الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملخص الدرس الماضي
نتم -إن شاء الله- ما بدأناه من الكلام عن أحكام متابعة الإمام من كتاب منهج السالكين للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله تعالى-.
وقد تكلمنا في الدرس الماضي عن جملة من المسائل المستفادة من حديث النبي ﷺ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون [رواه أبو داود: 601، وأصله في الصحيحين].
وذكرنا أربع مسائل، بدءًا بمسألة اقتداء المفترض بمن يصلي فرضًا آخر خلفه، كأن يصلي المأموم الظهر خلف إمام يصلي العصر، أو المغرب خلف من يصلي العشاء.
وذكرنا أن الراجح صحة الصلاة، وأنه يجوز أن يصلي الظهر خلف إمام يصلي العصر، أو يصلي المغرب خلف إمام يصلي العشاء، وهذا قول الشافعية من أهل المذاهب، واشترطوا اتفاق نظم الصلاتين في الأفعال الظاهرة، فمثلًا صلاة الجنازة تختلف عن صلاة الفريضة في الأفعال الظاهرة، صلاة الخسوف تختلف عن صلاة الفريضة في الأفعال الظاهرة، الجنازة فيها تكبيرات، ما فيها ركوع ولا سجود، صلاة الخسوف في كل ركعة قراءتان وركوعان.
إذًا، اشترطوا لصحة الاقتداء اتفاق نظم الصلاتين في الأفعال الظاهرة، وبينا أن هذا القول وهو صحة صلاة فرض خلف إمام يصلي فرضًا آخر هو الذي دلت عليه الأدلة، وأنه يجوز أن تختلف نية الإمام عن نية المأموم، وأن نهي النبي ﷺ عن الاختلاف على الإمام المراد به في الحركات كالتكبير والركوع والسجود، وليس المراد الاختلاف في نية الصلاة.
ثم ذكرنا مسألة اقتداء المقيم بالمسافر والعكس، وأن هذا جائز بالاتفاق.
وبينا أن له حالان:
الأولى: أن يكون الإمام مسافرًا.
والثانية: أن يكون الإمام مقيمًا.
فأما إذا كان الإمام مسافرًا فإنه يقصر الصلاة، ثم يقوم المصلون المقيمون، ويتمون صلاتهم بعده، وأما إذا كان الإمام مقيمًا فإنه يجب على المأموم المسافر أن يتم الصلاة خلفه.
وذكرنا مسألة صلاة الفرض خلف من يصلي الجنازة أو الكسوف أو صلاة العيد أو الاستسقاء، ونحوها.
وقلنا : إن الراجح والأقرب إلى الصواب أن هذا لا يصح، وذلك أن بين صلاتي الجنازة والظهر اختلافاً كبيراً، وكذلك بين صلاة الكسوف، وصلاة العصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، فإن هذا الاختلاف تتعذر معه المتابعة.
وقد سأل بعض الإخوان بمناسبة صلاة الخسوف التي صارت قريبًا، وخسف القمر قبيل الفجر، ووافق ذكر المسألة حدوث الخسوف بعدها عند الفجر، وأهمية أن ينادى للخسوف ب "الصلاة جامعة" حتى لو أذن الفجر؛ لأن الذين سيأتون للمسجد، ربما لا ينتبهون أن الإمام يصلي الخسوف، فيدخلون معه في الصلاة، ثم يفاجئون أنها صلاة الخسوف، وهم داخلون بنية صلاة الفجر، فماذا يفعل المأموم في هذه الحالة؟
جاء إلى المسجد لصلاة الفجر، ولم ينتبه إلى أن هنالك خسوفًا، والإمام بدأ بصلاة الخسوف، فماذا يفعل المأموم؟ فوجئ بأن الإمام قرأ، ثم ركع، ثم رفع، ثم قرأ، ماذا يفعل المأموم وهو يعلم أنه لا يجوز أن يأتم بإمام يصلي الخسوف، والمأموم يصلي الفجر؟ لأن الأفعال الظاهرة مختلفة، فماذا يفعل المأموم؟
اولاً : ينوي الانفراد ويكمل صلاة الفجر.
ثانياً : يحول نيته من فجر إلى خسوف، ويجوز الانتقال من الأعلى إلى الأدنى.
أما العكس لا يجوز، وصلاة الفجر أعلى من صلاة الخسوف؛ لأنها فريضة، فلو دخل بنية الفجر، وفوجئ بالخسوف، فإنه يغير نيته من فجر إلى خسوف، ويكمل الصلاة مع الإمام، وبعد ما ينتهي يصلي الجميع صلاة الفجر، وهذا ما حصل في كثير من المساجد في الخسوف الماضي، وسأل بعض الإخوان سؤالًا فقال: دخل المأموم في القراءة الثانية من الركعة الثانية من صلاة الخسوف، دخل بنية الفجر، فالإمام قرأ الفاتحة، وسورة، وركع، ورفع، وسجد، ورفع، وسجد، وجلس للتشهد، وهذا نواها صلاة الفجر والأفعال الآن متفقة؟
فسألت شيخنا عبد الرحمن البراك -نفع الله بعلمه- عن هذه المسألة، فقال: تصح صلاته في هذه الحالة باتفاق الأفعال؛ لأنه دخل في القراءة الثانية من الركعة الثانية، لو دخل في القراءة الأولى من الركعة الثانية، أو دخل في الركعة الأولى، لا تصح.
الانتقال من صلاة معينة فريضة، إلى صلاة فريضة معينة أخرى، يبطل الصلاة، لا تصح، لا هذه، ولا هذه؛ لأنه لما كان في صلاة الظهر، بدأها بنية الظهر، أثناء الصلاة انتقل إلى نية العصر، أو العكس، دخل مع الإمام بنية العصر، والإمام يصلي العصر، ولما صار في وسط الصلاة، تذكر المأموم أنه ما صلى الظهر، فلو انتقل الآن من نية العصر إلى نية الظهر، لا هو بالذي صلى عصرًا كاملًا بنية العصر، ولا هو بالذي صلى أربعًا كاملة بنية الظهر، فلا تصح صلاته، لا ظهرًا ولا عصرًا، ولذلك هذا الانتقال في هذه الحالة ممنوع.
وقد تقدمت المسألة إذا أكمل العصر مع الإمام، يصلي الظهر بعدها، وهو معذور بالنسيان في ترك الترتيب.
وبعض العلماء يقولون : يصلي الظهر ثم يعيد العصر.
حكم صلاة الإمام وهو أرفع من المأمومين
المسألة الخامسة في أحكام الإمامة : صلاة الإمام وهو أرفع من المأمومين، وقد اختلف العلماء في الإمام يصلي في مستوى أرفع من مستوى المأمومين، ونحن نحتاج إلى بيان هذه المسألة؛ لأن المساجد الآن فيها أدوار، فقد يكون المأموم في الدور الثاني، وقد يكون في القبو، ما حكم أن يصلي الإمام في مستوى أرفع من المأمومين أو من بعض المأمومين؟ وهل يصح من هو تحت أن يقتدي بالإمام وهو فوقه؟
الجواب: إن الراجح في ذلك الجواز، وممن أجاز ذلك الإمام الشافعي -رحمه الله-، واحتج بحديث سهل بن سعد وهو في الصحيحين، وفيه صنع المنبر للنبي ﷺ وعمله نجار لامرأة في المدينة، فقام عليه رسول الله ﷺ حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر، وقام الناس خلفه فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه ﷺ. ما في مجال على المنبر أن يسجد فرجع القهقرى ﷺ، ونزل درجات المنبر إلى الأرض، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر [رواه البخاري: 377، ومسلم: 544] يعني صعد الدرجات مرة أخرى، ومعلوم أن درج منبر النبي ﷺ من الأمام، يعني أمام المأمومين، وليس من جانب المنبر، لا من جهة اليمين ولا من جهة الشمال، ولا من الخلف، درج المنبر من الأمام، قال أبو يوسف: إن كان موضع الإمام أرفع بقدر قامة فهو المكروه، وإن كان أقل فليس بمكروه[شرح صحيح البخاري، لابن بطال: 2/41].
وقال ابن أبي زيد المالكي: "إذا كان الموضع قد ضاق بأهله فلا بأس أن يصلي بصلاة الإمام ناس أسفل منه" [شرح صحيح البخاري، لابن بطال: 2/41].
وروى أشهب عن مالك فيمن أتى مسجدًا مغلقًا قد امتلأ فله أن يصلي أسفل في الفضاء بصلاة الإمام [شرح صحيح البخاري، لابن بطال: 2/41].
وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا صلى إمام القوم في السفينة وبعضهم فوقه؛ لأن أيضًا السفينة ممكن تكون طوابق وتحته، ولم يجدوا بدًا منه فإنه لا بأس [شرح صحيح البخاري، لابن بطال: 2/41].
وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، أنه يجوز عند الحاجة، أو عند التعليم أن يرتفع الإمام عن المأمومين، إذ هو ما دلت عليه السنة كما في حديث سهل السابق.
طبعًا محذور الكبر والاختصاص، وأنه يعني أرفع منهم، ولماذا أرفع منهم؟
قلنا: للحاجة والتعليم، يعني الأصل أن يكون الإمام بمستوى المأمومين، بنفس المستوى، لكن فيه حاجة، قد يكون المسجد ضيقًا بأهله، الحرم هذا على اتساعه، المسجد الحرام وعلى المساحة الشاسعة الموجودة فيه لكن يضيق بالناس، ويخرج الناس إلى الأدوار العلوية، وينزلون إلى القبو، فلا يخلو أن تدعو الحاجة إلى صلاة الإمام في مستوى أرفع من بعض المأمومين، كما يصلي بعض المأمومين في مستوى أرفع من الإمام، ولا بأس بهذه الصور كلها.
حكم الصلاة إذا كان المأمومون قدام الإمام
والمسألة السادسة: ما حكم الصلاة إذا كان المأمومون قدام الإمام؟
فذهب أكثر أهل العلم إلى بطلان الصلاة فيما إذا صلى المأمومون قدام الإمام، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد أنهم إذا صلوا أمام الإمام بطلت صلاتهم، لا تصح، أنه لا تصح صلاة المأمومين أمام الإمام، واستدلوا بأدلة؛ فمن ذلك: حديث الباب: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ، وأن النبي ﷺ كان يقف أمام الناس، هذه السنة الفعلية، وقال في السنة القولية: صلوا كما رأيتموني أصلي [أخرجه البخاري: 631].
وهذا يعم الصلاة بأفعالها وعددها وهيئتها وجميع أحوالها، ومن ذلك الوقوف، فيكون الوقوف قدام الإمام خلاف السنة ومبطل للصلاة.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة": السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام فإن وقفوا قدامه لم تصح؛ لقول النبي ﷺ: إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كانوا أمامه كيف سيأتمون به، ولأن المنقول عن النبي ﷺ في إمامته هو تقدمه، وأن المأمومين خلفه، وبذلك قال الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وذكر ابن عبد البر عن الإمام مالك كراهة تقدم المأموم على إمامه، ولا إعادة عليه إن فعل، فمالك يذهب إلى صلاة الصحة مع الكراهة، وروي عنه أيضًا أنه إن صلى بين يدي إمامه من غير ضرورة أعاد.
والصواب: قول الجمهور في عدم صحة صلاة المأموم قدام الإمام لقول النبي ﷺ: صلوا كما رأيتموني أصلي [فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (7/ 415- 416].
فمذهب الإمام مالك من بين الأربعة، هو الذي يقول بعدم بطلان الصلاة؛ لأنه لم يرد عن النبي ﷺ نهي في ذلك، وغاية ما فيه مخالفة فعله، وقد وقف معه ﷺ جابر بن عبد الله، وجبار بن صخر، أحدهما وقف عن يمين النبي ﷺ، والثاني عن يساره، فأخذهما وردهما إلى خلفه، وهذا فعل مجرد عن الأمر أو النهي، فلما لم يكن فيه إلا الفعل، كان مستحبًا وليس بواجب، يعني التقدم.
توسط شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقال: إذا دعت الضرورة إلى ذلك، يعني إلى تقدم المأمومين صحت صلاة المأموم قدام الإمام، وإلا فلا، يعني بلا ضرورة لا تصح، فهذا قول وسط.
وذهب إلى هذا من المعاصرين الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في كتابه: "الشرح الممتع": 4/ 265].
نحن نجد الآن في صلاة العيد، صلاة الجمعة أحيانًا، اكتظاظًا، فيجب أن يتنبه المأموم إلى عدم التقدم عن صف الإمام، وعلى الإمام أن ينبههم على ذلك، فأما إذا صارت ضرورة ملجئة، ما في مكان، إما أن يصلي أمام الإمام، أو تفوته الجمعة، فهنا يصار إلى ما ذكره شيخ الإسلام وغيره في هذه المسألة، لكن ابتداء أن يأتي مأموم كسول ويقول: تريدني أن أمشي إلى آخر الناس، نصلي هنا في الطرف الذي أمام الإمام.
فنقول: لا تصح صلاتك.
الذين يصلون مع مكبرات الصوت يمكنهم الاقتداء، ولكن يبقى أن الإمام في الأمام، وهذا فعل النبي ﷺ ما خالف ولا مرة، ولا رضي، ولا أذن، أن يكون أحد من أصحابه أمامه في الصلاة.
إذًا، هذه السنة الفعلية المستمرة المؤيدة بقوله: صلوا كما رأيتموني أصلي واجبة الاتباع، وهذه طبيعة الإمامة، من مقتضى الإمامة، أن يكون الإمام أمام الناس، ولا يكون أحد متقدمًا عليه، وينتبه المصلون في الحرم إلى أن لا يكونوا أمام الإمام في ضلع الكعبة الذي يصلي خلفه، فأما صلاتهم في النواحي الأخرى والأضلاع الأخرى من الكعبة غير الضلع الذي يصلي خلفه الإمام من الجهات الأخرى، فربما لا يعتبر تقدمًا في هذه الحالة، ولذلك تترجح صحة صلاتهم؛ لأنهم ليسوا أمامه، ما أمامه إلا الكعبة، وكونهم في النواحي الأخرى أقرب إلى الكعبة من الإمام لا يعني أنهم أمامه.
اقتداء المأموم بالإمام عن طريق الإذاعة أو البث التلفزيوني
المسألة السابعة: ما حكم اقتداء المأموم بالإمام عن طريق الإذاعة أو البث التلفزيوني؟
وهذه المسألة لها صور؛ منها: أن كثيرًا من الناس مثلًا في الفنادق التي حول الحرم والمحلات يريدون الاقتداء بالإمام عن طريق رؤيته من النافذة، أو سماعه من مكبر الصوت، وربما لا يكون المسجد ممتلئًا، الآن عبر أجهزة البث المباشر التي قد تكون في ساحات الساحات الخارجية للحرم، أو في الفنادق المحيطة بالحرم، أو بعيدًا عن الحرم، أو بعيدًا عن مكة، فنقل الصلاة مباشر، وتكبير الإمام مباشر، وبالإمكان متابعة الإمام، فهل تصح الصلاة؟
وهذا سيقودنا إلى مسألة : هل يصح الاقتداء بالإمام وليس معه في مكان واحد؟ وهل من شروط الائتمام أن يكون الإمام في مكان المأمومين، وأن يكون المأمومون مع الإمام في مكان واحد؟ وقد ينحل جزء من الإشكال بقضية اتصال الصفوف، يخرجون خارج المسجد، وتتصل الصفوف، وربما تصل الصفوف إلى الشوارع المحيطة والمباني وأسطح المباني والجسور.
فنقول: اتصلت الصفوف من عند الإمام، إلى الجسر في الخارج، والطرقات، والشوارع، الصفوف متصلة، وكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه، إلى أن يصل الاقتداء إلى الصف الأول المقتدي بالإمام، فيصح الاقتداء في هذه الحالة، ويعين على ذلك وجود هذه المكبرات، لكن الإشكال في الاقتداء بالإمام خارج الحرم، في الساحات الخارجية، والصفوف غير متصلة، والصلاة خلف الإمام في الحرم من مصليات الفنادق، والصفوف غير متصلة، والصلاة خلف إمام الحرم لأصحاب الحوانيت الكسالى، الذين يريدون الإسراع بفتح المحل بعد الصلاة، ويصلون في حوانيتهم، وبجانب حوانيتهم، ولم تتصل الصفوف، فلا تصح صلاتهم في هذه الحالة إذا ما كانوا داخل المسجد، لا تصح صلاتهم، وإذا ما اتصلت الصفوف لمن هم في الخارج لا تصح صلاتهم.
الحرم فيه أماكن مقطعة وصفوف مقطعة، وربما يصعب جدًا وصل هذه الصفوف، قال شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وسألته عن ذلك: أن يدخل الحرم فيجد مجموعة يصلون في هذه الجهة، فينضم معهم، وبينهم وبين الصفوف التي أمامهم فراغات، فقال الشيخ: تصح الصلاة، والجامع الكبير الذي يصعب رص صفوفهم عن هذا هو الأصل، وهذه هي السنة، وهذا الذي ينبغي عليهم أن يفعلوه، فما دام داخل المسجد، إذا صلى مع أي مجموعة في الحرم، وراء الإمام، تصح الصلاة، لكن الإشكال في الناس الذين يصلون خارج الحرم، وبينهم وبين المصلين داخل الحرم فراغات، والصفوف غير متصلة، نعم يصل الصوت، لكن وجود التقطع هذا لا يجعل الائتمام صحيحًا، ولنقرأ بعض فتاوى العلماء في هذه المسألة: لقد وردت نصوص الشريعة تؤكد على وجود الصلاة في جماعة، ولو في أشد الأوقات، كصلاة الخوف مثلًا، كما جاءت النصوص تحث على المشي إلى الصلاة، وبيان فضل ذلك، ومن المعلوم أن الصلاة خلف المذياع أو التلفاز لا تتفق مع ذلك، كما أن فيه استهانة بهذه الشعيرة العظيمة، وفتورًا عن امتثال أوامر الشريعة، وصدودًا، وعزوفًا عما يضاعف به الأجر، وترفع به الدرجات، وتغفر به السيئات، وما كان كذلك فلا يجوز فعله، فمن صلى في بيته أو دكانه أو الفندق مقتديًا بالإمام عن طريق المذياع والتلفاز، ومن ذلك طبعًا النقل المباشر بالكاميرا، يعني فيه كاميرات، من غير مذياع، ومن غير تلفاز، فيه كاميرات ممكن تنقل إلى شاشات من غير مذياع ولا تلفاز، فمن صلى في بيته أو دكانه أو الفندق مقتديًا بالإمام عن طريق المذياع والتلفاز فصلاته غير صحيحة.
أضف إلى ذلك أن هذا أمر محدث، وقد قال رسول الله ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد [رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718].
قال حرب: قلت لإسحاق: الرجل يصلي في داره وبينه وبين المسجد طريق يمر فيه الناس؟ قال: لا يعجبني، ولم يرخص فيه، قال: قلت فصلاته جائزة؟ قال: لو كانت جائزة كنت لا أقول : لا يعجبني [فتح الباري، لابن رجب: 6/ 298].
وقد أفتت اللجنة الدائمة: بعدم صحة صلاة من صلى خلف المذياع أو التلفاز[فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (8/ 214].
طبعًا هذا على المسافات البعيدة أيضًا واضح، يعني واحد يفتح المذياع أو التلفاز في القاهرة أو عمان أو الرياض ويصلي على صلاة مكة، جاء في الفتوى: لا يجوز للرجال ولا للنساء ضعفاء أو أقوياء أن يصلوا في بيوتهم واحدًا أو أكثر جماعة بصلاة الإمام في المسجد، يعني في غير الحرم، حتى في غير الحرم، واحد بيته بجانب المسجد، خلف المسجد، هل يجوز أن يصلي وراء الإمام؟
"ولا يجوز للرجال ولا للنساء ضعفاء أو أقوياء أن يصلوا في بيوتهم واحدا أو أكثر جماعة بصلاة الإمام في المسجد، رابطين صلاتهم معه بصوت المكبر فقط، سواء كانت الصلاة فريضة أم نافلة، جمعة أم غيرها، وسواء كانت بيوتهم وراء الإمام أم أمامه؛ لوجوب أداء الفرائض جماعة في المساجد على الرجال الأقوياء، وسقوط ذلك على النساء والضعفاء"[فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (8/ 214].
وسئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- عن هذه المسألة، فقال: صلاتهم لا تصح، والواجب عليهم أن يصلوا في المسجد، فإن صلوا في أماكنهم بناء على سماع المذياع، أو على صوت مكبر الصوت فإن صلاتهم لا تصح؛ لأن المقصود من صلاة الجماعة أن يجتمع الناس المصلون في مكان واحد، وليعرف بعضهم بعضًا، فيتآلفون ويتعلم بعضهم من بعض"[مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 13/ 42].
وتصور الآن مع اختراع وسائل البث المباشر والإنترنت والجوال والتعليم عن بعد، ماذا نقول لو جاء هؤلاء اليوم أصحاب الأفكار المعصرنة أو المعصورة، وقالوا: كل واحد يصلي في بيته ونسوي لكم بث مباشر من المسجد؟ فماذا نقول في فقدان الأجر وضياع معالم الدين بهذه الطريقة والابتداع؟
طبعًا هذا الكلام مقيد بما إذا لم يكن المسجد ممتلئًا بالناس كما تقدم.
فإذا صلى الناس بالخارج مع اتصال الصفوف، فتجوز صلاتهم، حتى لو وصلت إلى الدكاكين، والفنادق، والجسور، والطرقات، فتصح حينئذ، جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة": لا تصح الصلاة، يعني في قضية عدم الاتصال، وهذا مذهب الشافعية وبه، قال الإمام أحمد: إلا إذا اتصلت الصفوف ببيته [فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (8/ 32].
إذاً، السؤال عن واحد يصلي من بيته مع الإمام "إلا إذا اتصلت الصفوف ببيته وأمكنه الاقتداء بالإمام، بالرؤية، وسماع الصوت، فإنها تصح كما تصح صلاة الصفوف التي اتصلت بمنزله، أما بدون الشرط المذكور فلا تصح؛ لأن الواجب على المسلم أن يؤدي الصلاة في الجماعة في بيوت الله مع إخوانه المسلمين [فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (8/ 32].
اقتداء النساء في الحج في خيامهن بصلاة الإمام
من الحالات التي تحدث خيام الحج، فما حكم اقتداء النساء في خيامهن بصلاة الإمام في خيمة أخرى، والرجال في خيام أخرى؟
الجواب: الأظهر جواز ذلك، وأن هذا بمثابة المسجد الذي تصلي النساء فيه، ويقتدون بإمامه، فليس هذا داخلًا في المسألة السابقة؛ لأن الجماعة هنا في مكان واحد، الخيام متلاصقة، والفاصل بين النساء والرجال الضرورة الشرعية، فلو كان المخيم مفتوحًا على بعضه عند الرجال، ولهم إمام ثم يوجد ساتر، والنساء في الخلف، في خيام أخرى، مجموعة أخرى من الخيام، تصح الصلاة، فما حكم الاقتداء إذا كان المأموم خارج المسجد؟
الجواب: إذا كانت الصفوف متصلة، والمسجد قد امتلأ فلا بأس بذلك، إذا اتصلت الصفوف ورأى بعضهم بعضًا، ولذلك يؤكد على أهمية فتح الأبواب عند وجود ناس خلف الأبواب؛ لأن المكبر أحيانًا ينقطع، ولأنه قد يخطئ الإمام في الصلاة خطأ، لا ينفع المكبر في التعريف لبعض المأمومين بماذا حصل، مثلًا هب أن الإمام نسي التشهد الأول، ورفع مكبرًا من السجدة الثانية في الركعة الثانية، وقال: الله أكبر، ووقف، الصلاة سرية، صلاة الركعة الثالثة سرية، لو كانت أبواب المسجد مغلقة، المكبر شغال نعم، لكن ماذا سيفعل الناس في الخارج؟ سيجلسون للتشهد، الإمام وقف واعتدل فلم يكن ليرجع، كما هو الراجح، والمأمومون الذين يرونه سيقومون، فهؤلاء في وادي، والذين في الخارج في وادٍ آخر، هنا في هذه القضية، ولذلك مسألة رؤية صفوف المصلين مهمة.
فإذًا، فتح أبواب المساجد إذا امتلأت مفيد في وجود نوع اتصال بالرؤية للصفوف الخارج والداخل، وهذا مهم في المتابعة، جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة": يجوز لمن جاء إلى المسجد، وقد ضاق بالمصلين أن يصلي خارج المسجد، الجمعة وغيرها من الفرائض والنوافل، في أقرب مكان إلى المسجد، من الطريق المجاور له، ما دام يضبط صلاته بصلاة إمامه للحاجة، بشرط أن لا يكون أمام الإمام، لكن لا يكون لها حكم المسجد"[فتاوى اللجنة الدائمة: 1 (6/ 223] يعني هذه البقعة المتصلة في الخارج في الساحات هل لها حكم المسجد، ما تمكث فيها الحائض ولا يجوز البيع فيها، إلخ... هل لها حكم المسجد؟
ما لها حكم المسجد، يمكن يصلون في الفندق، يقول : سوينا الفندق مسجداً، صار وقفًا.
فإذًا، الاتصال للحاجة يجوز فيه الاقتداء، ولكن لا يصير المكان الخارجي مسجدًا وله حكم المسجد لا يصيره.
هؤلاء الناس في الخارج الذين يقتدون بالصفوف، واتصلت الصفوف هل يضرهم عدم رؤية الإمام؟
الجواب: لا يضرهم، قال الإمام أحمد فيمن صلى الجمعة فلم يسمع تكبير الإمام؛ لأنه من أول ما كان في مكبرات، فالمسجد امتلأ وصوت الإمام ما يصل فماذا سيفعل المأمومون؟ سيقتدون بالذين أمامهم، قال الإمام أحمد: ليس عليه إعادة، وقال: كل الناس يسمعون التكبير؟ يعني مع هذا العدد الكبير ليس كلهم يسمعون التكبير، قال: إنما ينظر بعضهم إلى بعض، ولذلك تقتدي الصفوف ببعضها الصف المؤخر يقتدي بالصف المقدم.
وقال سفيان الثوري -رحمه الله- في القوم لا يرون الإمام عند الركوع والسجود أجزأهم أن يتبعوا من قدامهم من الصفوف الناس أئمة لبعضهم البعض [فتح الباري، لابن رجب: 6/250].
ويدل لذلك ما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله [رواه مسلم: 438].
قال النووي -رحمه الله-: "أي اقتدوا بي مستدلين على أفعالي بأفعالكم، ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أو صف قدامه يراه متابعًا للإمام" [شرح النووي على مسلم: 4/ 158- 159].
وقد ترجم البخاري لذلك بقوله: "باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم"[صحيح البخاري: 1/ 144] ثم ساق الحديث السابق معلقًا.
إذًا الإمام مع المأمومين في مكان واحد، إما أن يقتدوا به بصوته، أو يقتدوا بمبلغ، أو يقتدوا بالصف الذي يقتدي به، وهكذا..
ولذلك إذا انقطع الاتصال نهائيًا، لا يصح الاقتداء فلو كانوا على سطح المسجد مثلًا، أو كانوا في القبو، وانقطع مكبر الصوت، فالذين فوق محجوبين عن الذين هم في الأسفل، والذين في القبو محجوبين عن الذين فوقهم، ففي هذه الحالة ينقطع الاقتداء، ما يصح.
فإذًا، قد لا يصح الاقتداء لكونه في مكان آخر، كمن يصلي من بيته، وقد لا يصح الاقتداء لعدم إمكان المتابعة، لا بالرؤية، ولا بالصوت، وهنا أوردنا سابقًا تلك الحادثة الطريفة التي حصلت في أحد العمائر عمائر الإسكان، فقد جاء في عام ألف وأربعمائة وإحدى عشر من ملأها وسكن فيها، وما كان في مسجد قريب، فاتفقوا على أن يجعلوا بهو العمارة مصلى، يؤذن واحد، وينزل السكان، يصلون معًا في هذا المكان، فكان بهو العمارة ضيقًا صغيرًا، ما في مكان أن يجعلوا الإمام في صف مستقل، والمأمومين خلفه في صفوف، فاتفق أن المصعد كان في جهة القبلة ففتحوا باب المصعد ووضعوا عصا حبسوا الباب بها، وجعلوا الإمام داخل المصعد كالمحراب يصلي بهم ويقتدون به، وفي أحد الصلوات وبينما هم في السجود جاء طفل يلعب ويعبث فسحب العصا من مكانها وكان المصعد مطلوبًا من فوق فعرج بالإمام إلى السماء.
طبعًا السماء كل ما علا فهو سماء، عرج به إلى السماء، فجأة اختفى الإمام، فجاء واحد من الجماعة متأخر عن الصلاة رآهم ساجدين ولم ير إمامًا، فقال: يا جماعة ما في إمام، فالآن هل يمكن الاقتداء في هذه الحالة؟
لا.
ينقطع الاقتداء، ولا يصح الاقتداء ويتعذر أصلًا، الله أعلم ماذا يفعل فوق، فالآن لو أكمل كل واحد منهم الصلاة وحده صحت صلاته، كما لو انقطع المكبر عن الناس في القبو أو في الدور العلوي ماذا يفعلون؟ إما أن يكمل كل واحد منهم الصلاة وحده، أو يقدموا واحدًا منهم يتم بهم الصلاة، هذا واضح، لكنني سألت شيخنا الشيخ صالح الفوزان عن الإمام إذا عاد هل يصح الاقتداء ويكملون الصلاة؟ لأن هذا لما انطبق الباب، طلع إلى الأعلى، انتبه فضغط جي ونزل فتح الباب.
فقال الشيخ -حفظه الله-: إذا لم ينو الإمام قطع الإمامة؛ لأنه قد ينوي الانفراد، هو يكمل وحده، وإلا يقطع الصلاة كلها، أصلًا العوام مساكين في الحالة هذه يمكن يضيعون ما في علم وفقه، فقال: إذا لم ينو الإمام قطع الإمامة، وعاد إليهم، وأكمل بهم الصلاة، صحت الصلاة.
أين سيجدهم؟ في أي ركن؟ الله أعلم، لكن إذا رجع، لأنه لم يقطع نية الإمامة، يصح أن يكمل بهم الصلاة.
سنتابع إن شاء الله هذا الموضوع في الدرس القادم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.