الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله:
شحذ الهمم لاغتنام ما تبقى من شهر رمضان
لقد انتصف شهركم، ومرت أيام هذا النصف بسرعة، لم نكد نحس بتلك الأيام، والله قد جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًاسورة الفرقان 62. فطوبى لمن جعل الأيام والليالي مستودعاً للأعمال الصالحة يزداد منها، والغافل الذي لم يغتنم تلك الأيام التي ولت ولن تعود، لم يغتنمها بطاعة الله وعبادته، أو قصر في ذلك فكانت طاعاته قليلة، لا تتناسب مع عظمة الشهر، وكثير من الناس يصابون بالفتور في وسط رمضان، فيغفلون عن هذه الأواسط وما فيها من الفضل العظيم، يغفلون أن استحضار النية مستمر، وأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فهذا الاحتساب في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره، لا بد للمسلم أن يشحذ همته؛ لأنه قد يعتريها كلل وملل في وسط الشهر، وربما خف المترددون على المساجد، وقل عدد الناس في صلاة التراويح، ألا فليعلم الذي يتكاسل في وسط الشهر أنه يضيع على نفسه فرصة عظيمة؛ لأن أبواب الجنة ما زالت مفتوحة في منتصف رمضان، كما أن أبواب النار لا زالت مغلقة في وسط رمضان، كما أن لله في كل ليلة عتقاء من النار حتى في وسط رمضان، كما أن هذا الصيام سبب للتكفير في أوله وآخره وفي وسطه، كما أنه له الفضائل العظيمة، فإنه لا بد من اغتنام جميع أوقاته؛ لأنه ينادي منادٍ كل ليلة من ليالي رمضان كما جاء في الحديث الصحيح: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة[أخرجه ابن ماجه 1642]. إذاً هذا المنادي الكريم من الغفور الرحيم لا زال ينادي في أول الشهر، وفي وسط الشهر، وفي آخر الشهر، فيقول لك: يا عبد الله، يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة، إذاً الاستمرار في شحذ الهمة وتجديد العزيمة والقيام، إطالة الصلاة والدعاء والذكر والالتجاء إلى الله تعالى، واستحضار القلب عند الآيات التي فيها ذكر الرحمة والعذاب والثواب والعقاب والقصص والأمثال وأهوال القيامة، وأول ذلك ذكر أسماء الرب وصفاته ، فلا تهملوا رحمكم الله شيئاً من أيام شهركم، واستمروا في العمل، وإياكم والتواني، وهذه أيام معدودة، وقد قال الله في كتابه العزيز: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ سورة البقرة184. وكما انتهى نصف الشهر فسينتهي نصفه الآخر، وهكذا يمر فماذا فعلت في نصفه المنصرم يا عبد الله؟ وأي شيء استودعته في تلك الأيام، هل زدت في الأعمال الصالحة، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فهل زادت حسناتك، هل لا زلت مستحضراً للأجر والثواب في الإفطار والسحور، وكذا تجديد العهد مع الله على الاستمرار على طاعته، والتوبة مما مضى.
العمرة في رمضان، وكيفيتها
وإن مما يفعله كثير من المسلمين في هذا الشهر عمرة رمضان، هذه العبادة العظيمة حق لنا أن نهتم بها، وأركانها الإحرام والطواف والسعي، لا بد منها، لا بد منها، فليحرص عبد الله المسلم إذا أراد أن يعبد الله أن يفعل كما أمر الله، وقد قال النبي ﷺ: خذوا عني مناسككم، لعلي لا أراكم بعد عامي هذا[أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9524]. فالسنة لك يا عبد الله: إذا أردت أن تذهب للعمرة أن تتجهز لذلك، والسفر له آداب في الشريعة معلومة، وأذكار جاءت عن النبي ﷺ في الكتب مرقومة، فاحفظ ذلك مثل: أن تكبر الله إذا ارتفعت، وتسبحه إذا نزلت في طريقك براً أو جواً، والاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء، والنبي ﷺ أمر أسماء بنت عميس حين نفست أن تغتسل عند إحرامها مع أنها نفساء، ثم التطيب، ونحو ذلك من أخذ الشعر، والأظفار، وإذا كان السفر جواً اغتسل قبل ذهابه إلى المطار؛ ليكون غسله قريباً من وقت الإحرام، فإذا كان يخشى أن ينقطع به الأمر، وأن لا يواصل النسك من بوادر مرض عرض له، فإن له أن يشترط، هذا خاص بمن خاف من عائق يعوقه عن إتمام النسك، فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، يعني: تحللي من إحرامي، وخروجي منه، ورجوعي حلالاً حيث جاء هذا المانع من مرض، أو حبس، أو غيره، كما جاء في حديث ضباعة بنت الزبير أن النبي ﷺ أمرها وهي مريضة أن تشترط، وقال: فإن لك على ربك ما استثنيت[أخرجه النسائي 2766]. فمتى اشترط من به بوادر يخشى منها، وليس الصحيح السليم الخالي من هذه البوادر، وإنما من به علة، أو شيء يخشى منه يمنعه عن إتمام النسك، متى اشترط فحصل له ما منعه تحلل، ولا شيء عليه، فهذه فائدة الاشتراط، وأما من لا يخاف العائق الذي يعوقه فإنه لا ينبغي له أن يشترط؛ لأن النبي ﷺ لم يشترط.
ولا تنس يا عبد الله: إذا أحرمت أن يكون الإحرام من الميقات، أو فوقه بمحاذاته، ولو أحرم قبله احتياطاً لسرعة الطائرة، أحرم قبله بدقائق أو خشي نسيان الإعلان في الطائرة فأحرم قبله، فلا بأس بذلك، ينعقد الإحرام قبل الميقات، لكن يكره له أن يجعله قبله بدون سبب، والسنة أن يحرم من الميقات، وكذلك فإنه يصلي ركعتين إذا أحرم من ميقات المدينة بالذات؛ لأنه في وادٍ مبارك، وهو وادي العقيق الذي جاء جبريل إلى النبي ﷺ فأمره فيه بقوله: صل في هذا الوادي المبارك[أخرجه البخاري 1534]. وأما بقية المنازل التي يحرم فيها المسلمون، والمواقيت التي وقت النبي ﷺ للمسلمين أن لا يتعدوها إلا بإحرام إذا كانوا مريدين بالحج والعمرة، فإنه لم تشرع فيها صلاة ركعتين خاصة لأجل الإحرام، لكن لو أحرم عقب فريضة، أو نافلة مشروعة كتحية المسجد، فلا بأس بذلك وهو طيب حسن، فإذا وصل مكة فإنه يقطع التلبية، تلك العبادة العظيمة التي يغفل عنها الكثيرون في الطائرة، وفي الحافلة التي تقلهم إلى المطار، وفي مبنى المطار، وفي الطريق من جدة إلى مكة، يغفلون عن هذه التلبية العظيمة التي يلبي معهم فيها كل شجر وحجر لو قاموا بها، ويشهد لهم يوم القيامة، وبعضهم يستحي أن يلبي بحضرة الناس، وإظهار هذه الشعيرة للرجال، ورفع صوتهم بها هذا من دلائل تعظيم شعائر الله وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِسورة الحـج 32. فهذه التلبية من شعائر الله ، فإذا جاء مكة فدخلها اتجه إلى الحرم، ويدخل مباشرة قاصداً بيت الله، هذه هي السنة ولا بأس أن يضع متاعه في مكان، أو يصلي فريضة حضرت قبل أن يبدأ بطواف العمرة، لكن السنة إذا دخل الحرم أن يقصد الحجر الأسود مباشرة؛ ليبدأ بالطواف، ويقول عندما يدخل المسجد كما يقول في بقية المساجد، ويبدأ بالحجر الأسود مكبراً، مسمياً قبله، كما جاء عن ابن عمر موقوفاً، وجاء عن ابن عباس رفع اليدين إذا رأى الكعبة، ثم يستلم الحجر بيده إذا تيسر، ويقبله بفمه إذا حصلت الفرصة، ويجعل وجهه عليه كهيئة الساجد، كما جاء عن النبي ﷺ، فإن لم يمكنه ذلك استلمه بيده، فإن لم يمكنه الاستلام أشار إليه إشارة، ويفعل ذلك في كل طوفة، ولا يزاحم عليه؛ لقول النبي ﷺ: يا عمر إنك رجل قوي فلا تؤذِ الضعيف، وإذا أردت استلام الحجر فإن خلا لك فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبر[من حديث رواه أحمد190، وصححه الالباني في مناسك الحج والعمرة32]. وهو حديث قوي.
ولذلك ليس كل من استلم الحجر يفوز، فقد قال النبي ﷺ: ليبعثن الله الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق[رواه أحمد2642، وصححه الالباني في مناسك الحج والعمرة33]. فإذا استلمه بباطل فلا يشهد له الحجر إذاً، ذاك الحجر الذي نزل من الجنة أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك، فهذا الشرك الذي يفعل في الأرض أثر في الحجر الذي كان شديد البياض، فصار أسود، وهكذا تتأثر الجمادات بقدرة الله من الشرك ومخالفة أمر الله، فإذا طاف جاعلاً الكعبة عن يساره فإنه يكشف الكتف الأيمن، ويرمل في الأشواط الثلاثة، وهو المشي السريع الهرولة، إذا تيسر، وكذلك فإنه يمشي في الأشواط الباقية، ويستلم الركن اليماني دون تقبيل، ويقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة البقرة201. ولا يستلم شيئاً من الكعبة لا بقية الأركان ولا هذا الثوب الذي تكسى به الكعبة، ولا الحلق، ولا غير ذلك، لكن له أن يلتزم ما بين الركن والباب، بين الركن الحجر الأسود وباب الكعبة، هذا الملتزم الذي جاء في الحديث الحسن عن النبي ﷺ، وعمل به جمع من الصحابة إلصاق الصدر والوجه والذراعين بالملتزم، بين باب الكعبة وركنها، وهي سنة لا تتيسر في أغلب الأحيان لشدة الزحام، وليس للطواف ذكر خاص به، فله أن يقرأ القرآن وله أن يذكر الله، وله أن يدعو، وله أن يعلم الناس، وله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كنهي الطائفين عن استلام مقام إبراهيم والتمسح به، ثم مسح وجوههم، كما يفعله من تعود على الشرك، ومسح القبور في أنحاء العالم الإسلامي، إذا أتوا طبقوا ما كانوا يعرفونه ويمشون عليه، وإذا سكت فطوافه صحيح، فقد يكون عقله يتدبر ويتأمل في ذكر الله تعالى، وهذه عبادة،
وقد قال النبي ﷺ: الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير[رواه الحاكم في المستدرك3058، وصححه الالباني في صحيح الجامع3954]. وفي رواية: فأقلوا فيه كلام[رواه النسائي2922، وصححه الالباني في صحيح الجامع3956]. فإذا انتهى من الشوط السابع غطى كتفه الأيمن، وانطلق إلى مقام إبراهيم وقرأ قول الله تعالى: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّىسورة البقرة125. وجعل المقام بينه وبين الكعبة، وصلى ركعتين، يقرأ فيهما: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَسورة الكافرون1. وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ سورة الإخلاص1. وليس من السنة في شيء رفع اليدين والدعاء بعد هاتين الركعتين، وإنما يصلي الركعتين بخشوع ما أمكنه، وفي أي مكان من الحرم إذا كان الزحام شديداً خلف المقام، ثم يذهب إلى زمزم فيشرب منها، ويصب على رأسه، كذا السنة، وقد قال النبي ﷺ: ماء زمزم لما شرب له[رواه ابن ماجة3062، وأحمد14849، وصححه الالباني في صحيح الجامع5502].، وقال: إنها مباركة[رواه مسلم2473]. وهي طعام طعم[رواه مسلم2473]. أو طعام من الطعم، وشفاء من السقم خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم[رواه الطبراني في الكبير3912، وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة1056]. كانوا يسمونها شُباعة أو شَبَّاعة، ويستعينون بها على العيال، أي: أنها كانت تغنيهم من الطعام فإذا كان ذو عيال كانت زمزم بركة عليهم، فهي طعام من الطعم تنفع الفقراء الذين لا يجدون الطعام، فإذا شرب من ماء زمزم رجع إلى الحجر الأسود فكبر واستلمه إذا تيسر، إذا تيسر، ثم يذهب باتجاه الصفا، وإذا دنى من الصفا قرأ قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ سورة البقرة158.
ويقول: نبدأ بما بدأ الله به، هذا كله قبل أن يرتقي الصفا، في الطريق إلى الصفا، ثم يرتقي الصفا فيصعد عليه فيستقبل الكعبة فيوحد الله ويكبره، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثاً متوالية، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله حده لا شريك له، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، يقول ذلك ثلاث مرات، هذه التهليلات، يدعو بينهن، أي: أن الدعاء مرتان، والتهليلات ثلاث، فيدعو بين التهليلات ثم ينزل للسعي بين الصفا والمروة، ممتثلاً أمر النبي ﷺ: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي[رواه أحمد27367، وصححه الالباني في صحيح الجامع968]. ثم إنه يسعى سعياً شديداً بين العلمين الأخضرين، امتثالاً لقول النبي ﷺ: لا يقطع الأبطح إلا شداً[رواه ابن ماجه2987، وأحمد27280، وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة2437]. فهذا هو المكان وادي الأبطح الذي كان بين العلمين الأخضرين قبل تسوية الأرض، ثم يصعد حتى يأتي المروة فيرتفع عليها ويستقبل القبلة، ويكبر ويوحد ويدعو، التكبير ثلاثاً، ثم التهليل ثلاثاً، بين التهليلات الثلاث دعاءان يدعو فيهما بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، ثم يرجع إلى الصفا وهكذا حتى تتم له سبعة أشواط، لم يرد عن النبي ﷺ بين الصفا والمروة أدعية معينة، فإن دعا بما شاء فحسن، وإن ذكر الله فحسن، وإن قرأ القرآن فحسن، وإن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وعلم الناس وأمر بالخير أو سكت متأملاً متفكراً في ذنوبه، وعيوب نفسه، وندمه على ما قدم وما فرط فيه من حق الله، وما أسرف في جنب الله، فهذا جيد، وهذا جيد حسن، فإن التأمل والتفكر من العبادات العظيمة، وإن قال: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم، فقد ثبت عن جمع من السلف بين الصفا والمروة، ثم يذهب لحلق رأسه وهو يحتسب أجر الحسنات التي تكون عند سقوط هذه الشعرات، إن هذه العمرة العظيمة، وهذه العبادات التي يفعلها المسلم من الأذكار والأدعية، وقراءة القرآن، وغير ذلك، تجعله يعيش في جو من الإيمان والطاعة، تجعله حي القلب متصلاً فؤاده بالرب ، مقبلاً على طاعة الله حريصاً عليها، يتابع الحسنات وراء الحسنات، ويذكر ربه في كل وقت وحين، هكذا ينبغي أن يكون الصائم الذي يدخل هذه المدرسة، مدرسة رمضان، لكي يتعلم فيها ما يوقظ به قلبه، غير ما يتعلم من أحكام الفقه والشريعة، ومعاني كلام الله.
عباد الله: شهر رمضان شهر القرآن، فأقبلوا عليه، على كتاب الله تعلماً وقراءة وتفسيراً وتدبراً فإن ذلك من العبادات العظيمة، وراجعوا الحفظ، فإن جبريل كان يراجع الحفظ مع النبي ﷺ، وهكذا يكون هذا الشهر مستودعاً للأعمال الصالحة.
نسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام، والذكر والدعاء، وصالح العمل، وأن يجزينا الجزاء الأوفى، ونسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي الكريم الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن أصحابه وخلفائه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه وذريته المسلمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
صيحة النصف من رمضان
إن مما ينبغي على المسلم أن يأخذ بالعلم الصحيح، وأن يحرص على صحة ما يسمع، فليس كل ما يسمع صحيح.
عباد الله: لقد شاع وانتشر بين الناس أن هناك صيحة في نصف رمضان تكون يوم الجمعة، وأنها إذا جاءت الجمعة في أول رمضان وفي وسطه فتكون الصيحة في الضحى، ويحدث ويحدث من الأحوال والأهوال ما يقال في هذه الأحاديث التي تسير بين الناس، ومع الأسف فإن كثيراً من المسلمين يروجون للأقاويل الغريبة والشاذة، فتعجبهم أو تتسلل إلى نفوسهم العجائب، فيحرصون عليها ويندهشون منها، ويستغربون ثم يتناقلونها فتصبح أحاديث مجالسهم ورسائل جوالاتهم، ونحو ذلك من وسائل النشر التي توافرت في هذا العصر، وقد قال الله: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍسورة الأحقاف4. هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا سورة الأنعام148. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاًسورة الإسراء36. وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
عباد الله:
حكم الكذب على النبي ﷺ، وفائدة علم الاسناد
إن كذباً على النبي ﷺ ليس ككذب على أحد، وقد روى حديث من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار[رواه البخاري107، ومسلم3]. نحو من سبعين صحابياً إلى ما هو أكثر، فهذا حديث متواتر فيه النهي الصريح، والتحذير البليغ، إذا أراد هذا أن يحجز لنفسه مكاناً في النار فليكذب على رسول الله ﷺ، والأحاديث التي جاء الزنادقة والجهال فوضعوها وكذبوا على النبي ﷺ، وافتروا عليه فيها كثيرة، لكن الله قيض لها أهل العلم، أين أنت من عبد الله بن المبارك وفلان وفلان، وأبو زرعة، وشعبة، وأحمد، وسفيان، أين أنت من الدارقطني، وأين أنت من علماء الحديث وجهابذته في القديم والحديث ينفون الكذب عن النبي ﷺ، ويميزون صحيح الحديث من سقيمه.
وكانت نعمة الله على هذه الأمة بالإسناد نعمة عظيمة، فلو أنك سألت يهودياً يقول: قال موسى، أو نصرانياً يقول: قال عيسى، فقلت له: هات السند، هات سند حديث موسى، وكلام عيسى، هات السند إلى موسى وعيسى لننظر في السند حتى نعرف صحة النقل عنه لما أتى لك بشيء لا يوجد لديهم أسانيد، لكن هذه الأمة أسانيدها من علماء الحديث فيها كالبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهم من أصحاب الكتب المصنفة أسانيدهم مكتوبة محفوظة وموجودة إلى النبي ﷺ، يستطيع العالم المحدث إذا نظر في السند أن يعرف صحة الحديث، فهذا السند بتسلسل الرجال إلى النبي ﷺ هذا هو المفتاح لمعرفة حال الحديث، بالإضافة إلى النظر في متنه من قبل فقهاء الأمة، وأصحاب العقول الراجحة فيها.
وهذا الحديث قد جاء بأسانيد تروى إلى النبي ﷺ، ولكنه ضعيف جداً أو موضوع؛ لأنك ترى في أسانيد هذا الحديث حديث الصيحة المزعوم، تجد فيه مجهولاً، وضعيفاً جداً، وكذلك متهماً بالكذب، وتجد مدلساً، وتجد ضعيفاً، وتجد وضاعاً، وتجد متروكاً، وتجد مجاهيل، وغير ذلك من أحوال رجال الأسانيد الواردة في هذا الحديث، وبناءً عليه فإنه حديث لا يصح إطلاقاً عن النبي ﷺ، قد بين العلماء ضعفه الشديد أو بطلانه ووضعه في القديم والحديث، ومما يكذبه الواقع، ففي السنين القريبة، في عام ألف وأربعمائة وستة، وألف وأربعمائة وتسعة، وألف وأربعمائة وأربعة عشر، كان أول الشهر جمعة، وأوسطه جمعة، ولم تقع الصيحة، ولو وقع شيء من الكوارث في هذا اليوم مثلاً فلا علاقة له بالحديث، وإنما هو قدر من قدر الله، وافق هذه الجمعة أو غيرها من الأيام، والواجب على المسلمين الدفاع والمحاماة عن حديث النبي ﷺ والرجوع إلى أهل العلم؛ لأن العامي لا يعرف صحة الحديث، فلا بد أن يرجع إلى أهل العلم به لكي يبينوا له.
عباد الله:
أنواع الصيحات
والشيء بالشيء يذكر نتذكر صيحات، نتذكر أصواتاً مرتفعة وهتافات، فمن ذلك الصيحة التي أرسلها الله على قوم ثمود، فأخذتهم الصيحة فقطعت قلوبهم في أجوافهم، فهلكوا بتكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ونتذكر الهتاف والصوت المرتفع للنبيﷺ في موقعة بدر التي حدثت في مثل هذه الأيام في حياة النبي ﷺ وهو يرفع يديه ويبكي، ويرفع صوته ويهتف كما ورد في الحديث: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة أي: الجماعة، وهم المسلمون معه، لا تعبد بعدها في الأرض[رواه مسلم فيما معناه1763]. لأن هؤلاء هم أصل الإسلام فإذا هلكوا فما الذي يقيم الإسلام بعدهم، وهكذا ظل يناجي ربه، ويهتف به حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فالتزمه الصديق شفقة عليه، وقد أيقن كما أيقن النبي ﷺ أن الإجابة حاصلة، وأنزل الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ سورة الأنفال9. وإذا صبروا واتقوا جاء خمسة آلاف وملك واحد يكفي، ولكن الله يكرم الأمة بإنزال هذه الأمداد من الملائكة من السماء الثالثة ومن غيرها، معهم أسلحة يقاتلون بها، لقد ضرب ملك على فرس بسوطه وجه مشرك فانشق فاخضر فوقع مستلقياً بين يدي الصحابي الذي كان يطارده، ضربة من ملك أوقعت ذلك الكافر، يذكرنا بشروط النصر على الأعداء، ونسأل الله تعالى أن يمد المجاهدين في أقطار الأرض بالمدد في هذا الشهر وفي غيره، وأن يرزقهم نصراً عظيماً، وهزيمة للكفار الذين يحاربونهم.
اللهم إنا نسألك النصر للمسلمين يا رب العالمين، عجل فرج المسلمين إنك على كل شيء قدير، اللهم انتقم لدينك وللمسلمين المظلومين يا رب العالمين، اللهم انتقم لهم ممن ظلمهم.
عباد الله:
من مآسي المسلمين
إن في البلاد والعباد من اللأواء والشدة والضنك والظلم والتسلط والبغي والإفساد ما لا يعلمه إلا الله.
مثلوا بذوات الخدر عاثوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم يرحموا طفلاً ولم يبقوا غلاماً
هدموا الدور استحلوا كل ما حرم الله ولم يرعوا ذماما
أين من أضلاعنا أفئدة تنصر المظلوم تأبى أن يضام
نسأل الله الذي يكلؤنا نصرة المظلوم شيخاً أو أيامى.
يا عباد الله: إنها تذكرة، إنها عبرة، إنه شهر يمر على المسلمين حافل بالمآسي والأحداث العظام، إنها صيحات كثيرة تحتاج أن تخرج من حناجر المسلمين الصادقين لتوقظ أفئدة الغافلين، وتحيي ضمائرهم، إننا نحتاج إلى صيحات كثيرة حقاً تكون موقظة لنا من الغفلة دافعة لنا للعمل، العمل للدين، ونصرة الإسلام، وماذا نستفيد إذا خرجنا من الدنيا ولم ننصر شرعة النبي ﷺ، ماذا نستفيد لو خرجنا ولم ننصر دين الله، وماذا نستفيد ولو خرجنا ولم ننصر المظلومين، فيا عباد الله، فيا أيها المسلمون احرصوا على رفعة الدين وشأن الدين فإنه أمانة في أعناقنا جميعاً.
اللهم إنا نسألك أن تعتق رقابنا من النار يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا في مقامنا هذه، في جمعتنا هذه، في شهرنا هذا، في صومنا هذا، يا أرحم الراحمين، اللهم أعتق رقابنا من النار، وحرم وجوهنا عن النار، وباعد بيننا وبين النار، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، اللهم عاملنا بمنتك وكرمك ورحمتك، اللهم ارحمنا واغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، سرها وعلانيتها، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، وأخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم طهرنا منها بالماء والثلج والبرد، ونقنا منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفرانا، وأبدلهم دوراً خيراً من دورهم، وأهلاً خيراً من أهليهم، اللهم انصر المجاهدين، وأعل كلمة الدين، واهزم اليهود والصليبيين، واجعل عليهم رجزك وعذابك يا رب العالمين، اللهم نكس راياتهم، وعطل أسلحتهم، ودمر اقتصاداتهم، واشدد وطأتك عليهم، واجعلها عليهم.