويمحّص والله يبتلي عباده حتى بالآراء الفقهية، فيصيب الصواب ناس ويؤجرون مرتين، وبعض المجتهدين لا يصيبه فيؤجر مرة، وطالب العلم الذي يحاول أن يفهم آراء العلماء يؤجر على ذلك، والعامي الذي يتحرى من يقلّده يؤجر على ذلك؛ لأنه يريد أن يبحث عن صاحب علم ودين يقلده في هذه القضية، كم المدة التي إذا جلست فيها في بلد تنقطع الرخصة ؟

وذكرنا أن للمسافر ستة أحوال:

الحال الأول: أن ينزل بلدًا وينوي الاستيطان به، يعني نية الإقامة على التأبيد، مؤبدة إلى أن يحكم الله فيه بشيء، ففي هذه الحال لا خلاف بين العلماء أنه لا يقصر ولا يترخص بشيء من رخص السفر بمجرد دخوله هذا البلد.

هذه الأشياء ما فائدة عرضها؟ أن يبين لبعض الناس الذين يقولون : أقوال العلماء كثيرة، والخلاف كثير، نقول: هونوا عليكم، هناك حالات واضحة؛ يعني واضحة عند أهل العلم، يعني المسألة ما هي الغموض التام، والعماء، والظلمة الدامسة، فيه أشياء أنت تبصرها، ويمكن أن تفهمها، وتصل إليها، واضحة، وأشياء ابتلينا من الله بالتحري فيها لإصابة الحق، وأن العلماء يكدون أذهانهم وعقولهم للتوصل إلى الحق، وهذه فيها مزايا كثيرة، في تحريك عجلة الاجتهاد، وبذل المحاولة والوسع والطاقة في التوصل للحقيقة أو للحق أو للصواب، وقضية تفاوت العباد في الأجور فيها حكم لله، يعني ما بقيت القضية فيها غموض عبثًا، لا، وعند بعض أهل العلم واضحة، عند آخرين فيها غموض، فهذا نسبي أيضًا، ما هو عام ،كل الأمة ما تعرف شيئاً عن الموضوع، لا، نأخذ الحالات حالة حالة ثم ننظر فيها.

حالات قصر الصلاة للمسافر

00:03:49

الحالة الأولى: من نزل بلدًا ينوي الاستيطان به الإقامة الدائمة، لا يقصر ولا يترخص برخص السفر.

الحالة الثانية: أن ينزل بلدًا وينوي فيه إقامة مطلقة من غير مدة معينة، يقول: أنا جالس في هذا البلد حتى يحدث أمر يحملني على المغادرة، وضربنا مثلًا من جاء يرتزق في مكان، خرجت له وظيفة في بلد، فجاء يعمل وقال: أنا سأعمل في هذه البلد، وسأبقى فيها ما دام رزقي فيها، لكن بعد ذلك سأجد بلدًا آخر أحسن، سأجد وظيفة في مكان آخر أفضل، أتزوج من بلد أخرى، وظروف الزواج تجعلني أنتقل، يعني لكل حادث حديث، سأنزل هذه البلد وأمكث فيها مدة إقامة مفتوحة، ما هو الفرق بينه وبين الذي قبله؟ الذي قبله ينوي الاستيطان المؤبد، يعني حتى يموت، ينوي الاستيطان الدائم المؤبد، لا ينوي تغيير المكان، ولا الخروج من البلد هذه، ولا تغيير الإقامة، هذه مكان استيطان، هذا الوطن عند الفقهاء، هذا إذا دخل بنية الاستيطان لا يترخص، أما هذه الحالة الثانية: إذا دخل بنية الإقامة المفتوحة، مدة إقامة مفتوحة حتى يجري لكل حادث حديث، هذا أيضًا لا يترخص، والذين يقولون: جاءتنا وظيفة في هذا البلد، سنبقى ما دام رزقنا فيها مستمرًا، بعد ذلك يستغنوا عنا، نجد عرضًا في مكان آخر، الأولاد يكبرون ويروحون للجامعات، وننتقل وراءهم، لكل حادث حديث، هذا أيضًا لا يترخص، نوى الإقامة المطلقة، وهذا عند جمهور العلماء، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، فرغنا من هذه الثانية.

الحالة الثالثة: أن يقيم في بلد لحاجة يقضيها، ثم يرجع، ولا يدري متى تنقضي حاجته، علاج، تسويق، بضاعة، دورة تدريبية، دراسة، دخل بلدًا لحاجة يقضيها، ثم يرجع، ولا يدري متى تنقضي حاجته، افرض طالب علم دخل مكة، قال: أريد أن ألقى مشايخ مكة، وعلماء مكة، وآخذ عنهم، وأسمع منهم، وأحضر دروس الحرم، وأذهب إلى فلان وفلان في بيوتهم، وأقرأ عليهم، متى ننتهي؟ الله أعلم، يعني عندي حاجة في مكة، بين حرم، وعبادة، وطلب علم، الله أعلم، عندما تنتهي أموالي سأرجع، هذا الآن دخل لحاجة، متى يحس بالاكتفاء؟ الله أعلم، متى تنقضي الحاجة؟ الله أعلم، متى يشفى من المرض الذي ذهب يتعالج منه؟ الله أعلم.

هذه الحالة الثالثة لها صورتان:

أ-من نزل بلدًا لحاجة يرجو قضاءها والفراغ منها، في كل يوم ولسان حاله يقول: أخرج اليوم، أخرج غدًا، ذهب يسوق بضاعة، يمكن يأتي واحد يشتريها اليوم كلها، يخلصها اليوم، يخلصها غدًا، ذهب يراجع معاملة يخلصوها لي اليوم، يخلصوها بكرة، هؤلاء الذين جاءوا في هذه الصورة في حكم المسافرين، ولو بقوا سنوات، هذا مسافر يترخص.

ب-أن يعلم ويغلب على ظنه أن حاجته لا تنتهي إلا بعد مدة طويلة، قالوا: هذا المرض-نسأل الله العافية- يحتاج له مدة، هذا ما يتعالج بيوم ويومين، افرض علاج طبيعي، متى سترجع إلى حالتها؟ علاج طبيعي يعرف أن فيها أسابيع، ما هو اليوم وغدًا، لا، فيها أسابيع.

 فلا شك أن هذا الذي دخل البلد لحاجة، وإذا انتهت يرجع، وقسمناها لصورتين:

أ-اليوم، غدًا.

ب- تطول لكن ما يدري كم؟ هذا عند جمهور العلماء لا يترخص ما دام يعرف أنه فوق أربعة أيام، وأنها طويلة المدة، عند الجمهور لا يترخص، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية يترخص، وسنأتي على التفصيل، هذا قول أن من دخل بلدًا لحاجة ينتظر أن تنتهي ويمشي، قال بعض العلماء: أنه يقصر غير الجمهور، يعني الأقل قالوا: يقصر، يترخص مطلقًا حتى لو طالت الإقامة، قال بهذا بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، واختاره ابن القيم رحمه الله.

 ففرق بين من ذهب إلى بلد ينتظر حاجة يريد قضاءها، وبين من يسافر إلى بلد وهو عازم على الإقامة في مدة معينة، قالوا له: الدورة ستة أشهر، الدورة شهر، حاجزين لك في الفندق، وذهاب وعودة، هذا عارف أنه في مدة معينة، أما حالتنا هذه مدة مفتوحة، لكن بين اليوم وغد، وإذا كان تطول، ولا ندري متى؟ لكن تطول أيضًا.

 خلصنا من الحالة الثالثة أن يقدم بلدًا لحاجة يقضيها ثم يرجع ولا يدري متى تنقضي، بين يوم ويومين، والحالة الأخرى تطول ولا ندري متى، يبن يوم يومين هذا اتفقوا على أنه يقصر، اليوم وبكرة، اليوم وبكرة، اتفقوا على أنه يقصر، اللي تطول، عند الجمهور ما يقصر، هو ما يعرف كم، لكن يعرف أنها طويلة المدة، أسابيع مثلًا، الجمهور يقولون: لا يقصر لأنه عندهم قضية الأربعة أيام كما سيأتي، بعض العلماء كابن القيم، وابن تيمية من باب أولى، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة قالوا: إذا ما يدري المدة كم يترخص وإن طالت المدة، لأن هي حاجة إذا انقضت رجع، إذًا هذه ما في إقامة وإن طالت يترخص,

الحالة الرابعة: هذه ممكن نرى فيها تشابه مع ما قبلها، لكن ربما نخصها بفصل لشرفها وعلو منزلتها، وهي من نزل مكانًا أو بلدًا للجهاد في سبيل الله وقتال العدو أو الحصار، فهذا الذي نزل بلدًا للقتال والحرب والحصار يقصر أبدًا، ولو علم أن المدة ستطول عند جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في قول، أولًا: لشرف الجهاد في سبيل الله. وثانيًا: يصير فيه مشقة، حراسة وجراح، وهذه ليست رحلة سياحية وإن كان  سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله [رواه أبو داود: 2486، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2093]  يعني هذا على معنى أخروي، ليس الترفيهي الدنيوي، من جهة أخرى وضع الحرب فيه اضطراب وعدم استقرار، ما تدري أصلًا متى يقدم العدو، وما تدري إذا اشتبكوا معهم حتى متى يطول الاشتباك/ وما تدري الحصار متى ينفك، وما تدري لو المسلمون حاصروا متى سيستلم الأعداء، ولذلك جماهير العلماء أن في هذه الحالة، يعني من سافر، نزل مكانًا للجهاد في سبيل الله، أنه يقصر أبدًا، ولو علم أن المدة ستطول، وكثير من الحالات فيها ما هي معركة تنتهي بنصف ساعة، أو ويوم ويومين، لا، هذه فيها اشتباك وحصار.

 والأدلة: روى البيهقي في السنن الكبرى: عن أنس أن أصحاب رسول الله ﷺ أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة" وصحح إسناده النووي في المجموع. [المجموع :4/ 359].

وعن أبي جمرة نصر بن عمران قال: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بالغزو بخراسان فكيف ترى؟ قال: "صلّ ركعتين، وإن أقمت عشر سنين"، مصنف ابن أبي شيبة وسنده صحيح، وابن عباس له رأي في قضية التسعة عشر يوم كما سيأتي، لكن هذه مسألة الجهاد في سبيل الله قال: "صلِّ ركعتين وإن أقمت عشر سنين"؛ لأن حركة الفتوحات الإسلامية الأولى كانوا يخرجون في سبيل الله، هذه أمنيته وهدفه في الرحلة، ومشروع العمر، خرج في الفتوحات، ومن بلد لبلد، ومن معركة إلى معركة، لحصار، لمطاردة، هذا خرج، هذا مشروع العمر، فيه فتوحات، فالذي فتح الدنيا هم الصحابة، يصلون من مدينة إلى أرمينيا لأذربيجان، هناك حذيفة والصحابة، ماذا أوصلهم؟ الخط مفتوح على طول؟ ركبوا الطيارة، ونزلوا المطار؟ هؤلاء ناس يشتغلون، فتوحات، قتال في سبيل الله، القادسية، واليرموك، والهند، والسند، وما رواء النهر، وخراسان، ومرو، ثم هذه قرى وبلدان، قطع فيها أنهار، وصعود جبال، فهؤلاء أسلافنا وأجدادنا صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ترى هم اللي فتحوا أكثر بلاد العالم الإسلامي، يعني هو امتداد العالم الإسلامي أكثر ما حصل في عهدهم، هم الذين فتحوا مصر، وشمال افريقيا، وما بعدهم امتداد، قتال الصحابة كان في عهد الراشدين بدءًا بحرب الردة، ثم التوسع في عهد عمر، ثم ما حدث بعد ذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه، وفي خلافة علي مع ما صار من فتنة، ثم في خلافة بني أمية، ثم في خلافة بني العباس، وصار فيه فتح الأندلس، يعني فيه امتدادات في أوروبا، والذي صار بعد ذلك في الخلافة العثمانية، فإذًا كانت حركة الفتوحات بالذات في عهد الصحابة حركة مستمرة متوالية دؤوبة، ما كان فيه توقف، مستمر، ومن بلد لبلد، والإسلام ينتشر ويتقدم، ولا يعرف في التاريخ الحديث انتشار لدين أو دولة تقوم على الدين بهذه السرعة، بهذه الديمومة، يعني أنت ممكن تجيب حركة التتار، وتيمورلنك، وجنكيز خان، وبسرعة، ورعب، وقتل، وسفك دماء فقط، كلها كم استمرت دولتهم؟ كم طولوا؟ ما انتهت، بلغت مداها، عملوا كل الجرائم، ثم أوقفهم المماليك وغيرهم من المسلمين، وانتهت العملية، فلما نسمع مثلًا حديث أنس، وأن الصحابة قاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، ويطيلون المقام بالغزو في خراسان، صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين، قال النووي: أما المحارب وهو المقيم على القتال بحق؛ لأنه فيه قتال بباطل، قتال بحق، الصحابة كانوا ينشرون العدل والرحمة، ينشرون الإسلام، ويقيمون الدين، إذا فتحوا بلداً، على طول يبنى مسجداً، إمام، ومؤذن، قاضي، أمير، حركة علمية، تعليم، أهلها القرآن، حتى اللغة العربية، وما الذي قلب لسان الشام، ومصر، والعراق، والمغرب؟ ما كانوا يتكلمون العربية أصلًا، من الذين أدخلوا العربية عليهم الصحابة، وتجذرت اللغة، ما هو دولة مستعمرة، دخلت ووضعت الاستعمار، وطلعوا بعد ذلك، وطرد المستعمر، ورجعت اللغة إلى ما كانت عليه، لا، ليست قضية المستعمر فرض لغته، وبعدين راح المستعمر، وبعدين رجعوا الناس، فتح الصحابة الشام، وتبقى على الإسلام إلى آخر الزمان، جهود عظيمة مستمرة أثرها باق.

قال النووي: "أما المحارب وهو المقيم على القتال بحق ففيه قولان مشهوران؛ أحدهما: يقصر أبدًا وهو اختيار المزني ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبدًا، وإن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام" [المجموع شرح المهذب: 4/362]، بعض، إلا ضرب مشارق الأرض ومغاربها في سبيل الله، سليمان  وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ  [النمل: 17]، كله جهاد في سبيل الله، هذه حركة الفتوحات الإسلامية، العلماء هنا لهم فيها كما رأينا موقف، قضية أن هذا المجاهد والغازي والمقاتل في سبيل الله له وضع خاص ويقصر مهما طالت المدة في سفره، قال ابن مفلح: "إقامة الجيش للغزو لا تمنع الترخُّص وإن طالت لفعله ﷺ" [المبدع في شرح المقنع: 2/122].

وهذا وضع خاص.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد قال أصحاب أحمد إنه لو أقام لجهاد قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة وهذا هو الصواب" [زاد المعاد: 3/494].

الحالة الخامسة: أن ينزل بلدًا وينوي الإقامة فيه يومًا أو اثنين أو ثلاثة فقط، ما يوصل أربع، فجماهير العلماء على جواز القصر في مثل هذه الحال، بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: "أجمعوا على ما دون الأربع أنه يقصر" [الإقناع في مسائل الإجماع: 1/167]، وقال النووي: "إذا أقام في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا ينقطع الترخص بلا خلاف" [المجموع شرح المهذب: 4/361]، إذن، هذه حالة أخرى واضحة، هذا كله تبيان لقضية أن الخلاف الفقهي ليس عامًا في كل المسائل والحالات محصورة، فعندنا الآن كذا حالة واضحة، وبعضها فيها خلاف .

الحالة السادس: أن ينزل بلدًا وينوي الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، وهذا الذي وقع فيه الخلاف، فهذا ما هو ناوي طبعًا يستوطن، ولا الإقامة المفتوحة، ولا ثلاثة أيام فأقل، ولا المجاهد في سبيل الله، هذا نزل بلدًا ينوي الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، عنده نية إقامة، ما هو ينتظر قضاء حاجة ويرجع، لا، ناوي يقيم في البلد أكثر من ثلاثة أيام، ما هو الحكم؟ هناك اشتراك بينها وبين بعض ما تقدم، يعني بنسبة معينة، فهذه المسألة الآن من المسائل الدقيقة، والتي فيها فعلًا مطارحات علمية، وفيها أدلة، وفيها آراء كثيرة ومتعددة، هذه مسألة متينة عميقة كبيرة ضخمة.

فلنبدأ بذكر أشهر الأقوال في هذه المسألة، ما هي المسألة؟

من نوى الإقامة في بلد أكثر من ثلاثة أيام، سيأتي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قضية المقيم والمستوطن والمسافر، نحن ذكرنا أن الجمهور يقسمون إلى مسافر ومستوطن ومقيم، وعندهم في المقيم هذه التفصيلات؛ لأن المسافر أمره معروف، والمستوطن أمره معروف، شيخ الإسلام ذهب إلى أن المسألة مسافر أو مستوطن، وسيأتي كلامه فيها، وهذه قد يكون فيه توضيح أكثر للموضوع.

مسألتنا الآن: من نوى الإقامة في بلد أكثر من ثلاثة أيام ماذا يفعل؟

 الرخصة واضح جدًا أن العلة هي السفر ولذلك نصوا على أنه لو سافر في الظل، وعلى الدابة الفارهة، وعنده من يخدمه، و و إلى آخره، وفي البرد، وفي الجو المعتدل، أن له أن يقصر، لكن السفر مظنة الشقة، لكن لو كان السفر مريحًا جدًا جدًا، هل يمنع من الترخص؟ لا، فلا يلزم من وجود المشقة لكي نترخص، لكن إذا وجد السفر سنترخص، فالذي يضبط المسألة هو السفر، وكل النقاش الآن على هذا، لأنه هل هذا الآن يعتبر مسافر فيقصر يترخص، أو ليس بمسافر؟ هل انقطع السفر أو ما انقطع السفر؟ النقاش كله يدور على هذا، وليس أن هذا فيه مشقة أو ما فيه مشقة، وانظر إلى حكمة الشريعة أنها ما ربطت المسألة بالمشقة، وهذه مسألة تختلف باختلاف الأزمان والأماكن والعهود والعصور، يعني الآن عندنا خطوط الجو، الدرجة الأولى، وتأخذك سيارة كبيرة من الفندق، واحد معه اثنان يحملون الحقائب، واحد يفتح لك الباب، الثاني يأخذ لك الشنطة وبالسيارة، وعلى باب الطيارة، على السلم، على النفق، دخلت على الطيارة، الدرجة الأولى، تريد مأكولات، هذا ليس له علاقة، افرض اخترعوا في المستقبل السفر بالكبسولة، الكبسولة محمية من السرعة الفائقة، اضغط الزر وأنت بباريس، الثانية طوكيو، فما له علاقة بقضية المشقة، هذا سفر.

الآن من نوى الإقامة في بلد أكثر من ثلاثة أيام، ماذا قال العلماء في شأنه؟

نحن نتكلم على أشهر الأقوال:

القول الأول: من أجمع على إقامة خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر، وهذا قول ابن عمر، وبه قال الحنفية" [الأوسط لابن المنذر: 4/355]. والمغني [المغني لابن قدامة: 2/212].

واستدلوا بقول مجاهد: "كان ابن عمر إذا قدم مكة، فأراد أن يقيم خمس عشرة ليلة، سرح ظهره فأتم الصلاة". رواه عبد الرزاق وسنده صحيح، نعم قد ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ما يخالف ذلك، فقد روى عنه نافع مولاه أنه كان يقول: إذا أجمعت أن تقيم اثنتي عشرة ليلة فأتم الصلاة. رواه عبد الرزاق، وقال ابن المنذر: هذا قول عبد الله بن عمر بن الخطاب، آخر أقواله كما ذكر نافع، إذن لو واحد قال: كيف ورد عن ابن عمر أنه خمسة عشر، والآن تقول: اثنا عشر؟ نقول: ورد عنه قولان هذا آخرهما، المفتي تغير اجتهاده، المشكلة هل الواحد إذا قرر قولًا لا يجوز أن يرجع عنه إلى آخر إلى أن يموت؟ لا، ممكن تغير اجتهاده بالاطلاع، بالنقاش، أمور تجعله يغير رأيه، عن نافع قال: إن ابن عمر كانت منه أشياء في قصر الصلاة، في إقامته في السفر مختلفة، نافع من أعلم الناس بابن عمر، فكان يقول: انتبهوا، ترى ابن عمر كان له في السفر أقوال مختلفة، ثم صار إلى آخر أمره، إذا قدم بلدة فأجمع أن يقيم بها اثنتي عشرة فأكثر أتم الصلاة، وإذا قدم بلدة لا يدري ما يقيم فيها قصر الصلاة فيما بينه وبين اثنتي عشرة، فإذا كملها يعني جلس بعد اثنا عشر يوم أتم الصلاة، وإن خرج من غد يعني في اليوم الثالث عشر يتم الصلاة في اليوم الثالث عشر، ولو كان طالع في الثالث عشر.

إذن القول الأول هو: من نوى الإقامة في مكان خمسة عشر يوماً يقصر، أكثر يتم، قال به الحنفية وهو قول سابق لابن عمر .

القول الثاني: من أقام تسعة عشر يومًا قصر الصلاة، ومن عزم على الإقامة أكثر من ذلك أتم، قال بهذا من الصحابة ابن عباس ، ودليله ما روى البخاري عن ابن عباس قال: أقمنا مع النبي ﷺ في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة قال ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا زدنا أتممنا". هذه الإقامة كانت في فتح مكة كما هو معلوم، وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - اختلاف الروايات في مدة إقامة النبي ﷺ في مكة عام الفتح ففي بعضها خمسة عشر، وفي بعضها سبعة عشر، وفي بعضها ثماني عشرة ليلة وفي بعضها عشرين" [فتح الباري لابن حجر: 8/21]، جمع البيهقي - رحمه الله - بين هذا الاختلاف بأن قال: إن رواية تسع عشرة فيها إدخال يومي الدخول والخروج، ورواية سبع عشرة ما فيها يومي الدخول والخروج، وثماني عشرة عد فيها يوم الدخول وما عد الخروج أو العكس فتطلع ثماني عشرة، وهذا جمع جميل وذكي بين روايات تسعة عشر يوماً، وسبعة عشر يوماً، وثمانية عشر يومًا، وجمع وجيه، وهذا من إبداع العلماء في قضية الجمع بين الروايات المتعارضة أو المختلفة، الروايات المختلفة سبعة عشر، ثمانية عشر، تسعة عشر، تسعة عشر الراوي عد يومي الدخول والخروج، سبعة عشر ما عد يومي الدخول والخروج، ثمانية عشر عد أحدهما دون الآخر، ماذا نفعل برواية خمسة عشر؟ ابن حجر قال: وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن قال: تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما" [فتح الباري لابن حجر: 2/562].

وقال في التلخيص الحبير: "وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، يعني هذه ما نستطيع نسوي فيها شيئاً، فماذا سنحكم عليها؟ بالشذوذ، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد إلى أنها شاذة أيضًا، إلا أن يحمل على جبر الكسر، يعني العرب أحيانًا تقول في تسعة عشر: عشرين، يعني جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد، يقول في التلخيص الحبير: "وإن كان لها طريقة، يعني إذا أردنا أن نجمع ممكن نعد الدخول دون الخروج أو العكس، وكذلك ضعف رواية خمسة عشر النووي رحمه الله" [التلخيص الحبير: 2/96].

وأيضًا من المعاصرين الشيخ الألباني، قال ابن حجر: واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه ويرجحها أيضًا، أن أكثر ما وردت بها الروايات الصحيحة أنه في فتح مكة أقام تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، والخلاصة: فمن أقام هذه المدة، عند ابن عباس يقصر، نوى أكثر يتم من أول ما يصل، ويؤكد ذلك أن النبي ﷺ أقام كذلك في تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، فعن جابر بن عبد الله: قال أقام رسول الله ﷺ بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة. رواه أبو داود، وأعله بالإرسال أبو داود والدار قطني، وصححه النووي وابن الملقن وآخرون، الآن هذه قضية تسعة عشر أو عشرين في فتح مكة وتبوك، ممكن يأتي واحد يقول: يا جماعة، هذه الإقامة لمصلحة الجهاد الذي لا يدرى متى ينتهي، تفتح لك بلداً، فيها ترتيب أمور، أول شيء تحتاج مدة حصار واقتحام، وكم يستعصي أهلها، وإلى كم يقاتلون، وكم يصمدون، وفي الأزقة والطرقات والشوارع وتطهير البيوت، وحتى تستتب الأمور، وحتى تترتب الأوضاع فيها، يعني يبغى لها مدة، ذهب إلى تبوك، ينتظر اليوم، يأتون غدًا، ينتظر، معركة تبوك تحدي للروم، وبعد مؤتة، فانتظر وتسامعت به العرب، وعرفوا هيبته وهابوه وخافوه، الذي في عنده خطة انقلاب على الإسلام يقول: هذا خرج يحارب الروم، يعني كان لها جدوى وعسكرية وسياسية واستقرارية للدولة الإسلامية كشف الله بها المنافقين، وفيها مصالح كثيرة، تسعة عشر يوماً في فتح مكة، وعشرين يوماً في تبوك، هذه لمصلحة عسكرية، ما يلزم للغزو، ما يلزم في الجهاد، وهذه إقامة طارئة، وليست مقصودة من قبل، يعني أنت ما تستطيع تقول: لما طلع من المدينة كان يقصد يجلس تسعة عشر يومًا، حتى تقول: والله إذا جلست تسعة عشر فاقصر، وإذا كان أكثر تتم، فأجابوا أن مدة الإقامة هذه غير مقصودة، ما كان أصلًا يدري لما خرج هناك أنه سيقيم هذه المدة، فرجعنا إلى قول أنه راح مدة مفتوحة، وفي الجهاد، فما يصلح نعتمد عليها في الأحوال الأخرى، واحد رايح دورة أسبوعين نقول: اقصر، هو عارف أنه خرج أسبوعين، بناء على هذا قالوا: هذه إقامة غير معلومة البداية وغير محددة النهاية؛ لأن هذا السفر من أجل الجهاد، ومنازلة الأعداء، والكر والفر، لا من أجل المكث والإقامة، ومن المعلوم أن من كانت هذه حاله فإنه لا يدري ماذا سيواجهه من أوضاع، فلا يصلح أن نبني عليها في قضية الإقامة وتحديد عدد أيام معينة، لذا فإنه لا يصح أن نقول: إنه سافر إلى تبوك ليقيم عشرين يومًا، وسافر إلى مكة ليقيم تسعة عشر يومًا، ثم يعود إلى المدينة، وبناء عليه لا يصح أن نقول لمن سافر ليقيم هذه المدة وأقل: اقصر، والذي نوى يقيم أكثر يتم؛ لأن هذه المدة ما كانت مقصودة ولا معلومة، ولوجود الفرق بين الإقامتين، يعني واحد لإقامة الجهاد ولا يدرى، والمسألة فيها عدم استقرار، فيها اضطراب، قضايا السفر وقضايا الجهاد، قال ابن بطال: "والفقهاء لا يتأولون هذا الحديث كما تأوله ابن عباس" [شرح البخاري لابن بطال: 3/66].

ابن عباس قال: هذه أكثر مدة نعلم أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قصر فيها تسعة عشر يومًا أو عشرين على تبوك، فإذن هذا الحد الأعلى، قال ابن بطال: إن الفقهاء ما تأوّلوا الحديث كما تأولّه ابن عباس إنه كان ﷺ في هذه المدة التي ذكرها ابن عباس غير عازم على الاستقرار، لأنه كان ينتظر الفتح ثم يرحل بعد ذلك، وقال ابن قدامة: "وحديث ابن عباس في إقامة تسع عشرة، وجهه أن النبي ﷺ لم يجمع الإقامة، قال أحمد: أقام النبي ﷺ بمكة ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنينًا" [المغني لابن قدامة: 2/213].

يعني ليس فقط ترتيب أوضاع مكة، وفتح مكة، الاستعداد والتجميع والانطلاق إلى المعقل الأخير الذي بقي في الحجاز وهو الطائف قال: لأنه أراد حنينًا، ولم يكن ثم إجماع المقام، يقول أحمد - رحمه الله -: ما أقام بمكة تسعة عشر يومًا يريد الإقامة في مكة، ما جلس المدة هذه إلا لمصلحة فتح مكة، وترتيب أوضاع مكة، والاستعداد لحنين، وهذه هي إقامته التي رواها ابن عباس، والله أعلم، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: أما إقامتهﷺ تسعة عشر يومًا عام الفتح، وعشرين يومًا في تبوك فهي محمولة على أنه لم يجمع الإقامة وإنما أقام بسبب لا يدري متى يزول، فتاوى الشيخ. [مجموع فتاوى ابن باز: 12/271].

القول الثالث: أن للمسافر أن يقصر حتى يرجع إلى بلده، قال ابن المنذر: "وقد قال آخرون وهم الأقلون من أهل العلم، وابن المنذر خبير بأقوال العلماء، يعني عنده اطلاع كبير جدًا على أقوال العلماء، حتى لما سمى كتابه الإشراف كالذي يصعد مرتفعًا ويشرف على ما تحته الإشراف على مذاهب العلماء، قال ابن المنذر: "وقد قال آخرون وهم الأقلون من أهل العلم: صلاة المسافر ما لم ترجع إلى أهلك، إلا أن تقيم ببلدة لك بها أهل ومال فإنها تكون كوطنك، ولا ينظرون في ذلك إلى إقامة أربع، ولا خمس عشرة، لا أربعة أيام، أو خمسة عشر يومًا" [الأوسط: 4/358].

ما هي حجتهم؟ من هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية، سافرت خلاص اقصر حتى ترجع إلى بلدك، قالوا: إن الشرع أولًا لم يحدد لذلك حدًا معينًا، وما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه، قال شيخ الإسلام: "النبي ﷺ لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضًا بزمن محدود، لا ثلاثة، ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر" [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 2/343].

حجة ابن تيمية ما في حديث يقول: من نوى الإقامة ببلد أربعة عشرة، خمسة عشر، كلها اجتهادات للعلماء، مأخوذة من السيرة النبوية، ابن تيمية قال: وإذا كان التحديد لا أصل له، فما دام المسافر مسافرًا يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهورًا، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين يقول: "المسافر مسافر سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها، وذلك لعموم الأدلة الدالة على ثبوت رخص السفر للمسافر بدون تحديد، ولم يحدد الله في كتابه ولا رسوله ﷺ المدة التي ينقطع بها حكم السفر" [الشرح الممتع: 4/375].

هل عندكم أدلة أخرى؟ قالوا: إن الإنسان إما مسافر أو مقيم لا ثالث لهما، ومن خرج من وطنه فهو مسافر حتى يرجع إليه، لا يوجد المستوطن، مسافر أو مقيم، أما مسافر ومستوطن ومقيم ثم نبحث الإقامة كم؟ لا يوجد، مسافر ومقيم فقط، قال شيخ الإسلام: "وأما الإقامة فهي خلاف السفر، فالناس رجلان مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين، إما حكم مقيم وإما حكم مسافر وقد قال تعالى: يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ  [النحل: 80]، فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة" [مجموع الفتاوى: 24/136]، يعني حالين فقط لا توجد غيرهم، ما ذكر الله للناس إلا حالين في الترحال أو في الانتقال، إقامة وظعن فقط، والله تعالى أوجب الصوم وقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184]، فمن ليس مريضًا ولا على سفر فهو الصحيح المقيم، وقد أقام النبي ﷺ في حجته بمكة أربعة أيام، ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة، هو وأصحابه، فدلّ على أنهم كانوا مسافرين، وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعله بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال: إنه كان يقول: اليوم أسافر، غدًا أسافر، ابن تيمية يرد على قضية اليوم أسافر غدًا أسافر، في فتح مكة وتبوك يقول: الفتح وترتيب الأوضاع ما ينقضي بيوم أو يومين، يقول اليوم: أسافر غدًا أسافر، قال: وأيضًا فمن جعل للمقام حدًا من الأيام السفر ينتهي إما ثلاثة وإما أربعة، يعني بعدها إقامة، وإما عشرة وإما اثني عشر وإما خمسة عشر فإنه قال قولًا لا دليل عليه من جهة الشرع، وهي تقديرات متقابلة، يعني مثل ما هذا له حظ من النظر هذا له حظ من النظر، هذا له نسبة قوة هذا له نسبة قوة، تفضل هذا على هذا، فإذا كانت كلها بهذه الطريقة تقابلت تساقطت، ما في شيء يجعلنا نختار هذا دون هذا، عدة تقديرات متفاوتة بأقوال متقابلة، لا ميزة لأحدها على الآخر، فإذا صار هذا هو الحال، ما عاد لا هذا فيصلًا ولا هذا فيصلًا، ولا هذا هو الحد، كلها مثل بعض، قال: فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر، وإلى مقيم مستوطن، وهو الذي ينوي المقام في المكان، والثالث مقيم غير مستوطن وهذا التقسيم - وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن وغير مستوطن - تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع "والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع ولا لغة ولا عرف" [مجموع الفتاوى: 24/138].

ماذا عندكم أيضًا؟ ما في تحديد، من يوم ما تخرج من بلدك حتى ترجع تقصر، ماذا لديكم؟ قالوا: عن جعفر بن عبد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام شهرين، مع عبد الملك بن مروان يصلي ركعتين ركعتين. مصنّف ابن عبد الرزاق الجزء والصفحة&  وسنده صحيح، وهذه في الغزو أيضًا، يعني هو في الجهاد، أنس له مشاركات، وقلنا حكم المحارب سابقًا، قالوا: وأقام عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنتين فكان لا يجمع، ولا يزيد على ركعتين. رواه ابن أبي شيبة الجزء والصفحة&  وهو صحيح، قالوا: أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول، يعني الرجوع. رواه البيهقي في السنن الكبرى الجزء والصفحة&  وهو صحيح، وممكن يقال هنا: أن إقامة ابن  عمر بأذربيجان ومن معه ليست مقصودة؛ لأنه مكره ومنتظر حتى يذهب الثلج، وهو يعرف أنه سيذوب غدًا، لكن ما عنده نية إقامة، محبوس، قالوا: فالمحبوس والمسجون في بلد يقصر ولو ما يدري ما يطلق سراحه وإن طالت المدة، حتى يطلق سراحه، قالوا: وأقام مسروق، وهو من سادات التابعين، بالسلسلة سنين وهو عامل عليها، بلد اسمه السلسلة، فصلى ركعتين ركعتين حتى انصرف، يلتمس بذلك السنة. مصنّف عبد الرزاق الجزء والصفحة&  وسنده صحيح.

إذن ما عندنا إلا مسافر ومقيم، فالذي يخرج من بلده له حاجة، حج، عمرة، تجارة، علاج، طلب علم، صلة رحم، فرجة، سيقصر حتى يرجع، وما في شيء اسمه مستوطن، مقيم ومستوطن غير مقيم، يا مسافر يا مقيم وانتهينا،  هذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه ابن القيم، وذهب إليه من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ ابن عثيمين على هذا.

القول الرابع: من أقام أربعًا صلى أربعًا، وهذا قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة، لكن عند الشافعية لا يحسبون من الأربعة يوم الدخول ويوم الخروج، يعني يوم الوصول ويوم المغادرة ما يحسبونها من الأربع، قال القرافي:  "متى نوى المسافر إقامة أربعة أيام أتم" [الذخيرة للقرافي: 2/360]. قال النووي: "قال الشافعي والأصحاب: "إن نوى إقامة أربعة أيام صار مقيمًا وانقطعت الرخص" [المجموع شرح المهذب: 4/365].

فإذن هذا القرافي، هذه الذخيرة، وهذه من أقوال المالكية، وهذه أقوال الشافعية، وكذلك أقوال الحنابلة؛ ما هي أدلتكم من قام أربعًا صلى أربعًا؟ قالوا: هذه أقصر مدة ثبت أن النبي ﷺ كان يعلم أنه سيقيم فيها في بلد معين، سيمكث فيها في بلد معين وقصر، ففي حديث جابر وابن عباس أن النبي ﷺ قدم عام حجة الوداع إلى مكة صبح رابعة فأقام النبي ﷺ الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، يعني داخل مكة قبل أن يخرج إلى الأبطح كان يقصر، وهو يعلم أنه سيمكث هذه المدة، فهذه أقل مدة نعلم أنه قصر فيها، وهو يعلم أنه سيمكثها، فأكثر من كذا يتم، وقالوا: الثلاث حد القلة، وهو فرق بين المقيم والمسافر، ويدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله ﷺ: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا [رواه البخاري: 3933، ومسلم: 1352].

قال النووي: "معنى الحديث أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله ﷺ حُرّم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرها أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا عن الثلاثة" يعني يا أيها المهاجرون أنتم لكم ميزة ما تقطعوها، إذا ذهبتم مكة بعد ما هاجرتم منها، لكم بعد ما ينتهي الحج ثلاثة أيام، صلة رحم، تفقد، وترجع، "واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أن إقامة ثلاثة أيام ليس لها حكم الإقامة، بل صاحبها في حكم المسافر، فإذا نوى المسافر الإقامة في بلد ثلاثة أيام جاز له الترخيص برخص السفر من القصر والفطر وغيرهما من رخصه ولا يصير له حكم المقيم" [شرح النووي على مسلم: 9/122].

وقال ابن حجر: "ويستنبط من ذلك من حديث: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا رواه البخاري ومسلم يستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر" [فتح الباري لابن حجر: 7/267].

قال ابن عبد البر: "فأبان رسول الله ﷺ أن ثلاثة أيام لمن نوى إقامتها لحاجة ليست بإقامة يخرج فيها هذا الذي نواها عن حكم المسافر، وأن حكمها حكم السفر لا حكم الإقامة، فوجب بهذا أن يكون من نوى الإقامة أكثر من ثلاث فهو مقيم، ومن كان مقيمًا لزمه الإتمام، ومعلوم أن أول منزلة بعد الثلاث الأربع" [الاستذكار: 2/244]، يعني ما في ثلاثة، بعد الثلاث أربع" .

ويقوي ذلك أن عمر بن الخطاب لما أجلى اليهود من الجزيرة سمح لهم إذا قدموا إليها بالإقامة بها ثلاثًا، واحد تاجر كافر، جزيرة العرب صحّ أنه يُخرج منها الكفار ولا يجتمع فيها دينان، جاء يريد يبيع بضاعة، يريد يسلّم رسالة، يعني يحتاج إلى وقت، يهودي، نصراني، سمح لهم إذا قدموا إليها بالإقامة بها ثلاثًا، ومما يدل على أن الثلاث ليست في حكم الإقامة هو النهي أن يقيموا في جزيرة العرب، ثلاثة معناها عند عمر أن الثلاثة ما هي إقامة، فعن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب ضرب لليهود والنصارى والمجوس في المدينة إقامة ثلاث ليال يتسوقون بها، ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث. رواه مالك في الموطأ، والبيهقي في السنن الكبرى، وصححه النووي، قال ابن قدامة: "فدلّ على أن الثلاث في حكم السفر، وما زاد في حكم الإقامة"[المغني لابن قدامة: 2/212].

يعني أربع إقامة، ثلاث فأقل سفر أيضًا، قالوا: ما دون الأربع مجمع على جواز الترخص فيه، وما فوقها مختلف فيه، فنحن نرجع إلى الأصل، وهو عدم الترخص، يعني الشيء المتفق عليه نمشي عليه في القصر، أكثر من هذا اختلف فيه، فما هو الأصل؟ قالوا: الإتمام، يعني نرجع إلى الإتمام، قال ابن المنذر: "لما أجمعوا على ما دون الأربع أنه يقصر كان ذلك له، فلما اختلفوا في الأربع كان عليه أن يتم" [الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: 4/357].

وتوضيح ذلك أن الناس مسافر وهذا يقصر بالإجماع، ومستوطن وهذا يتم بالإجماع، ومقيم وهذا لم يرد فيه نص صريح بالإتمام أو القصر، وأجمعوا على أنه يقصر ثلاثة أيام لفعل النبي ﷺ في حجة الوداع، وما زاد محل تردد واختلاف عند العلماء، والأصل الإتمام حتى يأتي الدليل على جواز القصر، إذًا بعد الثلاث نرجع إلى الإتمام، كذلك قالوا: إن رخص السفر إنما هي للمسافر الضارب في الأرض كما قال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [النساء: 101]، وفي الفطر:  فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184]، قال الماوردي: "أباح القصر بشرط الضرب، والعازم على إقامة أربعة غير ضارب في الأرض، فاقتضى أنه لا يستبيح القصر" [الحاوي الكبير: 2/372]. قال القرافي: "ظاهر القرآن يقتضي أنه إذا لم يكن ضاربًا في الأرض لا يقصر، خالفناه في الثلاث؛ لأن المسافر تنعقر دابته ويقضي في بعض حوائجه، فلابد من اللبث اليسير، فيبقى ما عداه على مقتضى الدليل" [الذخيرة للقرافي: 2/361]، والله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض، ولم يجعل رسول الله ﷺ القصر إلا مع السفر لا مع الإقامة، وبالضرورة ندري أن حال السفر غير حال الإقامة، وأن السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة، وأن الإقامة هي السكون وترك التنقل في دار الإقامة، هذا حكم الشريعة والطبيعة معًا فإذ ذلك كذلك، يقول ابن حزم: "فالمقيم في مكان واحد مقيم غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنص" [المحلى بالآثار: 3/219]. وثبت النص عندهم الثلاث في مكة، من قصد ثلاث مسافر، فبقي ما عداها على الإتمام، قال الشوكاني: "ولا شك أن قصره ﷺ في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور، وهو عدم جواز الترخُّص إلا للمسافر هي القاضية بذلك" [نيل الأوطار: 3/251]، أنه إذا كان أكثر يتم.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - : "الأصل في صلاة المقيم الإتمام، ولكن جاز القصر لمن أزمع إقامة أربعة أيام فأقل؛ لما ثبت عنه ﷺ في ذلك في حجة الوداع" [فتاوى اللجنة الدائمة:  1 (8/205].

أنه في مكة مكث أربعة أيام، أكثر شيء أربعة قصر، أكثر من كذا وهو عازم على الإقامة هذه المدة ما ثبت، تسعة عشر، وواحد وعشرين، قالوا: ما كان يعلم أصلًا أنه سيقضي هذه المدة، بعد الأربعة صار فيه احتمال، وما دام فيه احتمال سنرجع للأصل وهو الإتمام، بهذا قال جماهير العلماء والمالكية والشافعية والحنابلة، ومن المعاصرين هذه فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، واللجنة الدائمة للإفتاء، والشيخ صالح الفوزان على هذا، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه ووضوح أنه الحق" [أضواء البيان: 1/275]. في وجهة نظر الشيخ.

قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: "ولا شك أن قول الجمهور في تحديد الإقامة المانعة من القصر إذا عزم عليها المسافر بأربعة أيام فأقل، أو إحدى وعشرين صلاة، أظهر وأحوط للمؤمن؛ لأن الأصل في حق المقيم هو وجوب الإتمام، تركنا ذلك في حق من أقام هذه الإقامة، أو أقل منها، استنادًا إلى إقامة النبي ﷺ في حجة الوداع، لماذا قصرنا في الأربع؟ لأجل حديث حجة الوداع، وإلا الأصل الذي مسافر متحرك، والذي مقيم مقيم، والأربعة لأجل حجة الوداع، قال الشيخ: فبقي ما زاد على ذلك هو محل الإتمام احتياطًا وعملًا بالأصل، وللقول الثاني في عدم التحديد حظه من النظر، قال الشيخ ابن باز: "إذا لم يزمع إقامة مطلقة، داخل يقضي شيء ويمشي، فالشيخ ابن باز يقول: له حظه من النظر، داخل يقضي حاجة ويمشي، القول الآخر له حظه من النظر، وبكل حال فالمقام مقام خلاف بين أهل العلم، وفيه عدة أقوال لأهل العلم، يقول الشيخ ابن باز: "لكن أحسن ما قيل في هذا، وأحوط ما قيل في هذا المقام، هو ما تقدم من قول الجمهور، وهو أنه إذا نوى المسافر الإقامة في البلد، أو في أي مكان أكثر من أربعة أيام، يعني واحد وعشرين صلاة وأنت طالع، لأن واحد وعشرين صلاة أكثر من أربعة أيام، أربعة أيام عشرون صلاة، واحد وعشرون صلاة وأنت طالع، إذا نويت تصلي في بلد واحد وعشرين صلاة وأنت طالع تتم، وإن نوى إقامة أقل عشرين تسعة عشر قصر. [مجموع فتاوى ابن باز (12/ 278]. 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، كما فعل النبي ﷺ لما دخل مكة فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة، وإن كان أكثر ففيه نزاع، والأحوط أن يتم الصلاة" انظر ابن تيمية يقول: " فيه نزاع، والأحوط أن يتم الصلاة" [مجموع الفتاوى: 24/17].

نحن قلنا سابقًا: للعامة هذا أضبط، أنك تقول له: واحد وعشرين صلاة تكمل، احسب كم ستصلي من يوم ما تدخل البلد إلى أن تغادر منها؟ كم صلاة تصلي فيها؟ واحد وعشرون وأكثر تتم من يوم ما توصل، منذ أن تدخل البلد، عشرون وأقل اقصر، هذا عند العامة مستوعب ومفهوم وواضح، بالنسبة لطلبة العلم هذه الأقوال ولمن يريد أن يتبحر المزيد، وصلى الله على نبينا محمد.