الثلاثاء 8 شوّال 1445 هـ :: 16 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الشهوة الخفية حب الرئاسة والشهرة 1


عناصر المادة
مقدمة
خطر حب الرئاسة
مظاهر حب الرئاسة
أسباب حب الرئاسة
آثار حب الرئاسة على الفرد والمجتمع
علاج حب الرئاسة
اللجوء إلى الله
استشعار المسؤولية
تقدير النفس ومحاسبتها
التفكر في العاقبة يوم الدين
التفكر في الدنيا وسرعة انقضائها
التفكر في حال السلف
التعود على الطاعة بالمعروف
عدم تولية من طلب المنصب
شبيهة والرد عليها
لماذا طلب يوسف -عليه السلام- المنصب؟

الحمد لله الذي شرع لنا الإسلام ديناً، وأوجب علينا الإخلاص له سبحانه وتعالى في العبادة.

الذي يعبده لا يشرك به شيئاً يدخل الجنة، والذي يعبده مع الشرك فإن كان الشرك أكبر فإنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها.

أمرنا بالإخلاص، فقال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ  [الزمر: 2].

وقال الله مبيناً خطورة الشرك:  إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48].

 وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ  [الزمر: 65].

والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

مقدمة

00:00:57

وهذا الشرك -أيها الإخوة- له صورٌ كثيرة، ومن صور الشرك، ومن أنواع الشرك ما يكون جلياً واضحاً، ومنه ما يكون خفياً.

كما أنه ينقسم إلى شركٍ أكبر وأصغر فكذلك ينقسم إلى شركٍ جليٍ وخفي.

فالشرك الجلي واضح يعرفه كل أحد.

والشرك الخفي الذي يخفى على كثيرٍ من الناس.

أما المؤمنون فإن الدافع عندهم للشرك الجلي لا يكاد يوجد.

لكن الخطورة والمصيبة في الشرك الخفي -بالنسبة للمؤمنين-.

أما المشركون فهم واقعون في أنواع الشرك، جليها وخفيها.

خطر حب الرئاسة

00:02:01

وموضوعنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن شهوةٍ خفية في النفس تقدح في الإخلاص، وتخالف التجرد لله ، وهي: حب الرئاسة، وحب الشهرة.

وهما موضوعان متقاربان، بينهما كثيرٌ من الارتباط.

ولعلنا نتحدث عن هذين الموضوعين -إن شاء الله-، ونسأل الله الإخلاص والقبول والسداد، ونسأله أن يجنبنا وإياكم هذه المزالق، وأن يطهر نفوسنا من أنواع الشرك جليه وخفيه.

أما حب الرئاسة فهو حالقةٌ تحلق الدين، ومزلقٌ عظيمٌ من المزالق التي يفنى فيها الإخلاص ويذوب، بل إن خطورته على الدين أشد من خطورة الذئب الذي يترك في زريبة غنم؛ كما قال النبيﷺ: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه  [رواه الترمذي: 2376 ، وأحمد: 15784، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].

ذئبان جائعان، وليس واحد، الحرص على المال ذئب، والحرص على الشرف شبهه بذئبٍ آخر.

إذا أرسل الذئب في الغنم ماذا يفعل؟

فكذلك يفعل الحرص على الشرف والحرص على الجاه والحرص على الرئاسة كذلك تفعل في الدين، تفسد الدين إفساداً عظيماً.

والحرص على الرئاسة وحب الرئاسة، والسعي لها شهوةٌ خفيةٌ في النفس ولا شك.

والناس عندهم استعداد للزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة هذا نادر.

قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما رأيت زهداً في شيءٍ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى" [سير أعلام النبلاء: 7/262].

وقال يوسف بن أسباط: "الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا" [سير أعلام النبلاء: 9/170].

ولذلك كان السلف -رحمهم الله- يحذرون أتباعهم وأصحابهم من ذلك، كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالةً فيها: "إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو بابٌ غامضٌ لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة، فتفقد نفسك واعمل بنية".

إذاً، هو خفي جداً، شهوة خفية في النفس.

وقال أيوب السختياني -رحمه الله-: "ما صدق عبدٌ قط فأحب الشهرة"[سير أعلام النبلاء ط الرسالة 6/ 20].

وقال بشرٌ: "ما اتقى الله من أحب الشهرة" [سير أعلام النبلاء ط الرسالة 10/ 476].

وقال يحيى بن معاذ: "لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة".

وقال ابن الحداد: "ما صدّ عن الله مثل طلب المحامد، وطلب الرفعة" [سير أعلام النبلاء: 14/214] المنصب والرئاسة.

مظاهر حب الرئاسة

00:05:46

وحب الرئاسة له مظاهر كثيرة؛ فمنها مثلاً: أنه لا يعمل إلا إذا صدر، فإذا لم يصدر لم يقدم شيئاً ولا حتى رأياً مفيداً ينفع من عنده.

وربما يقول: أَدَعُ غيري يفشل حتى أستلم أنا، مع أنه بإمكانه أن يساعده ويكون التعاون من أسباب النجاح، لكن يريد أن يفشله ليخرج هو إلى الصدارة.

وقال بعض السلف موضحاً مظهراً من مظاهر حب الرئاسة: "ما أحب أحدٌ الرئاسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب".

فهذه أيضاً من علامات حب الرئاسة، ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحداً عنده بخير، ومن عشق الرئاسة فقد تودع من صلاحه.

وكذلك من مظاهرها: ألا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم والخلق، ويحجب فضائل الآخرين، ويكتم أخبارهم حتى لا يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى الأفضل، أو يخشى أن يقارن الناس بينه وبين الأفضل فينفضوا عنه، أو ينزل في أعينهم، ويقل مقداره عندهم.

وكذلك من مظاهر حب الرئاسة: الحسرة إذا زالت، أو أخذت منه، تأمل لو أن إنساناً كان في قريةٍ أو مدرسةٍ أو بلد، فالتف الناس حوله يعلمهم، ثم جاء من هو أعلم منه، فسكن البلد، ونزل فيها، فماذا يحصل؟

سيتركه الناس ويذهبون إلى الأعلم، فهذا السؤال الآن: هل يفرح الرجل أو يحزن؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسؤولية ويرفع عنه التبعة؟ ويفيد الناس أكثر؟ أو أنه يغتم ويخزن؛ لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء، وبهت نجمه بقدوم غيره؟

هب أن شخصاً في مجلس فجاء من هو أعلم منه في المجلس، أو أقدر منه، فهل يفرح لمجيء من هو أعلم منه، ويفسح له المجال في الكلام، أو يغتم لحضور شخصٍ سيتصدر المجلس وتلتفت إليه الأنظار، ويسعى إليه الناس الجالسون بأسئلتهم؟!

لو أن شخصاً في منصب فنقل إلى دائرته أو القسم الذي هو فيه شخصٌ أقدر منه، وشهادته عالية، ويرجح أنه يرشح للمنصب بدلاً منه، فكيف يكون عمله في هذه الحالة؟!

هناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت.

إن هذا خطر عظيم -أيها الإخوة-.

أسباب حب الرئاسة

00:09:33
 
حب الرئاسة كما أن له مظاهراً، فكذلك له أسباب ومن ذلك: التحرر من سلطة الآخرين، يريد أن يكون هو رئيساً، لا يريد أحداً فوقه.

لو أن الذي فوقه كافرٌ أو فاسقٌ أو خائنٌ، لقلنا: نعم، ينبغي إزاحته، لكن لو كان الذي يرأسه تقياً مسلماً أميناً عارفاً، فما هو المبرر للتحرر من هذه السلطة والرئاسة التي فوقه؟

وكذلك من أسبابها: الرغبة في التسلط على الآخرين، النفس جبلت على التسلط، والسعي للتحكم والسيطرة والنفوذ، ولذلك ترى الذين يحبون هذه يريدون التسلط على الآخرين، ويتلذذون بإعطاء الأوامر، هو يصدرُ أمراً وعلى من تحته أن ينفذ، وربما كان عنده ظلمٌ وبغي فيتلذذ بتعذيب غيره، أو أن يسوم من تحته ألوان العذاب بأوامره الجوفاء.

ومن أسبابه كذلك، من أسباب حب الرئاسة وعدم التورع عن السعي إليها: عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة، قال ﷺ:  ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك انتبه -يا أيها الأب في البيت، ويا أيها الرئيس في القسم والدائرة، ويا أيها الصاحب للعمل وتحته عمال-: ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق  وانتبه يا طالب العلم الذي تعلم من تحتك، وانتبه يا أيها المربي الذي تدرب من عندك وتسوسهم، وينبغي أن تسوسهم بأمر الشريعة: ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزيٌ يوم القيامة [رواه أحمد: 22300، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره"].

أولها ملامة: تتوجه إليه سهام الانتقادات.

وأوسطها ندامة: إذا نحي عن منصبه، أو خرج عليه فخلع.

وآخرها: خزيٌ يوم القيامة، بما يلقى الله من الخيانة أو عدم القيام بالمسؤولية، وأداء الأمانة.

آثار حب الرئاسة على الفرد والمجتمع

00:13:01

حب الرئاسة له آثارٌ مترتبةٌ عليه لمن لم يخش الله ولم يتقه فيما وُلِّي.

السعي إليها بغير مبررٍ شرعي من أسباب حبوط العمل، وفقدان الإخلاص؛ لأنه يصبح للإنسان غرض دنيوي يسعى إليه، وهدفٌ يطمح إلى تحقيقه وهو أن يترأس ويتزعم، فيوالي ويعادي بناءً على هذه المصلحة الشخصية، وقد يظلم ويفتري ويقترف من الآثام ما يقترف من أجل الوصول إلى هدفه، ويظلم العباد من أجل المحافظة على منصبه ومكانته، وبناءً على ذلك أي إخلاصٍ يرجى في مثل هذا الموقع؟!

ومن الآثار المترتبة على هذا كذلك: الحرمان من التوفيق، قال النبي ﷺ لـعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألةٍ -أعطوك الإمارة لما سألت وألححت- أوكلت إليها  فالله لا يعينك بسبب حرصك على ذلك، (أوكلت إليها)، والناس لا يعينوك أيضاً؛ لأنك أنت تسعى صاحب الطمع الشخصي- وإن أوتيتها عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها [رواه البخاري: 6622، ومسلم: 1652] دفعوك الناس وقالوا: تعال وتولَّ، أنت أفضل من هو موجود، أنت كفء، نحن نريدك، فإذا دفع إليها دفعاً أعين عليها، الناس يتكاتفون معه، يقومون معه، يعينوه؛ لأنه ليس صاحب طمع شخصي، بل هم الذين دفعوه وحملوه المسؤولية، فيقومون معه، ويعينه الله قبل ذلك؛ لأنه ما تولى هذا الشيء إلا لمصلحة المسلمين، ليس لمصلحته الشخصية هو.

وكذلك من آثار حب الرئاسة السلبي: الوقوع في البدع والضلال، كما قال أبو العتاهية -رحمه الله-:

أخي من عشق الرئاسة خفت أن يطغى ويحدث بدعةً وضلالة

 فهو يزين الذميم، ويقمع المخالف بأي وسيلة، يترتب عليه ظلمٌ كثير إذا لم يخش الله، فيمنع غيره من الأكفاء من الوصول إلى مثل منصبه، ويعرقلهم، ويضع العوائق في طريقهم، كيف وقد تلبس الشيطان بداخله وزين له أمره؟!

هذه لذة لا يتخلى عنها لمن هو أفضل منه إلا من عصمه الله، ليس الأمر سهلاً.

وكذلك: إذا لم يكن على أهلية افتضح، وظهر أمره وتقصيره، وأنه عاجز ليس بأهل، ولا يستطيع حل المشكلات، فإما أن يعاند ويستمر وينجرُّ عليه من الإثم، أو يتخلى مع ما حصل له من الفشل، وهذا أيضاً أمرٌ مر، ولكنه أهون.

لكن السؤال: لماذا تصدر وليس بأهل لذلك؟!

قد يجلس في مجلس علم يتصدر، ويجمع الناس حوله ليعلمهم، ثم يظهر من حاله وفي جلسته وحلقته وإجابته عن الأسئلة ما يفضح حاله ويبين جهله، فيتركه الناس ويقومون عليه، هو الذي تصدر.

"تفقهوا قبل أن تسودوا" المنصب له أحكام، والمسألة تحتاج إلى علم، ولا يجوز لإنسان أن يتقدم بدون علم وأهلية.

هو الذي اختار ذلك، وسعى إليه، فكانت النتيجة مراً وعلقماً.

وكذلك من آثار الحرص على الرئاسة والسعي إليها: الابتلاء بالشحناء، وتفرق الصف، وحصول الصراعات الداخلية والتنافسات، وكلٌ من الحريصين عليها يتهم الآخر بأنه قاصر وعاجز، أو يتهم الواحد الآخر بأنه يريد إقصاءه، ويتبادلون الاتهامات، يقول هذا: تريد أن تقصيني عن موضع التأثير والقيادة.

وهذا يتهم الآخر في مثل ذلك.

فيفشل العمل، أي عمل تجاري دعوي، أو أي عملٍ من الأعمال إذا حصل في هذا الأمر يفشل.

علاج حب الرئاسة

00:18:27

اللجوء إلى الله

00:18:27

وأما علاج هذه الآفة، فلا شك أنه اللجوء إلى الله أولاً وقبل كل شيء.

اللجوء إلى الله بأن يرزقه الإخلاص والسداد وأن يزيل ما في نفسه من المرض والعيب، فإن الإخلاص هو الذي عليه قبول الأعمال: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم، ومجاهد، وقارئ  يقول هذا: تعلمتُ العلم في سبيلك لأعلمه للناس وأنشر العلم، فيقال: تعلمت ليقال: عالم، وذاك يقول: قاتلتُ في سبيلك، فيقال: كلا، قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، قيل عنك أنك جريء، فيسحب إلى النار.

والآخر يقول: قرأت القرآن فيك، فيقال: قرأت ليقال: قارئ، حسن الصوت، خاشعٌ في تلاوته، مؤثر.

وذاك يقول: تصدقت في سبيلك، فيقال: لا، تصدقت ليقال: جواد، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، فيسحبون إلى النار [ينظر الحديث رواه الترمذي: 2382، وقال: "حسن غريب"، والحاكم: 1527، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"].

فلابد من الإخلاص لله ، والتجرد عن النوازع الشخصية، وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين قبل كل شيء.

استشعار المسؤولية

00:19:56

وكذلك من العلاج: استشعار المسؤولية: قال النبي ﷺ:  إن الله -تعالى- سائلٌ كل راع ٍعما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته  [رواه ابن حبان في صحيحه: 4493، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1774].

كل واحد عنده رعية، يسوس أُناساً أو يقودهم ويرأسهم ويتولى عليهم، يحاسب أمام الله يوم القيامة على هذا.

والسؤال يوم القيامة ليس سؤالاً هيناً بل سؤال حساب: إن الله تعالى سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته  [رواه ابن حبان في صحيحه: 4493، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1774].

وكلما كبرت المسؤولية، ازداد الحساب واشتد.

تقدير النفس ومحاسبتها

00:20:54

وكذلك من علاج حب الرئاسة: تقدير النفس، أن يعرف الإنسان قدره: "رحم الله امرأً عرف قدر نفسه"، يعرف المسؤولية وما يتطلبه الوضع، ويعرف إمكانات نفسه، وهل يستطيع أن يقوم بالمسؤولية أو لا، هذا الحساب للنفس مهم، هل أنا أصلح لهذه المسؤولية؟ هل عندي قدرات لأن أقوم بهذه المسؤولية؟ هل عندي ما أستطيع أن أملأ به هذا المكان وأعطيه حقه وأؤدي الأمانة؟

محاسبة النفس في غاية الأهمية، فإذا عرف أنه ضعيف لا يقدم، قال النبي ﷺ لـأبي ذر -وهذا حديث عجيب- فعلاً: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها  [رواه مسلم: 1825].

وقال في رواية أخرى:  يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم  [رواه مسلم: 1826].

النبي ﷺ يعرف شخصية أبي ذر جيداً، فـأبو ذر -رحمه الله ورضي عنه وأرضاه-  صادق، من أصدق الناس لساناً، ورع، زاهد في الدنيا، عنده مناقب كثيرة، ومن السابقين للإسلام، ضرب حتى صار نصباً أحمر من الدم الذي نزل عليه، ضربه كفار قريش لما جهر بإسلامه فما خاف، ومن أوائل السابقين للإسلام.

لكن ليس كل فاضل عابد عنده علم وزهد وورع يصلح للقيادة.

القيادة تتطلب متطلبات ومواصفات معينة، قال النبي ﷺ: يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي  أحب لك أن تبقى في جانب السلامة، أن تظل على خير، ألا تظلم أحداً ولا تبوء بإثم أحد: إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين  لا تتأمرن على اثنين ولو في طريق سفر  ولا تولين مال يتيم  [رواه مسلم: 1826].

كان عنده شدةٌ يأخذ نفسه بها، وربما يرغم غيره ويدعو غيره عليها، يحملهم عليها، فلا لا يطيق زهده وورعه من تحته، ولذلك قال: لا تتأمرن على اثنين .

التفكر في العاقبة يوم الدين

00:24:11

ومن علاج حب الرئاسة: التفكر في العاقبة يوم الدين، يوم الجزاء والحساب، يوم يحاسب كل إنسانٍ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30] يوم الحساب؛ لأن فيه محاسبة، قال النبي ﷺ: إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟ أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل" [رواه البزار: 1597، والطبراني في الأوسط: 6891، و حسنه الألبان في صحيح الترغيب والترهيب: 2173].

وقال ﷺ:  إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامةً وحسرةً يوم القيامة، فنعمَ المرضعة ، وبئست الفاطمة  [رواه البخاري: 7148].

((نعم المرضعة)) في الدنيا بما تأتي على صاحبها من المنافع، وتجر له من الجاه والأموال والبسط والنفوذ.

ولكن ((بئست الفاطمة)) بالموت الذي يهدم لذاتها، ويورث النفس الحسرات، بما سيكون يوم القيامة.

هذا أمر خطير ينبغي أن يحسب له حسابه، لا يتقدم إنسان ويتجرأ على منصب أو مكان أو مسؤولية إلا وهو يضع نصب عينيه ماذا سيحدث له يوم القيامة، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، قال ﷺ: ليتمنينَ أقوامٌ ولوا هذا الأمر أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يلوا شيئاً  [رواه أحمد: 10737، وقال محققو المسند: "حديث حسن"].

سيأتي عليهم يوم يندمون ويتمنون لو أنهم خروا من السماء -نجم الثريا الذي في السماء- خروا إلى الأرض وأنهم ما تولوا شيئاً من أمور الناس، لما حصلَ منهم من الخيانة أو التقصير أو الإثم والاعتداء والظلم.

وقال ﷺ:  ليودَّنَّ رجلٌ أن خرَّ من عند الثريا وأنه لم يلِ من أمر الناس شيئاً  [رواه أحمد: 10927، وقال محققو المسند: ""حديث حسن"].

ولذلك كان أحد الخلفاء يقول: "وددت أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي" من عظم استشعاره للمسؤولية.

ولو حصل خطأ أو شيء جلس يبكي، كيف هو مقصر، كيف لم يعلم عن هذه الأمة، أو كيف لم يعلم عن هؤلاء الناس والأفراد.

وقال ﷺ مبيناً خطورتها أيضاً:  لابد من العريف، والعريف في النار .

أما العريف فهو: الذي يلي أمر القبيلة أو الجماعة من الناس.

رئيس الفوج من الجنود المتولي عليهم، المراتب العسكرية كل مرتبة تحته أشخاص، كلما ازدادت رتبته ازداد عدد الأفراد الذين يشرف عليهم:  لابد من العريف، والعريف في النار  لابد من العريف؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم أمر الناس بدون عرفاء، لابد من وجود مسؤولين ينظمون الأمور.

((والعريف في النار)) إذا لم يعدل، فهذا مقيد بعدم العدل وحصول الظلم منه يكون في النار.

أما إذا عدل واستقام، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل [رواه البخاري: 6806] تولى وعدل.

التفكر في الدنيا وسرعة انقضائها

00:27:04

وكذلك من الأشياء التي تعين على علاج حب الرئاسة في النفس: إيثار الباقي على الفاني، والتفكر في هذه الدنيا وزوالها، وسرعة انقضائها وهمومها وغمومها وأحزانها، وقصرها، وهوانها على الله، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي جناح بعوضة ما أعطاها الكافر ولا شربة ماء.

جاء في البخاري: أن عبد الله بن عمر حضر خطبة من تولى الملك في زمنه، قال الخطيب الذي تولى: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر -يعني: ينازعنا فيه أو يظن أن له فيه حق- "من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليطلع لنا قرنه" -فليظهر وليقف- "فلنحنُ أحقُّ به منه ومن أبيه" -نحن أحق بهذا الأمر منه ومن أبيه وعبد الله بن عمر جالس- قال عبد الله بن عمر: "فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام" -لأنه كان متأخراً في الإسلام هو وأبوه -يقول عبد الله بن عمر : "هممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام من السابقين الأولين" - قال ابن عمر: "فخشيت أن أقول كلمةً تفرق بين الجمع وتسفك الدم"، ويحمل عني غير ذلك، "فذكرت -هذا الشاهد- فذكرت ما أعد الله في الجنان" [رواه البخاري: 4108] -أي: لما تذكر ما أعد الله في الجنان سكت وما تكلم، فالمسألة الآن في الرئاسة، ابن عمر كاد أن يتكلم لكنه سكت، لماذا سكت؟- قال: فذكرت ما أعد الله في الجنان فهانت علي" هينة،  لا تساوي شيئاً.

التفكر في حال السلف

00:29:32

وكذلك من علاج حب الرئاسة في النفس ومطاردة هذا النازع الموجود: التفكر في حال السلف في قضية موقفهم من الإمارة والرئاسة، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: "كان سعد في إبلٍ له وغنم" -ترك البلد جلس في الإبل والغنم "فأتاه ابنه عمر بن سعد، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما انتهى إليه فإذا هو ابنه عمر، قال: يا أبت أرضيتَ أن تكون أعرابياً في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك؟" -أنت تخرج خارج المدينة بالإبل والغنم، والناس يتنازعون في الملك، وأنت من الصحابة السابقين الأولين، فـسعد بن أبي وقاص ما خرج رغبة في الدنيا والترويح عن النفس والغنم والإبل، لكنه هجر الفتنة، وترك هذا التنازع- "قال: فضرب سعدٌ صدر عمر، وقال: اسكت يا بني، فإني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي [رواه البخاري: 2965].

غني النفس، تقي في نفسه، خفي يخفي عمله، ولا يطلب رئاسات ومناصب، يكفيه ما هو فيه من شؤون نفسه.

وكذلك حال الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، كيف كانوا يقولون.

وعمر بن عبد العزيز بكى عدة مرات على المنبر، ويقول: يا أيها الناس: أنا أخلع نفسي ولا ألزم أحداً بطاعة، والناس هم الذين يصرون عليه، ويقولون: بلى، أنتَ وتبقى، ويؤكدون له العهد.

كذلك العلماء لما تهربوا من القضاء، القضاء مسؤولية خطيرة جداً: قاضيان في النار، وقاض في الجنة   [رواه الترمذي: 1322، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2195] كيف كان هروب العلماء من القضاء؟

القضاء منصب ومسؤولية وسلطة، وكان القاضي من أعظم الناس في زمانه، وكلمته لا تنزل إلى الأرض؛ فقد كانت مسموعة، وكانوا يهربون، ويضربون عن القضاء ولا يتولونه، ويسجنون ولا يتولونه، يرغمون يدفعون ويأبون، وكانوا يهربون من منصب الفتوى مع أنهم أهل، لكن الواحد يرد الفتوى إلى الآخر، يقول: اذهب فاسأل فلاناً؟ لا يريد أن يتبوأ منصباً ويتصدر في الفتوى، لا يتصدر الفتوى بل يحيلها على غيره، وكانت الفتوى تذهب تدور على نفر وترجع إلى الأول كل واحد يرحلها إلى صاحبه، فهربوا من المسؤوليات والقضاء والمناصب والفتوى هربوا يريدون النجاة لأنفسهم، لا يريدون تبعات، لم يكن قصدهم التهرب من المسؤولية، وإنما كان الابتعاد عن النار.

التعود على الطاعة بالمعروف

00:33:27

وكذلك من علاج هذه النزعة في النفس: التعود على الطاعة بالمعروف، وهضم النفس بأن يقبل أن يكون جندياً، يوضع حيث يوضع.

ألم تر أنه ﷺ أثنى على صنف من الناس فقال ﷺ:  طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه، مغبرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة  -إذا وضعوه يحرس حرس، وإذا وضعوه في مؤخرة الجيش في الساقة بقي في المؤخرة، ما قال: لا، لابد أن أكون في المقدمة وفي الصفوف الأولى، أنا في آخر الناس لماذا؟  إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة  ما دام في ذلك مصلحة المسلمين، وما دام هذا الذي أمره به القائد المسلم الذي يحكم فيهم بشريعة الله يطيع وينفذ- إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع [رواه البخاري: 2887]هذا الرجل من هوانه على الناس أنه إذا استأذن على إنسان لا يؤذن له، وإن شفع في شخص لا يشفع، مغمور مجهول ليس له قدر، فلذلك لا تقبل شفاعته عند الناس، لكن هذا عند الله شأنه عظيمٌ جداً.

عدم تولية من طلب المنصب

00:35:09

وكذلك ينبغي على من كان له الأمر ألا يولي من طلب المنصب؛ كما قال النبي ﷺ: اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا من طلب العمل  العمل: يعني: الرئاسة والإمارة أو طلب المسؤولية، قال: اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا  يعني: هذا متهم بالخيانة من طلب العمل  العمل أو العمال، كان الخلفاء يوظفون العمال على البلدان، فيقال: عمر استعمل عاملاً، أو جاء عامله الذي في البصرة، يعني: من وكله بأمر البصرة وجعله أميراً عليها، يقول النبي ﷺ في الحديث الحسن: اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا من طلب العمل .

وقال ﷺ: إنا لن نستعمل على عملنا من أراده [رواه البخاري: 2261].

فمن المعجلات لشقاء هذا الشخص الذي عنده هذه النزعة: أنه إذا جاء يطلبها لا يعطاها، يمنع منها: إنا لن نستعمل على عملنا من أراده .

وعن أبي موسى قال: دخلتُ على النبي ﷺ أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: أمرنا على بعض ما ولاك الله ؟ أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل من المناطق، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي ﷺ:  إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه [رواه مسلم: 1733].

وكذلك على المربين مراقبة النوازع هذه عند من يربونهم، فلا يسمحون لمن طلب أمراً من هذه المسؤوليات التي يتحملها إلا إذا كان عن شيءٍ شرعيٍ صحيح.

وعن أبي بردة قال: قال أبو موسى: "أقبلت إلى النبي ﷺ ومعي رجلان من الأشعريين" -وهذه الرواية الأخرى في مسلم أيضاً مع الرواية السابقة- "أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل" يعني: أعطنا ولاية- والنبي ﷺ يستاك بالسواك، فقال: ما تقول يا أبا موسى؟ أو يا عبد الله بن قيس  قال: فقلتُ: والذي بعثك بالحق، ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرتُ أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصه، فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس  فبعثه إلى اليمن أميراً عليها، ثم أتبعه معاذ بن جبل" [رواه مسلم: 1733].

شبيهة والرد عليها

00:38:01

وهنا شبهة أو قضية يمكن أن تثار، في المجتمع الإسلامي الصحيح، لو قال أحد: إن الناس كثروا والمجتمع اتسع، ولا أحد يعرف بالضبط طاقات الموجودين، فلابد أن يعلن كل إنسان عن نفسه، وأن يقول: أنا عندي كذا وأنا مستعد أن أتحمل كذا، لأن الناس كثيرون مختلطون، فكيف تكون طبيعة التولية في المجتمع الإسلامي؟

في المجتمع الإسلامي الصحيح لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم، وعمل الدعايات لأشخاصهم ليختاروا للمناصب والوظائف، لأن أصحاب الفضل والأحقية معروفون عند الناس، والمجتمع يعلم عملهم وإخلاصهم، والمجتمع الإسلامي الصحيح يبرز بمسيرته الصحيحة الطاقات المخلصة.

لكن عندما تكون هناك انحرافات في المجتمع يُظلم الذكي، وصاحب الطاقة وصاحب القدرة يُظلم ويغمط حقه.

ولذلك يقع هناك ظلمٌ كثير في تولي المسؤوليات.

وأما في المجتمع الإسلامي الصحيح فصاحب العلم معروف وصاحب العطاء معروف وصاحب الفضل معروف.

فالمجتمع صحي فهو يبرز بطبيعته دون تكلف ودون تزكيات ودون دعايات يبرز أصحاب الطاقات المخلصة.

تصور جيشاً إسلامياً من جيوش الفتح الإسلامي، قائده مخلص وجنوده مخلصون خلال القتال وخلال الحركة يتبين صاحب القدرة الذي يسد الثغرة، وصاحب الاقتراح الوجيه، وصاحب الخبرة، يتبين الجريء والفعال.

فحركة المجتمع الإسلامي الصحيح تفرز وتبرز الطاقات فلا تحتاج المسألة إلى تزكيات ولا إلى دعايات.

وكذلك في المجتمع الإسلامي الصحيح المناصب والوظائف تكليفٌ ثقيل لا يغري أحداً من الذين يخافون الله بالتزاحم عليه.

وفي المجتمع الإسلامي الأول تميز السابقون من المهاجرين ثم الأنصار، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، ومن أنفق قبل الفتح وقاتل، حصلت فيهم وأبرزت الطاقات، فظهر هذا للأذان، وهذا لقيادة الجيش، وهذا للفتوى، وهذا للقضاء، وهذا للإقراء، وهذا للإمامة، وهذا للإمارة، أفرز المجتمع أصحاب الطاقات.

ولذلك ينبغي السعي إلى إقامة المجتمع الإسلامي بالدعوة إلى الله ، ونشر الخير في الناس، وتربية الناس عليه، حتى يتم التخلص من كل هذه السلبيات والمعوقات والظلم الذي يمنع من ظهور أصحاب الطاقات.

هذا المجتمع الإسلامي الصحيح لا يبخس الناس بعضهم بعضاً، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين، وعندئذٍ تنتفي الحاجة إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا مراكز التوجيه والقيادة، ومهما كبر المجتمع المسلم واتسع، فإن أهل كل محلة متعارفون متواصلون يعرفون بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم، كل دائرة، كل حارة، كل منطقة، كل مدرسة معروف صاحب الطاقة، صاحب القدرة على تحمل المسؤولية، مهما كان المجتمع كبيراً، لكن المجتمع يتقسم مؤسسات وشركات ودوائر ومدارس ومجامع.

فإذا كان كل مجمعٍ فيها يسوده الشرع أفرز وأبرز كل مجمع ٍفيها من هو قادرٌ ومن هو صاحب الموهبة والطاقة لتحمل المسؤولية، فيوضع الرجل الصحيح في المكان الصحيح.

وينبغي لأهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي أن يكونوا متجردين لله من كل الانحرافات والأهواء عند ترشيح أحدٍ لمنصب من المناصب، ولو حصل اختلافٌ في الرأي في ترشيح شخصٍ فينبغي سرعة الأوبة؛ لأننا نحتاج إلى الوحدة، ونحتاج إلى التكاتف والتعاون، كما جاء في صحيح البخاري في توضيح هذا المفهوم في هذه القصة: "قدم ركبٌ من بني تميم على النبي ﷺ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر لـعمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]. [رواه البخاري: 4367]

الخلاف حصل بين أعظم رجلين بعد النبي ﷺ.

الخلاف يمكن أن يحصل، لكن كانوا يسرعون الأوبة.

الفرق بيننا وبين الصحابة من الفروق العظيمة، ليس أنهم لا يخطئون ونحن نخطئ، يمكن أن يخطئوا، لكن سرعان ما يتدارك الخطأ، ويرجع كل واحدٍ منهما، يفيء إلى الحق، ويرجع إليه.

وينبغي كذلك على من ابتلي بالرئاسة والتصدر أن يكون خاشعاً لله، متواضعاً لعباد الله، قال الذهبي -رحمه الله- عن القاضي عياض: "وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعا وخشية لله -تعالى-" [سير أعلام النبلاء: 20/215] هذا الشاهد الآن، فالواحد يمكن أن يرشح ويصل إلى منصب، أو وظيفة، أو عمل، لكن ماذا عليه أن يفعل هذا الواصل؟

قال الذهبي عن القاضي عياض: "وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعاً وخشية لله -تعالى-" [سير أعلام النبلاء: 20/215] فهكذا ينبغي أن يكون.

لماذا طلب يوسف -عليه السلام- المنصب؟

00:45:17

وبعد هذا العرض لهذا المرض في بعض مظاهره وأسبابه وآثاره وعلاجه، قد يطرح سؤالٌ ويثار وهو: لماذا طلب يوسف  المنصب؟ وقال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ  [يوسف: 55]؟ وهل ينافي هذا ما تقدم ذكره من قضية ترك السعي إلى هذه المطامح؟ وما معنى قول الله :وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان: 74]؟

أما بالنسبة للآية قال العلماء في هذه الآية: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً  [الفرقان: 74] أي: واجعلنا أئمة يقتدى بنا من بعدنا، اجعلنا على درجة من العمل الصالح والخير حتى نكون قدوة للناس بأعمالنا، يكون واقعنا قدوة، يجذب الناس إلى الإسلام، ونكون نحن منارات لغيرنا.

فهم لا يقولون للناس: يا أيها الناس، هلمُوا إلينا، يا أيها الناس، قلدونا، يا أيها الناس، اعملوا مثلنا، يا أيها الناس، انظروا إلينا، وإنما يطلبون من الله، وليس من الناس: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً  [الفرقان: 74] أئمة في الخير يقتدى بنا من بعدنا.

وأنتم لا يخفى عليكم -أيها الإخوة- أن الذي يَسنُ سنةً حسنةً، يكون له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، وإذا اقتدى الإنسان بإنسان آخر في الخير، فيكون للمقتدى به من الأجر مثل المقتدي من غير أن ينقص من أجر المقتدي شيء.

فهذا مطلب عظيم أن الإنسان يدعو الله أن يجعله من أئمة المتقين، يعني: يطلب من الله أن يجعل له باباً من أبواب الأجر، وهو أن يكون هو على خيرٍ فيقتدي به الناس، وليس أن يرائي ويتمظهر، وأنه يقول للناس: انظروا إلي، تشبهوا بي.

بل يخلص في نفسه لله، والله يقيض من الناس من يشعر به وينظر إليه، ويقتدي بفعله.

الله الذي يقيض، وليس هو الذي يقول: يا أيها الناس، تعالوا وانظروا إلى حالي، وامشوا ورائي.

أما بالنسبة ليوسف : فأنتم تعلمون أن يوسف كان في بلدٍ كافر وأهل جاهلية.

وأنتم تعلمون أن يوسف قد علم من الله أن البلد سيقدم على محنة ومجاعة عظيمة سبع سنوات قحط، يمكن أن يهلك فيها الأخضر واليابس، وألا يلقى إنساناً ولا دابة إلا هلك من القحط، ويوسف يعلم من نفسه أنه قادرٌ على القيام بهذه المسؤولية.

ثم إن هذه المسؤولية تنقطع دونها أعناق الرجال؛ لأنها ليست مسؤولية ترف، وأنه يقعد على أريكته ويتمدد، وينظر الخدم من حوله أن يقوموا عليه، والناس أن يدخلوا عليه ويقبلوا يديه.

المسؤولية هذه مسؤولية شائكة جداً، كيف توفر من زرع سبع سنين قوتاً لسبع سنين أخرى؟ كيف يكون عندك من الاقتصاد والتدبير والحكمة ما تستطيع به أن تقدم للشعوب -ليس شعباً واحداً، ليس فقط شعب مصر، وإنما من حوله - ولذلك جاء إخوة يوسف من فلسطين يطلبون الميرة والمدد، يوسف يريد أن يقوم بعمل إطعام شعب جائع، سبع سنين سيجوع الشعب، وكذلك شعوبٌ أخرى ستكون أيضاً ممن يأتي ليأخذ الميرة والطعام، هذه مهمة ثقيلة.

ثم يوسف يريد أن يجعل من هذا المنصب وسيلةً للدعوة إلى الله -عز وجل-.

ثم يوسف يعلم أنه لا يوجد هناك من هو أفضل منه للقيام بهذا المنصب، وتحمل هذه المسؤولية، ولذلك لا توجد شبهة، فيقول الإنسان: أراد المنصب بطمع شخصي ومطمح دنيوي؛ لأن المسألة صعبة وشاقة.

ثم هؤلاء كفرة وهو يريد أن يدعوهم إلى الله، ولا يوجد أكفأ منه.

ثم إن العزيز أشعره: قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف: 54] فانتهز اللحظة المناسبة وكان حصيفاً في اختيارها، لحظة يطلب فيها المنصب للقيام بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة، وليكون مسئولاً عن إطعام شعبٍ كامل وشعوبٍ مجاورة، طيلة سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع، وسبع سنوات من التدبير، فهذا ليس ظلماً أن يطلبه لنفسه، ولا مغنماً شخصياً، وإنما هي تبعةٌ يهرب منها عظماء الرجال.

ولذلك قال العلماء: يجوز للمرء أن يطلب المنصب إذا رأى الأمر في يد الخونة أو اللصوص أو الضعفاء، فيجوز أن يتقدم هو وليطلب المنصب لإنقاذ الموقف، فإذا كان بيد من لا يؤدي أمانة، وعلم من نفسه الكفاية، وأنه ليس هناك من هو أفضل منه، جاز أن يطلب.

إذا كان يعلم لنفسه الأمانة والكفاءة وليس هناك من هو أفضل منه، وهذه الثغرة لا يوجد فيها من يقوم بحقها، ولا يوجد هناك من يلتفت إليه ليطلب منه هذا الطلب، يجوز له هو أن يتقدم.

بل لو كان هناك كافر في هذا المكان أو المنصب أو خائن، ربما يأثم لو لم يتقدم لإنقاذ الموقف؛ لأنه يريد مصلحة المسلمين، لا مصلحته الشخصية.

وكذلك إذا كان مستعملاً على عمل، وهناك عملٌ آخر يرى أنه أنسب له، وأكثر إتقاناً في مجال الدعوة إلى الله أو غيره من الأعمال، أو يرى مصلحةً لم يرها غيره، فلا بأس أن يطلب ذلك إذا أمن الغرور والتطلع الشخصي.

يطلب ذلك بتعريض وأدب، وليس بفمٍ مفتوح وعنجهية، ويقول: أنا لها، أنا لها، وإنما بتعريضٍ وأدب.

فالإنسان قد يكون في موقع فيطلب الانتقال إلى موقعٍ آخر يسد ثغرةً أو يصلح خللاً لعلمه أنه ليس هناك من هو أكفأ منه، دون غرور، هذه هي الحقيقة التي يعلمها باجتهاده.

هذا يختلف عن حال من لم يكن لديه عمل أصلاً، فهو يبحث عن عمل، -أقصد بالعمل: المنصب أي: الرئاسة- أو من كان له مكانٌ صغير، فهو يقول: ولوني في المكان الأكبر، التهمة هنا موجودة وواضحة، ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله في هذا الأمر، وليست المسألة سعياً للرئاسة والمسؤولية.

لا سعياً للرئاسة المهلكة، والمطامع الشخصية الدنيوية، ولا تهرباً من المسؤولية التي تستطيع أنت أن تقدم فيها ما تستطيع للإسلام والمسلمين.

وهذه خلاصة الموضوع، وهذا هو القسم الأول من هذا الدرس.