الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

وصية الحبيب لحبيبه


عناصر المادة
الخطبة الأولى
أهمية الوصية
حقيقة التقوى
مكفرات الذنوب، والفرق بين التوبة والاستغفار
الخطبة الثانية
حسن الخلق مع الناس
لفتة لحال المسلمين

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أهمية الوصية

00:00:30

اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن[أحمد:21354].ثلاث عبارات موجزة، في وصية جامعة من النبي ﷺ لصحابي جليل عزيز على نفس رسول الله ﷺ حبيب إليه، إنه معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه-، إنه إمام العلماء والفقهاء في عهد النبي ﷺ وبعده، فقال عنه: إنه يجيء يوم القيامة أمام العلماء برتوة[المعجم الصغير للطبراني:556]. يعني بخطوة، دليلاً على فقهه ، وتفوقه في معرفة الحلال والحرام، وقد أقسم ﷺ أنه يحبه، فقال له مرة وهو يردفه -وراءه- على الدابة: يا معاذ والله إني لأحبك[أبو داود:1522]. يا لها من منزلة سامية، ومكانة عالية، تمتع بها ذلك الصحابي لدرجة أن النبي ﷺ حلف له بالله إنه يحبه، ثم أوصاه بهذه الوصايا، فهي وصايا من رسول الله ﷺ إلى فقيه الأمة معاذ بن جبل، وهو يحبه فلا بد أن تكون الوصايا جامعة، لا بد أن تكون عظيمة.

وهذا الصحابي كان يُشبَّه بإبراهيم الخليل ، وإبراهيم إمام الناس، وكان ابن مسعود يقول: "إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يك من المشركين"، تشبيهاً له بإبراهيم، بعثه النبي ﷺ إلى اليمن مبلغاً عنه، وداعياً، ومفقهاً، ومفتياً، وحاكماً لأهل تلك البلاد.

فهذا الصحابي إذا عرضت عليه من النبي ﷺ وصية، أو قدمت إليه نصيحة، فكيف ينبغي أن تكون وهو بهذه المكانة؟ لا شك أن النصيحة ستكون إذاً عظيمة، وأن الوصية ستكون جليلة؛ لأنها لهذا الرجل، وبهذه المكانة، يا معاذ: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.

أيها الإخوة: إنها جامعة والله، وعظيمة والله، إنها تفسير الوصية القرآنية، لماذا كانت هذه الوصية جامعة؟ لأنها اشتملت على حق الله، وحق العباد، فالعبد عليه حقان: حق لله وحق لعباد الله،ثم هذا الحق الذي عليه سواء كان لله أو للعباد لا بد أن يقع فيه الإخلال بشيء من الأشياء، كترك مأمور، أو فعل محضور؛ ولذلك قال النبي ﷺ لمعاذ: اتق الله حيثما كنتلم تكن هذه الوصية لفاسقٍ ولا لعاصٍ ولا لمعرضٍ عن طاعة الله، لم تكن لإنسان ولغ في المحرمات، ولا لإنسان تمرد على الدين، لقد كانت لعالم فقيه جليل تقي عابد.

حقيقة التقوى

00:05:09

فلماذا قال له: اتق الله حيثما كنتوهو صاحب دين؟ لأن العبد -أيها المسلمون- لا يخلو من تقصير في حق الله وحق العباد، لا يخلو من تقصير، لا يخلو أن يكون قد ترك واجباً، أو فعل محرماً، وطبيعة البشر تقتضي الخطأ، ولكن خير الخطائين التوابون.

اتق الله حيثما كنت في السر أو في العلانية، اتق الله حيثما كنتفي أهلك أو في الناس، اتق الله حيثما كنتداخل البيت أو خارج البيت، اتق الله حيثما كنتفي كل مكان؛ لأن بعض الناس ربما يتق في المسجد ولا يتق خارج المسجد، لأن بعض الناس ينسى التقوى في المكتب، وينساها في المدرسة وفي الجامعة، وإذا تذكر في هذه الأماكن فإنه ربما ينسى تقوى الله على شاطئ البحر وفي أسفار السياحة، وفي أوقات الاجتماع ببعض الناس في الإجازات؛ ولذلك كانت الوصية عظيمة بتقوى الله اتق الله حيثما كنت.

فيجب علينا إذاً أن نفكر جيداً بتقوى الله أينما كنا، وهؤلاء الذين يريدون أن يحجزوا هذه الأيام أو قبلها لإجازاتهم تخطيطاً أين سيذهبون، عليهم أن يتذكروا هذه الوصية جيداً: اتق الله حيثماكنت في الصيف أو في الشتاء، في البلد أو خارج البلد، في الإجازة أو في الدراسة، وما هو العمل.

اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحهامتى تناول المريض شيئاً مضراً ماذا يفعل له الطبيب؟ يحاول استفراغ المادة الضارة، والتخلص من آثارها؛ ولذلك قال: اتبع السيئة الحسنة تمحها والذنب للعبد كأنه أمر حتم، والكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات ما يمحو بها سيئاته؛ ولذلك لو تساءل المسلم الذي سمع الحديث فقال: عجباً لماذا قدم ذكر السيئة على ذكر الحسنة؟ لماذا؟ قال: اتبع السيئة الحسنة ولم يقل مثلاً: أعمل الحسنة تمحو السيئة؟ لماذا ذكر السيئة قبلاً؟

أيها الإخوة: لا يخلو العبد من ذنب، وذكرها هنا مقصود، وذكر محوها هو المطلوب، وهو الموضوع فصار كأنه من باب قوله في حديث الأعرابي: صبوا عليه ذنوباً من ماء[أبو داود:380].

لماذا لم يقل: صبوا الماء عليه، وقدم ذكر البول على ذكر الماء مع أن الماء أشرف وأطهر؟ صبوا عليه ذنوباً من ماء، وقال هنا: اتبع السيئة الحسنة؛ لأن المقصود والمطلوب والموضوع هنا محو السيئة، وليس تعداد فضائل الحسنات، ولا المقارنة بين السيئة والحسنة، وإلا لكانت الحسنة مقدمة على ذكر السيئة، ولكن لأن المطلوب -كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في شرحه لهذه الوصية الجامعة-:

"أن الموضوع الآن في هذا الحديث هو الكلام على تكفير السيئات ومحو الذنوب والأوزار، ولذلك قدم ذكرها؛ لأنه هو المطلوب هو المقصود" اتبع السيئة الحسنة تمحها.

وإذا كانت الحسنة من جنس السيئات، يعني في نفس الباب والموضوع كان التكفير والمحو أبلغ، كما أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في فقه عجيب نادر، قال: "ينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات فإنه أبلغ في المحو" في محو الذنوب، فلو أن إنساناً مثلاً كان يسمع الغناء فأراد أن يمحو ذلك، فلو أنه أتى بجنس شيء من هذا كأن سمع القرآن، استمع للقرآن يكون أبلغ في محو سيئة سماع الغناء، ولو أن إنسانًا كان يرتاد مكان فسق وفجور، فتكفيرًا للسيئة صار يرتاد المسجد بيت الله كان ذلك أبلغ في المحو، يأتي بشيء من هذا الجنس، ولو أنه كان ينفق ماله في حرام، وفي شراء محرمات، وفي إنفاق على لهو حرام، فإنه إذا أنفق في طاعة ودين وقربة كان ذلك الإنفاق في الخير أعظم في المحو من عمل شيء آخر، ولو أن إنسانًا عق والديه، فأتى ببر أبوين في نفس الباب والموضوع فكان ذلك أبلغ في المحو من عمل شيء آخر في موضوع آخر، وهكذا.

لينظر كل مفرط ومقصر ومذنب في جنس المعصية التي فعلها، وليأتي مقابلًا لها بحسنة في الباب مشابهة في الباب؛ ولكن بالعكس لتلك السيئة التي فعلها.

لماذا قال عن كفارة الحلف بغير الله: أن تقول: لا إله إلا الله[البخاري:4860، ومسلم:1647]؟ لقد قال بلسانه كلمة شرك عندما قال: وحياة أبي، وحياة أولادي، والأمانة، والنبي، والكعبة، والحسين، وعلي، ونحو ذلك، فإذا أراد أن يكفر يقول بلسانه في هذا الباب ما يعاكسه بنفس الموضوع، بدل أن يقولها شركاً يقول توحيداً، وبذلك يكفر التوحيد الشركَ، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق[البخاري:4860، ومسلم:1647]، القمار إنفاق مال في حرام، والصدقة إنفاق المال في طاعة، فهذه الصدقة تكفر تلك المعصية، وهكذا كلما كانت الحسنة مشابهة وفي الباب والموضوع الذي حصلت فيه السيئة كان أبلغ في المحو وأعظم، وهكذا إذا كان الإنسان يكتب شعراً فاحشاً، أو مقالات شركية كفرية، أو يكتب مثلاً في تحرير المرأة من رباط الدين، ثم أراد أن يتوب، فإنه يكتب أشعاراً في نصرة الإسلام، ومقالات في بيان حق الله على المرأة، وما يجب أن تفعله لتكون طائعة لله، وما تتمسك به من الدين عكس الذي كان يكتبه من قبل في تحريرها من أحكام الدين والشريعة الذي يسمونه تحريراً بزعمهم.

وهكذا إذاً -أيها الإخوة- يأتي الإنسان بحسنات في الباب الذي كان يعصي فيه معاكسة لها لتكون التوبة أبلغ.

مكفرات الذنوب، والفرق بين التوبة والاستغفار

00:13:38

إن الذنوب تمحى بأمور ومنها:

أولاً: التوبة بشروطها المعروفة.

وثانياً: الاستغفار من غير توبة وقد يدهش بعض الناس لهذه الكلمة، وقد ذكرها ابن تيمية -رحمه الله- في تعليقه، استغفار من غير توبة يمكن أن يحصل من بعض الناس ضعف، فيقول لك: إن من شروط التوبة أن أعزم أن لا أعود في المستقبل، ولكن نفسي ضعيفة، أن لا أعود في المستقبل، إنني ربما الآن أندم، ولكن ليس عندي عزم حقيقي لعدم العودة في المستقبل، بل إن نفسي تقول لي: لو أن ظروف المعصية قد واتتك مرة أخرى وتهيأت الأمور فلربما تقع، لستُ صادق العزم في عدم العودة، قد أكون نادماً حقاً، وقد أقلعت عن المعصية، ولكن العزم على عدم العودة إنه عندي فيه دخن ودخل، فقد لا أكون صادقاً في العزم على عدم العودة، وقد أقلع عن الذنب ولا أكون صادقاً في الندم، أقلعت لكنني لا أحس بالندم على ما مضى، لا أحس بتأنيب الضمير على ما مضى، لا أحس بالألم والوخز الذي ينبغي أن يكون عليه التائب، الندم توبة فإذا كانت توبتي فيها تقصير في الندم، أو في عدم العزم فماذا أفعل إذاً حتى أكون في حال توبة إلى أن أرتقي إلى تلك الحال وأقوي إيماني فأندم فعلاً على الماضي وأعزم على أن لا أعود في المستقبل؟ ماذا أفعل في هذه المرحلة؟ الجواب الاستغفار.

الاستغفار: طلب المغفرة من الله، وطلب المغفرة دعاء قد يجيبه، وقد لا يجيبه، قد يغفر، وقد لا يغفر، لكن التوبة عندك وعد جازم بالمغفرة، إذا حصلت التوبة بشروطها فهذا الفرق بين التوبة والاستغفار، الاستغفار طلب المغفرة من الله، دعاء، قد يكون صادقاً ويستجيب الله ويغفر لصاحبه، وقد لا يستجيب.

أما التوبة فإنها ماحية حقاً وحقيقة ووعداً من الله صادقاً لا يتخلى، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار كان الكمال، وهذا حال النبي المختار ﷺ الذي كان يعد له في المجلس الواحد سبعين أو مائة مرة رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم[أبو داود:1516]. فهذا المطلوب "الجمع بين التوبة والاستغفار".

والأمر الثالث: الذي يكفر السيئات بعد التوبة والاستغفار: الأعمال الصالحة، والحسنات الماحية المكفرة للأوزار، فهذه الكفارات منها ما هو مقدر معين، ومنها ما هو ليس بمقدر ولا معين، فالمجامع في نهار رمضان، والمظاهر من امرأته، والمرتكب لبعض محضورات الحج، أو تارك لبعض واجبات الحج، عليه كفارة مقدرة معينة جاءت في الشرع، أو الذي قتل صيداً وهو محرم كفارة مقيدة في الشريعة، لم تخرج عن أربعة أجناس: هدي، وعتق، وصدقة، وصيام. فهذه أربعة تدور عليها المكفرات المقيدة التي وردت في الشريعة، وهناك كفارات مطلقة تكفر الذنوب بدون تقييد بعدد معين، أو وصف معين، كما جاء في حديث حذيفة لعمر فتنة الرجل في أهله وماله وولده-يعني معصية الرجل في أهله وماله وولده- يكفرها الصلاة والصدقة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[البخاري:525، ومسلم:144]. وقد دلت الأحاديث الصحاح على أن  الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان ، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر[مسلم:233، وسنن النسائي:2622]. هكذا كل الأعمال الصالحة التي يقال فيها: من عمل كذا غفر له، من عمل كذا غفر له، هذه كفارات أعمال صالحة مكفرة بدون تقييد معين للذنوب والأوزار، وهي كثيرة والحمد لله على نعمه وفضله في ديننا.

والعناية بهذا -أيها الإخوة- من أشد ما يحتاج إليه الإنسان فإن الإنسان- واسمعوا لهذه العبارة- من شيخ الإسلام: "فإن الإنسان من حين يبلغ" -إنها عبارة عجيبة من عالم عظيم، عاش في القرن الثامن الهجري فبيننا وبينه نحو من سبعمائة سنة، كلام يقوله قبل أكثر من سبعمائة عام- يقول في مسألة تكفير السيئات بالحسنات: "واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه؛ فإن الأنسان من حين يبلغ خصوصا في هذه الأزمنة، ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء، فكيف بغير هذا؟"

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشخص الذي يبلغ في عهده قبل أكثر من سبعمائة سنة:

إن الذي يبلغ هذا المراهق لا يخلو من معاصي وسيئات في ذلك الوقت؛ لأنه يشابه الجاهلية من بعض الجهات والوجوه، كفشو الجهل وعموم المعاصي وخفاء السنة ونحو ذلك.

فنقول الآن: فكيف بزماننا هذا؟ فكيف لو رآه؟ وشاهد ما في هذه السماء من الموجات المسمومة، وانفتاح الدنيا على بعضها، وتسليط الشر على رؤوس العباد من هذه الأقمار الصناعية، والمحطات الفضائية التي أتقن صنعها لتكون باثة لهذه السموم؟ كيف عندما يرى المسلم هذا النوع من الجاهلية التي يعيشها الناس اليوم في غمرة الفتن المتلاطمة من أمواج الشبهات والشهوات التي يعج بها العالم؟ فلو سلم قلبه من شبهة، لم يسلم من شهوة، فإنهم يثيرونها صباح مساء، شبهات حول الدين، وطعن فيه، وتغيير للأحكام، وتبديل في الشريعة، وفتاوى سيئة، وتضليل للمسلمين، وبعثرة جهود، وتفرقة في الأمة، وكذلك شهوات تثار بشكل عجيب، ومسابقات ملكات الجمال في الشاشات بجميع أنواعها، وكم نوع من مسابقات ملكات الجمال قد صار في هذا الزمان؟ كم نوع فقط في هذا الجانب من المعصية؟

وهذه المجلات التي تعصف بقلوب أبنائنا وبناتنا من المساكين الذين يقرؤونها فيضحون فريسة لها، كيف حالهم وهم يرون المناظر السفور، والتبرج، وأنواع المكياج للفتنة، وعروض الأزياء التي غزت مجتمعات المسلمين؟ من كان يصدق أنه كان هناك مسلمات في مجتمع المسلمين سيقبلن بأن يطالبن ويرين، بل ويعرضن ويشاركن في قضية عروض الأزياء، ما هي الأزياء التي تفصل؟ وكيف شكلها؟ وأي شيء تبدي؟ وعلى أي شيء تضيق؟ وفوق أي شيء تشف؟

أيها الإخوة: إنه فعلاً حتى الذي ينشأ في وسط متدين لا يخلو من اطلاع، وملابسة، ومخالطة لذنب أو سيئة مما يعج به العلم اليوم، فاسمع مرة أخرى، "فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء"، والآن إذا صار البيت نظيفاً لن تضمن ولدك في المدرسة، لو اجتهدت في إقامة البيت على الطاعة وتنظيفه من المنكرات لم تسلم بنتك في المدرسة، ولا في الكلية، والجامعة، ولا يسلم ولدك في البقالة، ولا في الشارع، ولا في السوق، لا يسلم.

إذاً ما هو الحل؟ والنبي ﷺ قد أخبر أن الأمة ستنساق وراء التشبه بالمشركين؛ حتى لو دخلوا جحر ضب دخلوه وراءهم وأخبر أن ذلك سيقع فعلاً بالأمة، لتتبعن سنن من كان قبلكم[البخاري:7320].  قال شيخ الإسلام: "وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينه، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، يعني: علم بلا عمل، وكتم الحق، بل والإخبار عن خلاف الحق.

هؤلاء المنتسبين -لا حظ عبارته- "المنتسبين إلى العلم" وما أكثرهم اليوم في كثير من المحلات، والمجلات والشاشات، الذين يتطوعون وبغير تطوع، بأجرة وبغير أجرة للإفتاء المنحرف، "فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم"، ما هي أحوال اليهود؟ يعرفون الحق ويكتمونه، يعلمون ولا يعملون هذا كثير إذاً.

قال: "وكثير من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين"، يعني عبادة على جهل، هذه حال النصارى أليس كذلك وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَاالحديد: 27. وعبادة على جهل، وهذه حال عدد من الناس يعبدون الله على جهل، يعني: بالبدع، يتقربون إليه بالبدع، أذكار مبتدعة، صلوات مبتدعة، اجتماعات مبتدعة، موالد مبتدعة، وأشياء كثيرة مبتدعة، لا دليل عليها مخالفة للشرع، من أحوال النصارى وبهم يتشبهون، فمن الذي يسلم من التشبه إذاً؟

فإذا كان الحال كذلك، وأن الإنسان لا يخلو عند بلوغه من معاصي، أو يستمر بعد ذلك، أو من وقوع في تشبه ولو بدرجة متدنية، تشبه باليهود أو النصارى إذاً لا يخلو إذاً من ذنب، فيحتاج إلى الغسيل والتطهير وهذا موضوع الحديث في قوله: واتبع السيئة الحسنة تمحها فإذا وقعت في بدعة فاعمل سنة تمحوها.

نسأل الله أن يجعلنا من العاملين بالحق، اللهم علمنا ما ينفعنا، وارزقنا العمل بما علمتنا، وزدنا علما إنك سميع مجيب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

00:27:23

الحمد لله رب العلمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم صل عليه وسلم وبارك، وعلى ذريته وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

حسن الخلق مع الناس

00:27:54

فلما قضى الله بهاتين الكلمتين على العباد: أن يعملوا بأمره، وينتهوا عما نهى عنه، كان لا بد للناس من عمل ذلك، ما هما الكلمتان المأمور بهما؟ عمل الصالح، وإصلاح الفاسد، هذا في حق الله فماذا بقي؟ حق الناس، فقال في تلك الوصية الجامعة في ثُلثها الثالث:

وخالق الناس بخلق حسن هذا حق الناس، وهذه كلمة مجملة جامعة عظيمة شريفة، خالق الناس بخلق حسنوجماع الخلق الحسن مع الناس ما هو؟ أن تصل من قطعك، وتعفو عن من ظلمك، وتتلقى المسلمين بالسلام والإكرام، وأن تدعو لهم، وتستغفر لهم، وتثني عليهم، وأن تزورهم، وأن تشمت عاطسهم، وترد سلامهم، وتزور مريضهم، وتشيع ميتهم، وتنفعهم بما استطعت من تعليم أو مال أو أي نوع من أنواع المنفعة، وتعفو عن من ظلمك في مال أو دم أو عرض، وبعض هذه الأشياء واجب وبعضها مستحب، فهذا معنى خالق الناس بخلق حسن.

كان خلق النبي ﷺ القرآن، من كثرة ما عمل به، ومن شدة فقهه له، واستيعابه للكتاب العزيز صار القرآن خلقاً له، وسجية، وطبعاً، لا يخرج عنه في علم ولا عمل، فهذه وصية الله الجامعة للعباد على لسان رسول الله ﷺ، وينبغي الاعتناء بتصحيح العلاقة مع الله، وتصحيح العلاقة مع الناس؛حتى تتم السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.

وقد قال ﷺ مبيناً الربط بين الإيمان وحسن التعامل مع الخلق: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا[أبو داود:4682].  فتأمل الربط بين الإيمان وحسن الخلق، وأن كمال الإيمان في كمال حسن الخلق، وأن القضية من صميم دين الإسلام.

هذا الحسن للخلق الذي نفقده كثيرا، وهذا السوء في المعاملة المنتشر بين الزوج وزوجته، والأب وابنه، والابن وأبيه، والبنت وأمها، والموظف والرئيس، والرئيس والموظف، وصاحب الشركة والعمال، والعمال وأصحاب الشركات، وهكذا تعم قضية سوء الخلق والمعاملة المجتمع بأسره، إلا من رحم الله حتى لربما تجد بعض المصلين شرساً يرفض أن يقترب من أخيه الذي يقربه إليه لكي يسد فرجة في الصف، وتجد منهم شراسة وعنفاً حتى في بيوت الله ، وسوء معاملة، وإيذاء ومزاحمة بغير حق، فإذا كان هذا يقع في بيت الله فما بالك إذاً بما سيقع في المكتب، والمنزل، والشارع، والدكان، وغير ذلك من الأماكن التي يتلاقون فيها.

أيها المسلمون: إن مسألة حسن الخلق مسألة عظيمة جداً، والناس يطيب عيشهم بحسن الخلق، وتتحمل المرأة زوجها بحسن الخلق والعكس، وهذا الحسن ينبغي أن لا يتجاوز حده في قضية اعتباره في الأولويات، فإن عدداً من الناس يقدمون حسن الخلق على العقيدة، ويقولون لكافر حسن الخلق: هذا أحسن من هذا الآخر المسلم الذي فيه شيء من سوء الخلق، لماذا؟ اضطراب الموازين، اضطراب الأولويات.

والعجب أن أحد أصحاب الأعمال وأرباب المقاولات قال: إن هذا البوذي الذي عندي يساوي كل المسلمين الذين يعملون عندي، ويزيد عليهم، وإنني أخاف عليه من أن يسلم؛ فتفسد أخلاقه كهؤلاء، ولا أتمنى إسلامه.

وهذه الكلمة يمكن أن تكون ردة وكفراً، وخروجاً عن دين الله؛ لأنه يكره الإسلام لهذا الآدمي، لأنه يتصور الإسلام بدون خلق، ردة مبنية على تصور فاسد كأن الدين هو الذي يخرب أخلاق الناس، وأنه إذا أسلم ستفسد أخلاقه.

أيها الإخوة: مهما كانت الممارسات خاطئة وسيئة من بعض المسلمين؛ لا يجوز إطلاقاً أن تغير المفاهيم، والأسس، والتصورات، والقواعد الشرعية، وأن تجعل الناس يفضلون الكافر على المسلم، ويقول الواحد عندما يذهب إلى الخارج: رأيت إسلاماً بلا مسلمين، ليه؟ لأنه ما وقف بالسرأ، ولأنهم عجلوا بمعاملته، ولأنهم راعوا وضعه، ولأنهم لم يعقدوا عليه الأشياء.

طيب لو مدحتهم في هذا الجانب لكان عدلاً، وقلت: إن الروتين القاتل، والمعاملات المعقدة الموجودة عند بعض المسلمين خطأ، لكان ذلك عدلاً، ولو قلت: نأخذ من محاسنهم ونبدل أوضاعنا السيئة، ونستفيد مما لديهم من التقنية في تسهيل المعاملات، ويتحدثون عن الحكومة الإلكترونية التي ستدار بها الأمور الإلكترونيًا؛ لتسهيل المعاملات وتجنب أخطاء البشر والموظفين على المراجعين، وليت المسلمين يستفيدون من التقنية كما أمر الله، إذاً لقلنا هذا شيء جيد.

لكن عندما تصف القوم بأن ما عندهم إسلام، وتقول: رأيت إسلاماً بلا مسلمين، إذا حصرت القضية في جانب معين نعم، أما التعميم فما عند القوم من الشرك والكفر أكبر وما عندهم من الفتنة، أكبر وما عندهم من الفحشاء والمنكر، أكبر وما عندهم من الانحرافات،  ثلاثين ألف منتحر يموت سنوياً في أمريكا من أصل خمسمائة ألف يحاولون الانتحار سنوياً، ينجح في محاولة ثلاثون ألفاً، والآن يصيحون وقد أصدروا بالأمس توصياتهم أنه لا يصح تغطية القضية، وأن كلام بعض الأطباء في التقارير عن المنتحرين في تغطية الموضوع؛ مراعاة لإحساس الأهل ومشاعر الأب والأم لهذا المنتحر؛ أنها خطأ لأجل مواجهة الواقع، إنهم يتكلمون عن ذلك، ماذا تعني هذه القضية -أيها الإخوة-؟

ما عند القوم من السوء والفحشاء أكبر، ولكن عمى الأبصار الذي يؤدي إليه الإعجاب بما عند الكفار هو المصيبة القاتلة التي يقع فيها كثير من المسلمين.

اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى الحق رداً جميلا، وأن تجعلنا ممن يقوم بحقك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في فلسطين وفي مقدونيا وكشمير وفي الفلبين والشيشان وفي سائر الأرض يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم نصرك، اللهم وحد صفوفهم على التوحيد، اللهم اجعلهم قائمين بالحق، ومقاتلين لأجله يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك الخزي لليهود والنصارى وسائر المشركين، اللهم سلط عليهم ذلاً وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، خالف بين كلمتهم، وألق الرعب في قلوبهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم إنا نسألك أن تجعل شأنهم في سفال، وأمرهم إلى زوال، اللهم إنا نسألك النصر العجل للمسلمين، وأن تخلص المسجد الأقصى من براثن اليهود إنك على كل شيء قدير.

لفتة لحال المسلمين

00:36:42

إخواننا في مقدونيا يعانون الآن أشد المعاناة، وهؤلاء النصارى الذين تجمعوا عليهم شرقاً وغرباً، والخبرات الصربية التي قدمت، وما حصل من أولئك الكفرة في محلات ودكاكين وبيوت ونساء المسلمين شيء عظيم في هذه الأيام.

وأما جرح فلسطين، وما أدراك ما جرح فلسطين، من هذه الأحزمة التي تقام بزعم اليهود، عندما تتقدم الجرافات مصحوبة بالدبابات ليلاً لكي تقذف المقذوفات لتصبها على السكان الذين يضطرون للفرار من البيوت؛ لتقوم الجرافات بدورها بالليل ليصحو المسلمون -هذا إذا ناموا- في الصباح، فيرون أرضاً بلقعاً، وخراباً، وقاعاً صفصفاً، ويتجولون بحسرة وحرقة، وألم بين أنقاض بيوتهم المتهدمة.

فتأمل يا عبد الله لو أنك أخرجت من بيتك ليلاً بالإكراه والقصف؛ ليطلع الصباح عليك لتجد بيتك الذي تعبت في إنشائه، وأثاثك الذي هو موجود في بيتك، وسريرك الذي تنام عليه، وثلاجتك التي تحفظ فيها طعامك، وسائر أثاثك قد سوي بالأرض، ما هو الشعور؟

أيها الإخوة: أليس من الإسلام أن نشاطر إخواننا في مصابهم، وأن نشاركهم في أحزانهم، إن هذا ما يحدث يومياً الآن من اليهود، جرف الأراضي والزراعات، والقضاء على مصادر دخل المسلمين، وهذه الأحزمة ستحول بين المزارعين وزراعاتهم، فبيوتهم خربت، وحيل بينهم وبين الخروج إلى الزراعة التي يقتاتون منها؛ ولذلك يئنون اليوم تحت سياط الفقر والإذلال التي يتعامل بها اليهود معهم.

ونحن من واجبنا أن نقدم ما نستطيع هن العون لهم، وأن نستعد حقاً وحقيقة لملاقاة أولئك الكفرة إخوان القردة والخنازير.

اللهم إنا نسألك أن تغيث المسلمين، اللهم أغثهم، اللهم إن في إخواننا المسلمين في فسلطين من البلاء ما أنت به عليم، اللهم إنا نسألك أن تحمل حافيهم، وتكسو عاريهم وتطعم جائعهم، وتبرئ جريحهم، وتشفي مريضهم، وترحم ميتهم، وتغيث أيتامهم، وترحم أراملهم. يارب العالمين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالصافات:180ـ181.

1 - أحمد:21354
2 - المعجم الصغير للطبراني:556
3 - أبو داود:1522
4 - أبو داود:380
5 - البخاري:4860، ومسلم:1647
6 - البخاري:4860، ومسلم:1647
7 - البخاري:525، ومسلم:144
8 - مسلم:233، وسنن النسائي:2622
9 - البخاري:7320
10 - أبو داود:4682