الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد سبق الحديث في الدرس الماضي عن اجتناب النجاسة، وأنها من شروط صحة الصلاة، وأن اجتناب النجاسة يكون في البدن والثوب والمكان، ووجود النجاسة على بدن أو ثوب المصلي يبطل صلاته، وأنه يعفى عن يسير النجاسة في ذلك، وأن من صلى وكان عليه نجاسة وهو لا يعلم أو كان يعلمها لكنه نسيها وصلى فصلاته صحيحة، ويعفى عن ذلك بالجهل والنسيان، ومن كان على بدنه نجاسة وعجز عن إزالتها وجب عليه أن يصلي على حاله، ومن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا يستر به عورته فالواجب عليه أن يصلي في ذلك الثوب، ولا يجوز له أن يصلي عريانًا.
وإذا اشتبهت على الإنسان ثياب طاهرة بثياب نجسة؛ ففي المسألة قولان للعلماء:
الأول: أنه يتحرى ويجتهد في معرفة الطاهر من النجس، ويصلي فيما أداه إليه اجتهاده، وهذا قول الجمهور، واختاره شيخ الإسلام -رحمه الله-، فإن لم يغلب على ظنه شيء صلى في أي ثوب منها.
وذهب ابن الماجشون من المالكية، وكذلك الحنابلة إلى أنه لا يجوز له أن يتحرى، بل يصلي في ثياب منها بعدد النجسة، ويزيد واحدًا حتى يكون هنالك يقين بأن إحدى الصلوات كانت بالثياب الطاهرة، وإذا حبس إنسان في موضع نجس وجب عليه أن يصلي فيه، ويتجافى عن النجاسة بقدر استطاعته.
ومسألة حمل النجاسة وهي منفصلة عنه غير متلبس بها كالنجاسة في القارورة، فهذه عند أكثر العلماء لا تصح بها الصلاة.
وتطرقنا إلى مسألة حمل الصبي أثناء الطواف، وقد شدت عليه هذه الحفاظة هل يصح طواف أمه به؟
فمسألة الطهارة في الطواف أصلًا عند الأحناف، وهو قول عند المالكية ليست شرطًا في صحته، ولذلك المسألة عندهم أنها جائزة، لكن جمهور العلماء والشافعية والحنابلة والمشهور من مذهب المالكية أنها شرط.
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- عن هذه المسألة: أما عن الحفاظة فإذا كانت فيها نجاسة فقاعدة الفقهاء -رحمهم الله-: أن طواف الحامل لا يصح؛ لأنه حامل للنجاسة، والصحيح أن طوافه صحيح، وأنه لا يضره أن يكون هناك نجاسة في حفاظة الصبي المحمول.
وكذلك ذهب بعض أهل العلم من المعاصرين: أن الاحتياط أن لا يفعل ذلك إلا في حالة الاضطرار والحاجة، فلو حمل صبيًا لا يستطيع أن يتركه ويخاف عليه أن يؤذى، أو أن يؤخذ؛ فحينئذ يصح له أن يطوف وهو حامل له مع وجود نجاسة في هذا الطفل، وهذا للضرورة، قالوا : كالمستحاضة إذا غلبها الدم ولم تستطع أن تنفك عنه.
إذن، هذا بالنسبة لطواف الحامل والمحمول الذي فيه نجاسة كالطفل الصغير.
ذكرنا أيضًا في الدرس الماضي: أن الصلاة في المقبرة محرمة، ولا تصح سواء كانت فريضة أو نافلة، وأنه يستثنى من الصلاة في المقبرة أمران:
الأول: صلاة الجنازة على القبر.
والثاني: صلاة الجنازة في المقبرة على الجنازة قبل أن تدفن.
وأما الصلاة في المسجد الذي فيه قبر فمن قصد الصلاة في هذا المسجد من أجل القبر الذي فيه والتبرك به، فلا شك في تحريم صلاته وبطلانها، وهذا عين المحادة لله ورسوله، ومن صلى فيه اتفاقًا لا قصدًا للقبر، وسأل ما حكم صلاتي؟ فإن كان القبر سابقًا عن المسجد فالمسجد مبني فوق القبر، والقبر هو الأصل، والمسجد طرأ على القبر فالصلاة باطلة؛ لأنه صلى في المقبرة، صلى عند القبر: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد [رواه البخاري: 1390] على هذا الفعل، وإن كان المسجد سابقًا على القبر فإن كان القبر في قبلة المسجد فالصلاة باطلة، وإن لم يكن في قبلة المسجد فجمهور العلماء على صحة الصلاة مع الكراهة.
إذن، ما تصح هنا؟ إذا كان المسجد أولًا، وكان القبر في غير جهة القبلة على أن من العلماء من ذهب إلى بطلانها في كل الحالات.
ثم إن الحكم السابق يشمل كل المساجد سواء كانت صغيرة أو كبيرة قديمة أو حديثة لم يستثن إلا المسجد النبوي الشريف لفضيلته، فضيلة المسجد النبوي معروفة، والنبي ﷺ قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام [رواه البخاري: 1190، ومسلم: 1394]، ولغير ذلك من الفضائل.
فلو قيل بكراهة الصلاة فيه سويناه بالمسجد الذي في مثل ذلك الحال.
نبذة تاريخية عن المسجد النبوي
وهنا كلام مهم يتعلق بقضية المسجد النبوي:
أولًا: المسجد النبوي لم يبن على قبر، وكان القبر خارج المسجد النبوي؛ لأن النبي ﷺ دفن في حجرة عائشة، وكان بيته وهو حجرة عائشة منفصلًا عن المسجد فإن الصحابة لما مات النبي ﷺ دفنوه في حجرته التي كانت بجنب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، وكان النبي ﷺ يخرج منه، يعني من حجرته من هذا الباب الفاصل إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة -رضي الله عنهم- حينما دفنوه ﷺ في الحجرة إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجدًا، ولأن النبي ﷺأخبرهم أنه لا يموت نبي إلا يدفن حيث مات، فماذا حدث بعدهم؟
لما أراد الوليد بن عبد الملك من بني أمية أن يوسع المسجد النبوي أضاف حجر أزواج النبي ﷺ إليه وأدخل فيه الحجرة النبوية، وأمر عمر بن عبد العزيز وهو الأمير على المدينة في ذلك الوقت أن يدخله فيه، ولم يكن في المدينة النبوية يومئذ من الصحابة أحد، واعترض بعض التابعين على ذلك، واعترض بعض العلماء على هذا الفعل، ولكن غلبهم الوليد بأمره وسلطانه، وكان خطأ بلا شك، بلا شك أنه كان خطأ ولكن حصل.
الصحابة -رضوان الله عليهم- كعمر وعثمان لما وسعوا المسجد النبوي احترزوا من هذه المخالفة، ولم يوسعوا المسجد من جهة الحجرات، ولم يدخلوا الحجرات النبوية في المسجد، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك، ولئن كان مضطرًا إلى توسيع المسجد فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من سائر الجهات دون أن يتعرض لجهة الحجرة الشريفة، وقد أشار عمر إلى هذا عندما وسع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة، بل قال: إنه لا سبيل إليها، هذه المخالفة التي ارتكبها الوليد حاول العلماء والتابعون آنذاك في المدينة التخفيف منها، فماذا فعلوا؟
لقد قال قائلهم لعمر بن عبد العزيز أمير المدينة الذي ينفذ أوامر الوليد قال له: إن كنت لابد فاعلًا فاجعل له ضلعين، يعني من جهة الشمال حتى لا يشبه تربيعه تربيع الكعبة، وحتى لا يستقبل.
وهذا فيه درس عظيم في قضية تخفيف المفسدة إذا كان لابد من وقوعها، فتدخل هؤلاء العلماء من التابعين لتخفيف المفسدة الواقعة بأمر الوليد، فنصحوا المنفذ، وهو عمر بن عبد العزيز أن يفعل ما يلي الحجرة النبوية حجرة عائشة تميل إلى التربيع تقريبًا، ولعل جدارها الجنوبي أطول من بقية الجدران، فلذلك سيكون الجدار الشرقي فيه شيء من الميلان، الحجرة النبوية حجرة عائشة مسقوف.
إذن، نتصور الآن أربع جدران هذه حجرة عائشة مسقوفة لما وسع المسجد من جهة الحجرة دخلت الحجرة فيه، لما مات النبي ﷺ دفن في الحجرة وقبره عليه الصلاة والسلام إلى جهة الجدار القبلي لحجرته في الركن، وحتى نتخيل المسألة قبلة المسجد النبوي هل هي جنوبية وإلا شمالية وإلا شرقية وإلا غربية جنوبية؟ فتصور أنت الآن قبلة المسجد النبوي إلى الجنوب النبي ﷺ في حجرته لما كان يصلي كان يستقبل أي جدار؟
الجدار الجنوبي لحجرته قبره، إلى الجدار الجنوبي من جهة الغرب، ممتد الرأس من غرب والرجلين من الشرق وهو كالنائم وجهه إلى القبلة، أنت لو وقفت الآن في الروضة ووجهك إلى القبلة أين يصبح رأس النبي ﷺ؟ إلى يسارك ولو ذهبت لتقف تسلم على النبي ﷺ أين تكون القبلة؟ خلفك، أين يكون الجسد الشريف؟ أمامك، وجه النبي ﷺ في قبره إليك، القدمين الشريفتين عن يمينك الرأس عن شمالك، لما تكون واقفاً في الروضة القبلة أمامك والرأس عن شمالك، أبو بكر الصديق دفن خلف النبي ﷺ بذراع لكن نازل عنه بخطوة، يعني قبره منسحب إلى أي جهة؟ الشرق منسحب قليلًا إلى جهة الشرق بخطوة قبر عمر موازي لهما منسحب عن قبر الصديق إلى جهة الشرق بخطوة، فلذلك أنت لما تقف أمام القبر النبوي تقول: السلام عليك يا رسول الله، حتى تسلم على قبر الصديق ماذا تفعل؟ تنسحب إلى اليمين خطوة تقول: السلام عليك يا أبا بكر، وتنسحب إلى اليمين خطوة تقول: السلام عليك يا عمر، فقبورهم متوازية خلف بعض بين قبر النبي ﷺ وقبر الصديق ذراع، ولكن متأخر إلى جهة الشرق بخطوة، ولذلك لما وصفوا القبور وأن الرأس بين الكتفين يعني لأنه نازل عن مستوى ليس الرأس محاذي للرأس نازل عنه خطوة.
هذه الحجرة النبوية المحاطة بأربعة جدران والمسقوفة لما صارت داخل المسجد سدوا الباب وصارت الجدران أربعة مصمتة وسدوا النافذة ما في طاق ولا باب، ماذا أمر العلماء عمر بن عبد العزيز أن يصنع؟
أن يبني جدارين من أي جهة من القبر، جدارين بزاوية يلتقيان، جدارين بزاوية يحيطان بالقبر.
وعرفنا: أن القبلة جنوب فأين سيكون هذان الجداران؟ شمال الحجرة النبوية بزاوية.
إذا مديت الجدارين تصير قاعدة المثلث الجدار الثالث في أي موضع من الحجرة النبوية؟
جنوب موازي للقبلة، فصار عندنا الحجرة المربعة داخل مثلث، لكن هو بالحقيقة ما هو مثلث هو مخمس، يعني بنى عمر بن عبد العزيز جدارًا مخمسًا له ضلعان من الشمال فيحيطان بالحجرة هكذا.. ثم يأتي الجداران الثالث والرابع، ثم يأتي الجدار الخامس ليغلق فصار عندنا مربع داخل مخمس الحجرة النبوية داخل مخمس، المخمس هذا له جداران من جهة الشمال ثم جداران من جهة الشرق والغرب ثم الذي يغلق الجدار الخامس جنوبي لماذا؟ حتى لا يتمكن أحد من الصلاة ولا استقبال القبر والقبلة في الدعاء؛ لأنه إذا أراد أن يصلي أو يدعو سيستقبل القبلة فلا يمكنه أن يستقبلها؛ لأنه إذا صار يستقبل هذا الجدار صار مائل بهذا الاتجاه، وإذا صار يستقبل هذا الجدار؛ لأنه يريد استقبال القبر، يعني هو الفكرة أو الهدف ما هو؟ منع الذين يريدون استقبال القبر من أن يكونوا في مكان يستقبلون فيه القبر والقبلة معًا، فالمحذور سيأتي من جهة الشمالية، فعندما يأتي من هنا ليستقبل القبر سيكون مائلاً عن القبلة، وإذا جاء من هنا سيكون مائلاً عن القبلة، ولذلك نصحوا عمر بن عبد العزيز بهذا الشكل المخمس لئلا يشبه تربيعه تربيع الكعبة، ولئلا يستقبل.
طبعًا الذي من الجدار الشرقي أو من الجدار الغربي أصلًا لن يستقبل القبلة، يعني لا يمكنه أن يستقبل القبلة والقبر معًا والذي في الجدار الجنوبي القبر وراءه.
هذا الذي حصل بالنسبة لموضوع إحاطة القبر بالشكل المخمس يوجد شمال حجرة عائشة حجرة فاطمة -رضي الله عنها- منفصلة عنها.
ولما كان بعض أهل البدع يدخلون إليها ويفعلون البدع عندها جاء السلطان الموحد قايتباي وأحاط الجدار المخمس أو الشكل المخمس مع حجرة فاطمة بالمقصورة التي ترونها الآن ذات اللون الأخضر أو المعدن الأخضر أو الطلاء الأخضر المذهب منعًا لأهل البدع من دخول حجرة فاطمة.
الآن لو فتحنا هذا القفص أو هذه المقصورة، هذه المقصورة لها ستة أبواب، ودخلنا ماذا سنجد؟ المخمس مصمت من جميع الجوانب، ما في باب ولا شباك، ويوجد حجرة فاطمة، ولو جاء أحد من الضيوف الآن يدخل حجرة فاطمة ما يمكن أن يدخل حجرة عائشة؛ لأنها محاطة بالجدار المخمس، نور الدين -رحمه الله- لما علم أن بعض الناس يريد حفر خندق من الأسفل للوصول إلى الحجرة حفر ما حول المخمس خندقًا، ملأه بالرصاص بحيث لا يمكن الاختراق من أسفل بعد ذلك عملت القبة، وكان في عملها إساءة لأنها غير مشروعة فوق القبر، وهي بدعة من البدع بلا شك.
هذا ملخص ما تم بالنسبة للحجرة النبوية، وما فعله بعض العلماء، أو ما نصح به بعض العلماء في شأن تقليل المفسدة التي نشأت من إدخال القبر في المسجد.
طبعًا المسألة فيها تفاصيل كثيرة، ومن أراد الوقوف عليها يرجع إلى كتاب السمهودي، لأنه دخل وكان شاهد عيان لأن جدار غرفة عائشة حجرة عائشة رضي الله عنها انهد أكثر من مرة واحتاجوا إلى إدخال شخص من فوق أو أكثر لكي يرمم أو يقيم الجدار جدار حجرة عائشة فحصل هذا في عهد عمر بن عبد العزيز وحصل في أكثر من مرة وحصل في عهد السمهودي نفسه ودله شخصًا لكي يبني الحجرة.
عمر بن عبد العزيز لما انهدت سمعوا هداً سمعوا ضجة فإذا بأحد جدران حجرة عائشة قد انهدم فما دخل عمر حتى ما تدخل قريش وراءه وأمر مولاه رباح وشخص آخر يدخلوا لإقامة الجدار.
من يدخل للتنظيف الآن ماذا ينظف؟
الممر الذي بين حجرة فاطمة والمخمس وإذا كان هناك ستور أو أشياء توضع كسوة أو شيء فهو من خارج هذا المخمس ولا يمكن الدخول إلى حجرة عائشة؛ لأنه محاط بهذه الأضلاع المصمتة، اللهم إلا أن يكون من أعلى من فوق.
وذكر ابن تيمية -رحمه الله- في الجواب الباهر: أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سد بابها وبني عليها حائط آخر وهو الحائط المخمس صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنًا.
إذًا هذا بالنسبة لموضوع القبر النبوي ودخوله في المسجد والقصة وأن هذا الإدخال الخطأ لا يلغي أفضلية المسجد، ولا فضل الصلاة في المسجد؛ لأنه باق إلى قيام الساعة، ولا يمكن القول إن الصلاة في المسجد مكروهة، أو أنه ما في فضل في الصلاة لهذا الخطأ الذي فعله من فعله مع اعتراض العلماء عليه، وغلبهم بالسلطان، وكثير من الناس في العالم الإسلامي فيهم جهل، فلو قلت الآن نزيل القبة مثلًا لقامت ثورات، ثارت ثائرتهم، ولذلك إبقاء بعض الأشياء على ما هي عليه ليست من باب إقرار الحكم أو إقرار هذا الخطأ، ولكن من باب النظر فيما سينشأ من المفاسد لو أريد تصحيح بعض هذه الأوضاع كإزالة القبة مثلًا.
حكم الصلاة في الحمام
تكلم المصنف -رحمه الله- الشيخ السعدي بعد ذلك عن الموضع الثاني الذي لا تصح الصلاة فيه فقال: "أو حمام".
والمراد بالحمام المكان الذي يغتسل فيه، وليس المراد به المكان الذي يقضي فيه الإنسان حاجته كما هو عرف الناس اليوم، وكل ما يدخل في اسم الحمام ينهى عن الصلاة فيه فلا فرق بين مكان الغسل وصب الماء ومكان نزع الثياب وتسخين المياه، وكل ما يغلق عليه باب الحمام لتناول الاسم له كما ذكر ابن قدامة في المغني.
من زمان كان فيه حمامات في الأسواق، وحمامات أماكن يسخن فيها المياه، وأماكن نزع الثياب، والمكان الذي يصب فيه، ويذهبون إلى الحمامات لأجل التنظف هذه الحمامات منهي عن الصلاة فيها، فطبعًا أماكن قضاء الحاجة من باب أولى، المكان الذي فيه مراوش اسمه حمام أصلًا.
وفي الصلاة في هذه الحمامات قولان للعلماء:
جمهور العلماء على أنه يجوز أن يصلى في الحمام والصلاة صحيحة، ولكن مع الكراهة فحملوا النهي على الكراهة.
وفي مذهب الإمام أحمد التحريم مع الحكم ببطلان الصلاة، وذهب إلى هذا مشايخ اللجنة الدائمة، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله-؛ لقول النبي ﷺ: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام هذا بالنسبة للحمام الذي هو مكان الاغتسال.
أما مكان قضاء الحاجة مكان نجاسة هذا من باب أولى فلا شك في تحريمه وبطلانه عندئذ.
وكل مسلم يسمع نهي النبي ﷺ عن الصلاة في الحمام يعلم أن مكان قضاء الحاجة أولى بهذا النهي، وإنما لم يرد عن النبي ﷺ النهي عن الصلاة في مكان قضاء الحاجة؛ لأن الأمر أوضح في نفوس الصحابة من أن يحتاج إلى نهي، هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-، قال: ولهذا كانت الحشوش اللي هي أماكن قضاء الحاجة محتضرة، تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمام، ومعاطن الإبل، والصلاة على الأرض النجسة، ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى بيان، ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم قبل أن تتخذ الكنف في بيوتهم، يعني قبل أن يصبح هناك مراحيض داخل البيوت لقضاء الحاجة.
عائشة في قصة الإفك ولما سمعت الخبر أين كانت ذاهبة لما سمعت الخبر؟ إلى مكان قضاء الحاجة خارج البيت، الحجرة هذه ما كان فيها مكان قضاء حاجة، وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم قبل أن تتخذ الكنف في بيوتهم، وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى، انتهى.
لماذا النهي عن الصلاة في الحمام؟
قالوا: مكان تكشف فيه العورات، ولا يخلو من بعض النجاسات، واختار الشيخ النووي وشيخ الإسلام -رحمه الله- أن العلة لأنها مأوى الشياطين.
حكم الصلاة على سطح الحمام
ما حكم الصلاة على سطح الحمام؟
الجواب: إنها صحيحة لا يشملها النهي؛ لأن الحمام إن كانت العلة فيه أنه مأوى الشياطين، فإن الشياطين لا تأوي إلا إلى المكان الذي تكشف فيه العورات، وإن كانت العلة في خوف النجاسة فالسطح بعيد عن هذه العلة.
طبعًا بناء على ما تقدم سابقًا لو قال واحد: هل يجوز أن أصلي إلى جهة الحمام إذا كان الحمام بيني وبين القبلة وبيني وبين الحمام جدار؟
الجواب: نعم، يجوز ذلك، لو قال هنا في هذا المكان يوجد بيارة أو مكان تجميع خزان تجميع النجاسات خزان تجميع مياه الصرف والنجاسات، فما حكم الصلاة فوقه؛ لأن بعض هذه الخزانات فوقها صب من الإسمنت مثلًا فوقه مصبوب أرض فيصلي فوقها؟
فالجواب: جائز -كما قلنا- في الصلاة فوق سطح الحمام.
طبعًا الصلاة في الحمام هذه قد تحدث ضرورة كما لو أغلق عليه الباب، فيمكن بعض الناس يدخل الحمام للاغتسال فيغلق عليه الباب لأي سبب، فيبقى فيه وهل يخرج الوقت؟
وحدثني شاب من طلاب الثانوية كان نصرانيًا فمن الله عليه فأسلم؛ أنه لا يستطيع أن يصلي إلا في الحمام؛ لأن والده إذا اكتشف أنه يصلي أو أنه أسلم ربما قتله، فما حكم الصلاة في الحمام؟
الشاهد: أن هناك مواضع اضطرار، هناك حالات اضطرارية فلو قيل تصلي فيه وإلا تخرج الصلاة عن وقتها؟
فالجواب: أن الصلاة فيه أولى من إخراجها عن وقتها هذا إذا لم يمكن الجمع؛ لأن أهل الأعذار يجوز لهم الجمع بين الصلاتين، فإذا كان يستطيع الجمع بين الصلاتين خارج الحمام فهو أولى من الصلاة داخل الحمام، لكن إذا كانت ستفوت ولم يجمعها، أو لا يمكن جمعها، فالصلاة في الحمام مقدمة على الصلاة خارج الوقت.
حكم الصلاة في معاطن الأبل
ثم قال المصنف -رحمه الله-: "أو أعطان الإبل".
وهذا يشمل ما تبرك فيه عند صدورها من الماء أو انتظارها الماء، ويشمل ما تقيم فيه وتأوي إليه، وهي الحظائر سواء كانت مبنية بجدران، أو محاطة بأخشاب، أو أشجار، وما شابه ذلك.
الصلاة في أعطان الإبل محرمة ولا تصح، ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: ولا تصلوا في أعطان الإبل [رواه الترمذي: 348، وابن ماجه: 769، وهو حديث صحيح].
ورواه مسلم عن جابر بن سمرة: أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ فقال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم))، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا)) [رواه مسلم: 360].
فهذه الأحاديث تدل على عدم صحة الصلاة في أعطان ومبارك الإبل، وهو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-.
وأما علة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل فلأنها مأوى الشياطين كما اختار ذلك شيخ الإسلام، وقد جاء عند ابن خزيمة عن النبي ﷺ "فوق ظهر كل بعير شيطان" صحيح [رواه ابن خزيمة: 2546].
ومقتضى هذه العلة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل سواء كانت موجودة فيها أم لا، فلو قال: الإبل ذهبت تسرح هل يجوز أن أصلي في معاطنها؟
فنقول: لا، ومن باب أولى إذا كانت موجودة، بل إنها إذا كانت موجودة فإنه ينضاف إلى ذلك علة أخرى وهي ما في طبيعتها من التمرد، ولذلك النبي ﷺ قال: إنها خلقت من الشياطين كما جاء في حديث البراء بن عازب لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين [رواه أبو داود: 184، وصححه الألباني].
وأيضًا قال ﷺ: لا تصلوا في عطن الإبل فإنها من الجن خلقت، ألا ترون عيونها وهبابها إذا نفرت والهباب هو الهيجان [رواه أحمد: 20557، وصححه الألباني].
قال بعض العلماء: إن معنى كونها خلقت من الشياطين، يعني من طبيعتها الشيطنة والتمرد، وليس أن الشيطان تحول إلى جمل، وقالوا هذا يشبه قول الله -تعالى-: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37].
الإنسان خلق من تراب، خلق من طين، لكن خلق من عجل معناها العجل في طبعه، وهكذا خلقت من الشياطين، الشيطنة في طبعها وفي أخلاقها، ولذلك أحيانًا البعير يقتل، يحقد، ينفر، يهرب، يشرد، يتمرد، خلقت من الشياطين، وكل مكان تحضره الشياطين ينهى عن الصلاة فيه، ولذلك فإن النبي ﷺ لما فاتته صلاة الفجر واستيقظوا بعد طلوع الشمس، قال: ارتحلوا فإنه منزل حضرنا فيه الشيطان [رواه مسلم: ].
قال النووي -رحمه الله-: الصلاة في مأوى الشيطان مكروه بالاتفاق، وذلك مثل مواضع الخمر والحانة، ونحوها من المعاصي الفاحشة.
فإذن، لو قال واحد: فيه حانات للخمر فيه ملاهٍ ليلية أيش حكم الصلاة فيها؟
نقول: هذه أماكن تحضرها الشياطين لا تصلوا فيها.
طبعًا قضية النهي غير قضية البطلان، يعني قد يكون باطلًا، وقد لا يكون، لكننا في الأصل ننهى عن الصلاة في الأماكن التي تحضرها الشياطين.
بناءً على ما تقدم تكون الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كما ذكر المصنف خمسة: المكان النجس، المغصوب، المقبرة، الحمام، معاطن الإبل، جاء في رواية للترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ"نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله" لكن هذا الحديث ضعيف لا يصح، لكن بعض هذه الأشياء من جهة المعنى صحيحة، فالمزبلة مثلًا مكان إلقاء القاذورات والقمامة، وتلقى فيها نجاسات، فلو صلى فيها بطلت الصلاة، لكن لو كان الإنسان في مكان مليء بالقاذورات ولابد أن يصلي ومهما مشى فإن المكان مليء بالقاذورات فوضع سجادة وصلى فوقها مثلًا صحت الصلاة.
فيشترط لصحة الصلاة فوق هذه الأرض أن يبسط عليها ما يحول بينه وبينها، وأن تكون النجاسة غير مائعة؛ لأنها لو كانت مائعة، فإن هذا الحائل سوف يتشربها، وكذلك فإن الشياطين تحب الأماكن القذرة، وقد قال ﷺ: إن هذه الحشوش محتضرة [رواه أبو داود: 6، وصححه الألباني] يعني تحضر فيها الشياطين، أماكن نجاسات وقاذورات وقضاء الحاجة تحضر فيها الشياطين.
أما بالنسبة للمجزرة، فهي على حالتين:
الأولى: أن تكون الصلاة في الموضع الذي يذبح فيه فلا إشكال في بطلان الصلاة لنجاسة المكان بالدم.
والثانية: أن تكون في المجزرة مرافق كالغرف والصالات البعيدة عن مكان الذبح الذي تسيل به الدماء، فالصلاة فيها صحيحة، فلو قال واحد: أنا أعمل في المجزرة وأصلي هناك فنقول: أين تصلي؟
فيقال: في مكان الذبح الذي تسيل فيه الدماء؟
نقول: لا.
وإن قال في حجرة أو مكان أو صالة ملحقة لا تصل إليها الدماء؟
فنقول: صل فيها.
أما قارعة الطريق فإنه في الحقيقة يكره الصلاة فيها؛ لأنه يضيق على الناس طريقهم، ويؤذيهم، ولا يستطيعون أن يمروا بين يديه، وكذلك يشوش على صلاة نفسه والخشوع بما يحدث من مرور الناس.
أما فوق ظهر بيت الله فلم يثبت النهي، ولذلك فالصحيح أنه تجوز الصلاة فوق سطح الكعبة.
أما الصلاة في الكنائس ومعابد اليهود فإن كانت فيها صور وتماثيل وهي من ذوات الأرواح فتكره الصلاة فيها، وإن لم يكن فيها شيء جازت الصلاة فيها، فإن بعض الطلاب اليوم في بلاد الغرب لا يجدون مكانًا لصلاة الجمعة، أو لا يجدون مكانًا لصلاة الجماعة فيستأجرون كنيسة، فقلنا: تزيلون الصور من ذوات الأرواح، وتغطون المكان، وتصلون فيه، سئل شيخ الإسلام -رحمه الله- هل الصلاة في البيع والكنائس جائزة مع وجود الصور أم لا؟
فأجاب: وأما الصلاة فيها ففيها ثلاثة أقوال للعلماء:
في مذهب أحمد وغيره المنع مطلقًا، وهو قول مالك، الأذن مطلقًا، وهو قول بعض أصحاب أحمد.
الثالث: وهو الصحيح المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره وهو منصوص عن أحمد وغيره أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، ولأن النبي ﷺ لم يدخل الكعبة حتى محي ما فيها من الصور، وكذلك قال عمر: "إنا كنا لا ندخل كنائسهم والصور فيها"، وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة والله أعلم"، هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.
قلنا: إذا اضطر الإنسان للصلاة في الأماكن المنهي عنها يحاول أن لا يصلي ولو بالجمع بين الصلاتين، وإذا لم يستطع صلى وصلاته صحيحة، ولا يخرج الصلاة عن الوقت، وفي الإعادة نزاع، والصحيح أنه لا إعادة عليه، وبهذا يظهر جواب الأخ السائل في المرة الماضية لما قال: أنا دخلت المقبرة ونسيت أني لم أصل العصر واستمرت الجنازة إلى ما قبل المغرب بعشر دقائق، وأنا دخلت ماشي فتذكرت قبل المغرب أني ما صليت العصر، ولو مشيت لأخرج من المقبرة لاتساعها وكبرها، وإني دخلت ماشي فستفوتني العصر، وسوف تغرب الشمس، فماذا يفعل في هذه الحالة؟
يصلي؛ لأن مراعاة الوقت أولى، ومفسدة خروج الوقت أكبر من مفسدة الصلاة في المقبرة.
آداب المشي إلى الصلاة
ثم قال المصنف -رحمه الله تعالى- في صفة الصلاة: "ويستحب أن يأتي إليها بسكينة ووقار"، فيستحب لمن أتى إلى الصلاة أن يأتي بسكينة ووقار؛ لأن الإسراع الشديد يذهب بالحلم، ويغير العقل والرأي، ويشوش على فكر الإنسان، وكذلك يصبح صدره يتردد فيه النفس، فلا يجد القراءة بسبب هذا، ولأنه إذا استأنى وصلى البعض في جماعة، والبعض منفردًا أصلح وأبلغ في اجتماع همه من الإسراع الشديد الذي لا يمكنه من إتمام القراءة، ومن الخشوع فيها، وقد قال النبي ﷺ: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا [رواه البخاري: ].
والسكينة أصلها من السكون وهو ضد الحركة، وقالوا الوقار يعني الحلم والرزانة.
وقيل: السكينة هو الوقار بمعنى واحد، وجمع بينهما للتأكيد، قال النووي -رحمه الله-: والظاهر أن بينهما فرقًا، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، ونحو ذلك، والوقار في الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والإقبال على طريقه، وعدم التلفت وهو يمشي، التلفت وهو يمشي ليس من الوقار، ونحو ذلك.
يدخل فيها فرقعة الأصابع ليس من الوقار في المشي، يدخل فيها مشية المتمايلين ليس من الوقار في المشي، وهكذا..
فإذن، السكينة التي فيها التأني والوقار الذي هو الرزانة، وجاء أيضًا عن النبي ﷺ قوله: إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وهو عند مسلم].
ولفظ الترمذي: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا .
هذا الكلام حتى لو سمع الإقامة؛ لقوله ﷺ: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار .
وهذا التقييد طبعًا غير معتبر، بمعنى لو أنه جاء قبل الصلاة أن تقام أو بعد أن أقيمت فإن الإسراع مكروه، بل أشد؛ لأنه إذا نهي عن الإسراع مع خوف فوات بعض الصلاة فالإسراع من غير سبب من غير خوف فوات شيء من الصلاة يكون من باب أولى.
والحديث صريح في أن من خشي أن تفوته ركعة من الصلاة لا يسرع لإدراكها، ولكن ماذا إذا خشي أن تفوته الجماعة؟
ظاهر الأحاديث عدم الفرق بين أن يخاف فوت تكبيرة الإحرام أو يخاف فوت ركعة أو يخاف فوت الجماعة، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، لكن بعض أهل العلم قالوا : إذا خاف الرجل أن تفوته الصلاة كل الجماعة، فلا بأس أن يزيد في مشيه ويسرع فيه ما لم يخرج بذلك عن حد السكينة والوقار.
وكذلك إذا كان راكبًا فلا بأس أن يحرك دابته يستحثها على مزيد من العجلة والسرعة ليدرك الصلاة، قالوا: ما لم يخرج بذلك عن حد السكينة والوقار، هذا في مواهب الجليل.
واختار شيخ الإسلام أن الإسراع الشديد مكروه مطلقًا، وأما الإسراع اليسير فيكره إلا إذا خاف فوت تكبيرة الافتتاح، وطمع في إدراكها؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يعجلون شيئًا إذا تخوفوا فوت التكبيرة، واختار أيضًا أنه إذا خشي فوات الجماعة أو الجمعة، وذلك أنه شيء لا بدل له فيرتكب إحدى المفسدتين لتفويت أعلاهما، فمفسدة فوت الجمعة والجماعة أكبر؛ لأنهما واجبان، والعجلة منهي عنها إلا أنه نهي كراهة، ولذلك قال: إذا خشيت أن تفوتك الجماعة أو خشيت أن تفوتك الجمعة فلا بأس من شيء من الإسراع، مع أن العراقي -رحمه الله- قد قال: وأما الجمعة فلا نعلم أحدًا قال بالإسراع لها دون غيرها من الصلوات، يعني أنه حتى هذه الجمعة ما تستثنى من الحديث فإن قال قائل: إن الله تعالى قال إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا؟
قلنا: السعي هنا بمعنى الفعل والعمل، يعني اسع إلى الصلاة ابدأ اشرع، ولكن ليس العدو والجري، وقد قال تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4]، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء: 19] وهكذا...
أما إذا ضاق الوقت وخشي فواته، فقد قال شيخ الإسلام: إذا خشي فوت الجمعة فإنه يسرع حتى يدرك منها ركعة فأكثر، وأما إذا كان يدركها مع المشي وعليه السكينة فهذا أفضل بل هو السنة.
إذن، من الأدب في إتيان الصلاة: ترك العجلة، والإتيان بخشوع مع سكون الأعضاء، وتكثير الخطى؛ لأن الطبراني روى بإسناد صحيح عن أنس قال: "كنت أمشي مع زيد بن ثابت فقارب في الخطى المسافة بين القدمين أثناء المشي، فقال: أتدري لم مشيت بك هذه المشية؟ يعني مشية فيها تقارب الخطى فقلت: لا، قال: لتكثر خطانا في المشي إلى الصلاة لأجل ما ورد أن كل خطوة تكتب حسنة تمحى سيئة، ترفع درجة كل خطوة، ولذلك كانوا يستحبون عدم توسيع الخطوة في المشي إلى الصلاة، وتقريب الأقدام من بعضها أثناء الانتقال إلى المسجد.
وأيضًا حتى لا يظهر الإنسان نفسه فلا يتمكن من ترتيل القرآن لو كان إمامًا مثلًا أو منفردًا.
هل الذهاب إلى المسجد راكبًا له ثواب الماشي؟
لقد ورد الأجر العظيم في المشي إلى المسجد، وأن أعظم المصلين أجرًا أبعدهم منزلًا؛ فعن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم [رواه مسلم: ].
وحديث بريدة عن النبي ﷺ قال: بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة [رواه أبو داود: وهو حديث صحيح].
قال في "دليل الفالحين": وفي الحديث فضل المشي إلى الصلاة سواء كان المشي طويلًا أو قصيرًا، وفضل المشي إليها للجماعة في ظلم الليل، فهذه فيها حث للمسلم على أن يجتهد في إتيان المسجد، وصلاة الجماعة ماشيًا لا راكبًا، ولو كانت داره بعيدة ما لم يكن عنده مشقة أو عذر ككبر سن ونحوه.
وكذلك فإن بعض الناس قد يخشى على ولده من الخطف مثلًا، فيقول: حدثت حوادث خطف للأولاد في هذا الشارع، وأنا لا آمن أن أرسله في الفجر أو العشاء يذهب ماشيًا، فسوف أدعه يركب يذهب مع سائق معي، مع أخيه الأكبر يسوق هو، المهم أنني لا آمن عليه من المشي لجرائم الخطف، فلا بأس.
طيب يذهب راكبًا، لا مانع من ذلك أبدًا، بل إن المحافظة على الأولاد مهمة وإذا أن إنسان رأى الشر من بين يديه ومن خلفه خلاص لا بأس، لا حرج يركب أصلًا الركوب جائز، والمشي إلى المسجد فيه رياضة، وكان بعض العلماء لا يتنازل عنه أبدًا المشي إلى المسجد خمس مرات في اليوم، بل وربما مشى حافيًا؛ لأن النبي ﷺ أمرهم أن يحتفوا أحيانًا، وذلك لتعويد النفس على الخشونة.
ومن الأمور المستحبة في الخروج إلى الصلاة: أن يخرج إليها متطهرًا؛ كما قال ﷺ: من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه .
وفي رواية: من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة [رواه مسلم: ].
ثم من السنة له: أن يقول الذكر الوارد في ذلك، وهو ما قاله ﷺ لما خرج إلى الصلاة: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، واجعل من أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم اعطني نورًا .
كذلك المقاربة بين الخطى، وقد عرفنا ذلك، وقال ﷺ: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فذكر لهم وكثرة الخطى إلى المساجد .
من آداب المشي إلى الصلاة: عدم التشبيك بين الأصابع؛ لقوله ﷺ: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة .
إذن، لا يشبك ولا يضعها في أي مكان، لا يشبك أثناء الخروج إلى الصلاة؛ لأنه في حكم المصلي من يوم ما خرج هو في حكم المصلي، والملائكة تصلي عليه وتدعو له حتى يدخل المسجد ليجلس فيهن وهي تدعو له وهو في أجر الصلاة كأنه في صلاة، وهو مرابط أيضًا ينتظر الصلاة طيلة جلوسه ما لم يحدث في هذا المجلس في الصلاة.
إذن، هو من يوم خروجه إلى أن يصلي هو في صلاة، ولذلك لا يشبكن بين أصابعه.
وبعضهم يفرقع بينها.
وبعضهم يعمل أكثر من ذلك إذا حضر المسجد وجلس فيستجلب النوم بطريقة جلسته، وربما احتبى وضم فخذيه إلى بطنه، وقعد متمكنًا فينعس وينام.
النبي ﷺ مرة من المرات بعد الصلاة قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه.
فنقول: كان هذا بعد الصلاة وليس وهو ماشي إلى المسجد، ثم لو احتاج إليه لبيان مثل المسلمون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه ، فلا بأس بذلك.
انتظار الصلاة في حكم المصلي، ولذلك لا يفرقع أصابعه ولا يعبث، وإذا كان عليه الخشوع سيرى بجوارحه، عن شعبة مولى ابن عباس قال: صليت إلى جنب ابن عباس ففقعت أصابعي كما يفعله كثير من الطلاب اليوم، كثير من الطلاب لا بد أن يعمل شيئًا في أصابعه، لا بد فقع الأصابع، وشبك يعصر الأصابع يقضم أظفار الأصابع، لابد أن يفعل شيئًا في الصلاة؛ لأننا ما ربينا أولادنا على الخشوع فيها هذه كثيرة جدًا عند الأولاد، ويتعلم بعضهم من بعض من أقبح الحركات في الصلاة، قال شعبة مولى ابن عباس: صليت إلى جنب ابن عباس ففقعت أصابعي، فلما قضيت الصلاة، قال: لا أم لك، تفقع أصابعك وأنت في الصلاة" [رواه ابن أبي شيبة وقال الألباني في "إرواء الغليل": "سنده حسن"].
إذن، تشبيك الأصابع مكروه لمن خرج إلى الصلاة حتى يفرغ منها.
وكذلك الجالس في المسجد يكره له أن يشبك ينتظر الصلاة.
وصلنا إلى قضية دخول المسجد، وماذا يفعل بعد ذلك، وبقية آداب الصلاة، سنأتي عليها في الدرس القادم.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.