السبت 12 شوّال 1445 هـ :: 20 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

علاقات فريدة


عناصر المادة
الخطبة الأولى
كل الكائنات تعبد الله معنا
الحيوانات وعلاقتها بالمسلم
أثر الطاعة والمعصية في الكون
تعلم مما حولك
علاقة الملائكة بنا
علاقة المؤمن بإخوته المؤمنين
الخطبة الثانية
حكم البيع بغير قبض ولا تملك
مفاسد بيع ما لا يملكه البائع

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

كل الكائنات تعبد الله معنا

00:00:27

فإن الله خلق خلقه لعبادته، وخلق الخلق متنوعين، وهذا من آيات قدرته وعظمته ، وقد يغفل الإنسان منا -في غمرة الذهاب إلى وظيفته أو دراسته وعمله، وانشغاله بهموم الدنيا، ودخوله في أوديتها المتفرقة- عما خلق الله في هذا الكون لعبادته، وجعل خلقه مسخَّرين له سبحانه، فينشغل المسلم عن الإحساس والمعرفة بهؤلاء الخلق الذين يعبدون الله ، وبالتالي لا يشعر بالرابطة بينه وبينهم، فيذكر المسلم نفسه بما خلق الله تعالى مما يعبده ، ويشعر بالارتباط فيما بينه وبين خلق الله الآخرين، فالمؤمن وهو يعبد ربه لا بد أن يدرك أن السموات والأرض، والبر والبحر، والجبال والسهول، والجماد والحيوان كلها تسبح لله، كما قال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا سورة الإسراء:44، بل إن هذا الكون يذعن بالعبودية لله، والمؤمن يذعن بعبوديته أيضاً، فهو يشارك الخلق الآخرين: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ سورة الحـج:18، وقد قال النبي ﷺ: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس[رواه أحمد (13923)]، فهؤلاء الخلق يعرفون أن محمداً رسول الله مما بين السموات والأرض، كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو حديث صحيح لغيره.

والمؤمن لا بد أن يغار على التوحيد، وهو يقرأ قول الله: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ۝ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۝ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا سورة مريم:88-91، وهذه الجبال مهيأة للتأثر: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ سورة الحشر:21، بل إن من الحجارة في الأرض ما يخشى الله تعالى حقاً وحقيقة، قال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ سورة البقرة:74، فإذا تدحرج حجر من جبل فاعلم أن من هذه الحجارة ما يهبط من خشية الله تعالى، وليس فقط لأجل قوانين الجاذبية، والجبال كانت تسبح، وكذلك الطير مع العباد وأنبياء الله: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَسورة سبأ:10، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ سورة ص:18.

وهذا المسلم عندما يذهب للحج والعمرة فيلبي ليتذكر أنه يشاركه ممن حوله في التلبية أيضاً من الجمادات من لا يحس به: ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا [رواه ابن ماجه (2921)]، كونٌ يسبح الله، ومخلوقاته تخضع له ، فأين العصاة من بني آدم؟ ألا يستحق ان يتعظو  مما يخضع لله، فيخضعون مثله؟.

الحيوانات وعلاقتها بالمسلم

00:05:42

وكذلك جعل الله في هذه الحيوانات أنواعاً من العبودية، فقد روى أبو ذر عن النبي ﷺ أنه قال: إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذَن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول -أي الفرس-: اللهم خولتني من خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليهرواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح [رواه أحمد (20986)].

بل إن في المخلوقات ما يعين الإنسان على تذكر الخير والشر: إذا سمعتم صياح الديكة؛ فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار؛ فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً رواه البخاري ومسلم [رواه البخاري (3303)، ومسلم (2729)].

بل إن من مخلوقات الله تعالى من يذكر بحق العالم وفضله وفضل العلم، ويحث على العلم: وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء رواه الترمذي رحمه الله، وهو حديث صحيح [رواه الترمذي (2682)].

وإن من هذه الحيوانات، أو هذه الدواب التي خلقها الله كلها من يذكِّر بقيام الساعة، وأن القيامة آتية، قال النبي ﷺ: وما من دابة إلا وهي مسيخة أي منصتة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس [رواه أبو داود (1046)] حديث صحيح يبين أن الدواب تخشى قيام الساعة، فتصبح يوم الجمعة في مثل هذا اليوم منصتة غاية الإنصات، من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، حذراً من أن تكون الساعة ستقوم في هذا اليوم؛ لأنها تقوم في صباح الجمعة.

وكذلك فإن النبي ﷺ ذكَّر المؤذن بأن يرفع صوته؛ لأن هناك من يشاركه فيشهد له يوم القيامة، فقد قال ﷺ لأحد الصحابة: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة[رواه البخاري (609)]، وفي رواية: لا يسمعه جن ولا إنس، ولا شجر ولا حجر إلا شهد له[رواه ابن ماجه (723)].

أثر الطاعة والمعصية في الكون

00:09:18

أيها المسلمون: إن الطاعة والمعصية لها أثر في هذا الكون، قال الله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ سورة الأعراف:96، فتسقط السماء المطر مدراراً عليهم إذا أطاعوا الله؛ لأن الله أمرها بذلك.

بل إن الأرض تبكي على موت الصالحين، لكنها لا تتأسف على موت الكافرين والطغاة، كما يُفهم من قول الله تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَسورة الدخان:29، فهذه السماوات والأرض لا تتأسف على فقد الكافر والطاغية بخلاف المؤمن، فإن الأرض التي يمشي عليها تتأسف لفقده، فقد كان يعمل الخير عليها يمشي إلى الصلاة عليها، ويغدو إلى حلق العلم عليها، ويذهب للدعوة إلى الله فوقها، ويمشي على صعيدها لزيارة إخوانه في الله، وصلة رحمه، وإغاثة ملهوف، وعمل معروف، وإزالة منكر، ونحو ذلك من أنواع الطاعات.

ولماذا لا تبكي السماء على فقد المؤمن وهي مصعد عمله، فعن طريقها يصعد عمله الصالح إلى الله، فإذا مات وانقطع عمله تأسفت السماء على فقد هذا العمل الذي كان يصعد عن طريقها، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ سورة الدخان:29.

وهذا جبل أحد يبادل المسلمين مشاعر الحب، فيقول ﷺ في هذا الجبل الذي نراه أصم: إن أحداً يحبنا ونحبه[رواه البخاري (7333)، رواه مسلم (1393) بلفظه] إن أحداً جبل يحبنا ونحبه، فهذه مشاعر يشارك فيها الجبل المسلمين، جبل أحد يحبنا ونحبه  كما قال ﷺ.

وإذا شككت أن لهذه الكائنات مشاركات فانظر إلى مشاركة الشجر والحجر في المعكرة الفاصلة التي ستكون بيننا وبين اليهود في آخر الزمان، قال ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر خوفاً وذعراً وجبناً كعادة اليهود، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله يقول الحجر والشجر ينطق: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود [رواه مسلم (2922)]، إذن ما أشوقنا إلى ذلك اليوم الذي ينحر فيه أعداء الله هؤلاء اليهود المغضوب عليهم.

إن نفوس المسلمين لتتحرق إلى يوم ننتقم فيه من هؤلاء الأنجاس الأرجاس الذين لوثوا الأرض بالمعاصي، ولطخوا الفضاء بهذه الموجات التي تبث الشر والفساد، وأعلنوا دور الأزياء أوكار فسق يصدرون من خلالها أنواع العهر والمجون إلى العالم، وينشرونه فلا يوجد من أفسد الناس مثلهم، ولا يوجد من يُصدِّر الفساد مثلهم، فهم لا يزالون يفسدون في الأرض -كما قال الله-، وأي شيء يوفون به وهم الذين ذكر الله عنهم أنهم لا يرقبون عهداً، وليس لهم ذمة، هؤلاء الذين يخالفون عهد الله، فكيف يوفون بعهدٍ مع البشر؟! لا يمكن أن يفعلوا ذلك، إنهم خونة من القديم؛ ولذلك فإن المسلم يتوق حقاً إلى وقت ينحر فيه هؤلاء اليهود، ويقتلهم بأمر الله ، وإن تمني هذا الوقت، وتمني هذا العمل من العبادات والطاعات التي نتقرب فيها إلى الله أن يأتي اليوم الذي ننحر فيه هؤلاء اليهود.

ثم إذا نظرت -يا عبد الله- فيما خلق الله في هذا الكون كمثل الريح، فإنك تعلم طاعتها لربها ، فتذكرك بطاعة الله، والإذعان لأمره، فلما هبت ريح شديدة فلعنها بعض الموجودين، قال ﷺ لذلك الرجل الذي لعن الريح: لا تلعن الريح؛ فإنها مأمورةرواه الترمذي، وهو حديث صحيح [رواه الترمذي (1978)]، فهي مأمورة تهب كما أمر الله، وبالسرعة التي أمرها الله أن تهب فيها.

تعلم مما حولك

00:15:28

أيها المسلمون: إنكم إذا رأيتم ما خلق الله ممن حولكم مما يذكركم بطاعته فلا بد أن يكون الاجتهاد والتعلم والاقتداء حتى ولو كان من كائنات هي أدنى منا منزلة، قرصت نملة نبياً من الأنبياء؛ فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح، فإذن هي تسبح الله .

عباد الله: إن بيننا وبين الخلق الذين خلقهم الله تواصل وعلاقات، فإذا أتينا إلى عالم الجن فإن النبي ﷺ قد أخبرنا بأن لنا إخواناً منهم، وأن منهم منذرون ودعاة، قاموا فاستمعوا القرآن، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَسورة الأحقاف:29 يقولون: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِسورة الأحقاف:31، وهكذا قص الله علينا قصة تعلمنا منها أهمية القيام للدعوة، والذهاب للنذارة، وحث الناس على إجابة داعي الله: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ سورة الأحقاف:31، ولذلك فإنه لا يجوز لنا أن نؤذي مؤمني الجن، فقال النبي ﷺ: كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أي: للجن يخاطبهم أوفر ما كان لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، قال النبي ﷺ: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم الجن[رواه الترمذي (3258)]، ولذلك نهي المسلم عن الاستنجاء والاستجمار، وإزالة النجاسة، وتلطيخ العظم عظم الذبائح التي ذبحت على اسم الله، وكذلك الروث لا يلطخهما بنجاسة؛ لأن الجن المسلمين يستفيدون من ذلك، والحديث قد رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.

علاقة الملائكة بنا

00:18:11

وأما الملائكة فإنهم خلق عظيم، بيننا وبينهم علاقة وثيقة، فهم الذين سجدوا لأبينا آدم، وهم الذين يشهدون بوحدانية الله، وهم الذين يستغفرون لنا نحن المسلمين: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ سورة الشورى:5 لمن من أهل الأرض يستغفرون؟ قال الله : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ماذا يقولون؟ ماذا تقول الملائكة في استغفارها للمؤمنين؟ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًاثناء على الله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ سورة غافر:7، فهنيئاً لك يا أخي يا عبد الله التائب، الهاجر للذنوب، التارك للمعاصي، المقلع عن السيئات، هنيئاً لك باستغفار الملائكة الأبرار الذين لا يعصون الله، فكيف يتقبل الله استغفارهم؟ لا يعصون، يستغفرون للذين تابوا، واتبعوا سبيل الله، ويدعون لهم بأن يقيهم الله عذاب الجحيم، كما أن الملائكة تلعن المتمردين على أوامر الله، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ سورة آل عمران:87، وهذا الذي يرفع سلاحاً في وجه أخيه، ويشهر حديدة مؤذية؛ فإن الملائكة تلعنه حتى يدع ذلك.

وهنيئاً لك يا طالب العلم الذي تمشي إلى حلقه ودروسه؛ لأن الملائكة تضع أجنحتها تواضعاً ورضاً لك بما صنعت، وهنيئاً لكم -يا معشر المسلمين- في حضور حلق الذكر؛ فإن الملائكة تحفكم، وتجلس لسماع الذكر، وتكون على أبواب المساجد تنتظر الذين يأتون لكتابة أسمائهم، يكتبون الأول فالأول، تكريم من الله في قائمة الجوائز عندما يأتي يوم المكافأة، فيكافئ الله من قدم أولاً فأول، فهنيئاً للمبكرين.

وكذلك تساهم الملائكة في المدد في المعارك، وتتنزل بأمر الله نصرة للمسلمين، وقمعاً لأعداء الله تعالى كما تنزلت في بدر وأحد وغير ذلك، هؤلاء الملائكة ينبغي لنا ألا نؤذيهم برائحة الثوم والبصل فضلاً عن التدخين وغيره في المسجد، وأن نقتدي بهم عندما يصفُّون صفوفاً مستقيمة تامة عند الله، فلذلك نقتدي بهم في صفوفنا في الصلاة.

علاقة المؤمن بإخوته المؤمنين

00:21:34

عباد الله: إن علاقتنا مع إخواننا المسلمين الذين ماتوا وذهبوا قديمة، وكذلك الذين سيأتون من بعدنا، فكم مسلم منذ أن خلق الله البشر يدعو لإخوانه المسلمين عموماً، وهذا نوح يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِسورة نوح:28، وكم مسلم يقول في الأرض: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِسورة الحشر:10.

إنك -يا عبد الله- إذا قعدت في صلاتك، فقلت في التحيات: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أصبت كل عبد صالح بين السماء والأرض.

وتبدو علاقة المؤمن بأخيه المؤمن جلية عظيمة في هذه الشريعة، وهو يودعه من الدنيا، ويلقنه لا إله إلا الله، ويكرم المؤمنون إخوانهم الميت عندما يقومون بتغميض عينيه، وتغطيته بالثوب، ثم يكرمونه بغسله وتطييبه، ثم يكرمونه بحمله على أكتافهم، ثم يكرمونه بصلاة الجنازة عليه، ويخلصون له بالدعاء، ثم يكرمونه بالسير خلفه وتشييعه إلى المقبرة، ثم يكرمونه بوضعه في قبره على جنبه الأيمن على ملة رسول الله ﷺ، ثم يكرمونه بالدعاء له، والاستغفار، وسؤال الله أن يثبته في قبره.

إن قضية وضعه في القبر ليست للتخلص من جثته، وإنما هو عود الأصل إلى الأصل، عود الإنسان إلى الأرض: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىسورة طه:55، فهي إعادة له إلى المكان الذي خُلق منه، فتقوم أمه بضمه في بطنها، وهو الذي خُلق منها: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىسورة طه:55.

فهذه علاقة المؤمن بمن خلق الله، علاقة تذكره بعبودية الله ، علاقة تذكره بطاعته لربه وابتعاده عن معصيته، ومن تأمل هذا انتفع به انتفاعاً عظيماً، ولكن زخرف الدنيا كثيراً ما يشغلنا عن التأمل فيما خلق الله، فهنيئاً للمتفكرين، وأولي الألباب المتذكرين، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:24:44

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله ، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وذريته، وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.

حكم البيع بغير قبض ولا تملك

00:25:16

أيها الإخوة: إن هناك أنواعاً من المعاملات بين الخلق يتبين من خلال الشريعة حكمها، والله لم يترك الخلق هملاً في معاملاتهم يفعلون كيف شاءوا؛ لأن الله يعلم أن الإنسان ظلوم جهول، وأنه إذا لم يوضع له قانون يسير عليه يظلم ويطغى ويبغي؛ ولذلك جعل الله لنا قوانين نسير عليها في أنكحتنا، وبيوعاتنا، وسائر معاملاتنا.

وإن مما شاع وانتشر -أيها الإخوة- في هذه الأيام من المنكرات في البيوع البيع بغير قبض ولا تملك، وإن هذا الانتشار الذائع ليدفع إلى النصيحة والتبيين لهذا النوع من البيع المحرم، عن حكيم بن حزام قال: "أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق، ثم أبيعه" يعني: أعقد العقد، ثم أذهب وأشتري السلعة، ثم أعطيها إياه، "فقال النبي ﷺ: لا تبع ما ليس عندك " رواه الخمسة [رواه الترمذي (1232)]، دل الحديث على أنه لا يجوز أن يبيع الإنسان ما ليس عنده، ثم يذهب إلى السوق ويشتريه ليسلمه للشخص الذي باعه له، ما ليس عندك ما ليس مملوكاً لك، ولا مقبوضاً من قِبَلك، وقد أخذ الفقهاء بهذا الحديث طبعاً فمنعوا أن يبيع المرء ما لا يملكه وقت العقد.

قال ابن قدامة رحمه الله: "لا نعلم فيه مخالفاً"، ويستثنى من ذلك نوع واحد وهو بيع السلم أن يبيع سلعة بشروط ومواصفات معينة مع تحديد الثمن، ووقت التسليم، ويكون الثمن كاملاً مسلماً سلفاً في مجلس العقد، ثم تأتي السلعة بعد ذلك.

فلا بد في الشريعة من تسليم أحد الأمرين: إما الثمن، وإما السلعة، وأما بيع لا ثمن مسلم فيه، ولا سلعة، فعقد باطل.

نعود إلى قضية عدم جواز بيع ما لا يملك، وعدم جواز بيع ما لم يقبض.

مفاسد بيع ما لا يملكه البائع

00:28:07

أيها الإخوة: إن مسألة بيع ما لا يملك مما يحدث مساوئ كثيرة، فلذلك حرمته الشريعة؛ لأن الشريعة تريد قطع النزاع والمخاصمات، لا تريد غرراً، ولا جهالة، ولا مغامرة بالناس، والشخص الذي باع سلعة لا يملكها قد يذهب للسوق ليشتريها ليسلمها فلا يجدها، وقد لا يرضى المشتري بإمهاله ريثما يأتي بها من الداخل أو الخارج، فيقع الخلاف، ثم إن العقد ينبغي أن يتم على ما يمكن تسليمه في الحال، ثم إن بيع الإنسان ما لا يملك تمليك لما لا يملك، وهذا محال، فكيف تملك شخصاً ما لا تملك؟! والبيع عقد تمليك، تملك المشتري السلعة، ويملكك المشتري الثمن.

وكذلك فإن انتشار التوسع في الدنيا بين الناس حملهم على أنواع من البيوع، يشترون أكثر مما يحتاجون، ويورطون أنفسهم في أمور، ثم يريدون الوفاء بالديون المتراكمة فيحدثون ديوناً أخرى، وليست هذه المصيبة فقط، وإنما يضيفون إلى تلك المصيبة مصيبة بيع غير شرعي، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ: من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه[رواه البخاري (2133)، ومسلم (1525)]، من اشترى طعاماً بكيل، أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه[رواه أحمد (5866)]، وعن عبد الله بن عمر أنه قال: "كنا في زمان النبي ﷺ نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" [رواه مسلم (1527)]، وكذلك فإنه قد جاء عن أحد السلف أنه اشترى سلعة، فلقيه رجل، فأعطاه بها ربحاً حسناً، فأراد أن يضرب على يديه لعقد البيع، قال: فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت، فإذا زيد بن ثابت، فقال: "لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله ﷺ نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" رواه أبو داود [رواه أبو داود (3499)]، ولذلك من لحق على كبار السن الذي يبيعون في السوق العامة تجدهم إذا اشترى أحد شيئاً في أرض السوق نقله إلى بقعة أخرى قبل أن يبيعه، وذلك من الفقه.

فما بالهم يبيعون اليوم، السيارة في مكانها في المعرض لم تغادر تباع عدة بيعات، ثم يبيع البنك السلعة على شخص والسيارة ليست عند البنك، ولا قبضها، ولا حازها، ولا نقلها، بل وربما لم يملكها أصلاً، وبعد عقد البيع مع الشخص، وإحكام الأوراق، وتوقيعها يذهب البنك لتملك السلعة، وكثيراً ما يبيعها بغير أن يقبضها، فلا يذهب موظفه ولا وكيله لقبضها، ولا لإخراجها من مكانها، وإنما تحويل في تحويل، بيع بغير تملك، أو بيع بغير قبض؛ ولذلك كان لا بد من لفت النظر إلى هذه المعاملة التي شاعت بين الناس.

وقد رد عمر طعاماً بيع قبل قبضه، فعن حكيم بن حزام أنه ابتاع طعاماً، فباعه قبل أن يستوفيه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه وقال: "لا تبع طعاماً ابتعته حتى تستوفيه" القبض أولاً، مع أنه ملكه، لكن قال: تقبضه ثم تبيعه، أقطع للنزاع، وأعرف للسلعة، ودخولها في المالك الجديد قبل انتقالها للمالك الذي بعده.

وقد جاء أيضاً في موطأ الإمام مالك: أن زيد بن ثابت وأبا هريرة رضي الله عنهما أنكرا بيع الصكوك قبل قبضها، ما هي الصكوك؟ أوراق كانت تخرج من الخليفة للناس بأرزاق من بيت المال، "أعطوا فلان كذا" صك، "يعطى فلان كذا" صك، فكان الناس يأخذون بعض الناس يأخذون الصكوك فيبيعونها قبل أن يصرفوها من بيت المال، ويقبضونها.

فتبايع الناس الصكوك، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من الصحابة على مروان بن الحكم الخليفة، فقال: "أتحل الربا يا مروان؟! قال: أعوذ بالله! وما ذاك؟ قالوا: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها قبل أن تستوفى، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها.

إذن تقبض أولاً، وتستلم، وتحاز، وقبض كل شيء -أيها الإخوة- بحسبه، فما يقبض بالتسليم يداً بيد كالنقد والذهب والفضة يسلم يداً بيد، وما يقبض بالإفراغ والتخلية كالعقارات والأراضي، فإن قبضها وتسليمها يكون بتخليتها للبائع الجديد، والعقار لا يفقد ولا يهرب، ولذلك فإن القبض والتسليم تخليته للمشتري الجديد، وإزالة ما فيه من ممتلكات البائع الأول؛ ولذلك نص الفقهاء على أن القبض يتبع أعراف الناس، فما كان يُقبض يداً بيد؛ فإنه يسلم يداً بيد، وما كان قبضه بالتخلية كالدار والعقار، فإنه يكون بالتخلية، وهكذا، والمقصود أن يكون المسلم على فهم وفقه بأحكام الشريعة حتى لا يقع في أنواع المعاملات المحرمة التي تنتشر وتنتشر كثيراً، فلا بد إذن قبل أن يبيعك لا بد أن يقبضه، ويحوزه، ويخرجه هو أو وكيله، ثم يعقد عقد البيع بعد استلامه للسلعة، وقبضه إياها، ومجيئها إليه، وصيرورتها في ملكه وحوزته، وبعد ذلك يعقد عقد البيع.

وكذلك من اشترى من معرض، أو سوق عام للسيارات أخرجها، ثم باعها في مكان آخر، ولو ردها إلى نفس المكان بعد قبضها، ووكل نفس المعرض ببيعها مرة أخرى فلا بأس بذلك، أما أن تباع بنفس المكان عدة بيعات متتالية لا يقبضها المشتري الأول، ولا المشتري الثاني، ولا المشتري الثالث، فإن ذلك منهي عنه كما تقدم في النصوص السابقة.

نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يقينا شر أنفسنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.

اللهم انصر المجاهدين، واقمع أعداء الدين، اللهم سلمنا في البر والبحر والجو يا رب العالمين، وسلم المسافرين المسلمين والمجاهدين، اللهم إنا نسألك أن تظلل بلادنا بالأمن والإيمان وبلاد المسلمين، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - رواه أحمد (13923)
2 - رواه ابن ماجه (2921)
3 - رواه أحمد (20986)
4 - رواه البخاري (3303)، ومسلم (2729)
5 - رواه الترمذي (2682)
6 - رواه أبو داود (1046) 
7 - رواه البخاري (609)
8 - رواه ابن ماجه (723)
9 - رواه البخاري (7333)، رواه مسلم (1393) بلفظه 
10 - رواه مسلم (2922)
11 - رواه الترمذي (1978)
12 - رواه الترمذي (3258)
13 - رواه الترمذي (1232)
14 - رواه البخاري (2133)، ومسلم (1525)
15 - رواه أحمد (5866)
16 - رواه مسلم (1527)
17 - رواه أبو داود (3499)