الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد عرفنا في الدرس الماضي مسألة استقبال القبلة من شروط الصلاة، وتكلمنا عن بعض ما يتعلق بذلك، ومنه الطرق التي يستدل بها على القبلة مثل مشاهدة الكعبة، وخبر الثقة، والاعتماد على محاريب المساجد والاجتهاد.
وذكرنا: أن الاجتهاد في القبلة يكون بأدلة كثيرة منها النجوم وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16]، ونجم القطب الشمالي، والشمس والقمر كذلك ومجاري الأنهار الكبار.
وعرفنا أن غالب الأنهار في العالم اتجاهها من أين إلى أين؟
من الشمال إلى الجنوب ما عدا أنهار قليلة خالفت كنهر جيحون والنيل والعاصي، وكذلك الآلات الحديثة كالبوصلة المغناطيسية والبوصلة الالكترونية، فهذه الآلات تقوم على حساب جهة القبلة بإحداثيات الكعبة وإحداثيات المكان الذي أنت فيه.
كذلك تستخدم بعض الطرق الحسابية الرياضية التي فيها الزوايا وحساب المثلثات من علم حساب المثلثات لتقدير ذلك، وهذه البوصلة المغناطيسية والبوصلة الإلكترونية والساعات الحديثة أيضًا التي فيها اتجاه الكعبة ومعرفة اتجاه الكعبة إذا جربت وعرفت صحتها فإنه يعتمد عليها.
وذكرنا مسألة تعامد الشمس على الكعبة مرتين سنويًا، وقلنا : إنه في اليوم الثامن عشر من مايو الساعة الثانية عشرة ظهرًا وسبعة وعشرين دقيقة بتوقيت مكة المكرمة وفي الخامس عشر من يوليو في الساعة الثانية عشرة ظهرًا وست وعشرين دقيقة بتوقيت مكة المكرمة، في هذين اليومين تكون الشمس عمودية على مكة، في هذه الأوقات المذكورة عمودية على الكعبة تمامًا، ما فائدة هذه المعلومة؟ أن أي واحد في العالم يرى الشمس في أي وقت من الأوقات بالنسبة إليه فقد يكون بعد طلوع الشمس، قد يكون قبل الظهر، وقد يكون بعد العصر، لكن على حسب توقيت مكة المكرمة الساعة الثانية عشرة ظهرًا وسبعة وعشرين دقيقة يوم ثمانية وعشرين مايو والساعة الثانية عشرة ظهرًا وست وعشرين دقيقة في خمسة عشر يوليو إذا نظر إليها الشخص في أي مكان في العالم إلى الشمس في ذلك الوقت فماذا يعني ذلك؟
أنه إذا استقبل الشمس الآن في هذا اليوم في هذه الساعة فإنه يكون مستقبلًا للكعبة؛ لأن الكعبة الآن تحت الشمس مباشرة، أو الشمس الآن متعامدة على الكعبة، فلو حصل اختلاف في بعض الأماكن في العالم أين جهة القبلة فيمكن باللجوء إلى الأوقات في هذين اليومين معرفة أن هذا اتجاه الكعبة.
طبعًا هذا في البلدان التي فيها الشمس يمكن أن ترى في ذلك الوقت وقت الزوال في مكة، فهذا يكون في إفريقيا وأوروبا وآسيا شرقًا حتى الفلبين وجزء الشمال الغربي من قارة آسيا، في أماكن أخرى من العالم يمكن هذا الوقت في مكة يكون ما عندهم شمس أصلًا بطبيعة الحال لن تنفعهم هذه الطريقة لكن نتكلم عن البلدان التي يمكن أن يروا فيها الشمس في هذين اليومين من السنة.
وآخر الطرق التي نذكرها في هذا الدرس التي يستدل بها على القبلة التقليد، وهذه في حق العاجز عن الاجتهاد لكونه لا يعرف دلائل القبلة، أو كان أعمى مثلًا ففرضه التقليد، وهو قبول قول الغير المستند إلى اجتهاد.
وشرط الذي يقلده أن يكون بالغًا عاقلًا مسلمًا، فإذا قال: أنا وصلت إلى فندق الآن أنا سأسأل ما أعرف أين جهة القبلة أسأل من؟ أنا دخلت البلد لا أعرف جهة القبلة، أنا أسكن في شقق مفروشة، أنا جئت إلى بيت أقارب لي مثلًا أسأل من ؟
فنقول: إذا كنت لا تستطيع أن تعرف القبلة أنت بنفسك فيجب عليك أن تسأل.
طبعًا سنأتي إلى قضية الاجتهاد في الحضر والسفر، لكن الآن نتكلم بشكل عام.
ونعيد الكلام عن هذه النقطة مرة أخرى.
من الطرق التي يستدل بها على القبلة: التقليد، وهذا في حق العاجز عن الاجتهاد لكونه لا يعرف دلائل القبلة، أو كان أعمى مثلًا ففرضه التقليد، وهو قبول قول الغير المستند إلى اجتهاد.
وشرط الذي يقلده أن يكون بالغًا عاقلًا مسلمًا ثقة عارفًا بالأدلة رجلًا كان أو امرأة، فإن اختلف عليه الاجتهاد، مجتهدين مثلًا، قلد من شاء منهما على الصحيح، والأدق أن يقال يقلد الأوثق والأعلم.
وإذا لم يجد من يقلده وجب عليه أن يصلي لحرمة الوقت على حسب حاله، فلا يقال إذا لم يجد من يقلده ولا عرف طبعًا لا ينتظر حتى يعرف أو حتى يجد أحدًا يسأله؛ لأنه لو انتظر هكذا ستفوت الصلوات وتفوت الأوقات، إذا اجتهد وظن القبلة في جهة بعلامة صلى إليها، ولا يكفي الظن بلا علامة بلا خلاف كما قال النووي -رحمه الله-: فإن خفيت عليه الأدلة لغيم أو ظلمة تحرى وصلى والصلاة صحيحة؛ لأنه بذل وسعه في معرفة الحق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ولو صلى القادر على الاجتهاد من غير اجتهاد أو قلد مجتهدًا وهو يقدر على الاجتهاد فلا هو اجتهد، وإنما قلد مجتهدًا أو صلى بغير اجتهاد فإن تبين أنه أخطأ أو لم يتبين من حاله شيء فصلاته باطلة وتلزمه الإعادة، ولكن إذا تبين أنه أصاب القبلة فمذهب جمهور العلماء أن صلاته باطلة أيضًا؛ لأنه لم يأت بما أمر به فأشبه من ترك التوجه إلى الكعبة مع علمه بها، وقال الحنفية في مقابل الجمهور : إنها تجزئ إذا تبين أن الجهة كانت صحيحة، فإذا اجتهد رجلان فاختلفا في جهة القبلة فهل يصلي بعضهم خلف بعض؟ فإن كان الاختلاف يسيرًا فلا حرج أن يتبع أحدهما الآخر؛ لأن الانحراف اليسير عن جهة القبلة لا يضر، وإن كان الاختلاف كثيرًا كما لو توجه أحدهما إلى المشرق والآخر إلى المغرب لم يقلد أحدهما الآخر، ووجب على كل واحد منهما أن يصلي إلى الجهة التي أداه إليها اجتهاده؛ لأن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم أنه لا يصلون جماعة إذا اختلفوا في الجهة اختلافًا تامًا، بخلاف الاختلاف اليسير قليلًا عن اليمين قليلًا إلى الشمال هذان يصليان مع بعضهما، ولو أن كل واحد حصل عنده شيء من الانحراف اليسير؛ لأن الجهة واحدة، أما واحد يرى القبلة بهذا الاتجاه والثاني يراها بالاتجاه المعاكس فكيف سيصليان جماعة؟ علمًا أن بعض الفقهاء قد ذهب إلى صحة صلاتهم جماعة كأبي ثور -رحمه الله-، وفي هذه الحالة فينبغي أن تفكروا كيف يقفون، فلو فرض أن هناك أربعة كل واحد يرى القبلة إلى جهة وهم في طريق سفر، ويوجد غيم مثلًا، ما استطاعوا أن يعرفوا القبلة فاجتهدوا أو كل واحد أيقن أن هذه هي الجهة واختلفوا، فإذا قلنا : يصلون جماعة، فهناك احتمالان: يصلون جماعة، وظهر كل واحد لمن يقابله، ويصلون جماعة ووجه كل واحد إلى من يقابله، فمن هو الإمام ومن هو المأموم، ولذلك الجمهور قالوا: لا يصلون جماعة، وإذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم حضرت صلاة أخرى فأداه الاجتهاد إلى جهة أخرى صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، ولا يلزمه إعادة الأولى، قال في "المغني": لا نعلم فيه خلافًا، حتى لو صلى أربع صلوات إلى أربع جهات باجتهادات فلا إعادة في شيء منهن؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، فهو وقت العصر كان اجتهاده إلى هذه الجهة لما جاء المغرب أداه اجتهاده إلى جهة أخرى، فالاجتهاد الثاني لا ينقض الأول، والصلاة الأولى صحيحة، والثانية صحيحة مع أن كل منهما إلى جهة.
إذا تغير اجتهاده وهو في الصلاة ينحرف إلى الجهة الثانية التي أداه اجتهاده إليها أثناء الصلاة، ويبني على ما سبق، وصلاته صحيحة كما فعل أهل قباء فإنهم كانوا يصلون إلى القبلة الأولى، فلما أخبرهم الثقة المخبر أن القبلة تغيرت تحولوا إلى القبلة الجديدة، وبنوا على ما فات، ما أعادوا الصلاة من جديد، فما مضى من صلاتهم صحيح، والذي لحقه صحيح أيضًا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة".
فلو صلى أربع ركعات من صلاة واحدة إلى أربع جهات باجتهاد مختلفة صحت صلاته، ولا إعادة عليه، كما في "المجموع"، وإذا صلى بالاجتهاد ثم تيقن أنه أخطأ في القبلة فتصح صلاته، ولا يلزمه الإعادة، وكذلك المقلد الذي صلى بتقليده، وبهذا قال جمهور العلماء خلافًا للشافعي -رحمه الله-، واستدل الجمهور بحديث جابر قال: كنا مع رسول الله ﷺ في مسيرة أو سرية فأصابنا غيم فتحرينا واختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حدة فجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فلما أصبحنا نظرناه فإذا نحن صلينا إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي ﷺ فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: قد أجزأت صلاتكم ، والحديث قد رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني بطرقه أو بشواهده.
وإذا ظهر له الخطأ في أثناء الصلاة فماذا يفعل؟
ينحرف إلى الصواب، ويبني على ما سبق كأهل قباء.
مثال: رجل يصلي في مكان فأتاه آت، وقال: كيف تصلي؟ القبلة إلى مكان آخر ما ترى كذا كذا، فتبين له فعلًا أن فعله خطأ، وكلام الذي دخل عليه هو الصحيح فماذا يفعل؟
يتحول.
قضية الاجتهاد في السفر، أما في الحضر فإنه لا يجتهد عند جمهور العلماء، لماذا؟
لأنه يمكن أن يجد من يسأله ويوجد محاريب للمساجد في بلاد المسلمين، فمن محاريب المساجد، ومن المسلمين من أهل البلد الذي يمكن سؤالهم، فلا مجال للاجتهاد هنا؛ لأن الاجتهاد يكون إذا لم يكن هناك يقين، ولم يكن هناك من يدله ويسأله فعند ذلك يستعمل الاجتهاد، سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن حكم من صلى إلى غير القبلة بعد الاجتهاد؟
فقال: إذا كان المسلم في السفر أو بلاد لا يتيسر فيها من يرشده إلى القبلة فصلاته صحيحة، إذا اجتهد في تحري القبلة ثم بان أنه صلى إلى غيرها، أما إذا كان في بلاد المسلمين فصلاته غير صحيحة اجتهد وتبين أنه إلى غير القبلة، لماذا؟
قال : لأن في إمكانه أن يسأل من يرشده إلى القبلة كما أن في إمكانه معرفة القبلة من طريق المساجد.
إذن، في الحضر عليه أن يسأل ومن طريق المحاريب ونحوها وفي السفر إذا لم يوجد من يسأله؛ لأنك في طريق السفر يمكن أن تمر بمحطة وقود، وتسأل الذين في المحطة عن القبلة مثلًا، ويمكن أن ترى أحيانًا مسجدًا في محطة، ومحراب المسجد دليل القبلة، بل إنك تصلي في المسجد نفسه.
أما إذا كنت في مكان لا يوجد من تسأله، وهذا المكان في السفر يحصل كثيرًا، وفي الحضر يكون في مثل سجن للعدو، الآن أسرى غوانتنامو مثلًا، لو ما عرفوا، من يسأل؟ الحارس الكافر، وهل سيدله على القبلة بأمانة؟ فقد يكون في السفر، ولا يجد من يدله على القبلة فيجتهد هو، أن يكون في الحضر في بلد كفر لا يوجد من يسأله، وموظفو الفندق ما فيهم مسلم أصلًا، وقد يوجد بعض هؤلاء المسلمين، لكن لا يصلون أصلًا، وهذا حصل، يسافر بعض المسلمين إلى بعض البلدان من بلاد الكفار، فيجد بعض أبناء الجالية الإسلامية يسأله، يقول: والله أنا مع الأسف ما أصلي، هذا لو صدق معه، وأحيانًا يجد واحداً يقول لهم بأنه مسلم، المفترض أن يكون من أبناء المسلمين، ويسأله عن القبلة، يقول: والله سمعت أنهم يقولون أنها كذا، سمعت أنهم يقولون، يعني المسألة لا تعنيه مع الأسف.
إذن، قد يضطر للاجتهاد في بلد وصل إليها ما في طريقة إلا الاجتهاد، فعند ذلك سيستعمل أي وسيلة من وسائل الاجتهاد، ولو تبين له بعد الصلاة أنه كان مخطئًا فما حكم صلاته؟
صحيحة.
لو كان في طريق السفر ومعه رفقة فلا يستطيع هو أن يجتهد ماذا يفعل؟
يقلد من يجتهد، فإذا اختلفت عليه اجتهاداتهم عمل بالأوثق، فإن تساووا فهو مخير، لكن مخير بين أقوال المجتهدين، فلو واحد قال له : هكذا، وواحد قال له : هكذا، فهو ما يقول : أنا مخير فيأخذ اتجاهاً ثالثاً، لا.
الآن عرفنا مسألة استقبال القبلة والاجتهاد فيها وفي الحضر وفي السفر.
يحدث في عدد من الأحيان أن من يسكن بيتًا جديدًا أو ينزل في فندق أو شقق مفروشة، وبعض النساء كذلك إذا سكنت أو جاءت إلى بيت من بيوت الأقارب يصلي الواحد وهو لا يشك أن هذه هي القبلة، ثم يتبين له بعد مدة من سكن البيت الجديد، أو بعد مدة من المكث في الفندق، أو هذه الشقة أو بيت الأقارب أن القبلة ليست هكذا، فماذا يجب عليه؟
هو بالتأكيد لما نزل البيت الجديد اجتهد، وكذلك الفندق؛ لأنه يفكر يقول : نحن صلينا، الشمس، هو يفكر الآن هذا اجتهاد، فهو اجتهد في الحضر، اجتهد في الحضر، وكان بإمكانه أن يسأل ويتوثق، ولذلك فإن عليه الإعادة؛ لأن فيه تقصير من جهة أنه اجتهد في مكان، أو في موضع ليس بموضع اجتهاد بالنسبة له، ما لم يشق فعليه الإعادة.
هذه المسألة فيها كلام للعلماء، وممن جزم بها صاحب "المبسوط" من الحنفية أنه عليه الإعادة؛ لأنه لا يجوز له أن يجتهد أصلًا.
الحالات التي يسقط فيها استقبال القبلة
قال المصنف -رحمه الله-: "فإن عجز عن استقبالها لمرض أو غيره سقط كما تسقط جميع الواجبات بالعجز عنها، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]" فاستقبال القبلة من شروط صحة الصلاة -كما تقدم-، ولا تصح الصلاة إلا باستقبال القبلة إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا كان عاجزًا كالمريض المربوط على السرير في المستشفى لا يستطيع أن يتحرك يمينًا أو شمالًا، وقد يكون فيه جبس لا يستطيع أيضًا أن يقعد، ولا أن ينقلب على جنب معين، ولا يوجد هناك من يوجهه إلى القبلة، وهو يعلم أن هذا الاتجاه هو الذي عليه الآن غير جهة القبلة، فإنه يسقط عنه استقبالها في هذه الحالة، وكذلك الأسير المربوط لغير جهة القبلة يسقط عنه استقبال القبلة، فالعاجز عن استقبال القبلة يسقط عنه ذلك، وليس هذا خاصًا بهذا الشرط من شروط الصلاة، بل جميع واجبات الشرع تسقط بالعجز عنها للقواعد المقررة عند العلماء: لا واجب مع العجز، ويدل على ذلك قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]، وقوله ﷺ: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم [رواه البخاري: 1337، ومسلم: 1337]، وقوله ﷺ: من رأى منكم قال في آخر الحديث فإن لم يستطع فبلسانه [رواه مسلم: 49] الآن لو أن المريض على السرير في المستشفى فأين جهة القبلة بالنسبة إليه جهة الرجل وإلا من جهة الرأس؟
نقول: لو أقيم على رجليه فإلى أين سيكون وجهه هذه التي ينبغي أن يراعي فيها جهة القبلة هو على ظهره لا يستطيع أن يتحرك فإن قال: وجهوني، وجهوا السرير فإلى أي جهة نوجهه؟
إلى الجهة التي له أقيم فيها على قدميه صار مستقبلًا القبلة مع أنه لا يستطيع أن يقف على قدميه.
الحالة الثانية من الحالات التي يسقط فيها شرط استقبال القبلة: إذا كان في شدة الخوف كهارب من عدو أو من سبع أو من حريق أو من فيضان أو في حال المسايفة والقتال، الاختلاط بالعدو في المعركة، فهذا يصلي حيث كان وجهه سواء كان ذلك في الفرض أو النفل، ويومئ برأسه عند الركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ودليل ذلك قوله تعالى بعد أن ذكر صفة صلاة الخوف، وأن الإمام يقسم الجيش إلى طائفتين ويصلي بهم جماعة، قال: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة: 239] أي إذا كان الخوف أشد من ذلك، ولم يمكن إقامة الصلاة جماعة فصلوا رجالًا، يعني على أرجلكم أو ركبانًا فوق الإبل والدواب.
وروى البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا سئل عن صلاة الخوف، قال: "فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها" قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله ﷺ" [رواه البخاري: 4535].
ورجح ابن حجر -رحمه الله- في "الفتح" أن قوله: "فإن كان خوف" مرفوع إلى النبي ﷺ.
وروى البيهقي أيضًا في الحديث المرفوع إلى النبي ﷺ قال: فإذا اختلطوا الآن صار الالتحام بالأعداء، صار الاشتباك فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس وصححه الألباني في "صفة الصلاة" [السنن الكبرى للبيهقي: 3/ 363)، رقم: 6021]
ولو أمكنه أن يصلي في شدة الخوف قائمًا إلى غير القبلة، أو راكبًا إلى القبلة فأيهما يقدم إما قائمًا إلى غير القبلة أو راكبًا إلى القبلة فيصلي راكبًا إلى القبلة؛ لأن استقبال القبلة آكد من القيام، ولهذا سقط القيام في النفل مع القدرة بلا عذر.
الحالة الثالثة هي التي ذكرها المصنف في قوله: "وكان النبي ﷺ يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به" [رواه البخاري: 1000]، وفي لفظ: "غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" متفق عليه [رواه البخاري: 1098، ومسلم: 700].
فتجوز صلاة النافلة في السفر لغير القبلة سواء كان على طائرة أو على سيارة أو على بعير فإنه يصلي حيث كان وجهه في صلاة النفل مثل الوتر وصلاة الليل والضحى، وما أشبه ذلك.
وقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله ﷺ يصلي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة" [رواه البخاري: 400].
وقد روى مسلم -رحمه الله تعالى- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله ﷺ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة" يعني أين مكة الآن؟ خلفه، يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة "على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] [رواه مسلم: 700].
إذن، أينما تولوا فثم وجه الله، معناها لما تكون في طريق سفر وتريد أن تصلي نافلة فلا يضرك أن تتوجه إلى الجهة التي أنت مسافر إليها، ولو كانت خلاف القبلة وفي هذه الحالة نقول: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]، فإذا أراد الراكب في السفر أن يصلي نافلة فإن كان بإمكانه أن يستقبل القبلة فيستقبلها ويتم الركوع والسجود ولا يجزئه الإيماء؛ لأنه يقدر عليه من غير مشقة فلزمه فعله كالمصلي في السفينة، واحد ماشي في السفينة فيقول: أنا مسافر ممكن أومئ؟
نقول: لا.
أنت الآن في سفينة كبيرة ممكن تقف وعندك غرفة في السفينة فلماذا تومئ؟ بل أنت الآن تستقبل القبلة وتصلي قائمًا وتركع وتسجد، فهذا يجب عليه أن يستقبل القبلة إذا أمكنه، أما إذا لم يمكنه ذلك فله أن يتنفل إلى أي جهة توجه، وهذا مجمع عليه.
الآن الذين يصلون في القوارب مثل خفر السواحل وغيرهم أحيانًا يصلي في القارب، والقارب يمكن يكون من النوع الصغير الخفيف، وقد تكون الريح شديدة فتحول القارب، قد يكون القارب صغيراً لصيد الأسماك، قد لا يحتوي على محرك أصلًا فهو لن يجدف بالقارب ويغير الاتجاه، هو سيصلي الآن فيستقبل القبلة فإذا دار القارب بقي على استقبال القبلة، فإذا غير القارب جهته فهو يغير لكي يبقى مستقبلًا للقبلة هذا إذا استطاع، وإذا ما استطاع كأن يضطر للصلاة جالسًا خشية السقوط عند اضطراب الموج، ولا يستطيع أن يستدير إذا تغير اتجاه القارب فيسقط عنه للعجز مثل الحالة التي سبق ذكرها، وصلاة النافلة على الراحلة تجوز للمسافر إذا كان سائرًا، أما النازل في السفر فيلزمه استقبال القبلة ولو كانت نافلة.
فإذن، قال : أنا مسافر، نزلنا للاستراحة أريد الصلاة هل يلزمني استقبال القبلة؟ ماذا نقول؟
نعم يلزمك.
فإن قال: وأنا سائر على الدابة هل يلزمني في النافلة؟ فنقول: لا.
وأما إذا كان في الحضر، فالذي عليه جمهور العلماء ومن بينهم الأئمة الأربعة أنه لا تجوز صلاة النافلة فيه على الراحلة لغير القبلة، لو واحد قال : مدينة مثل مدينة الرياض كبيرة جدًا، أنا من مقر إقامتي إلى مقر عملي أربعين دقيقة، أريد أن أصلي النافلة، هل يلزمني استقبال القبلة؟
نقول: أنت في الحضر ولست في السفر فيلزمك استقبال القبلة، يسقط القيام في النافلة، لكن لا يسقط استقبال القبلة في النافلة في الحضر، وهذا الحكم -كما قلنا- ذهب إليه الأئمة الأربعة، أكثر أهل العلم، بعضهم روي عنه جواز عدم استقبال القبلة في النافلة في الحضر كأبي إسحاق الاصطخري -رحمه الله- لأنه كان محتسبًا، يعني كان مكلفًا بالحسبة فهو يدور على الأسواق وعلى.. فيتنقل على راحلته اجتهد، وخالف الجمهور في هذا.
فالمقصود أن قول جماهير أهل العلم في الحضر لابد من استقبال القبلة في النافلة، في السفر متى يسقط استقبال القبلة؟ إذا كان سائرًا، أما إذا نزل فيلزمه استقبال القبلة في النافلة، حتى لو كان في السفر، النافلة لها حكم الفريضة في السفر في كل شيء إلا القيام.
ما هو دليل الذين قالوا : لا يجوز ترك استقبال القبلة في النافلة في الحضر؟
قالوا: إن النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه صلى على راحلته في المدينة، واستقبل غير القبلة، والمسافر لو لم يجز له التطوع لأفضى إلى ترك التنفل؛ لأن أغلب أوقات المسافر أن يكون سائرًا، فراعت الشريعة هذه الناحية أن المسافر أكثر وقته سائر، فإذا قيل له : ما في نافلة إلا إلى القبلة فتضيع عليه نوافل كثيرة.
أما المقيم في الحضر فإن أغلب أوقاته ليس بسائر سيكون نازلًا، ولذلك لا تتعطل نوافله.
في الصلاة في القطار هل يستقبل القبلة أم لا؟
إذا أمكنه استقبالها فإنه يستقبلها، وإن لم يمكنه صلى على حاله.
الصلاة في الطائرة، قد يبدأ الصلاة ثم تدور الطائرة فيدور ليكون مستقبلًا للقبلة.
هذا في الفريضة، في النافلة لا يضر، يصلي على مقعده في الطائرة إلى غير القبلة لا يضر في الطائرة، قد يلزم بالجلوس في الكرسي واتجاهه إلى غير القبلة، فكيف يصلي الفريضة؟
نقول: لا يصلي الفريضة، يصليها إذا نزل بعد ذلك.
فلو قال قائل: إن المسافة طويلة وليس هناك مجال لتأخيرها إلى حين النزول؛ لأنها لو كانت الظهر أو العصر، وسيصل قبل خروج وقت العصر فيمكنه التأخير حتى يصل فيصليهما مجموعتين، لكن إذا كان سيصل بعد المغرب فلم يبق له مجال إلا الصلاة في الطائرة، فإذا ما استطاع الصلاة في الطائرة مستقبلًا القبلة الفريضة فسيصلي بلا استقبال، ولا يخرج الصلاة عن وقتها.
لماذا سمي وقت الضرورة؟
للاضطرار إلى الصلاة فيه، فإذا صار مضطرًا صلى فيه.
هذه مسألة أيضًا سيأتينا فيها الخلاف مثلًا في صلاة العشاء من قال ثلث الليل ونصف الليل والفجر؛ لأنك إذا كنت مثلًا في الحافلة متجهًا من عرفة إلى مزدلفة ما صليت المغرب ولا العشاء ترجو أن تصل إلى مزدلفة قبل نصف الليل لتصلي المغرب والعشاء، فاحتبس الطريق، ولم يمكن الوصول إلى مزدلفة قبل منتصف الليل، فإن أمكنك النزول أثناء الطريق للصلاة في الوقت تنزل وتصلي، وإن لم يمكن كخوف ضياع الرفقة، وقد يكون فيه نساء، ولا تستطيع المرأة أن تنزل، لو نزلت ثم مشت الحافلة فجأة ضاعت المرأة فماذا سيفعلون؟
سيصلون في الحافلة قبل منتصف الليل؛ لأن هذا هو الوقت بالنسبة لهم على الراجح المغرب والعشاء، الذي يرى أن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل سيصلي المغرب والعشاء في الحافلة في الطريق من عرفة إلى مزدلفة قبل نصف الليل إذا ما بقي إلا قدر وقت الصلاتين، ثم يحل منتصف الليل سيصلي في الحافلة ولو كان غير قائم، ولو كان غير مستقبل القبلة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].
وشرط الوقت أهم من شرط استقبال القبلة، وشرط الوقت أهم من القيام، وهذه فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- لما دار النقاش معه في هذه المسألة أنهم يصلون في الحافلة قبل منتصف الليل.
كيف الصلاة على الراحلة؟
من جازت له الصلاة على الراحلة فإنه يومئ في صلاته بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، والدليل على ذلك حديث جابر : "بعثني النبي ﷺ في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق ويومئ إيماء السجود أخفض من الركوع" [رواه الترمذي: 411، وهو حديث صحيح].
وروى البخاري عن ابن عمر قال: "كان النبي ﷺ يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته" [رواه البخاري: 1000 ].
إذا تعذر عليه الاستقبال كما هو الحال الآن في السيارات الذين يسافرون في البر مثلًا، والسيارة منطلقة وهو محكوم بقيادة غيره، قد يكون في حافلة وصاحب الحافلة أو السائق لا يقف لهم، في بعض الأحيان السائق يعاند وما يقف، فيقولون له: نريد الصلاة؟ فيقول: أنا مأمور من الشركة ولست مستعدًا أن أقف إلا في المحطة الفلانية، يكون خرج الوقت فماذا يفعلون؟
إذا تعذر عليه الاستقبال فلا يجب كما هو الحال الآن في السيارات، فلو كان الإنسان في السيارة وهي منطلقة فإنه محكوم بقيادة غيره فحينئذ يكبر حيث ما توجهت به السيارة للتعذر، وإذا تيسر عليه استقبال القبلة كما في بعض الحافلات الكبيرة ممكن يكون الممر بين الكراسي والسيارة متجهة إلى جهة القبلة مثلًا وجب عليه، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله -ﷺ: "كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجهه الركاب" [رواه أبو داود: 1225] قال ابن حجر: "إسناده حسن"، وحسنه النووي أيضًا.
والاعتبار في الاستقبال بالراكب دون الدابة، فلو استقبل هو عند تكبيرة الإحرام والدابة منحرفة أو مستديرة أجزأه بلا خلاف، وعكسه لا يصح.
ما معنى عكسه لا يصح؟
أن الدابة تستقبل القبلة وهو منحرف عن القبلة، فنقول: من الذي سيصلي؟
إذن، في النافلة الأفضل أن يستقبل القبلة في السفر إذا استطاع يستقبل القبلة، ثم لو انحرف بعد ذلك عنها فلا يضر، فيبتدئ مستقبلًا.
وإذا لم يستطع صلى النافلة إلى غير القبلة.
في الفريضة لابد أن ينزل ويستقبل القبلة، وإذا ما أمكنه النزول صلى على الحافلة إلى القبلة، فإذا لم يمكنه الاستقبال صلى على حسب حاله.
المسافر قد يكون ماشيًا، ليس بالضروري أن يكون راكبًا دابة ولا سيارة ولا حافلة، قد يكون ماشيًا، فمذهب الشافعي، ورواية عن أحمد أن له أن يصلي ماشيًا، أي صلاة النافلة؛ لأن الفريضة غير واردة هنا، هو يمشي الآن إذا جاءت الفريضة يقف يستقبل القبلة ويصلي، لكن لو قال: نحن الآن في سفر مثلًا وماشين افرض واحد ماشي من مزدلفة إلى منى بعد طلوع الشمس، قال: أنا أريد أن أصلي الضحى ماشيًا.
مذهب الشافعي ورواية عن أحمد أن له أن يصلي ماشيًا، ومنع من ذلك أبو حنيفة ومالك، قال: يقف ويصلي، قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين: القول الراجح إلحاق الماشي بالراكب؛ لأن العلة في جواز التنفل على الراحلة بدون عذر هو حمل الإنسان، وتشجيعه على كثرة النوافل، وهذا حاصل للمسافر الماشي كما هو حاصل للمسافر الراكب، وعليه أن يستقبل القبلة لافتتاح الصلاة ثم ينحرف إلى جهة سيره ويقرأ وهو ماش.
فإذا قال: أنا الآن أمشي في سفر أريد أن أتنفل؟
فنقول له: على مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وترجيح الشيخ ابن عثيمين تستقبل القبلة في أول صلاتك، ثم تمضي إلى الجهة التي تريدها حتى لو كانت إلى غير القبلة.
وماذا يفعل في الركوع والسجود؟
مذهب الشافعية والحنابلة أنه يشترط أن يركع ويسجد على الأرض، قالوا : ما دام ماشين فإذا جاء وقت الركوع يركع ويرفع يمشي، وإذا جاء يسجد وقف وسجد، وهكذا.. وإذا جاء وقت القيام مشى، وقيل له أن يركع ويسجد مومئًا ماشيًا إلى جهة قصده كما في القيام، واختاره شيخ الإسلام -رحمه الله- قالوا: لأن في إلزامه بالركوع والسجود والجلوس بين السجدتين على الأرض قطع له عن سيره، ذكره في "شرح العمدة".
فما هو الأحوط؟
أن يركع ويسجد وهو واقف، يعني أن يركع ويسجد وهو ثابت، ويشترط لجواز التنفل راكبًا وماشيًا دوام السفر والسير إلى انتهاء الصلاة، فلو صار شخص يصلي ماشيًا إلى غير القبلة فجأة وقف في الركعة الثانية واستقبل القبلة، وصلى كل الصلاة الباقية ثابتًا، فقال له قائل: ما لك؟ ألا ترى جواز التنفل ماشيًا وتومئ في الركوع والسجود وأنت تقلد ابن تيمية؟
قال: نعم، أرى ذلك، لكن الآن وجب علي أن أستقبل القبلة، وأن أثبت في ركوعي وسجودي على الأرض أسجد فلماذا؟
كان مسافرًا ماشيًا فوصل حدود البلد في الركعة الثانية، فصار الآن في حكم المقيم دخل بلده فوجب عليه الآن أن يستقبل القبلة ويصلي الصلاة وهو ثابت في مكانه.
ماذا بالنسبة لصلاة الفريضة على الراحلة؟
الأصل أنها لا تجوز، ما أحد يصلي الفريضة على الراحلة، ينزل على الأرض ويصلي، أما إذا تعذر عليه فيجوز له ذلك، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ "كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة" [رواه البخاري: 400].
قال ابن بطال -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر".
فمتى يجوز للمصلي أن يصلي الفريضة على الراحلة؟
إذا كان في حال خوف على النفس أو المال من عدو أو سبع -كما تقدم-، إذا كان لا يستطيع النزول كأن كان ما حوله طين مستنقعات مائية والمطر ينزل بغزارة مثلًا كيف يسجد؟ وأين يقف في هذا الطين؟ أو خشي الانقطاع عن رفقته لو نزل فيفقدهم فقد يتعرض للهلاك، ففي مثل هذه الأحوال تجوز صلاة الفريضة على الراحلة بالإيماء، ويجعل ركوعه أخفض وإلا أرفع من سجوده؟ أرفع، قال ابن الملقن -رحمه الله-: ولو كان في ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر صلى عليها، يعني على الدابة.
وقال النووي: ولو حضرت الصلاة المكتوبة وهم سائرون وخاف لو نزل ليصليها على الأرض إلى القبلة انقطاعًا عن رفقته أو خاف على نفسه أو ماله لم يجز ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها، بل يصليها على الدابة لحرمة الوقت.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء": إذا كان راكبًا السيارة أو القطار أو الطائرة أو ذوات الأربع، ويخشى على نفسه لو نزل لأداء الفرض، ويعلم أنه لو أخرها حتى يصل إلى المكان الذي يتمكن أن يصلي فيه فات وقتها فإنه يصلي على قدر استطاعته، قد تقدمت المسألة؛ لعموم قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]، ولقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
أما كونه يصلي أين توجهت المذكورات طائرة سفينة دابة قطار حافلة، وأما كونه يصلي أين توجهت المذكورات أم لابد من التوجه إلى القبلة دومًا واستمرارًا أو ابتداء فقط، فهذا يرجع إلى تمكنه، فإذا كان يمكنه استقبال القبلة في جميع الصلاة وجب فعل ذلك؛ لأنه شرط في صحة صلاة الفريضة في السفر والحضر، وإذا كان لا يمكنه في جميعها فليتق الله ما استطاع، لما سبق من الأدلة، هذا كله في الفرض، وسبق الكلام في موضوع الصلاة في القارب الصغير، والأمواج تلعب به، وهؤلاء الذين غرقوا في البحر وصاروا في اليم ما له حيلة، فهو يصلي على حاله، وصلاته صحيحة.
النية شرط من شروط الصلاة
ثم قال المصنف -رحمه الله-: "ومن شروطها النية" انتقل الآن إلى شرط آخر من شروط الصلاة وهو النية.
وهي لغة القصد.
وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله -تعالى-.
والعبادات كلها تفتقر ولابد لها من نية سواء كانت صلاة أو صومًا أو صدقة، وغير ذلك؛ لقوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907].
النية محلها القلب
والنية محلها القلب باتفاق المسلمين في الصلاة والصوم، وسائر العبادات، والتلفظ بها بدعة حتى الراجح في الحج عندما يقول: "لبيك اللهم حجًا" أو "لبيك اللهم عمرة" هذه تلبية وليست نية؛ لأن النية في القلب، هذه تلبية يقول: لبيك اللهم عمرة، ولا يقول: لا في الصلاة ولا في الصيام ولا في غيره، اللهم إني نويت كذا، أو أردت كذا لا يقوله لا جهرًا ولا سرًا، بل هو في القلب، والله يعلم ما في قلبك، ولم ينقل عن النبي ﷺ التلفظ بالنية لا جهرًا ولا سرًا، ولأن الله يعلم ما في القلوب، علام الغيوب عز وجل فلا حاجة أن تخبره بما في قلبك.
وقت النية بالنسبة للصلاة
وقت النية بالنسبة للصلاة -وهو موضوعنا- أن يكون مرافقًا للتكبير، فإن تقدمت عن تكبيرة الإحرام بزمن يسير، فلا حرج عند جمهور الفقهاء خلافًا للشافعية.
وتقديم النية على الفعل لا يخرجه عن كونه منويًا لو نوى قبله بزمن يسير، ولأن في اشتراط الاقتران دائمًا نوع من الحرج.
فوائد النية
والفائدة من النية أمران:
أولًا: تمييز العبادات عن العادات، فمثلًا الاغتسال يكون تبردًا ونظافة ويكون غسل جنابة وغسل جمعة يؤجر عليه أو يجب ويؤجر عليه، فما الذي يميز غسل التبرد والتنظف عن غسل الجنابة وغسل الجمعة؟ النية.
ثانيًا: تمييز العبادات بعضها عن بعض، فالصلاة قد تكون ظهرًا أو عصرًا، وقد تكون فريضة أو نافلة، فالذي يميز ذلك النية.
هل يشترط تعيين الصلاة فينوي أنها ظهر أو عصر أو يكفي أن ينوي فرض الوقت؟
الجواب:
قال بعضهم: لا يجزئه إلا أن يعين.
وقال بعضهم: يجزئه نية فرض الوقت.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا القول هو الذي لا يسع الناس العمل إلا به؛ لأن كثيرًا من الناس يتوضأ ويأتي ليصلي وقد يغيب عن ذهنه أنها ظهر أو عصر، لا سيما إذا جاء والإمام راكع فإنه يغيب عنه لحرصه على إدراك الركوع" [الشرح الممتع: 2/ 292]، لكن هو الآن آتٍ إلى فريضة، في نيته أنها فريضة، لكن قد لا يحضره هل هي ظهر أو عصر، لكن هو ينوي الآن فريضة هذا الوقت، وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه لكي ينوي هذا الفرض المعين خروجًا من الخلاف، ولا يشترط أن ينوي أن هذه الصلاة هي فرض أو نفل أداء أو قضاء، فمثلًا إذا نوى أنها صلاة الظهر فلا يشترط أن ينوي أنها فرض؛ لأنه معروف أن الظهر فرض، لأن نية الظهر تتضمن أنها فرض؛ لأن بعض الناس يقول: نويت لله أن أصلي صلاة الظهر فرضًا، خلاص هي فرض أصلًا، كذلك لا يحتاج أن ينوي أنها أداء أو قضاء؛ لأنها إذا كانت في الوقت فهي أداء، وإذا كانت خارج الوقت فهي قضاء، فما الحاجة أن ينوي نويت أن أصلي لله صلاة الظهر فرضًا أداء، وكذلك ما يحتاج يقول: أربع ركعات، ولا يحتاج أن يقول: خلف الإمام، هذا كله تحصيل حاصل.
كذلك إذا صلى نافلة فلا يشترط أن ينوي أنها نافلة؛ لأن تعيينها يكفي فإذا أراد أن يوتر، يعني إذا نوى الوتر فهي تلقائيًا هي نافلة، إذا نوى سنة الظهر فهي تلقائيًا هي نافلة، فلماذا نوجب عليه أن ينوي أنها نفل؟ فتعيينها لما يقول: وتر، سنة الظهر، سنة الفجر، صلاة الضحى، ركعتي استخارة، تحية المسجد، كونه نواها تحية المسجد فهذه تلقائيًا نية النفل فيها.
لو نوى الخروج من الصلاة ولم يخرج فهل تنقطع؟
مذهب جمهور العلماء أن الصلاة تبطل بنية قطعها والخروج منها لقول النبي ﷺ: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907]، وهذا قد نوى القطع فانقطعت.
مسألة أخرى : هو ما جزم بالقطع لكن تردد هل يقطع الصلاة أو لا؟
واحد الآن يصلي الفريضة، دخلوا جماعة فتردد هل يقطع صلاته ويلتحق بهم؟ هل يقطع نية الفرض وينويها نافلة، ويلتحق بهم، وإلا يكمل الفريضة؛ لأنه مستعجل وعنده اجتماع فحصل عنده تردد، هل يفعل أو لا يفعل؟ فهل الصلاة صحيحة إذا مضى عليها وإلا لا تصح؟
فالجواب: إنها صحيحة حتى يعزم على القطع، والتردد لا يضره من جهة صحة صلاته؛ لأن الأصل بقاء النية، فهذا هو القول الصحيح.
أحوال تغيير النية في الصلاة
وأخيرًا: ماذا بالنسبة لتغيير النية، إذا أحرم المصلي بنية معينة هل يجوز له أن يغير النية أثناء الصلاة فيحول من فريضة إلى فريضة، من نافلة إلى نافلة، من فريضة إلى نافلة، من نافلة إلى فريضة؟
الآن بالنسبة لصلاة الفريضة لابد أن ينويها فريضة من تكبيرة الإحرام إلى التسليم، وإذا نوى الظهر، إذا أراد أن يصلي الظهر يشترط أن تكون منوية ظهرًا من تكبيرة الإحرام إلى التسليم، فلو أنه نواها نافلة وأثناء الصلاة قلبها فريضة هل يجوز؟
لا يجوز.
كذلك لو أنه كان يصليها عصرًا، أثناء الصلاة تذكر أنه ما صلى الظهر فقلبها من فريضة العصر إلى فريضة الظهر هل يجوز؟ هل تجزئ ظهرًا؟
لا، لأنه يشترط في صلاة الفريضة المعينة تبدأ من أولها إلى آخرها بهذه النية كلها ظهر، كلها عصر، كلها فريضة.
فإذ، هذا لا يجوز.
وتغيير النية في الصلاة له ثلاث حالات:
أولًا: أن يكون من معين إلى معين، فينتقل من سنة الضحى إلى راتبة الفجر التي يريد أن يقضيها مثلًا، واحد الآن بعد طلوع الشمس كبر لصلاة الضحى، ثم تذكر أنه لم يصل سنة الفجر فأراد أن ينتقل من سنة الضحى إلى سنة الفجر.
الآن انتقاله من معين إلى معين، بغض النظر الآن أنها فرض أو نفل، يعني من معين إلى معين هل يصح؟
لا.
لأن سنة الفجر حتى تكتب له سنة الفجر بفضلها لابد أن تكون من أولها إلى آخرها سنة الفجر، لو واحد دخل المسجد، بدأ بتحية المسجد ثم تذكر، قال: أنا ما صليت سنة الفجر، والوقت ضيق، وسنة الفجر أفضل من تحية المسجد، أريد أن أقلبها الآن إلى سنة الفجر، فهل يجوز ذلك؟
قلنا : هذه النوافل المعينة حتى يكتب أجرها يشترط أن تكون من أول الصلاة إلى آخرها، كذلك بالنسبة لرجل دخل العصر أراد أن يقلبها إلى الظهر أثناء الصلاة لا تصح.
ثانيًا: أن يكون من مطلق إلى معين، فهذا لا يصح أيضًا، مثل واحد الآن يصلي نافلة مطلقة، ثم تذكر أنه ما صلى الفجر هل يصح؟
لا، من مطلق إلى معين لا يصح، كذلك لو أنه يصلي نفلاً مطلقاً فأراد أن يقلبها إلى صلاة الضحى، أراد أن يقلبها إلى سنة الفجر؛ لأنه ما صلاها لا يصح، قاعدة : من مطلق إلى معين لا يصح.
ثالثًا: أن يكون من معين إلى مطلق، فلا بأس به.
مثال: بدأ الصلاة على أنها راتبة المغرب مثلًا في أثناء الصلاة تذكر أنه صلى راتبة المغرب، واحد رجع إلى بيته بعد المغرب، وبدأ صلاة سنة المغرب، ثم تذكر أنه صلاها في المسجد، أنه بعد الفريضة صلى سنة المغرب، فقال : أحولها إلى نفل مطلق، فهل يصح؟
نعم.
لماذا؟
لأن نية الصلاة المعينة متضمنة لنية مطلق الصلاة، فإذا ألغى التعيين بقي مطلق الصلاة.
مثال آخر: شرع في صلاة فريضة وحدها، دخل ناس ما صلوا الفريضة، فقلب نية الفريضة إلى نفل مطلق ركعتين خفيفتين ليلتحق بالجماعة بعد ذلك هل يصح؟
نعم، لكن هل يصح أن يحول الفريضة إلى نفل مطلق بدون سبب، يعني ما عنده سبب للالتحاق بناس، مثل الحالة هذه لا يجوز له ذلك.
إذن، من معين لمعين لا يصح، من مطلق لمعين لا يصح، من معين لمطلق يصح.
بقينا في موضوع تداخل النيات، ولأنه يحتاج إلى شيء من الشرح مع أنه هو آخر مسألة هنا، لكن سنبقيه للدرس القادم إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد.