الخميس 10 شوّال 1445 هـ :: 18 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

صلاة أهل الأعذار - الدرس الرابع


عناصر المادة
جمع الصلاتين في وقت القصف والحرب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فنحن في هذا اليوم السبت ليلة الأحد السابع من شهر محرم لعام1430 للهجرة وهذا هو السبت الثاني على التوالي الذي يخالف فيه أعداء الله اليهود دينهم، فيعملون في السبت، وقد حرم عليهم العمل في السبت، لكنهم يعملون على قصف إخواننا المسلمين في غزة، وإراقة دمائهم.

سبق أن تحدثنا في الدرس الماضي عن أعذار الجمع بين الصلاتين بعد ما تحدثنا عن أعذار ترك الجمعة والجماعة، ويشاء الله تعالى أن تأتي هذه الأحداث أحداث غزة، وهذا القصف المستمر على المسلمين في غزة، في وقت كلامنا عن الجمع بين الصلاتين، ومن أعذار ترك الجمعة والجماعة الخوف، وهذا له ارتباط بموضوع غزة من جهة، وما يحدث للمسلمين فيها.

 فأما بالنسبة لملخص ما تكلمنا عنه في الدرس الماضي، وندخل بعده في شيء من الأحكام المتعلقة بالصلاة أثناء القصف، وما يهم إخواننا المسلمين في غزة من أحكام الجمع بين الصلاتين، وكيفية أداء الصلاة في مثل هذه الحالة، تحدثنا في الدرس الماضي عن الجمع بين الصلاتين وأن أسباب الجمع في مجملها ترجع إلى أمرين: السفر من جهة، ووجود الحرج والمشقة، وأنه إذا ثبت السفر جاز الترخص بالجمع، ولو علم أنه سيعود إلى بلده قبل خروج وقت الصلاة الثانية، أو قبل دخول وقتها، وتحدثنا قبل ذلك عن قضية ترك الجمعة والجماعة لأجل الخوف، وقد قال العلماء: يجوز ترك صلاة الجمعة والجماعة للخائف الذي يخشى على نفسه أو أهله.

 ولنستعرض بعض ما ذكره العلماء من الأعذار في ترك صلاة الجمعة والجماعة، ثم نقارن بينها وبين ما يعيشه إخواننا اليوم في غزة تحت القصف، قال ابن قدامة - رحمه الله -: "ويعذر في تركهما - يعني صلاة الجمعة والجماعة الخائف، والخوف ثلاثة أنواع: خوف على النفس، وخوف على المال، وخوف على الأهل، فالأول أن يخاف على نفسه سلطانًا يأخذه أو عدو أو لصًا أو سبعًا أو دابة أو سيلًا ونحو ذلك مما يؤذيه في نفسه" [المغني: 1/451].

ونلاحظ أنه قال هنا: يخاف على نفسه، وأنه قال: عدوًا، النوع الثاني: الخوف على ماله بخروجه مما ذكرناه من السلطان واللصوص وأشباههما، أو يخاف أن يسرق منزله أو يُحرق، ونحن نتذكر الآن قضية حرق المنازل بالقصف، وهدم المنازل بالقصف، أو شيء منه، أو يكون له خبز في التنور، أو طبيخ على النار، يخاف حريقه باشتغاله عنه، أو أن يكون له غريم إن ترك ملازمته، ذهب بماله" [المغني: 1/451 - 452]، فإذا كان العلماء يتكلمون عن قضية خبز في التنور يمكن أن يحترق، وغريم في مال يخشى من هربه، فما الأمر إذا كانت القضية ليس خبز يخاف احتراقه وإنما أطفال وأنفس ومنشئات وبيوت، وليست القضية غريم في مسألة مالية، عدو يتربص، يقصف، ويغير، ويريد الاجتياح، أو يكون له بضاعة، أو وديعة عند رجل إن لم يدركه ذهب، فهذا وأشباهه عذر في التخلف عن الجمعة والجماعات.

النوع الثالث: الخوف على أهله أن يضيعوا، أو يكون ولده ضائعًا فيرجو وجوده في تلك الحال، أو يكون له قريب يخاف أن تشاغل بهما مات فلم يشهده، يعني بهما بالجمعة أو الجماعة، فما الحال إذا كانت القضية جثث ترفع وجرحى ينقلون إلى مستشفيات وإسعاف وطوارئ؟!

قال ابن المنذر - رحمه الله -: "ثبت أن ابن عمر استصرخ على سعيد بن زيد بعد ارتفاع الضحى، فأتاه بالعقيق وترك الجمعة، وهذا مذهب عطاء والحسن والأوزاعي والشافعي" [المغني: 1/452]، وعلى هذا يجوز ترك الجمعة والجماعة إن خاف المسلم من القصف، فإن كان القصف على بلد لم يلزمهم أن يقيموا صلاة الجمعة، لما في ذلك من تعريض النفس للخطر، ولكن مع ذلك -سبحان الله- رأينا صمودًا عجيبًا في أهل غزة، فهم يصرون على صلاة الجماعة في المساجد، وصلاة الجمعة، حتى مع القصف الموجود، واليهود إلى الآن هدموا عشر مساجد في غزة قصفًا، ويصر المسلمون على الأذان حتى على أطلال المساجد المهدومة، وإقامة الصلاة جماعة فيما تبقى من أرض المسجد بعد الركام، وكذلك فإن مسجد الخلفاء الراشدين في غزة قد تم قصفه بالأمس في يوم الجمعة توقيتًا مع صلاة الجمعة، وتشييع جنازة الشيخ نزار - رحمه الله -،  فإن كان القصف على بلد، لم يلزمهم أن يقيموا صلاة الجمعة ولا الجماعة، والذين كانوا في المسجد يوم الجمعة لما تم القصف يجوز لهم الخروج في أي موضع كانوا، سواء كانوا أثناء الخطبة، أو أثناء الصلاة، يجوز لهم قطع الخطبة والخروج من المسجد؛ لأن القصف الآن على المسجد، لو بقوا في المسجد سينهدم المسجد عليهم، بدأ القصف على المسجد، إذن يجوز لهم قطع الخطبة، وقطع صلاة الجمعة، والانصراف، بل إن القصف إذا كان عامًا على البلد ترك الجمعة وترك الذهاب إلى الجمعة أصلًا صحيح ووجيه، فلا يجب على أهل البلد تحت القصف أن يصلوا الجمعة، ولا أن يجتمعوا في البلد وهم تحت القصف، فإن شرعوا في الصلاة تحت القصف، أو شرعوا في الخطبة جاز قطع الخطبة والصلاة، والخروج من المسجد، ويصلي كل واحد في بيته ظهرًا في هذه الحالة، فلا يلزمهم أن يعاودوا الاجتماع قبل العصر لإكمال الخطبة والصلاة، بل يجوز لهم أن يصلوا في هذه الحالة الظهر، كل في بيته، وخصوصًا عندما يكون الخوف خوفًا حقيقيًا، ليس وهمًا، وليس ظنونًا، بل كان القصف من قبل ومن بعد، وفي الصباح، وفي الليل، فإذن هناك قصف متواصل، وخروج الناس من المسجد لا يلزمهم بالذهاب إلى مسجد آخر ولا الاجتماع مرة أخرى.

جمع الصلاتين في وقت القصف والحرب

00:07:42

المسألة الثانية: في جواز جمع الصلاتين لمن احتاج منهم، وقد تكلمنا عن قضية الجمع بين الصلاتين ولكن نتحدث الآن بشكل خاص عن قضية جمع الصلاتين تحت القصف، وفي أجواء الرعب، وفي الحروب، وأثناء الحصار على البلد، وقد سبق معنا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في جمع النبي ﷺ بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، ولما سئل ابن عباس عن سبب ذلك؟ قال : "أراد أن لا يحرج أمته" [رواه مسلم: 705] فالذي يحتاج إلى الجمع ويشق عليه أداء كل صلاة في وقتها يجوز له الجمع، ومثال ذلك الآن في غزة طواقم الإسعاف كلها، وكل الأطباء الذين يقومون بأعمالهم في المستشفيات، وحتى في الميدان؛ لأن الآن الجثث تتوالى في الوصول، وكذلك الجرحى يتوالون في الوصول إلى المستشفيات، ومعنى ذلك أن كل الأطباء الآن يعيشون حالة طوارئ في الحرج، وبناء عليه يجوز للطواقم الطبية من الأطباء والممرضين، ومن كان يعاونهم، أن يجمعوا بين الصلاتين، ويجوز الآن أيضًا لكل أصحاب الإغاثات في غزة تحت هذا الحصار والقصف الجمع بين الصلاتين، وكل رجال الدفاع المدني الذين يقومون بمساعدة الناجين، وإخراج الجثث من تحت الأنقاض، وإنقاذ من يمكن إنقاذه من المسلمين، أن يفعلوا ذلك، ويجوز لكل من يقوم بعمليات توزيع الغذاء والدواء وكسوة الشتاء والبطانيات وما يلزم، نحن الآن في برد، وما يلزم لأجل إعانة هؤلاء المحصورين على العيش، يجوز لجميع هؤلاء أن يجمعوا بين الصلاتين، كل الأعمال الميدانية، وكل ما يتطلب له الخروج، وكل ما يتطلب له الإنقاذ والانتقال من مكان إلى مكان، كل هؤلاء الآن أهل أعذار، يجوز لهم جمع صلاتي الظهر والعصر تقديمًا أو تأخيرًا، ويجوز لهم جمع صلاتي المغرب والعشاء تقديمًا أو تأخيرًا، بحسب الأيسر، وبحسب المتاح لهم أن يفعلوا ذلك، والحمد لله، وهذا من يسر الشريعة، ومن الرحمة، ورفع الحرج التي بنيت عليه شريعة الإسلام، ولله الحمد والمنة.

 المسألة الثالثة: صلاة أهل غزة تحت الحصار والقصف، صلاة الخوف كيف تكون؟ ما حكمها بالنسبة إليهم؟ لأننا نعلم بأن صلاة الخوف ركعتين، لكن هذا في السفر، إذا صلوا صلاة الخوف في الحضر فكيف يصلونها؟ قال الله تعالى:  وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] نحن نعلم الآن يهود يهددون باجتياح غزة اجتياحًا بريًا، وقد مهدوا لذلك بإخراج الأجانب بزعمهم، وبقصف الجسور والطرقات، لتقطيع أوصال، غزة وعدم إمكان انتقال أهلها من منطقة إلى أخرى، وبالفعل يوجد الآن بعد قصف بعض الجسور أماكن في غزة تعذر الانتقال منها وإليها إلى مناطق أخرى، وهنالك من أهل غزة من يرابط في الثغور، وهي المنافذ التي يمكن أن تخترق منها الدبابات اليهودية والمركبات والسيارات العسكرية اليهودية المصفحة إلى داخل غزة لتجوس خلال الديار، وتتبر وتهلك كل ما علوا تتبيرًا، فهؤلاء الذين يرابطون كيف يفعلون في الصلاة وقد قال الله تعالى:  وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102]  وَخُذُوا حِذْرَكُمْ  كررها تعالى، وهو يعلم حقيقة الأعداء، وهؤلاء اليهود قاموا بخدعة كبرى، وقضية أننا لن نقصف، ولن نفعل، وتظاهروا بأنهم أجلوا العملية إلى يوم الأحد، وساهم مع ذلك من أعوانهم من ساهم في تطمين المسلمين في غزة، ولكن كانت الخديعة والقصف يوم السبت، مع أن السبت محرم على اليهود، والعمل فيه، والعمل العسكري من أشد الأعمال عندهم، ومع ذلك خرقوا كل الأشياء، والله لما قال:  وَخُذُوا حِذْرَكُمْ  وكررها  وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ  ثم قال: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ  لأن هؤلاء اليهود لا ينفع معهم التغافل أبدًا، ولا الاطمئنان إليهم إطلاقًا، ولا التعايش السلمي معهم نهائيًا، وهم بهذه الحال، قال وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا  ولذلك يجوز لهؤلاء المسلمين المرابطين الذين يريدون صد الهجوم البري المتوقع لليهود في غزة، أن يصلوا صلاة الخوف، وأقل عدد يمكن فعل صلاة الخوف معه في جماعة ثلاثة، هذا ما هي جماعة عادية من اثنين، ثلاثة، السبب يصلي واحد مع الإمام، والثاني يتولى الحراسة حتى يمكن التبديل، لأن الله قال: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ  فإذًا العملية لا تتصور إلا بوجود ثلاثة، وإذا اشتد الخوف وحصل الاشتباك، لا جماعة حال الالتحام والاشتباك، فيصلي كل واحد من المقاتلين منفردًا ولو إلى غير القبلة، ولو كان ماشيًا أو راكبًا أو جالسًا أو مستلقيًا قد يستلقي أثناء المعركة وينبطح أرضًا لتلافي رصاص العدو، وقد يكون وجهه إلى السماء، نحن نعرف أن حال الصلاة لا يجوز النظر إلى السماء، لكن هنا طيران مغير وصواريخ قادمة، فالنظر إلى السماء في هذه الحالة أثناء الصلاة تحت القصف، وأثناء الحرب جائز تمامًا للمصلي، جائز جوازًا واضحًا، لأنه الآن لم يرفع عينيه في الصلاة وبصره إلى السماء قلة أدب مع الرب، لا، وإنما فعل ذلك اضطرارًا؛ لأن الله قال: خُذُوا حِذْرَكُمْ  [النساء: 71]، ولأن هنالك ما يمطر به المسلمون من الجو، وكذلك من يتصدى لهذه الطائرات، فإذن صلاة المسلمين عند الاشتباك ليس فيها جماعة، ولا استقبال قبلة، وإذا اشتد الخوف صلوا على حسب حالهم مشاة أو جالسين ومنبطحين ومستلقين لقول الله تعالى:  فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة: 239]، أي على أرجلكم أو راكبين، مستقبلين القبلة أو غير مستقبليها، وهنا تأتينا مسألة: وهي الصلاة في حال المطاردات سواء كان العدو يطارده أو هو يطارد العدو، وهذه المسألة المعروفة عند الفقهاء بصلاة الطالب والمطلوب، فالطالب الذي يتبع العدو للإيقاع به، والمطلوب هو الذي يفر من عدو سواء كان إنسانًا أو سبعًا أو فيضانًا وطوفانًا وسيلًا، ونحو ذلك، فهذا يصلي على حسب حاله ولو ماشيًا ولو كان يجري إلى غير القبلة كما في حال الاشتباك لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا  [البقرة: 239].

قال العراقي - رحمه الله -: "ويجوز ذلك في كل هرب مباح؛ لأنه قد يكون هرب معصية، هذه الصلاة مشروطة في حال الهرب المباح، كل هرب مباح من سيل أو حريق إذا لم يجد معدلًا عنه" [طرح التثريب في شرح التقريب: 3/150].

وعن عبد الله بن أُنيس قال: "بعثني رسول الله ﷺ إلى خالد بن سفيان الهذلي هذا كان من رؤوس المشركين الذين كانوا يتآمرون على النبيﷺ وكان مكان هذا المشرك نحو عرنة وعرفات، كان مكانه في تلك البقعة، فقال ﷺ لعبد الله بن أنيس وهو رجل للمهمات الصعبة، معروف، نفذ أكثر من عملية ناجحة ضد أعداء الله، كلفه ﷺ فقال له: اذهب فاقتله - يعني اقتل خالد بن سفيان الهذلي - قال عبد الله بن أُنيس: فرأيته وحضرت صلاة العصر، رأيت المشرك ودخل وقت العصر، فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة، يعني لو إني وقفت لأصلي، أخشى أفقد عنصر المبادرة، أو يذهب الرجل، أو يحيط به أناس يمنعوني منه، ويُحال بيني وبينه، قال: فانطلقت أمشي وأنا أصلي" كيف؟ قال: "أومئ إيماء نحوه" نحو خالد بن سفيان الهذلي، هذا المسلم يصلي وهو يمشي، يومئ إيماء نحو عدوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، يعني كأنه أتى يساعد الرجل، بلغني أنك تجمع لمحمد، لهذا الرجل يقصد النبي ﷺ فكأنه يعرض عليه أن ينضم معه، فجئتك في ذلك قال: إني لفي ذلك، أنا فعلًا أجمع لهذا الرجل، فمشيت معه ساعة، حتى إذا اطمأنّ، حتى إذا أمكنني، علوته بسيفي حتى برد عدو الله" [رواه أبو داود: 1249، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح: 2/437]. واستدل بالحديث على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء، وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيه، حتى قال ابن المنذر - رحمه الله – تعالى: "كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء وإن كان طالبًا نزل فصلى بالأرض"، قال الشافعي: "إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك" [الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: 5/42].

يعني حتى الإيماء وهو طالب يجزئ إذا خشي فوات المقصود والحرج، وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب.

ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب الذي يهرب أشد ظاهرة، لتحقق السبب المقتضي لها، وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه، وإنما يخاف أن يفوته العدو، إذن فالمسلمون الآن الذين يهربون من قصف العدو؛ لأن هؤلاء أحيانًا ينذرون بقصف المكان قبل قصفه بدقيقتين أو خمس دقائق، وأحيانًا يقصفون مباشرة، ولا شك أن القصف إذا جاء كل واحد سيأخذ أولاده إذا استطاع ولا يلوي على شيء ويهرب من القصف، ولذلك امرأة عندها ولدان، لما بدأ القصف أخذت ولداً وما استطاعت أخذ الثاني، فتركته على السرير، وجزء من قلبها معه، حتى جاء الجيران، وقد يطول القصف، القصف قد يستغرق ساعات، وماذا يفعل الذي يهرب من مكان إلى مكان والقصف يلاحقهم؟ سيصلي صلاة الطالب والمطلوب، ويومئ إيماء وإلى غير جهة القبلة، ويصلي، وينوي الركوع وسبحان ربي العظيم، والسجود وسبحان ربي الأعلى، ويكبر بين الانتقالات في الصلاة.

 المسألة الخامسة: ما حكم تأخير الصلاة عن وقتها بسبب شدة الخوف في حال الحرب والقتال؟ الآن عرفنا قضية الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر في وقت الظهر أو في وقت العصر، المغرب والعشاء في وقت المغرب أو في وقت العشاء، لكن هل يجوز التأخير إلى ما بعد غروب الشمس بالنسبة للعصر؟ الأصل ما يجوز، وسيصلي على حسب حاله أيًا كان، لكن هناك حالات القصف الشديد يعمي ويصم، ما يمكن يستقر للقلب قرار، أو تحت الرصاص والقذائف والانفجارات والقصف، ما يستقر للقلب قرار، ولذلك حتى الجمع بين الصلاتين، وحتى الإيماء في الصلاة لا يمكن أحيانًا، وهذه المسألة الحرجة جدًا، وجدت فيها كلام أهل العلم، ولله الحمد، وخرجوا فيها بنتيجة، فلنتحدث الآن عن قضية تأخير الصلاة عن وقتها بسبب شدة الخوف في مثل هذه الحال، لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أن تأخير الصلاة عن وقتها دون عذر ذنب عظيم لا يرفع إلا بالتوبة والندم على ما فرط فيه العبد وذلك لقول الله تعالى:  إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا  [النساء: 103]، وقال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ  [الماعون: 4 - 5]، وقال:  فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ أخرجوها عن وقتها  وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] وكثيرًا ما يؤدي متابعة الشهوات، سواء شهوة الفرج، أو شهوة الفرجة، تؤدي إلى إضاعة الصلوات، ناس تضيع الصلوات بسبب الفرجة على مباريات، شهوة الفرج، وشهوة الفرجة على الشاشات والقنوات تضيع الصلوات، وإذا كانت الصلاة مفروضة في وقت معين، فتأخيرها عن وقتها حرام، وأما تأخيرها في حال شدة الخوف فله أحوال:

 أولًا: إن كان سيؤخرها ليجمعها مع الصلاة التي بعدها مما يجوز الجمع إليه كالظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، فهذا يجوز، لأن هنالك صلوات لا يجوز تأخير الجمع إليها، فلا يجوز جمع العصر مع المغرب، ولا جمع الفجر مع الظهر، فإذا كان سيؤخرها ليجمعها مع الصلاة التي تليها مما يجمع إليه فلا بأس بذلك، وعرفنا الراجح الجواز، وخصوصًا عند وجود الخوف على النفس أو المال والأهل، ولو كان في الحضر غير مسافر، وما يحدث في غزة الآن مثال واضح على ذلك، إذا كان الجمع في الحضر للمطر، وهو رحمة نازلة من السماء جائزًا، فكيف إذا كان الذي ينزل من السماء نار ودمار؟! فالجمع أولى وأحوج وأوضح.

ثانياً: وأما إذا كانت الصلاة لا تجمع مع ما بعدها كتأخير الفجر لما بعد طلوع الشمس، ما حكمه؟ تحت القصف تأخير العصر إلى غروب الشمس ما حكمه؟ هذه المسألة العلماء فيها على قولين:

 الأول: لا يجوز تأخير الصلاة من هذا النوع عن وقتها أبدًا، ولو اشتد الخوف، بل يصلي على حسب حاله إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئ بالركوع والسجود لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا  [البقرة: 239]، وهذا قول جمهور أهل العلم كما في بداية المجتهد [بداية المجتهد: 1/120]، وفتح الباري لابن رجب. [فتح الباري لابن رجب: 8/358]

الثاني: أنه يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إذا تعذرت بالإيماء، يعني حتى بالإيماء لا تمكن، وذلك في اشتداد الخوف فيؤخرها حتى يأمن، وقد قلنا: إنه في بعض الحالات مع القصف الشديد والقنابل المدوية والشظايا التي ترشق في كل مكان، هذه بيوت، هذا تصدع، وهذا نزل جزء من السقف، الآن حتى لو قلت بالإيماء، ربما لا يستطيعون، لو قلت: صل أنت الآن مختبئًا، صل أنت الآن تحت الدرج، في مكان محصور، ولا يمكن أحيانًا مع الصوت العظيم، الدوي الهادر ما يطمئن القلب حتى يؤدي الصلاة ولو بالإيماء، فأجاز بعض الفقهاء تأخير الصلاة في هذه الحالة، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله – وأصحابه، واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب  جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، والله ما كدتُ أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي ﷺ: والله ما صليتها  [رواه البخاري: 596]، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا، لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب، فأخرها؛ لانشغاله بالحرب ووجود الخوف، لكن جمهور الفقهاء قالوا: هذا الحديث منسوخ بنزول صلاة الخوف، وإنما أخر العصر لما بعد المغرب لأن صلاة الخوف لم تكن شرعت في ذلك الوقت، فلما شرعت ما عاد يجوز يؤخر، والناسخ عند الجمهور قول الله تعالى:  فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا  [البقرة: 239]، وتأخير النبي ﷺ للصلاة في الخندق كان سنة خمس، وصلاة الخوف عند الجمهور شُرعت في السنة السادسة في غزوة ذات الرقاع، قال النووي - رحمه الله -: "وكان هذا عذرًا في تأخير الصلاة قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل يصلي صلاة الخوف على حسب الحال" [شرح النووي على مسلم: 5/130]، فأحاديث صلاة الخوف ناسخة لجواز تأخير الصلاة، يعني العصر إلى المغرب، الفجر إلى طلوع الشمس، للاشتغال بمحاربة العدو، قالوا: يصلي وقت الفجر صلاة خوف، يصلي وقت العصر صلاة خوف، يصلي إيماء، والذين أجازوا التأخير بماذا استدلوا؟ قالوا: إن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق، ومنهم ابن إسحاق صاحب السير، قالوا: ولذلك لا يمكن القول بالنسخ، ثانيًا: من شرط القول بالنسخ تعذُّر الجمع، قالوا: وهنا غير متعذر، فيمكن حمل كل فعل على حال معينة بحيث نجمع بين النصوص فنقول مثلًا: أحاديث الصلاة في الخوف، تكون في حال الاستطاعة، في حق المستطيع لذلك، وقصة الخندق تُحمل على غير المستطيع للإيماء، وقد جاء في فعل بعض الصحابة ما يشهد لذلك، فعن أنس بن مالك قال: حضرت عند مناهضة حصن تستر، هذا حصن مشهور في فارس، استعصى على المسلمين، وخاضوا حربًا ضروسًا بشأن فتح تستر، معركة ضخمة جدًا مع الفرس، وانتهت بفتح الحصن، لكن سقط للمسلمين شهداء كثر في هذه المعركة، وكانت حامية الوطيس، قال أنس بن مالك : حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة صلاة الفجر، قال: عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، هذا بعد وفاة النبي ﷺ فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا، يقول أنس : "وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها"، رواه البخاري معلقًا، [رواه البخاري: 2/15].

ووجه اغتباطه مع أنهم صلّوا الفجر بعد طلوع الشمس، أن الذي أشغلهم عن تلك الطاعة طاعة أخرى كان لابد لهم منها، ولم يستطيعوا الطاعة الأولى لأجل الطاعة الثانية فتداركوا وقضوا ما عليهم.

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: "وقد اشتُهر ولم ينكر هذا"[تفسير ابن كثير: 1/-498 - 499].

وقال الأوزاعي - رحمه الله - إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة، يعني أحيانًا يكون باقي قليل قتال وتنفتح الأمور، لو وقفوا عن القتال يستدرك العدو الأمر، وترجع التحصينات والدفاعات وجمع الصفوف وعامل الفزع وعامل الانهزام والعامل النفسي عند العدو يتدارك، ويحتاج الأمر إلى قتال آخر شديد، يقول: باقي على طلوع الشمس شيء يسير، لكن هذا الشيء اليسير الآن يحتاج إليه، قال الأوزاعي: "إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلّوا إيماء كل امرئ لنفسه" [رواه البخاري: 2/15]، إذن صلّ في الوقت، ما تترك الصلاة، تصلي إيماء على حسب حالك، فإن لم يقدروا على الإيماء، الآن هنا مربط الفرس، وهنا مسألتنا، وهنا قضية ما يعيشه إخواننا في غزة، بعضهم في بعض الأحوال، عند تواصل القصف، وهذا قصف مدمر وشديد، ودويه هائل، يمكن بعضهم ما يستطيع أن يجمع قلبه للصلاة أصلًا، لما يكون فيه رعب وخوف شديد، لو قلت: صل إيماء، يقول: قلبي ما هو معي حتى لو إيماء، ما أستطيع، أنا الآن مشغول بنفسي شغلًا ما يمكن معه الصلاة حتى إيماء هذه مسألتنا، وإلا فنحن نعرف الراجح قول الجمهور، وأن الصبح ما فيه تأخير لما بعد طلوع الشمس، والعصر ما فيه تأخير لما بعد غروب الشمس، وما في شيء اسمه جمع العصر مع المغرب، لكن فيه حالات حتى الإيماء لا يمكن، وعملية ومشاهدة وواقعة، فما هو الحل؟ هنا تأتي هذه المسألة وقول الأوزاعي - رحمه الله – "صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا، وبه قال مكحول" هذا في صحيح البخاري [رواه البخاري: 2/15]، هذا القول الذي هو إذا تعذر الإيماء والقلب غير موجود ما يمكن جمعه على الصلاة، صلى ولو بعد خروج وقت الصلاة، حتى الصلاتين المجموعتين، هذا القول رواية عن أحمد، قال أبو داود: سألت أبا عبد الله عن الصلاة صبيحة المغار-الغارات- فيؤخرون الصلاة حتى تطلع الشمس أو يصلون على دوابهم قال: كل أرجو"، [فتح الباري لابن رجب: 8/392]، الإمام أحمد - رحمه الله - صحح القولين.

قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - عن فعل النبي ﷺ في معركة الخندق: "والصحيح أنه محكم" يعني هذه صلاة العصر بعد المغرب "إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك" يقول الشيخ ابن عثيمين: "إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك" بمعنى أن الناس لا يقر لهم قرار، قال الشيخ: "وهذا في الحقيقة لا ندركه ونحن في هذا المكان وإنما يدركه من كان في ميدان المعركة، فلا بأس أن تؤخر الصلاة إلى وقت الصلاة الأخرى" [الشرح الممتع: 4/413].

إذن الأصل ما نؤخر، وإذا جاز جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، ما يجوز العصر مع المغرب، لكن ماذا نفعل إذا صار مثل الوضع؟ هذا قصف طيران دبابات ومدفعية وزوارق من البحر ماذا تفعل؟ وقد يكون بعض الرجال عنده قوة قلب، يستطيع أن يصلي حتى أن يومئ إيماء يصلي، لكن النساء، فتاة بالغة عمرها أربعة عشر، ثلاثة عشر سنة، هل كلهم سيستطيعون هذا؟ ولذلك يقال بجواز التأخير إلى وقت هدوء القصف حتى يستطيعوا الصلاة، على أية حال الذي ظهر إلى الآن من أهل غزة رباطة جأش عجيبة، وصمود كبير، واحتساب، وصبر وثبات غير متوقع من قبل أعدائهم أبدًا، ولذلك لا يستبعد أن تفشل هذه الحملة، وسيحاول اليهود الحصول على بعض المكاسب، وربما يعملون شيئًا من الاجتياحات، ويحتلون أجزاء من أراضي غزة بريًا، ولكن ما يستطيعون أن يحطموا إرادة هؤلاء المسلمين في المقاومة، وهم يعرفون جيدًا، عندهم مصطلح اسمه لعنة غزة، مكتوب في كتبهم العسكرية، يدرسونها في كلياتهم العسكرية لعنة غزة ويقولون: إنها مكتوبة عندهم في كتبهم المقدسة، وستبقى عليهم لعنة غزة إن شاء الله، إذن نقف عند هذا الحد، وقد توسعنا قليلًا في قضية الجمع بين الصلاتين، وصلاة أهل الأعذار، بمناسبة ما يحصل لإخواننا في غزة، وسنتابع الكلام بمشيئة الله تعالى عن الجمع بين الصلاتين، وعن شروطه، وجمع التقديم، وجمع التأخير، وقضية النية، وقضية الموالاة، وحكم التفريق بين الصلاتين المجموعتين، وقضية الترتيب بين هاتين الصلاتين في الدرس القادم بمشيئة الله تعالى، وصلى الله على نبينا محمد.