الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

10- سنة الله في النصر


عناصر المادة
النصر في اللغة
النصر في الاصطلاح القرآني
المراد بسنة نصر الله للمؤمنين
بعض أدلة الكتاب والسنة على سنة نصر الله للمؤمنين
عدم ارتباط سنة نصر الله للمؤمنين بعدد معين
بعض صور نصر القلة على مدار التاريخ
طلب النصر من الله وحده
النصر قد يبطئ لكن لا يتخلف
أسباب تأخر النصر
صور النصر وأنواعه
أسباب النصر
أسباب تخلف النصر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فإن من سنن الله العظيمة: سنة النصر.

النصر في اللغة

00:00:22

والنصر من نصر، أصل يدل على إتيان الخير وإيتائه، ونصر الله المسلمين، أي آتاهم الظفر على عدوهم، وانتصر أيضًا معناها: انتقم، والنصر إعانة المظلوم، والنصرة أيضًا حسن المعونة، قال الله :  مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [الحـج: 15] الآية معناها من ظن من الكفار أن الله لا ينصر محمدًا ﷺ على من خالفه  فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ  [الحـج: 15] السبب: هو الحبل، والسماء: السقف، أي: فليخنق نفسه بحبل حتى يموت كمدًا، فإن الله سيظهر دينه رغمًا عن أعدائه، ورغمًا عن أنوف الظانين بالله ظن السوء، وحينئذ فلن ينفع هذا الميت مختنقًا موته، فإن نصر الله قادم لا محالة.

 مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ  يعني: أن لن ينصر نبيه محمدًا ﷺ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحـج: 15].

ويكاد يكون معنى النصر لغويًّا محصورًا في ستة معان، وهي:

إعانة المظلوم، والتأييد، والامتناع من الظلم، والانتصاف منه، والانتقام منه يعني من الظالم، وكذلك يأتي النصر بمعنى: الغيث، والعطاء.

من هذه المعاني اللغوية يتضح أن النصر ليس له صورة واحدة، وإنما عدة صور.

النصر في الاصطلاح القرآني

00:02:20

فالنصر في الاصطلاح القرآني كما ذكر المفسرون في معنى النصر أنه يأتي على أربعة أوجه في القرآن الكريم:

أحدها: المنع، ومنها قول الله  فَلَا ‌يُخَفَّفُ ‌عَنْهُمُ ‌الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 86]، لا يمنع عنهم العذاب، ولا يمتنعون من العذاب، فلا يمنع عنهم العذاب، ولا يمتنعون من العذاب.

والثاني: بمعنى العون، ومنه قول الله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحـج: 40].

والثالث: بمعنى الظفر، ومنه قوله وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147].

الرابع: الانتقام؛ كقوله تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [الشورى: 41]، وفي سورة القمر: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [القمر: 10].

ومن هذه المعاني يظهر أن النصر له صور متعددة يجعلها الله لعباده، فقد ينصرهم بمنعهم من أعدائهم؛ فيمتنعون.

وقد يكون النصر بالعون على العدو.

طبعًا إذا كان الحصن منيعًا لا يمكن اختراقه، فيرزق الله المسلمين المنعة، هذا معنى من معاني النصر.

فإذن، النصر قد يكون من الله بأن يرزق المسلمين المنعة، فلا يمكن للعدو أن يخترقهم.

وقد يكون النصر بالعون على العدو؛ وهو الظفر المادي والتمكين.

وقد يكون النصر بالانتقام من الكافرين، كأن ينزل الله بالكافرين عذابًا من عنده، أمرًا سماويًّا، هلاكًا، إلى غير ذلك من الوجوه، ومنها انتقام المؤمنين من الكافرين.

المراد بسنة نصر الله للمؤمنين

00:04:40

والمراد بسنة النصر: أن الله يؤيد رسله وأولياؤه في الدنيا والآخرة بجميع أنواع التأييد؛ لأن الذي يجمع المعاني الأربعة السابقة هو تأييد الله للمؤمنين؛ سواء أن يكسبهم منعة، أو يظفرهم على عدوهم، أو ينزل بالعدو آفة أو هلاكًا، أو .. أو الجامع المشترك يدور على قضية التأييد، تأييد الله للمؤمنين، فإذا حققوا شروط النصر وانتفت الموانع جاءهم نصر الله؛ كما قال سبحانه:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ  [محمد: 7].

إبطاء السنة هذه وعدم مجيئها، ماذا يعني؟

قد يعني أمورًا متعددة، فقد يكون لتخلف سبب من أسباب النصر عند المؤمنين، ما تسلحوا بها أو توفرت لديهم.

قد يكون لوجود مانع يمنع.

فإذن، إما شرط يفقد، أو مانع يمنع، أو حكمة في التأخير كأن يزداد شهداء المؤمنين، ويزداد عذاب، أو يزداد بطش أو يزداد سوء الكافرين حتى يأخذهم الله، ويُكشف من النفاق ما يكشف.

فإذن، قد يبطئ النصر لأسباب لكنه لا يتخلف بمعنى أنه لا يأتي أبدًا، هذا لا يحصل، فإذا حقق المؤمنون الشروط وانتفت الموانع فلا بد أن يأتي النصر عاجلًا أم آجلًا.

بعض أدلة الكتاب والسنة على سنة نصر الله للمؤمنين

00:06:27

وأدلة هذه السنة، وهي: نصر الله للمؤمنين متعددة، ومنها: قول الله -تعالى- تعقيبًا على معركة بدر:  قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ  ينتهوا عن محاربة المؤمنين، إن ينتهوا عن الكفر،  يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ  إذا أسلموا وتابوا من حرب المؤمنين يغفر لهم ما قد سلف،  وَإِنْ يَعُودُواْ  إلى حرب المؤمنين  فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ  [الأنفال: 38] بأن ينصر الله المؤمنين.

وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ  [الصافات: 171-173].

هذه أدلة على أن الله ينصر المؤمنين في الدنيا، وأن شروط النصر إذا تحققت لابد أن يأتي النصر، هذه سنة إلهية، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43] فلا يوجد تغيير، ولا يوجد تبديل؛ السنة ماضية وحاصلة وقائمة.

وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النــور: 55] هذا أين؟ في الدنيا، لأنه قال: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ .

وقوله وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] تحتمل أن يكون في دار الدنيا وفي دار الآخرة، فلا يمنع أن يكون في الدارين تكون العاقبة للمؤمنين في الدارين.

وكذلك قال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ  [الروم: 47].

فأوجب الله على نفسه نصر المؤمنين فضلًا وكرمًا منه، وإلا فلا يجب على الله شيء.

وقال سبحانه:  كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21].

وقال إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ  [غافر: 51].

فهنالك نصران: نصر الدنيا، ونصر الآخرة، فقوله:  إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  [غافر: 51] يدل على أن هذه السنة في الدنيا قائمة وفاعلة وحاصلة، فلا يظنن ظان أن النصر خاص بالآخرة، وأن المؤمنين في الدنيا يعني فقط في ابتلاء سيعيشون في تحت سيطرة الكفار، وأن الكفار لهم الدنيا، ونحن لنا الآخرة، لا.. لا..  لا ليس كذلك.

المؤمنون منصورون في الدنيا قبل الآخرة، وكل المطلوب أن يستوفوا شروط النصر، وأن ينفوا موانعه، ما يكون عندهم أي مانع يمنع من نزول النصر، فتحقق الشروط وانتفاء الموانع هذا يستنزل النصر حقًا ولابد أن يأتي، وفي الدنيا قبل الآخرة؛ لهذه الأدلة الكثيرة السابق ذكرها التي تدل على أن هذه السنة الإلهية متحققة في الدنيا أيضًا.

وأما البشائر النبوية الدالة على سنة النصر والغلبة للمسلمين كثيرة، نحن ذكرنا الآن آيات من القرآن، فماذا في السنة النبوية؟

قال ﷺ: بشر هذه الأمة بالسناء، والرفعة، والدين، والنصر، والتمكين في الأرض  [رواه أحمد: 21222، وهو حديث صحيح].

أيضًا قسم النبي ﷺ على ذلك فقال: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله  [رواه البخاري: 3612].

وكذلك قوله: ليبلغن هذا الأمر  يعني: الدين والإسلام،  ما بلغ الليل والنهار  يعني: مشرق الأرض ومغربها، انتشار في العالم كله، ولا يترك الله بيت مدر : حجر، ولا وبر : الشعر بيوت البادية،  إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل به الكفر  [رواه أحمد: 16957، وهو حديث صحيح].

وقال ﷺ:  إن الله زوى لي الأرض ما معنى زوى؟ يعني: طوى وقرب، وضم وجمع،  إن الله زوى لي الأرض  قربها في النظر، وجمعها له وضمها.

طبعًا الآن يعني هذا مجرد تقريب المثال وإلا ما فعله الله لنبيه ما يمكن نحن أن نعيشه ولا الآن في الآلات يستعملون الزوم أو في الكاميرات في الجوجل في الخرائط، الزوم المقرب، فبهذا التقريب تضم المساحات الكبيرة، وتصغر بحيث يرى الإنسان الخريطة الكبيرة جدًا، أو الأرض الكبيرة جدًا، الصورة الكبيرة جدًا تضم وتجمع على مساحة صغيرة يراها، ما فعله الله لنبيه أعظم بكثير، لكن مجرد التذكير يعني أن هذا في آلات الناس اليوم يمكن في تقريب وبمشهد وإلا ما فعله الله لنبيه أعظم  إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها  [رواه مسلم: 2889].

وهذا الذي بشرنا به ﷺ انتصارات خاصة تدل على أن الأمة تعيش حالة من النصر العام، كفتح روما بعد فتح القسطنطينية، فقد سئل النبي ﷺ: "أي المدينتين تفتح أولًا القسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله ﷺ: مدينة هرقل تفتح أولًا " يعني: القسطنطينية [رواه أحمد: 6645، وهو حديث صحيح].

وهذا الذي أخبرنا سيكون بعده خلافة على منهاج النبوة، النبي ﷺ أخبرنا في حديث صحيح آخر أنه سيكون بعده خلافة على منهاج النبوة، ثم يكون بعده ملك وراثي، ثم يكون بعده ملك جبري، قال: ثم يكون بعده خلافة على منهاج النبوة [رواه أحمد: 18406، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].

طيب هذه بشارة، ولا يدرى هل ما يحصل الآن من ذهاب هؤلاء الطغاة والجبابرة سيكون بعده خلافة راشدة على منهاج النبوة تجمع المسلمين، ممكن، لا يبعد، لا يبعد أن يكون هناك انهيارات عند الغرب، وضعف يصيبهم، وكذلك أتباعهم ومن يواليهم من العرب، أو لمن ينتسبون إلى الإسلام، أن هؤلاء سيصيبهم انهيارات يعقبها خلافة راشدة على منهاج النبوة، وارد يعني، ليس هذا محالًا، ليس في النصوص ما يمنع هذا، بل يمكن أن يدل عليه مثل هذا الحديث، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي ستكون، قال: ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ثم سكت.

طبعًا نحن نعلم أنه سيكون في عهد عيسى ولا شك هذا، ولكن لا يمنع أن يكون هناك قبله خلافة راشدة على منهاج النبوة، وقد أخبر ﷺ أن الخلافة ستنزل الأرض المقدسة، يعني الشام، وقال بأنه إذا نزلت الخلافة الأرض المقدسة فقد دنت الساعة ودنت الزلازل والبلابل والأمور العظام.

ومن المعلوم: أن الدجال قبله زلازل وبلابل، ومعه أيضًا الفتن، والأمور العظام، ثم ينزل عيسى -عليه السلام- فيقتله، ثم يبيد الله يأجوج ومأجوج، ويعيش أهل الأرض في سلام لم يمر عليهم مثله أبدًا، ولن يمر عليهم بعده مثله أبدًا، وقد روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى  فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ  [الصف: 9] أن ذلك تامًا، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله  [رواه مسلم: 2907].

فإذن، هذا الظهور لدين الحق على الدين كله سيحصل، ويكون منه ما شاء الله أن يكون، فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن نصر الله للمسلمين حاصل، وأن المستقبل للمسلمين، والقوة لهم، وأن الخلافة على منهاج النبوة ستكون بعد الوراثي والجبري والعاض، وأن اليهود سيهزمون، وأن النصارى سيهزمون، وأن الإسلام سيطبق الأرض كلها.

عدم ارتباط سنة نصر الله للمؤمنين بعدد معين

00:18:15

وسنة النصر هذه لا ترتبط بعدد معين للمؤمنين، بل إن القلة المؤمنة تنتصر، وقد قال : كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ  [البقرة: 249].

وعند الناس أن العدد القليل لا ينتصر، وعند الله ينتصر العدد القليل.

وقد مدح الله القلة المؤمنة، فقال: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ  [سبأ: 13].

وقال: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود: 116].

وقال ابن كثير: "يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض" [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 4/ 309]  إِلَّا قَلِيلًا  يعني قد وجد منهم من هذا النوع القليل وهم الذين نجاهم الله  مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ .

ومن الأنبياء من لم يتبعه إلا رجل، ومنهم من لم يتبعه إلا رجلان، ومنهم من لم يتبعه أحد؛ كما أخبر النبي ﷺ.

فلا عبرة بالكثرة في مقابلة الحق، ولا يشترط للنصر عدد معين، بل يتحقق بوجود المؤمنين الذين يحملون أخلاق ومعاني النصر، ويقومون بأسبابه، وتحقق شروطه فيهم.

بعض صور نصر القلة على مدار التاريخ

00:19:41

ومن صور نصر القلة على مدار التاريخ؛ ما ذكره الله لنا من نصر طالوت ومن معه، وهم قلة على الكثرة الكافرة: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ  فالذين يظنون أنهم ملاقوا الله ماذا قالوا؟  قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة: 249-251].

وذكر الله لنا كيف انتصر رسوله ﷺ وأصحابه ببدر على المشركين وهم ثلاثة أضعاف، فقال:  وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123] يعني: قليلون في غير منعة من الناس، مع كثرة عدوكم، فهي قلة مؤمنة ولكنها استحقت النصر لتوافر شروطه فيهم.

وعدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة، البراء يقول: "كنا أصحاب محمد ﷺ نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا" [رواه البخاري: 3958] في الحالتين في الجيشين.

وفي فتح مصر لما حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون أرسل المقوقس إلى عمرو رسالة يقول فيها: "وإنما أنتم عصبة يسيرة، ولقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم من العدة والسلاح" إلى آخره، فبعث إليه عمرو بن العاص عشرة نفر، وأحدهم عبادة بن الصامت، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، يعني متكلم المسلمين، فأقبل المقوقس على عبادة فأعاد التأكيد على قلة المسلمين وكثرة الروم، وقال له: وقد توجه إليكم لقتالكم من جمع الروم مما لا يحصى عدده، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار" يالله ولخليفتكم ألف دينار، ماذا تريدون؟ "فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به، فقال عبادة بن الصامت : يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا الذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقًا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا إذا قدمنا على ربنا، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، على أن نقول عند الله أن عذرنا أنهم كثيرون وقتلنا ولنا الجنة، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا. أنتم كثرة فإذا ظفرنا بكم كانت غنيمتنا منكم أعظم وأعظم، وإذا متنا لنا الجنة، فلا تخوفني بالقليل القليل قلتنا وكثرتكم هي حافز هي حافز لنا لإكمال القتال، فإما أن نفنى عن آخرنا ولنا الجنة، وعذرنا عند الله أن عددكم كثير، وإما أن نظفر بكم ونأخذ من الغنائم ما لا يوصف، لأنكم كثير وغنائمكم كثيرة، قال: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين منا بعد الاجتهاد منا، وإنها -يعني إن نحن نقتل- وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله -تعالى- قال لنا في كتابه: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ  [البقرة: 249] [ينظر: فتوح مصر والمغرب، ص: 90].

في معركة اليرموك كان عدد المسلمين لا يصل إلى أربعين ألفًا على أقصى تقدير، وكانت الروم في مائتي ألف وأربعين ألفًا، منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألف مربطون بالعمائم لئلا يفروا، وثمانون ألف راجل، وقال رجل لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان" [البداية والنهاية: 7/ 13].

وفي القادسية انتصر المسلمون على الفرس والمسلمون سبعة آلاف والفرس ستون ألفًا.

وفي معركة نهاوند انتصر المسلمون على الفرس، وكانت الفرس أكثر من مائة ألف، وقتل من المسلمين كثير، وقال علي بن أبي طالب في مشورته على عمر: "هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعز، وأيده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده وناصر جنده" [تاريخ الرسل والملوك: 2/ 523].

في معركة حطين انتصر المسلمون واستعاد صلاح الدين بيت المقدس من الصليبيين مع أن المسلمين كانوا قلة.

في معركة عين جالوت انتصر المسلمون وكانوا أقل من التتر، وقاد المسلمين سيف الدين قطز بعدد قليل وعتاد أقل ولكنه المتوفر بحسب الطاقة والقدرة.

فتح المسلمون البلاد وقهروا ممالك في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين عامًا، فالقلة المؤمنة هي التي يكتب الله على يديها النصر، النصر من عند الله إن الله عزيز حكيم، فالعزيز القوي الذي لا يمتنع عليه شيء، والحكيم يدبر الأمور على خير الوجوه سبحانه وتعالى.

ومن أسمائه سبحانه: النصير، قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحـج: 78].

وهذا بعد التوكل على الله وهو الاعتقاد الجازم أن الله هو النصير وهو المعين، على كل شيء قدير، مالك الملك، ينزع الملك ممن يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.

طلب النصر من الله وحده

00:28:35

ولذلك لا يطلب النصر إلا من الله وحده: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ  [آل عمران: 160].

وهكذا كان سادات الخلق يطلبون النصر من الله؛ كما قال الله عن نوح : فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ  [القمر: 10].

وقال عن موسى  كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62].

وذكر –تعالى- نصره لعباده المستضعفين بقوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137].

النصر قد يبطئ لكن لا يتخلف

00:29:19

والنصر قد يبطئ لكن لا يتخلف، هذه عبارة ينبغي حفظها

النصر قد يبطئ لكنه لا يتخلف، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ  [البقرة: 214].

أسباب تأخر النصر

00:29:51

لماذا يبطئ النصر؟

قلنا لوجود موانع عند المسلمين لم يتخلصوا منها بعد، لوجود بعض الشروط لم يستوفوها بعد، لحكمة يريدها الله فيزداد عدد شهداء المسلمين ولهم الكرامة العظيمة عند الله، ويزداد شر المجرمين فيأخذهم الله أخذًا شديدًا وبيلًا، لو ما وصل شرهم لهذا الحد ما جاء الأخذ بهذه القوة.

فإذن، يبطئ النصر لحكم، ومنها: إظهار النفاق الموجود بين المسلمين، فيقول المنافقون: ما لنا ولهذا الدين، هذا الدين ما جاءنا فيه إلا الهزائم والويلات، ويغرهم الكافرون فيلتحقون بهم ويوالونهم؛ فيكون إبطاء النصر قشقشة وإظهار للنفاق حتى يعرف أهله، فيأخذ الله المنافقين وقد أقيمت الحجة عليهم.

وقد يبطئ الله النصر كي تزداد الأمة استعدادًا وإقبالًا على بعضها البعض واتحادًا، فقد يكون فيها تفرق، النصر لا يواتي التفرق فتحتاج إلى أحداث توحدها وتجمعها.

قد يبطئ النصر لأن في المسلمين من يقاتل للمغنم، ومن يقاتل للرئاسة، ومن يقاتل عصبية وحمية، ومن يقاتل ليقال فلان جريء فلان شجاع، فلا بد من التخلص من هؤلاء.

صور النصر وأنواعه

00:31:46

ما هي صور النصر وأنواعه؟

ليس بالضرورة أن يكون النصر نصرًا ماديًّا عسكريًّا، وللنصر معان كثيرة، وليس الكلام هذا للتقليل من أهمية النصر المادي والعسكري، بالعكس فإن النصر المادي والعسكري أجلى صور النصر، وأعظم صور النصر، لكن هنالك صورة أعظم من النصر العسكري وهي: الثبات على دين الله، ونصرة شرعه، وبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، وحماية الأديان بإذهاب الأبدان، وأهل الأخدود فعلوا ذلك:  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج: 11]، فوصف الله فعل أصحاب الأخدود وما حصل لهم بأنه فوز كبير، رغم أنهم ماتوا عن آخرهم، وقتلوا حرقًا، لماذا؟ لأنهم بقوا ثابتين على الحق وعلى التوحيد، فنقلهم الله من الدنيا إلى جنته ونعيمه، فكان فوزًا كبيرًا، وخرجت النيران من الأخاديد على ما قيل، وأكلت الملك وجنوده الكفار، فمن الذي انتصر؟ فنقل الملك وجنوده إلى جهنم وبئس المصير.

ومن صور النصر: نصر الغلبة والعزة والتمكين في الأرض؛ كما نصر الله طالوت على جالوت، ونصر داود وسليمان، وقتل داود جالوت.

وموسى نصره الله على فرعون.

ونصر الله محمدًا ﷺ على قريش، وعلى كفار العرب والمشركين، وجاء الناس يدخلون من أصقاع الجزيرة وأعماقها في دين الله أفواجًا؛ كما قال ربنا: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا  [النصر: 1-2].

ومن صور النصر: أن يهلك الله الكافرين والمكذبين، وينجي عباده المؤمنين، فقد لا تكون هناك معركة ولا مواجهة عسكرية، لكن ينجي الله المؤمنين، ويهلك الكافرين إهلاكًا تامًا، كما فعل في نصر هود والذين آمنوا معه، وصالح والذين آمنوا معه، وشعيب والذين آمنوا معه، ونوح من قبل والذين آمنوا معه، وهكذا فعل في قوم لوط ونجى لوطًا والذين آمنوا معه.

هذا من صور النصر ما كان في معركة ولا مواجهة عسكرية، ما صار الجهاد والأمر بالقتال ومواجهة الصفين إلا في شريعة موسى.

وقبل موسى كان الله يهلك الكافرين بأمر من عنده؛ صيحة، زلزال، زلزلة، صاعقة، طوفان، ريح عاتية، يهلك الكفار بشيء من عنده، وينجي النبي ومن معه من المؤمنين.

من صور النصر: انتصار المنهج، انتصار الدين، انتصار الحجة ولو مات كثيرون، لكن يبقى دينهم، ولا يموت لا يضمحل، لا يزول.

ومن صور النصر: أن يحمي الله عباده المؤمنين من كيد الكافرين، فيمكن مثلًا أن يحل عزيمة المشركين للقتال فلا يخرجون، يغير همتهم، يذهب همتهم وإرادتهم وعزيمتهم للقتال، يفل عزمهم فلا يأتون.

وقد يحبط الله مخططاتهم، وقد يجعل الله الفرقة بينهم، وحصل في الحملات الصليبية أن اختلف الصليبيون في البحر قبل أن يصلوا للشواطئ ورجعوا إلى بلادهم، اختلفوا لمن القيادة مثلًا، خرج صليبيو فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنرويج والدنمارك، ثم اختلفوا في البحر على شيء، وألقى الله في قلوبهم بذور الاختلاف، ورجعوا إلى بلادهم؛ هذا نوع من النصر.

وقد يكون النصر بأن يرسل الله على الكفار ريحًا، جنودًا من عنده فيردهم عن قصدهم: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ  [الأحزاب: 25]، وهذا نصر، هذا الذي حدث في غزوة الأحزاب نصر، حتى كفار قريش بعد غزوة أحد، بعد معركة أحد أرادوا أن يعودوا مرة أخرى، لكن الله صرفهم، هذا نوع من النصر، فإحباط المخططات وإلقاء الله للرعب في قلوب الكافرين، أو إلقاء الله للفرقة بين الكافرين نوع من النصر.

والأمة قد يحدث فيها مرض لكنها لا تموت.

ومن صور النصر: النصر بغلبة الحجة؛ كما حصل من نصر الله لإبراهيم : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ  [الأنعام: 83].

ومن صور النصر للمؤمنين: أنهم منصورون بالمدح والتعظيم، فإن الظلمة وإن قهروا شخصًا من المحقين يعني من أهل الحق إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط المدحة له من قلوب الناس، فيبقى هذا الشخص وإن كان مأسورًا وإن كان مقهورًا مغلوبًا من قبل الظلمة، لكن مدحه على ألسنة الناس، فهذا نوع نصر؛ أن مدح هذا الشخص ما زال على ألسنة الناس، لا زال الناس يحبونه، لا زال الناس يتبعونه، لا زال الناس يحملون رأيه ودينه.

وكذلك من صور النصر: بقاء المؤمنين على دينهم وثباتهم على ما أنزله الله -عز وجل-.

وكذلك من صور النصر: دحض حجج الكافرين، وانهيارهم في المناظرات.

وكذلك من صور النصر: ذهاب آثار الكفار المنتصرين، بمعنى أنه ما يبقى لهم فكر ولا منهج ولا دين، ولا يبقى لهم مبدأ، ولا يبقى لهم أثر في الأرض يعني، ما يبقى لهم حجة، ما يبقى لهم تأثير من بعدهم، خلاص، كان نصرهم نصرًا ظاهريًّا ثم رجعوا وانتهوا، ما بقي لهم أثر، ما بقي لهم مبدأ، ما بقي لهم حجة.

وكذلك يموتون وتموت آثارهم، بخلاف أهل الخير والدين يموتون وتبقى آثارهم من بعدهم، تبقى أعمالهم، تبقى أخبارهم، تبقى مؤلفاتهم، تبقى دعوتهم يبقى طلابهم، وهكذا..

أسباب النصر

00:40:10

ما هي أسباب النصر؟

كثيرة ومهمة:

أولًا: تحقيق التوحيد: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، فلا بد من إيمان لا يخالطه كفر، ولا بد من توحيد لا يخالطه شرك:  وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ  [الأنعام: 81-82].

والنبي ﷺ بقي يتضرع إلى ربه قائلًا: اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض [رواه مسلم: 1763]، وذلك في غزوة بدر.

فهم ينصرون ليبقوا على وجه الأرض يوحدونه ويعبدونه، ولو أهلكهم من الذي سيعبده؟ وهؤلاء القلة المؤمنة الباقية.

من أسباب النصر: تقوى الله، والعمل الصالح: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ  [آل عمران: 125].

وقال:  وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ  [آل عمران: 123].

ولذلك "كان ﷺ إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا"[رواه مسلم: 1731].

وقال أبو الدرداء: "إنما تقاتلون بأعمالكم" يعني الصالحة. رواه البخاري تعليقًا [صحيح البخاري: 4/ 20].

ثالثًا: الخضوع لشرع الله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحـج: 40]، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ  [محمد: 7].

إن تنصروا الله بأي شيء؟ بإقامة شرعه ودينه.

رابعًا: الوحدة والائتلاف، وترك التنازع والاختلاف؛ كما قال تعالى:  وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ  [الصف: 4].

وقال: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  [الأنفال: 46].

خامسًا: قوة العزيمة والشجاعة والثبات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال: 45].

والشجاعة ثمرتها الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام.

وخالد بن الوليد كم أقدم، ولم يقتل في المعركة.

سادسًا: الصبر: لا يكون النصر إلا مع الصبر، النصر مع الصبر  كما قال ﷺ.

وقال ربنا:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ  [آل عمران: 200].

فهذا الذي يستنزل النصر، ويزلزل العدو

سقيناهم كأسًا سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرًا

 سابعًا: الإخلاص والمراقبة:  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا  [العنكبوت: 69].

وأهل الإخلاص هم أهل الرجاء الحقيقي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  [البقرة: 218].

وقال ﷺ: إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم  [رواه النسائي: 3178، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2388].

ثامنًا: حسن الإعداد المادي: كما قال ربنا:  وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ  [الأنفال: 60].

وقال ﷺ لما قرأ الآية: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي [رواه مسلم: 1917].

فلابد من إعداد العدة.

تاسعًا: الدعاء: وهو السلاح الذي نجى الله به نوحًا فأغرق قومه، ونجى به موسى وأغرق فرعون، ونجى به صالحًا وأهلك ثمود، ونجى هودًا وأذل عاد.

وهكذا يكون الدعاء دائمًا هو السلاح الذي يقاتل المؤمنون به، والنبي ﷺ دعا ودعا ودعا.

وفي معارك الفرس تحصن الفرس يومًا في خنادقهم، وطال حصار المسلمين، تأذى المسلمون، فقال النعمان بن مقرن: "اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز المسلمين، واقبضني شهيدًا"، فاستجاب الله دعاءه [الكامل في التاريخ: 2/ 416].

وقتيبة بن مسلم لما خرج جيش الترك سأل عن محمد بن واسع، قيل له: إنه في طرف الجيش رافعًا أصبعه، قال: "تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، -يعني شاهر- وشاب طرير" [تاريخ الإسلام: 8/ 173].

وكذلك كان قطز في معركة عين جالوت يعفر وجهه بالتراب، ويقول: "يا الله انصر عبدك قطز"، ولما رأى عصائب التتر قال للأمراء والجيش: "لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس، وتفيء الظلال، وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم" [البداية والنهاية: 13/ 262] فهزم المغول.

وكذلك صلاح الدين قال في حطين: "اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل" [النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، ص: 40].

وهكذا  أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62].

أسباب تخلف النصر

00:45:38

ويتخلف النصر بالضد: ضعف الإيمان، العصيان، موالاة المشركين، والمعاصي والذنوب، والاختلاف والتفرق، وإرادة الدنيا: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا  [آل عمران: 152].

والربا، وترك الجهاد، بيع العينة سلط الله عليكم ذلًا، والبطر والفخر والغرور والعجب، واتخاذ الأعداء بطانة ومشورة، والله قال:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً  [آل عمران: 118] لا يريدون مصلحتكم،  وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ [آل عمران: 118] ويريدون المشقة.

وقال:  إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ  [آل عمران: 149].

فهذه جملة من أسباب النصر، وأسباب الهزيمة.

نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن ينصر عباده الصالحين، وأن يعجل بنصر المستضعفين، وخذلان المجرمين، وهزيمة الكافرين، إنه سميع مجيب.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.