الجمعة 11 شوّال 1445 هـ :: 19 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

غض البصر


عناصر المادة
الخطبة الأولى
حكمة الله تعالى تتجلى في تشريعاته
العلاج الشرعي بقاعدة سد الذرائع
تعاليم الإسلام تهذيب وتزكية للمجتمع المسلم
الإسلام دين الفطر السوية والعقول السليمة
خطورة الصور المحرمة
الخطبة الثانية
الحذر من خطوات الشيطان
حال السلف مع غض البصر

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102].يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1].يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:70، 71].

أما بعد:

حكمة الله تعالى تتجلى في تشريعاته

00:01:05

فإن هذا الدين متين، شرع الله فيه ما يصلح العباد، عباد الله: فارعوا سمعكم لما يخبرنا عنه ، وما يأمرنا به في كتابه العزيز: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ۝ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [سورة النور:30، 31] توجيهات علوية من الله ؛ لما فيه صلاحنا وفلاحنا، وطهارتنا، وعفتنا، جاء بها الله، العليم الخبير ببواطن العباد، البصير بهم، وبما يصلح لهم هذه التوجيهات ينبغي أن يكون لها في نفوسنا الأثر العظيم.

أيها المسلمون: إن هذا البصر سنسأل عنه يوم القيامة: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [سورة الإسراء:36] هذا البصر نعمة من الله، وفقده بعقوبة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [سورة الأنعام:46] فقده قد يكون بعقوبة من الله على ما أحدث العباد، وقد يكون نعمة الله يبتلي بها من يشاء فيصبر فله الجنة، قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [سورة النور:30]، ولم يقل يغضوا أبصارهم؛ لأن هناك نظرًا جائز كنظر الرجل إلى زوجته، ونظر القاضي إلى الشاهد، ونظر الخاطب إلى المخطوبة، ونظر الطبيب إلى المريضة عند الحاجة، فهذا من النظر الجائز المباح، استثناه الله تعالى، وقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [سورة النور:30]، وليس الرجال مأمورون بغض النظر، وإنما النساء أيضا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [سورة النور:31]، فلا يجوز لها حتى هي النظر إلى الرجال، أدب نفسي، واستعلاء على الشهوات، واستعلاء على النفس، التي تريد الاطلاع على المحاسن، والمفاتن، في الوجوه والأجسام، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [سورة النور:30] أطهر لمشاعرهم، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [سورة النور:30]؛ حتى لا تتلوث نفوسهم بالانفعالات الشهوانية المحرمة، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [سورة النور:30] أطهر للجماعة وللمجتمع عموما، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [سورة النور:30] هو العليم بحركات النفوس والجوارح.

وتأمل - يا عبد الله- لماذا قدم غض البصر على حفظ الفرج؟ فقال في الآية: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذلك؛ لأن النظر بريد الزنا، وهو الذي يوصل إليه، ولذلك أمر بغضه أولا، والعين تزني وزناها النظر إلى ما حرم الله، وقد قال الله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر:19]، وخائنة الأعين: اختلاس النظر إلى المحرم من غير أن يفطن إليه أحد.

العلاج الشرعي بقاعدة سد الذرائع

00:05:16

عن ابن عباس  قال في هذه الآية: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ هو: الرجل يكون في القوم، فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره، وقد أطلع الله من قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ فيه وعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له.

وقد جاء في الأحاديث موافقة للكتاب العزيز، ومؤكدة لما اشتمل عليه من غض البصر، فعن جليل  قال: "سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة، فأمرني: أن أصرف بصري[1]، وفي رواية: نظر الفجاءة[2]، وهو أن يقع البصر على الأجنبية بغير قصد، فإذا جاءت فجأة أمام ناظريه، فعليه أن يغض بصره، ولا يديم النظر، ولا ينظر مرة أخرى، وهذا معنى حديث بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة[3]، وهو حديث حسن، لا تتبعها يعني: لا تعقبها، ولا تجعلها تأتي بعدها، بعد الأولى، لك الأولى؛ لأنها بغير قصد، وليست لك الآخرة، والثانية والثالثة؛ لأنها باختيارك، فتكتب عليك، قال قيس بن حازم - رحمه الله: النظرة الأولى لا يملكها صاحبها، ولكن الذي يدس النظر دسا، أيها المسلمون: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات بكل لحظة، ولا تستثار فيه هذه الأمور المحرمة، ولذلك جاء بأمور وتوجيهات، فمنها قوله ﷺ: إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: مالنا، بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها" كانت البيوت ضيقة غرفة لرجل وزوجته، غرفة وحجرة، ليس كل البيوت كانت متسعه، لا يجدون مكان واسع للجلوس إلا على حافة الطريق، قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، فبدأ به أولًا، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر[4]، إذًا، غض البصر لمن يكون في الطريق، وكذلك جعل الله الاستئذان إجراءً احتياطيًا، وأمرًا احترازيًا من أجل عدم النظر إلى العورة؛ ولذلك فإنه ﷺ كان إذا جاء باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، وذلك؛ لأن الدور لم يكن عليها ستور، وحتى لو كان لها أبواب، فإن الباب إذا فتح فجأة قد يقع النظر على شيء من عورات أهل البيت؛ ولذلك يكون من طرف الباب الذي إذا فتح لم يقع النظر على شيء، ولا يواجه الباب مباشرة، إجراء احترازي؛ من أجل عدم وقوع البصر على حرام.

تعاليم الإسلام تهذيب وتزكية للمجتمع المسلم

00:09:32

أيها المسلمون: إن الاستئذان يكون حتى داخل البيوت، وقد علمنا الله بكتابه أن نؤدب أولادنا؛ بأن لا نجعلهم ذاهبون غرفة نوم الأبوين مداهمة، وإنما لابد من الاستئذان في الأوقات التي يغلب فيها كشف العورة ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ [سورة النــور:58].

إن الاستئذان يكون حتى داخل البيوت، وقد علمنا الله بكتابه أن نؤدب أولادنا؛ بأن لا نجعلهم ذاهبون غرفة نوم الأبوين مداهمة، وإنما لابد من الاستئذان في الأوقات التي يغلب فيها كشف العورة ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ.

وحتى المحارم في البيوت الأم في حجرتها، والأخت في غرفتها، لابد من الاستئذان عليهن قبل الدخول، فقد أخرج البخاري في الأدب، إسناد بالمفرد عن نافع، كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخله عليه إلا بإذن، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: استأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها، وكذلك سأل رجل حذيفة استأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره.

ومن طريق ابن طلحة دخلت مع أبي على أمي، فدخل واتبعته، فدفع في صدري، وقال: تدخل بغير إذن، ومن طريق عطاء سألت ابن عباس: استأذن على أختي؟ قال: نعم. قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانه، وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة.

فحتى المحارم في البيوت، وفي غرف النوم، كل ذلك من أجل أن لا يقع البصر على شيء لا يجوز أن يقع عليه، وأن لا تكون اللقطات والمناظر محفوظة في الأذهان، وإنما ينشأ الأطفال منذ نعومة أظفارهم على النظافة والسلامة، وليس على الصور العريانة.

وقد شاع في وقت من الأوقات أن النظر المباح، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة بين الجنسين، وإقامة العلاقات، والتعارف أمور تزيل الكبت، وتجنب العقد النفسية، وتخفض من الضغط الجنسي، ونحو ذلك، ولكن الناظر إلى مجتمعات الانحلال، وما عند الغربيين الذين غرقوا في هذه الشهوات حتى الثمالة، رشفوا من كأسها، هؤلاء الذين ليس عندهم حجاب، ولا غض بصر، ما عندهم إلا الانحلال، ومطلق الحرية في إقامة العلاقات، هل حصل عندهم تهذيب الدوافع الجنسية؟ ما حصل عندهم إلا السعار المجنون الذي لا يرتوي ولا يهدأ، وإنما يعود إلى الظمأ والاندفاع، وعندهم الأمراض النفسية، والبدنية من البرود وغيره، وأنواع العقد، والشذوذ الجنسي، والتلاهف على الجنس الآخر، وشيوع الاغتصاب بالرغم من كافة أنواع الحريات المطلقة في تلك المجتمعات، مما يدل دلالة على أن الله حكيم خبير، وأنه لما شرع غض البصر، وأمر بالحجاب، ونهى عن الخلوة، وسائر إجراءات الاجراءات والاحترازات إنما هو لمصلحة الناس أجمعين.

إن الإسلام يهمه أن يمنع المنكر من جميع جهاته، ليست القضية في غض البصر فقط، وإنما أيضًا في تغطية العورة، ولذلك قال النبي ﷺ: المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان[5]، يعني: زينها في أعين الناظرين؛ ولذلك كانت عورة كلها، من أعلى شيء في رأسها إلى أخمص قدميها، كلها عورة، المرأة عورة بنص حديث النبي ﷺ، فإذا احتجبت المرأة وراء الثياب أو الجدران فإلى أي شيء ينظر الناس، ولو كان عند بعضهم رغبة في النظر.

الإسلام دين الفطر السوية والعقول السليمة

00:14:01

اجراءات متكاملة واحترازات عظيمة من الشارع ، وحتى الرجال لهم عورات يجب عليه تغطيتها، وكذلك قال ﷺ: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة[6]، مما يدل على أن لكل من الجنسين أمام بين جنسه عورة لا يجوز النظر إليها، وكذلك أمر بالزواج، ورغب في الصيام لمن لم يستطعه، وحتى المتزوج إن له إجراءً إذا وقع على شيء مما يثير الشهوة في نفسه؛ ولذلك كان ﷺ مرة جالسًا في أصحابه فدخل ثم خرج، وقد اغتسل، قلنا: يا رسول الله قد كان شيء، قال: أجل، مرت بي فلانه، فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي، فكذلك فافعلوا، فإن من أماثل أعمالكم إتيان الحلال[7]، وللحديث شاهد من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله ﷺ رأى امرأة فأتى زينب، وهي تمعس منية يعني: تدبغ أديمًا أو جلدا، فقضى حاجته، وقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله فإن ذاك يرد ما في نفسه[8]، ونظره ﷺ لم يكن عمدًا إلى حرام أبدا، وإنما حصل فجأة، ثم إنه ﷺ أنزه من أن تثور في نفسه شهور لأمر محرم، وإنما فعل ذلك؛ لكمال إعفاف نفسه، وتعليم الأمة ماذا يفعل أحدهم إذا وقع بصره على امرأة فأعجبته؟ أو رأى منظر فجأة فثارت في نفسه شهوة، فعلم الأمة.

ثم أيها الإخوة: إن الشارع قد منع إتيان وغشيان أماكن الفساد، والمحرمات بالإضافة إلى ذلك، وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله، أو شيء من انكشاف العورات، ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره، والتي كشفت بقصير، أو ضيق، أو شفاف، أو برقع فاتن، أو نقاب واسع، أو عيون قد غشاها الكحل، ونحو ذلك من وسائل الفتنة، ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي شاعت فيه الصور في المجلات أدخل أي مكان فيه مجلات، فإذا نظرت إلى رفوفها هل تكاد تجد مجلة ليس على غلافها صورة امرأة إنه أمر من الصعوبة بمكان.

وهذه الدعايات التي تعرض فيها صور النساء للجذب –بزعمهم- حتى لو لم يكن هناك علاقة بين المنتج والمرأة، حتى في المبيدات الحشرية، وغير ذلك، وقد بلغت بهم الدانات أنهم يضعون صورة الرجال، صور الرجال في المنتجات الخاصة بالنساء عند الدعاية لها، وعكس ذلك أيضا، وصورة المرأة طاغية غالبة، وربما وقفت ساعات ... أمام سيارة ونحوها؛ لعرض السيارات لابد من النساء.

خطورة الصور المحرمة

00:18:32

وهكذا -أيها المسلمون، وهكذا تقوم الدعاية المحرمة، أكثر من تسعين في المائة من أنواع الدعاية والإعلان في هذا الزمان محرمة، ومن أسباب التحريم غير الكذب والغش، والتدنيس أنهم يجعلون صور النساء فيها ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي انتشرت فيه هذه الصور الفاتنة، التي تنتقى فيها أجمل النساء للعرض، وتوضع في المجلات والدعايات، وهذه الأفلام والشاشات؛ ولذلك كانت فتاوى العلماء واضحة جدًا في قضية النظر إلى صور النساء في المجلات، أو في الأفلام، ولو قال من قال: إن هذه الصور ليست حقيقية، إنما هي صور ليست المرأة التي نراها امرأة تلمس، أو يذهب معها، نقول: إن ذلك وسيلة للفتنة، وثوران الشهوة، وقد أتى هذا الصحن الذي يلتقط الموجات ليكمل ما نقص من المسلسل مسلسل إثارة الغرائز.

حتى صار الناس -يا عباد الله- يا أمة الإسلام، يا أيها العقلاء، يا معشر المسلمين، يا أصحاب الغيرة، انظروا ماذا حصل في حالنا؟ وكيف تبدلت الأمور؟ منذ سنتين كان يقال: في بيت فلان دش؛ لقلته يشير الناس إلى بيته، من بين البيوت في الحارة أو الشارع، الآن يدخل بعضهم إلى بيت أناس فيقول لهم: أنتم لس ما عندكم دش؟ ما بعد اقتنيتم الدش! مع أنه قبل فترة يسيرة كان نادرا قليلا، ولكن الآن صار من النقص في البيت ألا يكون فيه هذا الصحن، وصار أهل العمارة يشتركون في دفع المبالغ لشرائه، ويصطحب للمخيمات، وتجد صندقة من الصنادق التي يسكن فيها الفقراء، الدش الذي فوقه أغلى منه، ما يعني ذلك؟ بيوت كالخرابات فيها هذه الصحون بأي شيء تأتي؟

عباد الله: لابد من إعادة النظر، لابد من إعادة النظر في البيوت، وإخراج المنكرات منها، وسائر المحلات والشركات والمستشفيات، غض البصر أمر مهم جدًا، وإلا فالهلاك والدمار والله، وشيوع الفاحشة، والانحلال، هذه هي العاقبة التي لابد منها للمجتمع، إذا احترف عن شريعة الله، وبعض الناس يستحي أن يغض البصر عندما يكلم امرأة، أو ممرضة ويرى أن ذلك من العيب أن لا ينظر إليها، ومن قلة الآدب أن لا ينظر إليها، وهو يكلمها، لو فرضنا أن الكلام للحاجة، فأي حاجة في رفع البصر إليها.

وهل قلة الآدب إلا في النظر للمرأة المتبرجة؟ ووضعت الحديث منذ القديم ثلاثة يجلون البصر: الماء، والخضرة، والشكل الحسن، فإذا قصد به النظر إلى الصورة الجميلة المحرمة، فلا شك أنه حرام يستدل به الذين لا أدب عندهم، اليوم في المجالس يتفكرون، وينقلونه ويقولونه، نسأل الله السلامة والعافية.

اللهم حصن فروجنا، وطهر قلوبنا، وارزقنا غض الأبصار، والبعد عن الحرام، أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، وافسحوا لإخوانكم الواقفين يفسح الله لكم.

الخطبة الثانية

00:23:13

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وجعل الظلمات والنور، الحمد الذي استوى على عرشه، الحمد لله كما ينبغي له له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه- وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

الحذر من خطوات الشيطان

00:24:03

عباد الله: إن العاقل يناظر الشيطان، ويقول: لماذا أنظر؟ فإن كان قبيحًا، أو كانت قبيحة أغتنم، وأتأسف، وأثم بالقصد إلى النظر؛ لأنه قد أتضح أن المسألة لا تساوي، وإن كانت حسنة جميلة، فكيف أنظر وليس بحلال، فأبوء بعاجل الإثم والحسرة، وكذلك فإن كل نظرة قلب يهواها القلب لا خير فيها، ولنعلم بأن النظرة سهم مسموم يسري السم إلى القلب، فيعمل في الباطن قبل أن يراعى العمل في الظاهر.

فاحذر -يا عبد الله- من النظر، فإنه سبب الآفات، وعلاجه سهل في أول الأمر صعب جدًا في منتهاه، وخذ هذا المثل: لو كنت على دابة فدخلت في زقاق ضيق، دخلت الدابة في زقاق ضيق لا تتمكن من الدوران فيه، فإن صحت بها في أول الأمر وزجرتها رجعت بسهولة قبل أن تكمل الدخول، وأما إذا أكملت دخولها، وصارت داخل السرداب والزقاق الضيق، فكيف تخرجها؟ لا يمكن الاستدارة ولا الرجوع، ولا شدها من ذنبها فيكف الخروج؟ كيف الخروج؟ وهكذا الأمر إذا غض الإنسان البصر من أول أمره، أما إذا تساهل وأطلق وكرر، فعند ذلك الهلاك ولابد.

أيها المسلمون: إن النظر أصل لعامة المصائب التي تصيب الإنسان من هذه الشهوات المحرمة، فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تصبح عزيمة، والعزيمة تولد الفعل، وتجعله واقعة.

يا رميًا بسهام اللحظ مجتهد أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له أحبس رسولك لا يأتيك بالعطب

كم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلا.

النظر يورث الحسرات؛ لأن الإنسان يرى ما ليس قادرًا عليه، ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ينظر إلى صورة امرأة ليس قادرًا عليها قد تكون متزوجة، قد لا يمكنه أن يقربها، ولا أن يخطبها، ثم بعد ذلك لا يصبر عنها، فأي عذاب أعظم من هذا؟

وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله له أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

لا قادر، ولا صابر، وهذا هو العذاب الذي يأتي به النظر إلى الصور المحرمة.

ولذلك يتعب القلب من كثرة النظر، واسأل المجربين في هذا المجال؛ لتستمع إلى قصص عجيبة من العذاب الذي دلو به؛ نتيجة عدم غض البصر، وقد يعاقب الله عليه في الدنيا، وهذا أسهل، جاء رجل إلى أحد الصالحين، وفي وجهه جرح، فقال: مالك، قال: مرت بي امرأة فنظرت إليها، فلم أزل أتبعها بصري، فاستقبلني جدار فضربني، فصنع بي ما ترى، فقال: إن الله إذا أراد بعبد خيرا عجل له العقوبة بالدنيا.

أيها المسلمون: إن الله تعالى إذا حرم أمرًا فامتنع العبد عنه، فلابد أن يأتيه الله تعالى بخير منه؛ ما ترك عبد شيئًا لله إلا عوضه الله خيرًا منه، خيرًا منه بسعادة في القلب، خيرًا منه بأجر يوم القيامة، خيرًا منه بأن يكون من أصحاب الفراسة؛ لأن إصابة الحق لا تكون للواقعين في المعاصي: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [سورة النور:35]، يعني: في قلب عبده المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ يورثها الله تعالى، ويعوضه عن غض بصره بشجاعة قلبه، وقوة قلبه، ويجمع الله عليه أمره، وينور له بصيرته، ويسد عليه طرق الشيطان، فإن الشيطان يزين الصورة في القلب، ويجعلها صنمًا يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار، أسأل العشاق، أسأل الذين وقعوا في عشق الصور، أسألوا الذين ابتلوا بهذه الأدواء وهج كوهج النار، وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به نيران من كل جانب، فهو وسطها كالشاة في وسط التنور؛ ولهذا كان عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار، تودع فيه أرواحهم إلى حين حشر أجسادهم، يعذبون في ذلك كما جاء في الحديث الصحيح، القلب الذي فيه خواطر حسنة، القلب الذي فيه استنباطات فقهية، القلب الذي يعرف المصلحة، القلب الذي يختار الحق، ليس قلبًا مليئًا بالصور المحرمة، والناتجة عن النظر إلى الحرام.

يا عباد الله: لا تجتمع الصور المحرمة، والفراسة الصادقة في قلب عبد مسلم، ولذلك لابد أن نحذر من هذه الأمور وأن نغض البصر في الطائرات والمطارات، والفنادق والأسواق، والمستشفيات، والمنتزهات، والمجمعات السكنية والعمارات.

لا تجتمع الصور المحرمة، والفراسة الصادقة في قلب عبد مسلم، ولذلك لابد أن نحذر من هذه الأمور وأن نغض البصر في الطائرات والمطارات، والفنادق والأسواق، والمستشفيات، والمنتزهات، والمجمعات السكنية والعمارات.

والشواطئ ومدارس البنات، والبيوت المختلطة، وأسوار البيوت، والشبابيك المطلة، والصور، والمجلات، والأفلام، والمسلسلات، وحتى عند الكعبة في الحج والعمرة، في أشرف مكان، وأقدسه، لابد من غض البصر، لابد من غض البصر، وحتى الأقارب، وكثير من الناس من يبتلى بالنظر إلى وجوه بعض الأقارب من غير المحارم، فيفتن أيضا، لابد من حفظ البصر، وكثير ممن وقع في الحرام بسبب ذلك.

حال السلف مع غض البصر

00:31:48

ولنتذكر حال سلفنا الصالح - رحمهم الله- جاء الربيع بن فتين إلى علقمة؛ فوجد الباب مغلق، فجلس في المسجد، فمرت نسوة فغمض عينيه، وعن سفيان قال: كان الربيع بن فتين يغض بصره فمر به نسوة، فأطرق وغمض عينيه حتى ظن النسوة أنه أعمى، فجعلن يتعوذن بالله من العمى، ويحمدن الله على البصر، وخرج حسان -رحمه الله- إلى صلاة العيد، فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله، ما رأينا عندك أكثر نساء منه، قال: ما تلقتني امرأة حتى رجعت، ما وقع بصري على امرأة، ولا نظرت إلى امرأة، فجعل يتعجب من كلامهم.

وقال سفيان الثوري لما خرج لصلاة العيد:" أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض أبصارنا"، غض البصر عن كل صورة جميلة محرمة، فإن الشخص قد يفتن بصورة امرأة، أو أمرد جميل؛ ولذلك لما رأى بعضهم إنسان يقرأ، غلامًا جميلًا وهو يضحك إليه، فقام إليه، وجلس إلى جنبه، فقال: يا أخي أما سمعت الله تعالى يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [سورة الحديد:16].

قال: بلا. قال: أفما سمعته تعالى ذكره يحذر من فعل قوم اغتروا بحلمه، وأنسوا إلى كرمه، فقال: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة الحديد:16].

قال: بلا، قال: فما بالك لا تخشع عند قوله تعالى ولا ترجع عند تحذيره، وما نزل في كتابه، إني رأيتك مغرقًا في الضحك إلى هذا الذي يقرأ عليك، كأنك لا تسأل عن ضحكك، ولا توقف على فعلك، وبالله الذي لا يحلف المؤمنون بمثله لأن أخذك على ريب يكره ليجعلنك عبرة للعاقل، ومثلة للجاهل فنكس الرجل رأسه، وأقبل يبكي، وقام وتركه.

وهكذا ينبغي الحذر من أي صورة جميلة، ومن أي شخص يفتن به، فإن العاقبة شنيعة، ولابد أن يكون العاقل وقاف عند حدود الله، مفكرًا في العاقبة، في الدنيا والآخرة، هذا الإجراء البصير غض البصر؛ سبب لسلامة العظيمة، وما أكثر الحاجة إليه في هذا الزمان.

نسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنبنا الهوى، اللهم جنبنا النظر الحرام، اللهم جنبنا المعاصي، اللهم جنبنا الفتن يا رب العالمين.

اللهم ارزقنا العفة والعفاف، ارزقنا العفة والعفاف، ارزقنا العفة والعفاف، إنك أنت السميع البصير، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم من أراد خدمة دينك، والسعي إلى الدعوة في سبيلك فوفقه يا رب العالمين، وافتح له قلوب العباد، ونور بصيرته، وانزله الأجر الكثير إنك أنت الكريم.

اللهم من أراد دينك بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه. اللهم من أراد بلدنا هذا أو بلاد المسلمين بسوء فاجعله عبرة للمعتبرين يا رب العالمين، وفق من ولي من أمور هذه الأمة شيء للعمل بكتابك، وسنة نبيك ﷺ. اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقضِ ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180-182].

  1. ^  رواه مسلم: (2159).
  2. ^  رواه مسلم: (2159).
  3. ^  رواه أبو داود: (2148).
  4. ^ رواه البخاري: (2465).
  5. ^ رواه الترمذي: (1173).
  6. ^ رواه مسلم: (338).
  7. ^ رواه أحمد: (18027).
  8. ^ رواه مسلم: (1403).